محمد بن جماعة
New member
- إنضم
- 23/01/2007
- المشاركات
- 1,211
- مستوى التفاعل
- 2
- النقاط
- 38
- الإقامة
- كندا
- الموقع الالكتروني
- www.muslimdiversity.net
الإضافة النوعية القرآنية: بين التوراة والحديث
مصطفى بوهندي
مصطفى بوهندي
* ألقي هذا البحث في ندوة: المنهجية في العلوم الإسلامية" التي أقامتها وحدة بحث القرآن الكريم في جامعة الزيتونة في 2-3 من شهر تشرين الثاني الجاري.
المصدر: الملتقى الفكري للإبداع
يسرني أن أشارك في ندوتكم* المجيدة، عن المنهجية في العلوم الإسلامية، في محور المنهجية في علوم القرآن، بموضوع "الإضافة النوعية القرآنية، بين التوراة والحديث، من خلال قصة إبراهيم الخليل"؛ وقد انصب تركيزي على بيان الإضافة النوعية القرآنية على ما ورد في كتب أهل الكتاب وخصوصا في التوراة الحاخمية، واخترت قصة محددة هي قصة إبراهيم، وقسمتها إلى مرحلتين، مرحلة ما قبل هجرته عليه السلام، ومرحلة ما بعدها، تناولت في المرحلة الأولى موضوع البعث وموضوع التوحيد، وبيّنت كيف أصبح هذان الموضوعان خافتين في أسفار العهد القديم عموما، وفي قصة إبراهيم خصوصا، حتى غاب الحديث عن المرحلة الأولى من حياة إبراهيم بكاملها، مع ما كانت تزخر به من بيان للموضوعين، كما نجده في الأسفار غير القانونية؛ بينما اكتفى السفر القانوني بالحديث عن المرحلة الثانية من حياة إبراهيم فقط. وتناولت في المرحلة الثانية موضوع بيت الله الحرام ومناسك الحج التي جعلها الله على الناس فريضة دهرية لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه؛ وأتيت بعد المقارنة بين التوراة والقرآن في هذه القضايا الأربع في المرحلتين إلى الحديث النبوي، واخترت قصة إبراهيم من خلال صحيح البخاري، وقارنت بين ما جاء في أحاديث البخاري من جهة ونتيجة المقارنة بين القرآن والتوراة من جهة ثانية، واعتمدت في المقارنة إحصاء عدد المفردات في كل من التوراة والقرآن والحديث، حتى أتمكن من تقديم نسب تقريبية دالة لنتائجها، وإليكم تصميم المداخلة:
قصة إبراهيم بين التوراة والقرآن
المرحلة الأولى من حياة إبراهيم:
1- إبراهيم وعهد القطع: نموذج أول.
2- إبراهيم والتوحيد: نموذج ثان.
3- مع الحديث النبوي في صحيح البخاري:
المرحلة الثانية من حياة إبراهيم:
1- بيت الله الحرام وألاعيب الترجمة.
2- بيت الله الحرام في سفر التكوين.
3- مع القرآن الكريم:
4- مع الحديث النبوي في صحيح البخاري:
بين التوراة والقرآن: قصة النبي إبراهيم:
يزيد عدد كلمات النص الإبراهيمي في القرآن على 4200 كلمة تتعلق بما قبل خروج إبراهيم عليه السلام من أرضه إلى الأرض المباركة للعالمين. وما يزيد على 6400 كلمة تتعلق بالملة التي وضع أسسها؛ وهو ما يجعل عدد الكلمات المتعلقة بقصة إبراهيم تفوق 10600 كلمة تتوزع على مرحلتين مرحلة ما قبل الهجرة بنسبة 40 % جاهد فيها إبراهيم أباه وقومه وملكه ونفسه لمعرفة الله والدين الحق إلى أن توجت هذه المرحلة بإلقائه في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما ونجاه ولوطا إلى الارض التي بارك فيها للعالمين، وأما المرحلة الثانية التي تمثل نسبة 60 % فهي تتعلق بتأسيس ووضع أول بيت للعالمين، ليقيم الناس الصلاة ويأخذوا عن إبراهيم وذريته مناسكهم ويخلصوا العبادة له ولا يشركوا به شيئا؛ كما تضمن الحديث القرآني عن هذه المرحلة مراجعة نقدية لما عند أهل الكتاب فيما يخص إبراهيم الخليل وذريته وملته وأولى الناس به وغيرها.
وأما النص التوراتي القانوني والذي تحدث بشكل مستفيض عن إبراهيم وذريته في سفر التكوين خصوصا وذكّر بلمحات من قصته في أسفار أخرى؛ فيحتوي على ما يزيد على 11600 كلمة تتعلق بهذه القصة؛ أغلبها وردت بعد هجرته من أرض أبيه وعشيرته، أي ما يزيد على 98 %؛ بينما ورد الحديث عن المرحلة الأولى قبل الهجرة، في أسفار أخرى شفوية أو غير قانونية عند أهل الكتاب، ومن ذلك رؤيا أبراهيم، وكتاب الخمسينيات والآثار التوراتية، كما تحدثت الهاكاداة والتلمود على هذه المرحلة بتفصيل كثير، يتوافق كثيرا مع ما جاء في القرآن الكريم.
المرحلة الأولى من حياة إبراهيم:
وحتى لا تأخذنا التفاصيل فتخرج بنا عن بيان الإضافة النوعية القرآنية في هذا الموضوع، فإننا نسجل على النص التوراتي القانوني أولا تغييب الأساس العقائدي والديني والإنساني في القصة؛ حيث تبدأ قصة إبراهيم في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين بالحديث عن خروج إبراهيم من أرضه وعشيرته وبيت أبيه، دون أن تذكر لنا الأسباب الداعية له إلى هذا الخروج؛ بل إن الهجرة المذكورة –تبعا للنص القانوني- كانت قبل الأمر بها من الله، وكان الخارج هو أبو إبراهيم نفسه بابنه إبراهيم وزوجته وابن أخيه لوط: "
(31) وَاخَذَ تَارَحُ ابْرَامَ ابْنَهُ وَلُوطا بْنَ هَارَانَ ابْنَ ابْنِهِ وَسَارَايَ كَنَّتَهُ امْرَاةَ ابْرَامَ ابْنِهِ فَخَرَجُوا مَعا مِنْ اورِ الْكِلْدَانِيِّينَ لِيَذْهَبُوا الَى ارْضِ كَنْعَانَ. فَاتُوا الَى حَارَانَ وَاقَامُوا هُنَاكَ.
(32) وَكَانَتْ ايَّامُ تَارَحَ مِئَتَيْنِ وَخَمْسَ سِنِينَ. وَمَاتَ تَارَحُ فِي حَارَانَ."[1]
لكن هذا الخروج المشار إليه في الإصحاح الحادي عشر لما كان قبل الوحي الإلهي لإبراهيم في الإصحاح الثاني عشر، أفرغه من بعده القدسي، وجعله عملا تلقائيا يقوم به الأب تارح المفترض الابتعاد عنه وترك بيته:
" (12:1) وَقَالَ الرَّبُّ لابْرَامَ: «اذْهَبْ مِنْ ارْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ ابِيكَ الَى الارْضِ الَّتِي ارِيكَ. (2) فَاجْعَلَكَ امَّةً عَظِيمَةً وَابَارِكَكَ وَاعَظِّمَ اسْمَكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً. (3) وَابَارِكُ مُبَارِكِيكَ وَلاعِنَكَ الْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الارْضِ»."[2]
ولعل غاية هذا التنفيذ القبلي للأمر الإلهي هي محاولة كتمان حقيقة الأب والعشيرة التي كانت كافرة ومشركة، ولذلك لم يتحدث سفر التكوين عن هذا الأمر إلا عرضا، بينما سجلته أسفار كتابية عديدة حُكم عليها بكونها منحولة أو أبوكريفا؛ ولا زالت آثارها باقية في ثرات كتابي كثير، نجده في التلمود والهاكاداه والمدراش والقبالاه، ولم تخل منه النصوص القانونية نفسها؛ حيث نجد في سفر يشوع : ". (2) وَقَالَ يَشُوعُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ: آبَاؤُكُمْ سَكَنُوا فِي عَبْرِ النَّهْرِ مُنْذُ الدَّهْرِ. تَارَحُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ وَأَبُو نَاحُورَ, وَعَبَدُوا آلِهَةً أُخْرَى. (3) فَأَخَذْتُ إِبْرَاهِيمَ أَبَاكُمْ مِنْ عَبْرِ النَّهْرِ وَسِرْتُ بِهِ فِي كُلِّ أَرْضِ كَنْعَانَ, وَأَكْثَرْتُ نَسْلَهُ وَأَعْطَيْتُهُ إِسْحَقَ. "[3] ونجد في نفس الإصحاح من سفر يشوع قوله: "14 فَالآنَ اخْشُوا الرَّبَّ وَاعْبُدُوهُ بِكَمَالٍ وَأَمَانَةٍ, وَانْزِعُوا الآلِهَةَ الَّذِينَ عَبَدَهُمْ آبَاؤُكُمْ فِي عَبْرِ النَّهْرِ وَفِي مِصْرَ, وَاعْبُدُوا الرَّبَّ. (15) وَإِنْ سَاءَ فِي أَعْيُنِكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا الرَّبَّ, فَاخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمُ الْيَوْمَ مَنْ تَعْبُدُونَ: إِنْ كَانَ الآلِهَةَ الَّذِينَ عَبَدَهُمْ آبَاؤُكُمُ الَّذِينَ فِي عَبْرِ النَّهْرِ, وَإِنْ كَانَ آلِهَةَ الأَمُورِيِّينَ الَّذِينَ أَنْتُمْ سَاكِنُونَ فِي أَرْضِهِمْ. وَأَمَّا أَنَا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ الرَّبَّ»."[4] وإن المتأمل في هذين النصين يتأكد له أن خروج إبراهيم من أرضه وعشيرته وبيت أبيه لم يكن خروجا تلقائيا، وإنما كان هجرة لما عبده أبوه وقومه من آلهة أخرى، وإنجاء لإبراهيم من بطش المشركين من قومه إلى أرض جديدة سيكون فيها إبراهيم مصدرا للبركة العالمية؛ حيث تتبارك فيه جميع قبائل الأرض.
وخلاصة القول أن جزءا أساسيا من قصة إبراهيم قد تم التغاضي عنه وإخفاءه لصالح آباء إبراهيم في عبر النهر، لكن هذا الإخفاء فضحته نصوص قانونية أخرى بينت أن آباء إبراهيم وقومه كانوا مشركين وعبدوا آلهة أخرى؛ وفضحته نصوص شفوية وأخرى في التلمود والهكاداه والمدراش والقبالاه ذكرت كثيرا من تفاصيل هذه المرحلة من حياة إبراهيم الخليل؛ وخلاصتها أن أبا إبراهيم وقومه كانوا مشركين، وكان أبوه يصنع الأصنام ويبيعها، وكان إبراهيم يناقش أباه وقومه في نفعها والجدوى منها، وأنها من صناعة أيدي الناس فعليهم ألا يعبدوها لأنها باطلة والعابدون لها حمقى؛ وطرأت له في هذا الشأن مجادلات كثيرة مع أبيه وقومه وملكه، بين لهم إبراهيم من خلالها أن ما يفعلونه ضلال، وأن عليهم أن يعبدوا الله الذي خلق كل شيء وحمّر الشمس، وجعل القمر والنجوم وأعطى الإنسان حياته وإذا مرض شفاه وإذا احتاج أعطاه وهو على كل شيء قدير.
ولم ترُق لأبي إبراهيم وقومه دعوته، فقرروا بعد أن قام هو بكسر أصنامهم أن يلقوه في النار، فأنجاه الله منها هو ولوط إلى الأرض المباركة للعالمين.
أربعون في المائة من حديث القرآن الكريم عن إبراهيم، كان حديثا عن هذه المرحلة من تجربته، وهو يسعى إلى المعرفة والعلم والرشد؛ ورغم أن المرحلة ذاتها كانت شبه مغيبة عن النص التوراتي الرسمي؛ إلى أن عملية المراجعة النقدية التي وجهنا لها القرآن الكريم، والتي جعلها من أعظم مهام رسوله صلى الله عليه وسلم، عندما قال عنه: "قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين"؛ أمكنها أن تساعدنا كثيرا على اكتشاف النصوص المخفية في ثنايا الأسفار القانونية الرسمية؛ وهو ما سنحاول الإطلاع عليه في المبحث الأول من هذه الدراسة؛ والذي سنعالجه من خلال مثالين:
يتعلق الأول بموضوع البعث وإحياء الموتى ونتناوله من خلال قصة إبراهيم والذبائح.
ويتعلق الثاني بموضوع التوحيد والشرك ونتناوله من خلال قصة إبراهيم مع أبيه وقومه في هدم مذبح البعل وبناء بيت الله.
1- قصة إبراهيم وعهد القطع:
1- سنأخذ السفر الأول من أسفار العهد القديم، وهو سفر التكوين، ونختار منه الإصحاح الخامس عشر، الذي يتحدث عن ما يطلق عليه "عهد القطع" "the covenant of pieces"، حيث سيقطع الله مع إبراهيم عهدا بوراثة الأمم الذين كان يقيم بينهم، له ولنسله من بعده؛ وخلاصة القصة أن إبراهيم عندما صار إليه كلام الرب في الرؤيا، سأل ربه أن يعطيه نسلا ليرث ممتلكاته إذ لم يكن له وارث، فاستجاب الله له، ووعده بنسل كثير، فآمن إبراهيم فحسبه له برا[5]؛ فسأل إبراهيم ربه عن العلامة التي بها يعلم أنه سيرث هذه الأرض، فأمره الله بأن يأخذ مجموعة من الذبائح من البهائم والطير، فشطر البهائم إلى شطرين قابل شطور بعضها ببعض، وترك الطيور كاملة، فكانت الجوارح تأتي لتأكل منها وكان إبراهيم يزجرها[6]، ووقع على إبراهيم سبات وحلت عليه رعبة مظلمة، فأخبره الله في سباته عن مصير ذريته من بعده وكيف أنهم يستعبدون أربعة قرون في أرض مصر، وأنهم يرجعون بعد ذلك إلى المكان عينه الذي وعدوا به[7]، وعندما يستيقظ إبراهيم من سباته، يرى تنور دخان ومصباح نار يجوز بين قطع الذبائح، وهنالك يقطع الله معه ميثاقا بأن يعطيه كل تلك الأرض من مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات، جميع أراضي شعوب المنطقة[8].
إن الهم الأكبر لهذا النص، مثلما هو لنصوص أخرى كثيرة، هو العودة إلى الأرض التي وُعد بها إبراهيم وانتزاعها من أصحابها، وإسكان بني إسرائيل فيها إتماما للنبوءات والوعود والعهود والعلامات؛ والواقع أن تلك الوعود لم تكن صحيحة ولا كانت من الله، ولم ينفذ منها شيء لا في زمن إبراهيم ولا إسحاق ولا يعقوب ولا الأسباط ولا موسى ولا يشوع ولا عيسى ولا غيرهم من الأنبياء، ولذلك تطرأ على هذه النصوص في كل مرة إضافات واستدراكات وتعديلات وتفسيرات تجعلها أكثر مواءمة مع الواقع المخالف لها. والواضح أن هذا النص كما هي النصوص الأخرى، لا تتحدث عن قيمة إنسانية أو خلقية ولا عن مسألة دينية ترتبط بالعمل والجزاء واليوم الآخر والحساب، وإنما تتمركز حول مشكلة تاريخية قومية تخص بني إسرائيل، وتناقض مقترحاتُ حلها كلَّ القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية التي جاءت بها الكتب.
ولنأخذ قراءة أخرى لنفس النص في زمن آخر، كان تأثير أمنية العودة وانتزاع الأرض من أصحابها ضعيفا، وكان تسلط الإمبراطوريات قويا، كما أن إنكار البعث واليوم الآخر لم يكن طاغيا مثلما هو الشأن عند الكهنوت الحاخامي والصدوقي الذي ينتمي إليه النص السابق.
والقصة مأخوذة من التوراة الشفوية، أو ما يطلق عليه "الهجادة"، وهو كما يضم نصوصا أساسية مدونة في التوراة القانونية، يضم نصوصا أخرى غير قانونية أو خفية يفسر بها الحاخامات الكتاب المقدس.
تحت نفس العنوان (عهد القطع)، الذي أُعطي للإصحاح الخامس عشر من سفر التكوين، نجد النص الذي بين أيدينا، يتحدث على نفس الموضوع، بروح أكثر ارتباطا بالدين والقيم والأخلاق والآخرة، حيث يبدأ النص بالحديث عن ظهور الله لإبراهيم من أجل تهدئة ضميره بعد الحرب التي خاضها، وخصوصا وقد أزهقت فيها دماء الأبرياء مما سبب لإبراهيم كثيرا من عذاب الروح، وبشره ربه أنه سيكون في ذريته في المستقبل رجال أتقياء يكونون درعا لأجيالهم، مثلما هو إبراهيم الآن[9]. وزيادة في التفضيل فقد سمح له الله أن يسأل ما يريد، فقال إبراهيم: إن كانت ذريتي ستثير غضبك في المستقبل، فمن الأفضل أن أبقى عقيما، وسيكون من دواعي سروري أن يكون لوط وارثي، إضافة إلى أني قرأت في النجوم إني لن ألد أولادا[10]. فأصعده الله إلى قبة السماء وقال له : أنت نبي ولست منجما، ولم يسأل إبراهيم ربه عن أي آية ليعلم أنه سينعم بذرية، واكتفى بأن آمن بما قال الله له، فحسبه له برا، وجزاه عليه بأن أعطاه نصيبا في هذا العالم ونصيبا في العالم الآخر على إيمانه القوي بالله[11]. ورغم هذا الإيمان فإن إبراهيم كان يريد أن يعرف ما الذي تحتاجه ذريته للحفاظ على نفسها، فأمره بالتضحية بمجموعة من البهائم والطير، ليعرف مختلف القرابين التي ينبغي تقديمها في المعبد للتكفير عن الخطايا والحصول على مزيد من العناية، فسأله عما يعملون بعد تدمير المعبد، فقال له: "يحافظون على قراءة أمر القرابين فتحسب لهم كأنهم قدموها، وأغفر لهم جميع خطاياهم، ثم ربط له بين الذبائح والسلطات القائمة، بابل والإغريق والفرس والإسماعيليين، وإسرائيل هي الحمامة البريئة[12]. فأخذ إبراهيم الحيوانات وشقها من الوسط، ولم يشق الطيور، ووضع شطور القطع مقابل بعضها البعض، فعادت الحيوانات إلى الحياة وحلقت الطيور في السماء[13]. وبينما إبراهيم يعد الذبائح وقع عليه سبات عميق، ورأى دخان نار جهنم التي أعدت للآثمين، ورأى مشعل نار وحي سيناء، ورأى القرابين تحمل من طرف بني إسرائيل، وحل عليه رعب مع ظلمة شديدة، إنها سيطرة الممالك الأربع، وقال له الله بأن لليهود خياران فإما أن يلتزموا بدراسة التوراة وخدمة المعبد، وإما ينالون نار جهنم أو تسلط الغرباء. وإذا اختاروا الخيار الأول فلن يصل إليهم شيء، وإن اختاروا الخيار الثاني فعليهم أن يختاروا بين عذاب جهنم عند الله أو تسلط الغرباء في الدنيا، فاختار إبراهيم تسلط الغرباء في الدنيا[14]. عندها أعلمه الله بالاستعباد الذي سيكون لبني إسرائيل في مصر أربعمائة سنة، وأعلمه بتسلط الممالك الأربع، وأن الله بعد ذلك سيعاقب هذه الممالك ويدمرها[15].
هذه قراءة أخرى لنفس النص، تحمل أبعادا دينية مهمة، وتعيد للنص الأول كثيرا من معانيه التي فقدها بسبب الروح العنصرية البغيضة؛ فإبراهيم ليس طالب دنيا، ولا همه الدنيا دون الآخرة، ولا رغبته في الاستيلاء على أراضي الناس وطردهم منها وإسكان ذريته مكانهم، وفي هذا النص نجد حديثا مهما عن الدين والآخرة، فإبراهيم نبي وليس منجما، وهو يرجو أن ينال نصيبا في الدنيا ونصيبا في الآخرة، وذريته التي ستسخط الله أو تغضبه لا حاجة له بها، وهمه كيف تحفظ ذريته نفسها في مستقبل أيامها في الدنيا والآخرة، وكيف تعتني بنفسها وتنجو من تسلط الغرباء ومن عذاب جهنم الذي خصص للآثمين؛ وأما الذبائح التي قدمها إبراهيم، ففي القراءة الأولى فهي آية على استيلاء بني إسرائيل على أراضي الشعوب التي يعيشون بينها، والمعجزة فيها أن عمودا من الدخان والنار مر بين القطع؛ وفي القراءة الثانية فهي آية على كيفية حفظ بني إسرائيل لنفسها من الانحراف عن دراسة التوراة وخدمة المعبد، والنجاة من تسلط الغرباء ونار جهنم، وفي هذه القراءة تعاد للحيوانات المقطعة الحياة وتحلق الطيور في السماء فتدل على ما ينبغي أن تدل عليه؛ وإن مزيدا من المدارسة المتدبرة بين القراءتين لتكشف لنا عن جوانب كثيرة جدا في موضوع اليوم الآخر عند اليهود .
وأنتقل إلى قراءة ثالثة لنفس القصة، هذه المرة من القرآن الكريم، حيث يتلوها علينا تلاوة جديدة، تحاول أن تُجرّد القصة من الملابسات التاريخية التي لحقت بها سواء في القراءة الأولى أو القراءة الثانية أو غيرها من القراءات. وتقدّم لنا من خلالها اقتراحا مهما يحتاج منا لشيء من التدبر والمدارسة.
نعم لقد كان هناك حوار بين الله وربه، ولكن ليس في شأن النسل ولا الأرض ولا الوعد بالأرض، وإنما في أمر أهم من ذلك بكثير، إنه أمر إحياء الموتى؛ فإبراهيم صاحب الرشد كثير الأسئلة في موضوع الاعتقاد، كانت له مشاكل كثيرة مع أبيه وقومه وملكه أدت به إلى أن كاد يفقد حياته في النار لولا أن الله نجاه منها؛ فالحياة بعد الموت لغز محير، وهو يريد معرفة بعض أسراره، ولذلك سأل ربه: رب أرني كيف تحيي الموتى؟، فهو لا يريد الخبر فقط، وإنما يريد أن يرى كذلك، فكان الردّ الإلهي عن سبب هذا السؤال: هل بسبب عدم الإيمان؟ أو النقص في الإيمان أم ماذا؟ فكان الجواب الإبراهيمي أنه الرغبة في الزيادة في الإيمان والاطمئنان: قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي؛ وهنا يأتي الجواب الإلهي دعوة إلى العمل التجريبي في أبسط مفرداته، خذ أربعة من الطير، فصرهن إليك، واجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن ياتينك سعيا، واعلم أن الله عزيزحكيم، وحتى يقوم بهذه العمليات على بساطتها، فعليه أن يصعد إلى جبال متعددة ليجعل على كل واحد منها جزءا من الطير، يصعد وينزل واحدا بعد واحد، حتى يوزع كل الأجزاء، ثم يأتي ليدعوها فتأتيه سعيا إليه بإذن الله، وهي تجربة مهمة تجعل إبراهيم يدرك القدرة الإلهية على بعث الحياة في قطع ميتة يبعد بعضها عن بعض بأميال عديدة، فتحيى وتطير.
إن آية إبراهيم كما تلاها علينا القرآن الكريم تصدق ما جاء في الكتاب المقدس في شأنها، ولكنها في نفس الوقت تبين ما أراد المنكرون للبعث أو الحساب أو اليوم الآخر كتمانه، وتبين ما ألبسوا فيه الحق بالباطل وكتموا الحق وهم يعلمون لأنه لا يتماشى مع عنصريتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان.
إن الرجوع إلى النصين السابقين ومقارنتهما بالنص القرآني ليكشف لنا أن البعد الغيبي وخصوصا الآخرة فيه قد حاول المنكرون له كتمانه، ووضع مفاهيم أخرى محله ونسبتها إلى الله عز وجل، ولكن البحث والدراسة والمقارنة تبين كل محاولات التزوير والتحريف الفاشلة، كما تكشف الأخطاء التي يقع فيها الكتاب والرواة، والإضافات التي يضعها النساخ أو الشراح والمفسرون وغيرهم، عن قصد أو عن خطإ، وبالمقارنة نستطيع معرفة العوامل الإنسانية المؤثرة في تدوين النصوص وترجمتها وتوثيقها وغير ذلك.
كما أن هذه المقارنة تجيب على سؤال محوري لم يجد بعد الإجابة الوافية عليه، وهو قولهم إن القرآن الكريم قد أخذ من كتب اليهود والنصارى القانونية والأبوكريفا وصاغها بلسان عربي؟ والصحيح أن للقرآن الكريم قراءة جديدة عميقة لما جاء في الكتب المقدسة يصدق الحق الموجود فيها ويؤكده، ويبين الدخيل المرتبط بالأحوال الخاصة للناس في الأزمنة المختلفة ويرده إلى قائليه؛ نفس الأمر يمكن تطبيقه على البعث واليوم الآخر في الكتب المقدسة، فهو أصيل جاء به الأنبياء جميعا، وهو منصوص عليه بكثرة ودقة في كل الكتب المقدسة، وكان كل نبي يعيد له الاعتبار بعد أن يكون الناس قد طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وتركوه ، ولم يظهر في زمن معين متأخر كما ذكره لنا الدارسون الذين يقرأون الكتب في ترتيبها التاريخي، منطلقين من فرضية أن الوحي والدين نتاج اجتماعي يعبر على تطور الفكر البشري؛ وإنما هناك أسس خالدة أوحى الله بها إلى رسله جميعا، وهناك فهم وفكر وعلم ومعرفة تتطور عبر الزمان، ولا يفترض أن هذه الأسس الخالدة قد اكتشفها العقل البشري في تاريخ الإنسان ولم يوح بها الله في كتب الأديان.
2 التوحيد والشرك:
ونتناوله من خلال قصة إبراهيم مع أبيه وقومه في هدم مذبح البعل وبناء بيت الله.
رغم محاولة الإخفاء البينة لموضوع التوحيد والشرك الذي تمثله قصة إبراهيم مع أبيه قبل الهجرة، في النصوص القانونية، إلا أن سفر يشوع بين لنا بما لا يقبل المراء أن إبراهيم قد ترك أباه وقومه وذهب إلى الأرض المباركة للعالمين هروبا من شركهم ونجاة من كيدهم؛ وهو ما سنتعرض له في هذه الفقرة الثانية من المبحث الأول.
لقد أفردت لنا أكثر الأسفار غير القانونية المتحدثة عن قصة إبراهيم مجالا للحديث عن علاقته بأبيه وقومه المشركين تماما مثل ما فعل القرآن الكريم، خلافا للنص الحاخامي القانوني، الذي غلب عليه الطابع المذهبي العنصري، الذي اهتم كثيرا بالعهد الأرض واستعادة الملك ووراثة النسل الإسرائيلي له من دون العالمين؛ فغُيّب الحديث عن موضوع البعث وموضوع التوحيد والشرك الذي أفاضت فيه نصوص القصة الإبراهيمية في المصادر الأخرى كما سنراه.
جاء في "رؤيا أبراهام" حديث مهم عن مجادلة إبراهيم لأبيه في أمر الأصنام والمعبودات من دون الله؛ فبعد أن بيّن إبراهيم تفاهة الآلهة المنحوتة والمصنوعة من الحجر والخشب عندما انكسرت واحترقت، انتقل لبيان تفاهة المعبودات من جميع المخلوقات أمام الله، فقال:
"وقلت: النار أكثر جدارة بأن تعبد من الأصنام، لأن ما لا يخضع يخضع لها، وهي تسخر مما يهلك بلا عذاب في نيرانها. ولكن حتى هذه الأخيرة فإنني لا أسميها إلها لأنها تخضع للماء. فأكثر جدارة بالعبادة هي المياه، لأنها تنتصر على النار وتغذي الأرض. لكنها هي أيضا لن أسميها إلها لأنها برشحها تحت الأرض فإنها تخضع لها. فأدعو الأرض أكثر جدارة بالعبادة لأنها تنتصر على طبيعة المياه وحجمها. لكنها هي أيضا لن أسميها إلها، لأنها هي أيضا تجف بالشمس وتخضع لعمل الإنسان. فأكثر من الأرض أدعو الشمس أكثر جدارة بالعبادة، لأنها تنير بأشعتها العالم ومختلف الأجواء. ولكن هذه الأخيرة لن أضعها بين الآلهة، لأن سيرها يعتم في الليل بواسطة السحب. وكذلك لن أسمي القمر إلها ولا النجوم، لأنها هي أيضا تعتم نورها في وقتها في الليل." [16]
وبعد هذا التقليب للنظر في مظاهر الطبيعة المختلفة، وجه إبراهيم وجهه وفكره وفكر أبيه ومعاصريه إلى الله رب كل شيء، قال: "فاسمع يا تراخ، يا أبي، سأفتش أمامك عن الإله الذي خلق الأشياء كلها وليس عن الآلهة التي نخترعها نحن:
"فمن هو إذن، أو ما هو الذي حمر السماوات، والذي ذهب الشمس، الذي أعطى النور للقمر ومعه للنجوم، من الذي جفف الأرض مع وجود المياه الكثيرة، ومن الذي أقامك أنت نفسك بين البشر؟ هل يمكن لله أن يكشف نفسه بنفسه لنا؟"[17]
نجد مثل هذا النص في أدبيات يهودية كثيرة كلها تتحدث عن الرشد الإبراهيمي والمواجهة التي كانت بين إبراهيم وبين أبيه وقومه وملكه في أمر المنحوتات والمصنوعات والمعبودات من دون الله، نكتفي بما أوردناه في الدلالة عليها.
نفس الأمر نجده في التلاوة القرآنية الجديدة التي تصدق ما بين يديها من الكتاب وتعيد الاعتبار للمعاني المخفية أو المهمشة التي كتمتها المذاهب والفرق والاتجاهات المختلفة لأسباب مختلفة؛ قال تعالى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)[18]
إنه نفس الخطاب الديني الذي حاول فريق من أهل الكتاب إخفاءه خلف أهداف أرضية وعنصرية لا علاقة لها بدين الله الذي أنزله في كتابه؛ وجاء القرآن بالنور المبين الذي يبين ما يخفون من الكتاب ويعفو عن كثير.
وهذا كتاب الخمسينيات يحدثنا عن الجدل بين إبراهيم وأبيه وقومه في نفس الموضوع، قال:
"وبدأ الولد يفهم ضلال الأرض. (فعرف) أن كل شيء كان يضل باتباع الصور المنحوتة والنجاسة. وعلمه والده الكتابة، (عندما كان) عمره أسبوعين من السماوات. وترك أباه لكي لا يعبد الأصنام معه، وبدأ يصلي لخالق كل شيء، لكي ينقذه من ضلال البشر، ولكي لا يكون نصيبه الذي تؤدي إليه النجاسة والدناءة."[19]
ولنستمع إلى إبراهيم وهو يحاور أباه في سفر الخمسينات، يقول: "أبي" فأجاب هذا الأخير: "ها أنذا يا بني." فقال (أبرام): "أية مساعدة وأية فائدة لنا من هذه الأصنام التي تعبدها وتسجد أمامها. ليس فيها ثمة أي نفس: إنها (صور) صماء، وضلال للروح. لا تعبدها، بل اعبد إله السماء الذي ينزل المطر والندى على الأرض، والذي ينتج كل شيء على الأرض، والذي خلق كل شيء بكلمته والذي منه تصدر كل حياة. لماذا تعبدون هذه الاشياء التي ليس لها نفس؟ إنها مصنوعة بأيدي (الإنسان). إنكم تحملونها بأنفسكم على أكتافكم، إنما لا يتأتى منها أية مساعدة لكم، وفقط خجل كبير للذين يصنعونها وضلال للروح بالنسبة للذين يعبدونها. فلا تعبدوها." [20]
نفس الخطاب الديني الوارد في هذه الأسفار هو الذي أعاد القرآن الكريم تلاوته علينا مؤكدا الحقيقة الواحدة التي جاءت بها جميع الأديان: توحيد الله وعدم الشرك به، وتأسيس الملة الإبراهيمية الحنيفة على يد أبينا إبراهيم؛ قال تعالى، وقد كرر مثل هذا الكلام بأساليب مختلفة، في غير ما موضع من القرآن الكريم: " وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) [21]
وقال عز وجل في نفس الموضوع: " وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) [22]
ينذر إبراهيم نفسه لمجاهدة الشرك والدعوة إلى التوحيد إلى أن يضيق أبوه وقومه به ذرعا بعد أن سفه أحلامهم وبخس أصنامهم؛ وتحدثنا أسفار متعددة عن الموقف الذي اتخذه قومه اتجاهه، نذكر منه ما ورد في كتاب الخمسينيات في مناسبة هجرة إبراهيم، حيث نسمعه يقول في صلاته: "إلهي أيها العلي إلهي، أنت وحدك إلهي. أنت من خلق الأشياء كلها، وكل ما هو موجود هو من صنع يديك.إنك أنت، (إنها) ألوهتك التي اخترتها. أنقذني من ضر الأرواح الشريرة التي تحكم أفكار القلب البشري فلا تضل هذه الأفكار بعيدا عنك يا إلهي. ثبتني، أنت نفسك، أنا وذريتي إلى الأبد، فلا نضل منذ الآن وإلى الأبد. إنني أتساءل إذا كنت سأعود إلى أور إلى عند الكلدانيين الذين يحاولون إعادتي، أم إذا كنت سأبقى هنا في هذا المكان. ألا اجعل لخادمك سراطا مستقيما سارا أمامك، فيمضي فيه ولا أمشي متبعا ضلال قلبي، آه يا إلهي." [23]
" وعندما انتهى من الكلام والصلاة، وجهت إليه كلمة من الرب عبر وساطتي: "اترك بلدك، وعائلتك وبيت أبيك إلى بلد سأدلك عليه، وسأجعل منك أمة كبيرة وكثيرة. سأباركك وأجعل منك اسما عظيما. ستكون مباركا على الأرض، وبك ستتبارك شعوب الارض كلها. يأبارك مباركيك وألعن الذين سيلعنونك. وسأكون إلهك، لك ولابنك ولابن ابنك ولذريتك كلها. فلا تخش شيئا بعد الآن، على مدى أجيال الأرض، فإنني إلهك." [24]
إن خروج إبراهيم من أرضه وعشيرته وبيت أبيه كان بسبب الاختلاف في المعتقد، وبسبب مجاهدة إبراهيم لأبيه وقومه وملكه في موضوع الشرك والتوحيد؛ وتذكر لنا أسفار أخرى أن المواجهة بلغت إلى حد إلقائه في النار وإنجاء الله له منها؛ فقد جاء في الآثار التوراتية:
"قام أبرام في الليل وأشعل منزل الأصنام. أحرق كل ما كان يوجد فيه، ولم يره أحد. وقام (الآخرون) في الليل وحاولوا إنقاذ آلهتهم. وأسرع حران لنجدتهم فاشتعلت النار فيه فاحترق ومات في أور الكلدانيين. وترك تراخ أور الكلدانيين ، هو وأبناؤه، وذهب قاصدا بلد لبنان وبلد كنعان. وأقام في بلد حران. وأقام أبرام مع تراخ أبيه في بلد حران تسعة أسابيع من السنوات." [25]
ورغم محاولة إخراج أبي إبراهيم معه في هذا النص إلا أن موضوع اعتداء إبراهيم على معبد قومه سواء بالإحراق كما ورد في هذا النص، أو بكسر الأصنام أو هدم المعبد كما ورد في نصوص أخرى، كان موضوعا أساسيا من مواضيع الاعتقاد الذي سجلته الآثار والكتب اليهودية، ولا يزال كثير من تفصيلاته في كتب قانونية، بدّلت فقط اسم إبراهيم بأسماء أخرى منها "جدعون"، واحتفظت بمضامين القصة كما هي، ومن ذلك قصة جدعون الذي طلب منه الإله أن يهدم مذبح البعل ويبني بيت الله:
Jdg 6:24 فَبَنَى جِدْعُونُ هُنَاكَ مَذْبَحاً لِلرَّبِّ وَدَعَاهُ «يَهْوَهَ شَلُومَ». إِلَى هَذَا الْيَوْمِ لَمْ يَزَلْ فِي عَفْرَةِ الأَبِيعَزَرِيِّينَ.
Jdg 6:25 وَكَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَنَّ الرَّبَّ قَالَ لَهُ: «خُذْ ثَوْرَ الْبَقَرِ الَّذِي لأَبِيكَ, وَثَوْراً ثَانِياً ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ, وَاهْدِمْ مَذْبَحَ الْبَعْلِ الَّذِي لأَبِيكَ وَاقْطَعِ السَّارِيَةَ الَّتِي عِنْدَهُ,
Jdg 6:26 وَابْنِ مَذْبَحاً لِلرَّبِّ إِلَهِكَ عَلَى رَأْسِ هَذَا الْحِصْنِ بِتَرْتِيبٍ, وَخُذِ الثَّوْرَ الثَّانِيَ وَأَصْعِدْ مُحْرَقَةً عَلَى حَطَبِ السَّارِيَةِ الَّتِي تَقْطَعُهَا.
Jdg 6:27 فَأَخَذَ جِدْعُونُ عَشَرَةَ رِجَالٍ مِنْ عَبِيدِهِ وَعَمِلَ كَمَا كَلَّمَهُ الرَّبُّ. وَإِذْ كَانَ يَخَافُ مِنْ بَيْتِ أَبِيهِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَعْمَلَ ذَلِكَ نَهَاراً فَعَمِلَهُ لَيْلاً.
Jdg 6:28 فَبَكَّرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي الْغَدِ وَإِذَا بِمَذْبَحِ الْبَعْلِ قَدْ هُدِمَ وَالسَّارِيَةُ الَّتِي عِنْدَهُ قَدْ قُطِعَتْ, وَالثَّوْرُ الثَّانِي قَدْ أُصْعِدَ عَلَى الْمَذْبَحِ الَّذِي بُنِيَ.
Jdg 6:29 فَقَالُوا الْوَاحِدُ لِصَاحِبِهِ: «مَنْ عَمِلَ هَذَا الأَمْرَ؟» فَسَأَلُوا وَبَحَثُوا فَقَالُوا: «إِنَّ جِدْعُونَ بْنَ يُوآشَ قَدْ فَعَلَ هَذَا الأَمْرَ».
Jdg 6:30 فَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لِيُوآشَ: «أَخْرِجِ ابْنَكَ لِنَقْتُلَهُ, لأَنَّهُ هَدَمَ مَذْبَحَ الْبَعْلِ وَقَطَعَ السَّارِيَةَ الَّتِي عِنْدَهُ».
Jdg 6:31 فَقَالَ يُوآشُ لِجَمِيعِ الْقَائِمِينَ عَلَيْهِ: «أَنْتُمْ تُقَاتِلُونَ لِلْبَعْلِ, أَمْ أَنْتُمْ تُخَلِّصُونَهُ؟ مَنْ يُقَاتِلْ لَهُ يُقْتَلْ فِي هَذَا الصَّبَاحِ. إِنْ كَانَ إِلَهاً فَلْيُقَاتِلْ لِنَفْسِهِ لأَنَّ مَذْبَحَهُ قَدْ هُدِمَ».
Jdg 6:32 فَدَعَاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ «يَرُبَّعْلَ» قَائِلاً: «لِيُقَاتِلْهُ الْبَعْلُ لأَنَّهُ قَدْ هَدَمَ مَذْبَحَهُ».
لم تتحدث لنا القصة عما فعله قوم جدعون بهذا الفتى الذي هدم معبدهم مع أنهم كانوا يبحثون عنه ليقتلوه؛ وإنما طلبوا من أبيه أن يقدمه لهم ليقتلوه، فبدا أبوه موحدا (رغم أنه صاحب المعبد المهدوم) يدافع عنه ويحج قومه بكونهم يدافعون عن البعل والمفروض أن يدافع البعل عن نفسه؛ لقد أخرجت القصة من سياقها الإبراهيمي لتدخل في سياق قصة يهودية لا علاقة لها بها.
لكننا إذا رجعنا إلى كتاب الآثار التوراتية، سنجد موضوع إحراق إبراهيم بارزا؛ ففي معرض الحديث عن بناء البرج بالحجارة المشوية المكتوب عليها أسماء أصحابها؛ حيث "أخذ كلّ حجره، باستثناء اثني عشر رجلا رفضوا أخذ الحجارة. وتلك هي أسماؤهم: أبرام وناشور ولوث وتنوت وزابا وأرموداث ويوباب وإيسار وأبيماحل وسابا وأوسين. وأمسك بهم شعب الأرض وقادهم ليمثلوا أمام رؤسائه وقال لهم: "إنهم الرجال الذين خرقوا قراراتنا، والذين لا يريدون السير في طرقنا." فقال لهم الرؤساء: "لماذا لم تريدوا أن يضع كل منكم حجارتكم مع شعب الأرض؟" فأجابه هؤلاء قائلين: "لن نضع حجارتنا معكم ولن نضم إرادتنا على إرادتكم. فنحن لا نعرف سوى إله واحد، وهو الذي نعبده. وحتى لو وضعتمونا في النار مع حجارتكم فلن نوافقكم."[26]
يقرر الحاكم سجن الرجال الإثني عشر إلى أن يلقيهم في النار، غير أن مساعده المؤمن سيعمل على تهريبهم بدعوى أنهم كسروا باب السجن وهربوا ولحق بهم مائة من الرجال للقبض عليهم، ولم يبق في السجن إلى إبراهيم وحده، لأنه لم يرد أن يهرب. "عندها قالوا له: "فلنحرق إذن هذا الذي وجدناه" وأخذوه وقادوه إلى رؤسائهم. وقال له: "أين هم الذين كانوا معك؟" وقال: "كنت نائما بعمق في الليل. وعندما استيقظت لم أجدهم." وأخذوه وبنوا أتونا وأشعلوا النار فيه. ورموا في الأتون الحجارة المحرقة بالنار. وعندها أخذ يكتام الذي أذابه الألم أبرام ورماه في الأتون مع الآجر. لكن الله حرض هزة أرضية عنيفة وأفلتت النار من الأتون في شعلات وشرارات من الشعلات وأحرقت جميع الذين كانوا خول وأمام الأتون (...) أما أبرام فلم يصب ولو بجرح بسيط بسبب حرق النار. وقام أبرام من الأتون وذاب أتون النار. وهكذا أنقذ أبرام"[27]
هكذا حكى لنا كتاب الآثار التوراتية قصة نجاة إبراهيم من النار.
نفس القصة يعيد تلاوتها علينا القرآن الكريم محتفظا بكل أبعادها الدينية والإنسانية، حيث يقول تعالى:
"فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) [28]
وقال تعالى: "وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) [29]
كان القرآن الكريم مصدقا لما بين يديه من الكتاب، ومعيدا لأربعين في المائة من المعاني المخفية من قصة إبراهيم والمبعدة عن الكتب القانونية.
وبذلك كانت التلاوة القرآنية تستحضر جوانب أساسية من الدين تم تغييبها في التقليد اليهودي، وعلى رأسها موضوع التوحيد وموضوع البعث كما رأيناه في هذا المبحث. وتستبعد في المقابل موضوع النسب والعنصرية والأرض الذي أدى إلى جعل أبي إبراهيم هو الذي يخرج بابنه من أرضه، وهو ما أبطله القرآن كما أبطلته نصوص يهودية من قبل؛ منها ما ورد في دعوة إبراهيم إلى الخروج من أرضه وعشيرته وبيت أبيه في سياق النجاة من العذاب الذي سيحل ببيت أبيه، قال:
"وحصل أنني بينما كنت أحدث والدي هكذا في باحة بيته، سقط صوت القدير من السماء في سيل من النار، قائلا ومناديا: "أبراهام، أبراهام" فقلت: "هاأنذا"، فقال: "إنك تبحث عن رب الأرباب والخالق في ذكاء قلبك. إنه أنا. اخرج من عند أبيك تراخ ومن بيته، حتى لا تقتل أنت أيضا بخطايا أبيك." فخرجت، وحصل أنني خرجت ولم يكن لدي الوقت حتى أجتاز باب الباحة. فجاء صوت حرق أبي وبيته وكل ما كان في بيته على عمق أربعين ذراعا.[30]
3- الحديث النبوي من خلال صحيح البخاري:
لم تنل هذه المرحلة من مراحل حياة النبي إبراهيم في صحيح البخاري إلا نسبة تقارب نسبتها في الأسفار الكتابية القانونية؛ فبينما لم تتجاوز مرحلة ما قبل هجرة إبراهيم لأبيه وقومه 2 في المائة في أسفار العهد القديم، كانت نسبة هذه المرحلة نفسها 4 % في صحيح البخاري؛ من خلال أربعة أحاديث رُوي أولها عن أبي هريرة ثلاث مرات، في شأن سؤال إبراهيم ربه: أرني كيف تحيي الموتى؟ قال رافعا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نحن أحق بالشك من إبراهيم"، ويمثل هذا الحديث برواياته الثلاث نسبة 1،8 بالمائة من مجموع الحديث عن إبراهيم في صحيح البخاري. وثاني هذه الأحاديث عن أبي هريرة أيضا، في روايتين تمثلان معا نسبة 1،16 في المائة؛ تتحدث عن أبي إبراهيم، إذ يسأل إبراهيم ربه عن كيف يجمع بين وعده إياه بألا يخزيه، مع تعذيبه أباه شر العذاب. وأما الحديث الثالث فقد جاء في رواية واحدة عن ابن عباس في الحديث عن إبراهيم لما ألقي في النار، إذ قال عنه أنه قال: حسبي الله ونعم الوكيل بنسبة 0،67 %، والحديث الرابع يتحدث عن الوزغ الذي ينبغي قتله، لأن كل المخلوقات كانت تنفخ على نار إبراهيم من أجل إطفائها إلا الوزغ كان ينفخ على النار من أجل إذكائها، ولذلك حكم عليه بالإعدام الأبدي؛ وهذه الرواية لا تمثل إلا 0،35 في المائة.
والملاحظ أن هذه الروايات جميعا لا تنسجم مع التلاوة القرآنية الجديدة، لا من حيث الحجم، إذ يمثل الكلام عن هذه المرحلة من حياة إبراهيم في القرآن نسبة أربعين في المائة، تعيد الاعتبار لموضوعي التوحيد البعث والنبوة والرسالة والدين؛ بينما تتحدث هذه الأحاديث مع نسبتها القليلة، عن أشياء أخرى؛ يتحدث أولها عن شك إبراهيم عندما سأل ربه إحياء الموتى، بينما يتحدث القرآن الكريم من خلال سؤال إبراهيم ربه عن كيفية إحياء الموتى عن يقين إبراهيم واطمئنانه، "بلى ولكن ليطمئن قلبي"، ويتحدث الحديث الثاني عن تناقض وعد القرآن مع واقع الحال عندما أخزى الله إبراهيم بتعذيب أبيه، حيث يقول:
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي فَيَقُولُ أَبُوهُ فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ يَا إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ[31]
وكأن هذا الحديث يدافع عن الفكرة العنصرية اليهودية التي أدت إلى كتمان موضوع التوحيد والشرك في قصة إبراهيم الواردة في الكتب المقدسة، لكونه يتنافى مع فكرة شعب الله المختار والنسل المبارك وأرض الميعاد التي جعلت للآباء والأجداد أهمية أساسية، ولذلك رفض الكتبة ضم كل ما فيه اتهام لأبي إبراهيم وعشيرته بالشرك والكفر واستحقاق العقاب، وأوردوا خلافا لذلك أخبارا تجعل منه المهاجر الأول مع ابنه إبراهيم وزوجته وابن أخيه لوط إلى حران حيث توفي هنالك. وقد توجه هذا الحديث مباشرة إلى مهاجمة القرآن الكريم، لما اعتبره تناقضا بين وعد الله في القرآن الكريم (ولا تخزني يوم يبعثون) وبين واقع الحال يوم القيامة، حيث يقول لربه: أي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ وأورد عليه شاهدا ملموسا يتمثل في إلقاء أبيه بين رجليه فإذا هو بذيخ ملتطخ يؤخذ بقوائمه فيلقى في النار أمام عينيه، فكان الجواب زيادة في الخزي.
وأما الحديث الثالث الذي تحدث عن قصة إحراق إبراهيم فلم يكن همه إلا بيان حكم الوزغ الذي ينبغي أن يقتل لأنه كان ينفخ على نار إبراهيم من أجل أن تستعر؛ والواضح أن هذا الحديث كذلك ينسجم مع التفكير الأسطوري الإسرائيلي الذي يربط بين أحداث التاريخ وأحكام الشرع، حيث يحكم على كل وزغة بالقتل لأن إحدى جداتها البعيدة في زمن إبراهيم نفخت على ناره من أجل أن تستعر؟؟؟
إنها مفارقة عجيبة سارت إليها الرواية الحديثية، بعيدا كل البعد عن مسار القرآن، وقريبا جدا من روح الفكر التوراتي الحاخامي؛ فهل كان الامر مصادفة؟؟؟
المرحلة الثانية: هجرة إبراهيم
يمثل الجزء الثاني من حياة إبراهيم الخليل 60 في المائة من حديث القرآن الكريم، بينما يمثل ما يناهز 98 في المائة من حديث النص التوراتي الحاخامي؛ ويبدأ من خروج إبراهيم من أرضه وعشيرته وبيت أبيه.
بدأ الحديث عن هذا الموضوع في أسفار العهد القديم منذ الإصحاح الثاني عشر من سفر التكوين، منذ أن أمر الله إبراهيم بالخروج من بيت أبيه؛ حيث قال له:
(12:1) وَقَالَ الرَّبُّ لابْرَامَ: «اذْهَبْ مِنْ ارْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ ابِيكَ الَى الارْضِ الَّتِي ارِيكَ. (2) فَاجْعَلَكَ امَّةً عَظِيمَةً وَابَارِكَكَ وَاعَظِّمَ اسْمَكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً. (3) وَابَارِكُ مُبَارِكِيكَ وَلاعِنَكَ الْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الارْضِ».
(4) فَذَهَبَ ابْرَامُ كَمَا قَالَ لَهُ الرَّبُّ وَذَهَبَ مَعَهُ لُوطٌ. وَكَانَ ابْرَامُ ابْنَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً لَمَّا خَرَجَ مِنْ حَارَانَ. (5) فَاخَذَ ابْرَامُ سَارَايَ امْرَاتَهُ وَلُوطا ابْنَ اخِيهِ وَكُلَّ مُقْتَنَيَاتِهِمَا الَّتِي اقْتَنَيَا وَالنُّفُوسَ الَّتِي امْتَلَكَا فِي حَارَانَ. وَخَرَجُوا لِيَذْهَبُوا الَى ارْضِ كَنْعَانَ. فَاتُوا الَى ارْضِ كَنْعَانَ. (6) وَاجْتَازَ ابْرَامُ فِي الارْضِ الَى مَكَانِ شَكِيمَ الَى بَلُّوطَةِ مُورَةَ. وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ حِينَئِذٍ فِي الارْضِ.
(7) وَظَهَرَ الرَّبُّ لابْرَامَ وَقَالَ: «لِنَسْلِكَ اعْطِي هَذِهِ الارْضَ». فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحا لِلرَّبِّ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ.
(8) ثُمَّ نَقَلَ مِنْ هُنَاكَ الَى الْجَبَلِ شَرْقِيَّ بَيْتِ ايلٍ وَنَصَبَ خَيْمَتَهُ. وَلَهُ بَيْتُ ايلَ مِنَ الْمَغْرِبِ وَعَايُ مِنَ الْمَشْرِقِ. فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحا لِلرَّبِّ وَدَعَا بِاسْمِ الرَّبِّ.
(9) ثُمَّ ارْتَحَلَ ابْرَامُ ارْتِحَالا مُتَوَالِيا نَحْوَ الْجَنُوبِ.[32]
لقد رأينا فيما سبق كيف أن الأسفار القانونية أغفلت موضوع الشرك الذي كان عليه أبوه وقومه وملكه، وأغفلت دعوة إبراهيم إلى التوحيد ومجادلته لقومه واحتجاجه عليهم حتى كسر أصنامهم فقرروا إحراقه بالنار فأنجاه الله منها؛ كما رأينا أن خروجه عليه السلام من أرضه إنما كان بسبب ذلك.
وسنرى فيما يلي هجرة إبراهيم؛ والتي يظهر أنها هجرة عادية، وإن كانت بأمر من الله؛ يتنقل فيها إبراهيم من مكان إلى مكان، فها هو يجتاز في شكيم إلى بلوطة مورة، ثم يبني مذبحا هناك؛ ثم ينتقل من هناك إلى الجبل شرقي بيت إيل حيث ينصب خيمته، ويبني هناك مذبحا للرب ويصلي هنالك ويدعو باسم الرب، ثم يرتحل ارتحالا متواليا نحو الجنوب.
إنها هجرة مليئة بالتنقل والترحال، بحثا عن الأرض الموعودة، التي لم يستقر بها إبراهيم أبدا؛ والتي كان دائما يسعى للحصول عليها؛ ورغم الصلاة والذبح والدعاء والبركة في هذه الأماكن إلا أنها لم تأخذ أبعادا قدسية، وكانت صورة إبراهيم دائما هي صورة البدوي المتنقل الباحث عن مكان الاستقرار المؤقت في أرض الأغيار.
مقابل هذه الصورة المهتزة لإبراهيم المرتحل، يقدم لنا القرآن الكريم صورة جديدة تربط إبراهيم بأرض القداسة وتجعله إماما للعالمين من أجل مباركتهم في عهد أبدي بينه وبين ربه وبين ذريته غير الظالمين من بعده، بناء على نجاحه في الامتحانات التي كانت من قبل، قال تعالى:
- وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)[33]
لقد عالجت هذه الآيات موضوع عهد إبراهيم مع ربه؛ إذ جعله بنو إسرائيل عهدا بالأرض إلى النسل والذرية، والتي هي الشعب المختار ؛ وكان الجواب القرآني بأن هذا العهد إنما هو عهد بالإمامة الدينية في بيت الله، وهو عهد لا ينال الظالمين، وإنما من شروطه البر والإحسان والقيام بشعائر الله وشرائعه في المكان الذي اختاره؛ وإننا بتأملنا للنص التوراتي المؤسس في هذا الموضوع، والذي اطلعنا عليه سابقا لنكتشف هذا الشرط في ثنايا الأمر الإلهي لإبراهيم بالخروج؛ إذ قال له: اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك، واذهب إلى الأرض التي أريك، ." (2) فَاجْعَلَكَ امَّةً عَظِيمَةً وَابَارِكَكَ وَاعَظِّمَ اسْمَكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً. (3) وَابَارِكُ مُبَارِكِيكَ وَلاعِنَكَ الْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الارْضِ". فغاية الخروج هو نشر البركة في الأرض ومباركة جميع قبائلها وأممها، ولن يتأتى ذلك إلا بالبر والإحسان إلى الجميع وليس بالحرب والطرد والسرقة والعدوان على الأمم الأخرى لحساب شعب واحد مختار.
قال تعالى في شأن المكان الذي هاجر إليه إبراهيم ولوطا: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)[34]
لم يكن خروج إبراهيم بعد أن نجح في ابتلاءات التوحيد والدين من أجل امتلاك الارض وجمع الدنيا، وإنما كان من أجل حمل رسالة إنسانية عالمية، لخصها الكتاب المقدس والقرآن الكريم في لفظ البركة؛ حيث سيبني إبراهيم في هذه الأرض التي هاجر إليها بيت الله العالمي، ومنه ستنطلق البركة إلى جميع أمم الأرض؛ وإننا بالتأمل في نص سفر التكوين لندرك ذلك إذ يقول: "واذهب إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة، وأبارك مباركيك ولاعنك ألعنه وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض". إن البركة التي سيحصل عليها إبراهيم ويعطيها لجميع قبائل الأرض إنما توجد في هذا المكان الذي اختاره الله له، ليكون إماما فيه، يقصده الناس من أجل الحصول هذه على البركة. وهو ما بينه القرآن الكريم في الآية السابقة وسنراه في نصوص أخرى كثيرة.
إن أول عمل قام به إبراهيم عندما وصل إلى الأرض المعلومة هو بناء بيت للعبادة في هذا المكان المختار، وهو ما رأيناه في نص الهجرة والخروج، قال:
(7) وَظَهَرَ الرَّبُّ لابْرَامَ وَقَالَ: «لِنَسْلِكَ اعْطِي هَذِهِ الارْضَ». فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحا لِلرَّبِّ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ.
(8) ثُمَّ نَقَلَ مِنْ هُنَاكَ الَى الْجَبَلِ شَرْقِيَّ بَيْتِ ايلٍ وَنَصَبَ خَيْمَتَهُ. وَلَهُ بَيْتُ ايلَ مِنَ الْمَغْرِبِ وَعَايُ مِنَ الْمَشْرِقِ. فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحا لِلرَّبِّ وَدَعَا بِاسْمِ الرَّبِّ.
(9) ثُمَّ ارْتَحَلَ ابْرَامُ ارْتِحَالا مُتَوَالِيا نَحْوَ الْجَنُوبِ.[35]
لقد حدد له الرب مكان بناء مذبح للرب؛ وعبارة بناء مذبح للرب في التعبير الكتابي تعني معنيين، الأول بناء بيت للعبادة، والثاني إقامة شعيرة العبادة في المعبد أو المذبح؛ حيث أن المذبح يبنى من أجل أن توضع عليه الذبيحة المحرقة؛ ومادام النص يكرر هذا الأمر فهو يقصد المعنيين معا؛ فإبراهيم قد بنى بيتا للعبادة في المكان الذي اختاره الله بعد أن لم يكن، ثم أقام في هذا البيت شعائر العبادة بما فيها الذبائح المطلوبة.
انتقال إبراهيم إذن في هذا المكان لم يكن ارتحالا كارتحال البدو الرحل بحثا عن الماء والكلإ كما يوهم النص؛ وإنما كان ارتحالا من أجل آداء المناسك التي يحتاج إبراهيم إلى تعلمها من أجل تعليمها للعالمين الذين سيأتون إليه من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم؛ وهنا يأتي النص القرآني ليشرح لنا هذا الأمر ويخرجنا من الالتباس الحاصل في الموضوع، قال تعالى:
"وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)[36]
لقد حددت هذه المقاطع من سورة البقرة جوانب كثيرة كانت مبهمة في النص الكتابي؛ فالمكان الذي هاجر إليه إبراهيم هو بيت الله، وهو مقام إبراهيم الذي أقام فيه، وهو الذي جعله الله مصلى للناس جميعا، وأمر الله الناس بالذهاب إليه، وجعله آمنا؛ وكان عهد الله مع إبراهيم وابنه إسماعيل أن يقوما بخدمة حجاجه، بعد أن قاما في البدء ببنائه ورفع قواعده؛ كما أن من المهام المعهودة إليهما فيه أن يقيما فيه الشعائر والمناسك ويعلماها للناس الذين يحجون إليه ويباركانهم ويدعوان لهم.
التلاوة القرآنية إذن جعلت من إمامة بيت الله الحرام وتطهيره وخدمة الحجاج فيه ومباركتهم هي العهد الذي بين إبراهيم وربه وهي العهد الذي لا ينال الظالمين من ذريته.
نفس الأمر تحدثت عنه سورة آل عمران، قال تعالى: "- إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)[37]
إننا في هذا المبحث سنركز على مسألة بيت الله كما وجهنا القرآن الكريم إلى مدارستها مع أهل الكتاب من خلال كتابهم؛ إن القرآن الكريم يؤكد أن بيت الله الحرام هو أول بيت وضع للناس، وهو الذي ببكة، بناه إبراهيم وإسماعيل، وقاما عليه بالتطهير والخدمة وتعليم المناسك والآذان والصلاة والدعاء والمباركة، وهو العهد الذي بين الله وإبراهيم وذرية إبراهيم من بعده.
وسنعالج هذا الموضوع في الكتاب المقدس المقدس من خلال فقرتين:
الأولى تتعلق بترجمة بيت إيل في سفر التكوين ؛ والثانية تتعلق بمضامين بيت الله في هذا السفر.
1- بيت الله الحرام وألاعيب الترجمة:
ذكرت عبارة "بيت إيل" اثنا عشر مرة في سفر التكوين، وعددا كبيرا من المرات في أسفار العهد القديم الأخرى، لكنها كانت تترك دائما على أصلها "بيت إيل" دون أن تترجم لفظة "إيل" العبرية فيها إلى "الله" أو "إله" بالعربية، لتصير "بيت الله" أو "بيت الإله"، خلافا لما نجده مثلا بالنسبة للفظة "يهوه"، والتي تترجم عادة ب "الرب"، ومنها "بيت يهوه" الذي يترجم دائما ب"بيت الرب". وسبب رفض المترجمين لترجمة "بيت إيل" ب"بيت الله" هو عدم اعتراف كهنة بني إسرائيل بأن هذا المكان مكان مقدس، رغم أن الآباء الكبار والأنبياء العظام قد حجوا إليه من أجل العبادة وإقامة الشعائر؛ وذلك لأن أئمته لم يكونوا من بني لاوي ولا من بني هارون، بخلاف "بيت يهوه" الذي يؤمه الكهنة اليهود، ولذلك جعلوا الثاني بيتا للرب ولم يجعلوا الأول بيتا لله، مع أن "يهوه" تترجم عادة ب"الرب" و"إيل" تترجم عادة ب"الله".
وخلاصة الملاحظات من خلال نصوص سفر التكوين الذاكرة لبيت إيل هي:
1- بيت إيل هو أول مكان خرج إليه إبراهيم بأمر من ربه، ليباركه ويبارك نسله ويجعله بركة ويبارك به جميع قبائل الأرض، وبه سيقيم هو وبنوه، وفيه سيبني بيته ويبني بيت الله و يسهر فيه على تقديم الطقوس والقرابين لله، الذي أخرجه من أرضه وعشيرته وبيت أبيه ليريه هذه الأرض المباركة للعالمين.[38]
2- بيت إيل هو المكان الذي كان يتردد عليه إبراهيم لأداء المناسك، كما فعل أول مرة.[39]
3- يطلق يعقوب على بيت الله اسم "بيت إيل" بالعبري، لأن هذا المكان هو باب السماء، ولأنه مكان مقدس، منه تصعد الملائكة إلى السماء وتنزل إلى الأرض.[40]
4- وفي بيت إيل أقام يعقوب مع لابان عمود ورجمة الشهادة، التي سيطلق عليها إسم "جلعيد"، وتبقى شاهدة على العهد الذي بينهما إلى يوم الراوي.[41]
5- وإلى بيت إيل يصعد يعقوب وكل عائلته لأداء طقوس الحج لله، في المكان الذي اختاره الله.[42]
6- وفي بيت إيل تدفن دبورة مرضعة رفقة تحت ما ترجموه ب "البلوطة" إلى العربية، ويمكن ترجمته بالسهل أو الحقل، ودعى اسم المكان "إيلون باكوت" أي "سهل بكة" أو "حقل بكة".[43]
7- ويطلق يعقوب على المكان الذي رأى فيه رؤيا بيت الله اسم "بيت إيل".[44]
والملاحظ أن كل هذه المواضع التي ذكر فيها هذا البيت في سفر التكوين لا تفيد إلا معنى واحدا، وهو التقديس والتعظيم وأداء العبادة والشعائر لله في المكان الذي اختاره، من طرف الآباء الكبار بدءا من إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وجميع آباء بني إسرائيل؛ ولذلك فهو بيت الله الأول الذي بناه إبراهيم وأقام فيه، وكان إماما له، يُعلم الناس مناسكهم، ويبارك فيه جميع أمم الأرض، وهو عينه المكان المقدس الذي سار إليه إسحاق ويعقوب والأسباط وأدوا فيه المناسك، وهو الموجود بأرض بكة حيث دفنت دبورة مرضعة رفقة وغيرها من الأنبياء والصالحين من بني إبراهيم وإسرائيل.
ولهذا فإن "بيت إيل" بالعبري لا تعني إلا "بيت الله" بالعربي وهو الموجود ببكة أو مكة، وهو مكان الحج الذي لا يزال الناس يقصدونه إلى هذا اليوم، تصديقا لما جاء في الكتاب المقدس من أن هذه الفريضة ستكون فريضة دهرية، تقام من سنة إلى سنة، في المكان الذي اختاره الله، وإن لم يكن أئمته من بني إسرائيل.
2- بيت الله الحرام في سفر التكوين:
قبل أن نبدأ في تفصيل وتحليل ومدارسة النصوص المختلفة المتحدثة عن هذا الموضوع، لابد من التوقف مليا عند المكان الذي اختاره الله لهجرة إبراهيم والتعرف على ملامحه وإدراك خصائصه، التي تعرضت - لأسباب كثيرة - إلى محاولات الكتم والإخفاء والتغيير والتزوير وإلباس الحق بالباطل؛ لكن قوة الحقيقة دائما تغلب محاولات تغطيتها مهما طغت، فتدمغها فإذا هي زاهقة.
إن هدف إخراج إبراهيم من أرضه وعشيرته وبيت أبيه هي نشر البركة في الأرض ومباركة جميع الأمم، وهو ما نجده في الخطاب الإلهي إلى إبراهيم:
وَقَالَ الرَّبُّ لابْرَامَ: «اذْهَبْ مِنْ ارْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ ابِيكَ الَى الارْضِ الَّتِي ارِيكَ.
فَاجْعَلَكَ امَّةً عَظِيمَةً وَابَارِكَكَ وَاعَظِّمَ اسْمَكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً.
وَابَارِكُ مُبَارِكِيكَ وَلاعِنَكَ الْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الارْضِ»[45].
وهو ما قام به إبراهيم فعلا، مستجيبا لأمر ربه، وتاركا أرضه وعشيرته وبيت أبيه وذاهبا إلى الأرض التي سيريه الله.
ويحدثنا سفر التكوين عن هذا الخروج، بقوله:
فَذَهَبَ ابْرَامُ كَمَا قَالَ لَهُ الرَّبُّ وَذَهَبَ مَعَهُ لُوطٌ. وَكَانَ ابْرَامُ ابْنَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً لَمَّا خَرَجَ مِنْ حَارَانَ.
فَاخَذَ ابْرَامُ سَارَايَ امْرَاتَهُ وَلُوطا ابْنَ اخِيهِ وَكُلَّ مُقْتَنَيَاتِهِمَا الَّتِي اقْتَنَيَا وَالنُّفُوسَ الَّتِي امْتَلَكَا فِي حَارَانَ. وَخَرَجُوا لِيَذْهَبُوا الَى ارْضِ كَنْعَانَ. فَاتُوا الَى ارْضِ كَنْعَانَ.[46]
وأول ملاحظة يمكن تسجيلها على هذا النص، هو أن حاران لم تكن أرض إبراهيم ولا أرض عشيرته ولا بيت أبيه، وإنما كانت هي المكان الذي توجه إليه إبراهيم في هجرته من أرضه وعشيرته وبيت أبيه في أور الكلدانيين، وهو ما حدثنا عنه الإصحاح الحادي عشر بقوله:
" وَاخَذَ تَارَحُ ابْرَامَ ابْنَهُ وَلُوطا بْنَ هَارَانَ ابْنَ ابْنِهِ وَسَارَايَ كَنَّتَهُ امْرَاةَ ابْرَامَ ابْنِهِ فَخَرَجُوا مَعا مِنْ اورِ الْكِلْدَانِيِّينَ لِيَذْهَبُوا الَى ارْضِ كَنْعَانَ. فَاتُوا الَى حَارَانَ وَاقَامُوا هُنَاكَ. (32) وَكَانَتْ ايَّامُ تَارَحَ مِئَتَيْنِ وَخَمْسَ سِنِينَ. وَمَاتَ تَارَحُ فِي حَارَانَ."[47]
وثاني ملاحظة يمكن تسجيلها، هو أن إبراهيم قد ترك أباه في أرضه، وخرج إلى الأرض المأمور بالخروج إليها ومعه زوجته ولوط ابن أخيه، وأن المكان الذي خرجوا إليه هو حاران نفسها، وفيها أقام إبراهيم وكل من خرج معه؛ وأن أبا إبراهيم لم يكن ليترك أرضه وبيته ويذهب مع ابنه الخارج من أرضه بسبب مخالفة أبيه وقومه في دينهم ومعتقدهم، بل إن إبراهيم قد هرب بدينه إلى الأرض الجديدة التي سيؤسس فيها دينا جديدا مخالفا لدين الآباء الذين تركهم في أور الكلدانيين. فلا حاجة لخروج أبيه معه، ولا حاجة لخروجه مرتين مرة إلى حاران وأخرى إلى كنعان، لأن حاران تقع ضمن نفوذ كنعان كما يدل عليه النص نفسه: " فَخَرَجُوا مَعا مِنْ اورِ الْكِلْدَانِيِّينَ لِيَذْهَبُوا الَى ارْضِ كَنْعَانَ. فَاتُوا الَى حَارَانَ وَاقَامُوا هُنَاكَ ". وهذا المكان هو المكان المقدس عينه، الذي حدثنا عنه سفر التكوين في الإصحاح الثامن والعشرين، منسوبا إلى يعقوب، وليس إلى إبراهيم، رغم كونه هو المؤسس لأول بيت وضع للناس، جاء فيه:
فَخَرَجَ يَعْقُوبُ مِنْ بِئْرِ سَبْعٍ وَذَهَبَ نَحْوَ حَارَانَ.
وَصَادَفَ مَكَانا وَبَاتَ هُنَاكَ لانَّ الشَّمْسَ كَانَتْ قَدْ غَابَتْ. وَاخَذَ مِنْ حِجَارَةِ الْمَكَانِ وَوَضَعَهُ تَحْتَ رَاسِهِ فَاضْطَجَعَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ.
Gen 28:12 وَرَاى حُلْما وَاذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الارْضِ وَرَاسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ وَهُوَذَا مَلائِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا
Gen 28:13 وَهُوَذَا الرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا فَقَالَ: «انَا الرَّبُّ الَهُ ابْرَاهِيمَ ابِيكَ وَالَهُ اسْحَاقَ. الارْضُ الَّتِي انْتَ مُضْطَجِعٌ عَلَيْهَا اعْطِيهَا لَكَ وَلِنَسْلِكَ.
Gen 28:14 وَيَكُونُ نَسْلُكَ كَتُرَابِ الارْضِ وَتَمْتَدُّ غَرْبا وَشَرْقا وَشِمَالا وَجَنُوبا. وَيَتَبَارَكُ فِيكَ وَفِي نَسْلِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الارْضِ.
Gen 28:15 وَهَا انَا مَعَكَ وَاحْفَظُكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ وَارُدُّكَ الَى هَذِهِ الارْضِ لانِّي لا اتْرُكُكَ حَتَّى افْعَلَ مَا كَلَّمْتُكَ بِهِ».
Gen 28:16 فَاسْتَيْقَظَ يَعْقُوبُ مِنْ نَوْمِهِ وَقَالَ: «حَقّا انَّ الرَّبَّ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَانَا لَمْ اعْلَمْ!»
Gen 28:17 وَخَافَ وَقَالَ: «مَا ارْهَبَ هَذَا الْمَكَانَ! مَا هَذَا الَّا بَيْتُ اللهِ وَهَذَا بَابُ السَّمَاءِ!» [48]
وهناك نصوص متعددة تؤكد لنا أن حاران أو بيت حاران أو بيت حورون أو بيت حرمون أو هارام المتحدث عنها في أسفار العهد القديم إنما هي بيت الله الحرام الذي أسسه إبراهيم، وجعل الصعود إليه فريضة أبدية.[49]
ويوجد في هذا النص المنسوب إلى يعقوب، قول الله له في الرؤيا: "ويتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الأرض" ؛ وهو نفس الهدف الذي خرج من أجله إبراهيم إلى الأرض المباركة للعالمين.
وهو ما يرد أقوال المفسرين المسيحيين التي تحاول أن تجعل حاران بعيدة عن الأماكن المختلفة التي أقام فيها إبراهيم بمئات الكيلومترات. وتجعل رحلة إبراهيم تبدأ من الشرق ثم تصعد إلى أقصى الشمال ثم تنزل إلى الجنوب في مساحة تستوعب مئات الكيلومترات تشمل العراق إلى شمال سوريا إلى جنوب فلسطين.
لقد خرج إبراهيم من أرضه في رسالة إنسانية، ليؤسس أول بيت وضع للناس من أجل العبادة، وهو ما نراه جليا في وصف تنقلات الأب إبرهيم:
وَاجْتَازَ ابْرَامُ فِي الارْضِ الَى مَكَانِ شَكِيمَ الَى بَلُّوطَةِ مُورَةَ. وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ حِينَئِذٍ فِي الارْضِ.
وَظَهَرَ الرَّبُّ لابْرَامَ وَقَالَ: «لِنَسْلِكَ اعْطِي هَذِهِ الارْضَ». فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحا لِلرَّبِّ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ.
ثُمَّ نَقَلَ مِنْ هُنَاكَ الَى الْجَبَلِ شَرْقِيَّ بَيْتِ ايلٍ وَنَصَبَ خَيْمَتَهُ. وَلَهُ بَيْتُ ايلَ مِنَ الْمَغْرِبِ وَعَايُ مِنَ الْمَشْرِقِ. فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحا لِلرَّبِّ وَدَعَا بِاسْمِ الرَّبِّ.
ثُمَّ ارْتَحَلَ ابْرَامُ ارْتِحَالا مُتَوَالِيا نَحْوَ الْجَنُوبِ.[50]
وبذلك تصير الأماكن التي تنقل فيها إبراهيم وأقام فيها، شاملة لحاران وشكيم، وبلوطة مورة، حيث بنى مذبحا للرب، وحيث بيت إيل الذي نصب فيه خيمته، بين بيت إيل وعاي، وحيث قدم ذبائح وصلوات، و سعى سعيا متواليا.[51]
كل شيء في هذه التنقلات والإقامة يؤكد الهدف الذي خرج إبراهيم من أجله، وهو مباركة الناس وتعليمهم مناسكهم، كما يؤكد قدسية المكان المختار من الله للمباركة والعبادة وأداء الشعائر؛ وإن متابعتنا لهذه الأماكن في الكتاب المقدس، لتؤكد بما لا يقبل الشك أن هذا المكان بأسمائه المختلفة مكان مقدس تعبَّد فيه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وباقي أنبياء بني إسرائيل وقضاتهم وصالحوهم على مر العصور.
وأهم الأسماء التي نأخذها من هذا النص: 1) حاران؛ 2) شكيم؛ 3) بلوطة مورة؛ 4) بيت إيل؛ 5) عاي؛
وأهم الأفعال : 1) بناء المذبح للرب؛ 2) نصب الخيمة؛ 3) الدعاء باسم الرب؛ 4) الارتحال المتوالي. وهي كلها أسماء شعائر وطقوس عبادة، سنرى كل واحد منها في مكانه وحينه.
إبراهيم يواصل أعماله في بيت إيل:
يواصل إبراهيم وزوجه ولوط تنقلاته في المنطقة، كما حدثنا الإصحاح الثالث عشر من سفر التكوين، ويقوم بالأعمال عينها التي قام بها أول مرة في نفس المكان، جاء في النص:
فَصَعِدَ ابْرَامُ مِنْ مِصْرَ هُوَ وَامْرَاتُهُ وَكُلُّ مَا كَانَ لَهُ وَلُوطٌ مَعَهُ الَى الْجَنُوبِ.
وَكَانَ ابْرَامُ غَنِيّا جِدّا فِي الْمَوَاشِي وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ.
وَسَارَ فِي رِحْلاتِهِ مِنَ الْجَنُوبِ الَى بَيْتِ ايلَ الَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَتْ خَيْمَتُهُ فِيهِ فِي الْبَدَاءَةِ بَيْنَ بَيْتِ ايلَ وَعَايَ
الَى مَكَانِ الْمَذْبَحِ الَّذِي عَمِلَهُ هُنَاكَ اوَّلا. وَدَعَا هُنَاكَ ابْرَامُ بِاسْمِ الرَّبِّ.
وَلُوطٌ السَّائِرُ مَعَ ابْرَامَ كَانَ لَهُ ايْضا غَنَمٌ وَبَقَرٌ وَخِيَامٌ.
وَلَمْ تَحْتَمِلْهُمَا الارْضُ انْ يَسْكُنَا مَعا اذْ كَانَتْ امْلاكُهُمَا كَثِيرَةً فَلَمْ يَقْدِرَا انْ يَسْكُنَا مَعا.
فَحَدَثَتْ مُخَاصَمَةٌ بَيْنَ رُعَاةِ مَوَاشِي ابْرَامَ وَرُعَاةِ مَوَاشِي لُوطٍ. وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ وَالْفِرِزِّيُّونَ حِينَئِذٍ سَاكِنِينَ فِي الارْضِ.
فَقَالَ ابْرَامُ لِلُوطٍ: «لا تَكُنْ مُخَاصَمَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ رُعَاتِي وَرُعَاتِكَ لانَّنَا نَحْنُ اخَوَانِ.
الَيْسَتْ كُلُّ الارْضِ امَامَكَ؟ اعْتَزِلْ عَنِّي. انْ ذَهَبْتَ شِمَالا فَانَا يَمِينا وَانْ يَمِينا فَانَا شِمَالا»[52].
والأماكن المذكورة هنا، هي نفسها الأماكن المذكورة في الإصحاح السابق: 1) بيت إيل (بيت الله)؛ 2) عاي (الرجمة)؛ 3) المذبح الذي عمله أولا (مكان الذبائح، ومكان الصلوات)؛ وأما الأفعال فمنها: 1) الصعود (الحج)؛ 2) الترحال (السعي)؛ 3) الإقامة؛ 4) بناء المذبح (الذبائح)؛ 5) الدعاء باسم الرب (الصلاة)؛ 6) الذهاب يمينا وشمالا في المكان المخصص لذلك (السعي).
وتبعا للترتيب الوارد في هذا النص، فإن إبراهيم سيصعد مرة أخرى إلى أرض الجنوب؛ ولفظ الصعود إلى المكان المقدس، يعني الحج إليه وإقامة الشعائر فيه، باعتبار المكان المقدس مكانا عاليا؛ وذلك لا يعني أن إبراهيم لم يكن يقيم في ذلك المكان، إذ الحجاج ليسوا هم الوافدين على هذا البيت، وإنما هم كل من نووا القيام بتلك الشعائر بما فيهم المقيمون وخدام ذلك البيت وأئمته؛ ثم انتقل إبراهيم من بيت الله إلى المكان الذي كانت فيه خيمته في البداية بين بيت إيل وعاي، وذهب إلى مكان المذبح الذي عمله أول مرة هناك، وصلى ودعا باسم الرب.
إن قضية الموضعين بيت إيل وعاي، هي قضية أهم مكانين تتجمع فيهما شعائر الحج، فالموقع الأول هو موقع بيت الله (بيت إيل)، ويضم الكعبة وبئرها والصفا والمروة وكل الطرق التي توصل إليها، وفيه يقوم الناس بجزء من طقوس الحج، كما يقومون بالعمرة كاملة؛ وأما الموقع الثاني (عاي، التي تعني الرجمة) فيضم مجموعة أخرى من الشعائر، تبدأ بالمبيت بالوادي، ورمي الجمرات، والمبيت بمنى، والوقوف بعرفات، والنحر وتقديم الهدي والصدقات والنذور وغيرها؛ وهو جزء لا يتجزأ من شعيرة الحج؛ وهو لا يكون إلا في موسم الحج، وليس من ضمن شعائر العمرة التي يمكن القيام بها طيلة شهور السنة في الموقع الأول فقط.
والتنصيص على نصب الخيمة بين بيت الله وعاي، إنما هو للإقامة حتى يتمكن الحاج من آداء مختلف الشعائر من غير مشقة، وهي سنة الحجاج إلى يوم الناس هذا.
ويطلق على المكان كله أحد أسماء الشعائر المختلفة، فهو بيت الله، والبيت الحرام، وهو الكعبة، وهو الحج؛ ولاشك أن من حج إلى بيت الله في موسم الحج فعليه أن يقوم بكل الشعائر، وأما من اعتمر فعليه أن يقوم ببعض تلك الشعائر دون وقوف بعرفات ولا رمي جمار وما يرتبط بهما من شعائر أخرى خاصة بموسم الحج.
ويشير النص إلى الغنى الذي كان يتمتع به إبراهيم، الذي كان له الكثير من المواشي والذهب والفضة، وتتضمن هذه الإشارة قضية إخراج العشور التي تقدم بشكل قرابين في هذا المكان المقدس. كما يشير إلى الذهاب والإياب في طول وعرض هذا المكان، والذي يعبر عنه بقوله: إن ذهبت شمالا فأنا يمينا، وإن يمينا فأنا شمالا[53]؛ و وهو تعبير عن طقس السعي الذي فيه الطواف بين الصفا والمروة من الشمال إلى اليمين ومن اليمين إلى الشمال، سعيا متواليا (سبعة أشواط). وإن فعل ارتحل الذي استعمله المترجم العربي أفقد النص حمولته الدينية، ولعلنا بالرجوع إلى النص العبري نسترجع بعض هذه الحمولة، حيث يستعمل فعل :"נסע" "نسع"والذي يقابله فعل "سعى" بالعربي، فيصير المعنى : أن إبراهيم "سعى سعيا متواليا في أرض الجنوب"، " ויסע אברם הלוך ונסוע הנגבה"[54]׃ وإن كثيرا من أسماء الشعائر وأفعال العبادة في هذا البيت الحرام لا زالت محافظة على مسمياتها كما هي في الكتاب المقدس، وكما كانت منذ اليوم الأول، وهي تشهد على مصداقية هذا البيت القائم اليوم، وارتباطه بالأب إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
إقامة إبراهيم عند بلوطات ممرا:
يواصل سفر التكوين تحديثنا عن أعمال إبراهيم عليه السلام، والتي هي في أغلبها طقوس عبادة ترتبط ببيت الله الحرام، وتقدّم للناس مناسكهم كما تعلّمها أبوهم إبراهيم من ربه:
"وَقَالَ الرَّبُّ لابْرَامَ بَعْدَ اعْتِزَالِ لُوطٍ عَنْهُ: «ارْفَعْ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي انْتَ فِيهِ شِمَالا وَجَنُوبا وَشَرْقا وَغَرْبا
لانَّ جَمِيعَ الارْضِ الَّتِي انْتَ تَرَى لَكَ اعْطِيهَا وَلِنَسْلِكَ الَى الابَدِ.
وَاجْعَلُ نَسْلَكَ كَتُرَابِ الارْضِ حَتَّى اذَا اسْتَطَاعَ احَدٌ انْ يَعُدَّ تُرَابَ الارْضِ فَنَسْلُكَ ايْضا يُعَدُّ.
قُمِ امْشِ فِي الارْضِ طُولَهَا وَعَرْضَهَا لانِّي لَكَ اعْطِيهَا».
فَنَقَلَ ابْرَامُ خِيَامَهُ وَاتَى وَاقَامَ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا الَّتِي فِي حَبْرُونَ وَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحا لِلرَّبِّ[55].
يمكن أن نسجل في هذا الخطاب الإلهي أمرا لإبراهيم بالمشي في الأرض طولا وعرضا؛ ولا علاقة لهذا المشي بامتلاك الأرض التي شغلت الذهن اليهودي، والكاهن والمفسر الكتابي، وفرضت عليه أن يفهم كل أوامر الله وشرائعه في إطار تحقيق الأماني والأحلام اليهودية الأرضية. وإنما يرتبط هذا المشي بالهدف الذي جاء من أجله إبراهيم إلى الأرض المباركة؛ وهو ما يفسره السلوك الإبراهيمي استجابة لأمر ربه: لقد نقل خيامه وأتى وأقام عند بلوطات ممرا، وبنى هناك مذبحا للرب؛ ولا يختلف الأمر الإلهي لأبرام في هذه المقاطع[56] ، بالمشي في الأرض طولها وعرضها، عن قول لوط السابق لأبرام بالذهاب في الأرض شمالا وجنوبا، وعن النص الذي قبله المتحدث عن السعي المتوالي في أرض الجنوب، فهو كله تعبير عن طقس السعي المتوالي بين الصفا والمروة في المكان المقدس، ولذلك فقد استجاب أبرام لربه ونقل خيامه وأتى إلى بلوطات ممرا، (والتي هي المروة)، وقد عبر عنها في النص الأول ب"بلوطة مورة" " وَاجْتَازَ ابْرَامُ فِي الارْضِ الَى مَكَانِ شَكِيمَ الَى بَلُّوطَةِ مُورَةَ "؛ وبدأ في القيام بشعيرة السعي، ثم قام بباقي الشعائر، والتي منها بناء مذبح للرب، وهو ما يعني تقديم ذبيحة أوصلاة.
ما هذا إلا بيت الله، وهذا باب السماء:
ويواصل سفر التكوين تحديثنا عن هذا المكان المقدس والذي هو بيت الله وباب السماء، مبينا لنا، كما سبق وأوردناه، أن نبي الله يعقوب هو الذي اكتشف هذا المكان المقدس، عندما رأى فيه حلم الملائكة الصاعدة والنازلة إلى السماء من هذا البيت، وأنه هو الذي دعى اسمه "بيت إيل"؛ وإن كانت النصوص الأخرى تبين أن المقصود في هذا النص هو إبراهيم وليس يعقوب؛ ومهما يكن فقدسية المكان كانت قبل نبي الله يعقوب واستمرت بعده، وطقوس العبادة في هذا المكان بقيت فريضة أبدية على كل المؤمنين بالله في جميع الأمم، لكون هذا المكان هو مكان البركة العالمية لجميع أمم الأرض. وإن قراءة سريعة لأسماء المواقع المذكورة في هذا النص لتؤكد لنا كل ما سبق ذكره من كون الأسماء الواردة مرتبطة بهذا المكان إنما هي أسماء شعائر وليس أسماء بلدان أو مدن أو أمم أو شعوب أو غيرها، وإنما أسماء أماكن مقدسة اتخذت مناسك وشعائر يعظمها الناس ويحجون إليها في كل سنة من أجل عبادة الله وإقامة شعائره وشرائعه؛ وهذا ما جاء في النص المتحدث عن هذه الأمور:
Gen 28:10 فَخَرَجَ يَعْقُوبُ مِنْ بِئْرِ سَبْعٍ وَذَهَبَ نَحْوَ حَارَانَ.
Gen 28:11 وَصَادَفَ مَكَانا وَبَاتَ هُنَاكَ لانَّ الشَّمْسَ كَانَتْ قَدْ غَابَتْ. وَاخَذَ مِنْ حِجَارَةِ الْمَكَانِ وَوَضَعَهُ تَحْتَ رَاسِهِ فَاضْطَجَعَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ.
Gen 28:12 وَرَاى حُلْما وَاذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الارْضِ وَرَاسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ وَهُوَذَا مَلائِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا
Gen 28:13 وَهُوَذَا الرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا فَقَالَ: «انَا الرَّبُّ الَهُ ابْرَاهِيمَ ابِيكَ وَالَهُ اسْحَاقَ. الارْضُ الَّتِي انْتَ مُضْطَجِعٌ عَلَيْهَا اعْطِيهَا لَكَ وَلِنَسْلِكَ.
Gen 28:14 وَيَكُونُ نَسْلُكَ كَتُرَابِ الارْضِ وَتَمْتَدُّ غَرْبا وَشَرْقا وَشِمَالا وَجَنُوبا. وَيَتَبَارَكُ فِيكَ وَفِي نَسْلِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الارْضِ.
Gen 28:15 وَهَا انَا مَعَكَ وَاحْفَظُكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ وَارُدُّكَ الَى هَذِهِ الارْضِ لانِّي لا اتْرُكُكَ حَتَّى افْعَلَ مَا كَلَّمْتُكَ بِهِ».
Gen 28:16 فَاسْتَيْقَظَ يَعْقُوبُ مِنْ نَوْمِهِ وَقَالَ: «حَقّا انَّ الرَّبَّ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَانَا لَمْ اعْلَمْ!»
Gen 28:17 وَخَافَ وَقَالَ: «مَا ارْهَبَ هَذَا الْمَكَانَ! مَا هَذَا الَّا بَيْتُ اللهِ وَهَذَا بَابُ السَّمَاءِ!»
Gen 28:18 وَبَكَّرَ يَعْقُوبُ فِي الصَّبَاحِ وَاخَذَ الْحَجَرَ الَّذِي وَضَعَهُ تَحْتَ رَاسِهِ وَاقَامَهُ عَمُودا وَصَبَّ زَيْتا عَلَى رَاسِهِ
Gen 28:19 وَدَعَا اسْمَ ذَلِكَ الْمَكَانِ «بَيْتَ ايلَ». وَلَكِنِ اسْمُ الْمَدِينَةِ اوَّلا كَانَ لُوزَ[57].
لقد وردت مجموعة من الأسماء التي انتقل بينها نبي الله يعقوب، كلها تدل على كونه عليه السلام لم يكن في رحلة عادية، وإنما كان في مسيرة تعبدية، ينتقل من شعيرة إلى شعيرة، ويؤدي مناسك الله كما وجب عليه أداؤها؛ وسنسجل أسماء الأماكن الأساسية في هذه الرحلة: 1) بئر سبع، 2) حاران، 3) بيت إيل، كما نسجل الأفعال الأساسية التي قام بها يعقوب: 1) الأخذ من حجارة المكان، 2) المبيت في المكان المقدس، 3) القيام باكرا، 4) إقامة عمود الحجارة، 5) صب الزيت على الرأس؛ 6)دعاء اسم المكان بيت إيل. والملاحظ أن رحلة يعقوب هذه لم تستغرق إلا بضع ساعات من النهار بين بئرسبع ومكان المبيت حيث اضطجع يعقوب، وقليل من الوقت في الصباح الباكر بين مكان المبيت الذي أخذ منه يعقوب الحجارة، ومكان العمود الذي أقامه؛ وهو ما يعني أن هذه الأماكن ليس بينها مسافات طويلة كالتي بين المدن والقرى، كما يحاول إيهامنا به كاهنوا ومفسروا الكتاب المقدس، الذين كانوا ولازالوا يبحثون عن مشروعية امتلاك واحتلال أراضي الأمم الأخرى باسم الله.
وتبعا لترتيب طقوس هذه الرحلة، نرى أنها تسجل طقوس المرحلة الثانية من الحج، (والتي غالبا ما تكون في يسمى عاي أو الجلجال أو جلعيد، والتي تعنى الرجمة) حيث يخرج يعقوب من بئر سبع (بئر الكعبة)، ويدخل في طقس رمي الجمار، كل هذا في البيت الحرام (حاران)، فيأخذ من حجارة الوادي ويضطجع هناك واضعا الحجارة تحت رأسه ( في مزدلفة)، ويبكر صباحا لرمي هذه الحجارة على عمود الحجر المقام أصلا لهذا الغرض (رمي الجمار)، وبعد الانتهاء من هذا الطقس يكون على المحرم أن يتحلل من إحرامه بحلق رأسه أو تقصيره، وقد حدثنا النص عن صب الزيت على الرأس، والذي قد يفهم منه التحلل والتمتع من الإحرام. ومهما يكن فإن المكان الذي تتحدث عنه هذه النصوص مكان مقدس، هو بيت الله وباب السماء، وإن ما قام به يعقوب في هذا المكان إنما هي شعائر الدين التي أسسها الأب إبراهيم وعلمها لبنيه وذريته، وهي أساس البركة التي جعلها الله للناس في هذا المكان المختار.
الحجر والعمود في بيت الله:
لم تكن إقامة عمود الحجر وصب الزيت على الرأس هي كل الطقوس التي قام بها يعقوب، بل إنه نذر نذرا والتزم التزاما أن يعشر كل ما رزقه الله من خبز ولباس، في بيت الله هذا إن كان الله معه ووهبه رزقا حسنا، وفي ذلك يقول:
وَنَذَرَ يَعْقُوبُ نَذْرا قَائِلا: «انْ كَانَ اللهُ مَعِي وَحَفِظَنِي فِي هَذَا الطَّرِيقِ الَّذِي انَا سَائِرٌ فِيهِ وَاعْطَانِي خُبْزا لِاكُلَ وَثِيَابا لالْبِسَ
وَرَجَعْتُ بِسَلامٍ الَى بَيْتِ ابِي يَكُونُ الرَّبُّ لِي الَها
وَهَذَا الْحَجَرُ الَّذِي اقَمْتُهُ عَمُودا يَكُونُ بَيْتَ اللهِ وَكُلُّ مَا تُعْطِينِي فَانِّي اعَشِّرُهُ لَكَ»[58].
وهو ما يؤكد أن من طقوس العبادة في بيت الله الحرام الوفاء بالنذر، وتقديم العشور عن كل ما رزق الله الناس من أنعام ورزق ولباس.
في جبل جلعاد:
إن رحلة يعقوب كانت وصفا لطقوس العبادة في الأماكن المقدسة، والتي منها "جبل جلعاد"؛ ولم تكن رحلة يعقوب في هذا المكان الصحراوي إلا على الجمال، التي كانوا يستخفونها في إقامتهم وترحالهم، وكانوا يأكلون لحمها ويشربون لبنها من قبل أن تنزل التوراة؛ وهو ما يعني أن جبل جلعاد إنما كان ضمن أرض البيت الحرام، وأنها كانت واحدة من الشعائر المقدسة التي كان يحييها الناس، فريضة أبدية. ولنستمع إلى سفر التكوين يحدثنا عنها وعن زيارة يعقوب لها في رحلة الحج العجيبة التي حكاها لنا الكتاب المقدس، وأراد أهل الكتاب كتمانها على الناس.
جاء في الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر التكوين:
Gen 31:17 فَقَامَ يَعْقُوبُ وَحَمَلَ اوْلادَهُ وَنِسَاءَهُ عَلَى الْجِمَالِ
Gen 31:18 وَسَاقَ كُلَّ مَوَاشِيهِ وَجَمِيعَ مُقْتَنَاهُ الَّذِي كَانَ قَدِ اقْتَنَى: مَوَاشِيَ اقْتِنَائِهِ الَّتِي اقْتَنَى فِي فَدَّانِ ارَامَ لِيَجِيءَ الَى اسْحَاقَ ابِيهِ الَى ارْضِ كَنْعَانَ.
Gen 31:19 وَامَّا لابَانُ فَكَانَ قَدْ مَضَى لِيَجُزَّ غَنَمَهُ فَسَرِقَتْ رَاحِيلُ اصْنَامَ ابِيهَا.
Gen 31:20 وَخَدَعَ يَعْقُوبُ قَلْبَ لابَانَ الارَامِيِّ اذْ لَمْ يُخْبِرْهُ بِانَّهُ هَارِبٌ.
Gen 31:21 فَهَرَبَ هُوَ وَكُلُّ مَا كَانَ لَهُ وَقَامَ وَعَبَرَ النَّهْرَ وَجَعَلَ وَجْهَهُ نَحْوَ جَبَلِ جِلْعَادَ.
Gen 31:22 فَاخْبِرَ لابَانُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ بِانَّ يَعْقُوبَ قَدْ هَرَبَ
Gen 31:23 فَاخَذَ اخْوَتَهُ مَعَهُ وَسَعَى وَرَاءَهُ مَسِيرَةَ سَبْعَةِ ايَّامٍ فَادْرَكَهُ فِي جَبَلِ جِلْعَادَ.
Gen 31:24 وَاتَى اللهُ الَى لابَانَ الارَامِيِّ فِي حُلْمِ اللَّيْلِ وَقَالَ لَهُ: «احْتَرِزْ مِنْ انْ تُكَلِّمَ يَعْقُوبَ بِخَيْرٍ اوْ شَرٍّ».
Gen 31:25 فَلَحِقَ لابَانُ يَعْقُوبَ وَيَعْقُوبُ قَدْ ضَرَبَ خَيْمَتَهُ فِي الْجَبَلِ. فَضَرَبَ لابَانُ مَعَ اخْوَتِهِ فِي جَبَلِ جِلْعَادَ.[59]
بين أن المنطقة التي يتحدث عنها النص منطقة صحراوية، يركب فيها الرجال والنساء والأطفال على الجمال، وكان يعقوب من ضمن سكان هذه المنطقة القادرين على ركوب الجمال، وكان ليعقوب صهر من غير بني إسرائيل، حدثنا سفر التكوين عن كثير من مشاكله مع يعقوب، بسبب هذا الاختلاف في الهوية؛ وحسب هذا النص فإن لابان أبو راحيل كان يعبد الأصنام، وأن ابنته سرقت أصنامه، فهرب يعقوب ومن معه من لابان صهره الذي تعقبه إلى أن رأى في رؤيا المنام أن لا يمسه بخير ولا بشر، وهو ما فعل. وحتى لا نضيع في الرواية النمطية اليهودية، التي تجعل سكان منطقة بيت الله الحرام مشركين، وبيتهم المحرم بيت شرك، والعلاقة معهم علاقة عداوة، لا يكون فيها السلام إلا استثناء أو خديعة؛ سنسجل مجموعة من الملاحظات:
1) راحيل تسرق أصنام أبيها، 2) هروب يعقوب ومن معه، 3) القيام وعبور النهر، 4) التوجه إلى جبل جلعاد، 5) احترام الحجاج وعدم مسّهم بخير ولا بشر، 6) ضرب الخيمة في الجبل. 7) مسيرة سبعة أيام.
إن سرقة الأصنام لا تعني إلا الشرط من شروط الحج، والذي هو إزالة الأصنام، ولا يعني الهروب إلا ذلك الطواف والسعي حيث يجري الناس بعضهم في إثر بعض، لكن من غير خوف ولا حرب ولا عداوة، وهي مسيرة قد تستمر سبعة أيام قبل أن ينتقل الناس إلى رمي الجمار والوقوف بعرفة.
وبعد هذه المرحلة يأتي الذهاب إلى الوادي والمبيت فيه، في انتظار الصباح من أجل القيام بشعائر رمي الجمي ثم الوقوف بالجبل )جبل عرفة في آخر المطاف)،
ومن الأمور الأساسية في موضوع الحج هو عدم إيذاء الحجاج وقد رأى لابان الأرامي هذا الأمر في رؤيا الحلم حيث كلمه الله، والحقيقة أن الأمن من أهم مميزات هذا البيت الحرام، حيث جعله الله آمنا وجعل الناس مؤتمنين فيه على أموالهم وأنفسهم، بينما يتخطف الناس من حولهم؛ ولم يرجع هذا الأمر إلى رؤيا رآها أحد الناس في هذا البيت أو خارجه، وإنما هو بيت الله الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا.
شاهد العمود والحجارة والرجمة والحلف والذبيحة:
يواصل سفر التكوين تفصيل شعائر الحج مع يعقوب، من خلال قصته مع لابان الأرامي، و يبين لنا شعيرة رمي الجمار، يقول:
فَاجَابَ لابَانُ: «الْبَنَاتُ بَنَاتِي وَالْبَنُونَ بَنِيَّ وَالْغَنَمُ غَنَمِي وَكُلُّ مَا انْتَ تَرَى فَهُوَ لِي. فَبَنَاتِي مَاذَا اصْنَعُ بِهِنَّ الْيَوْمَ اوْ بِاوْلادِهِنَّ الَّذِينَ وَلَدْنَ؟
فَالْانَ هَلُمَّ نَقْطَعْ عَهْدا انَا وَانْتَ فَيَكُونُ شَاهِدا بَيْنِي وَبَيْنَكَ».
فَاخَذَ يَعْقُوبُ حَجَرا وَاوْقَفَهُ عَمُودا
وَقَالَ يَعْقُوبُ لاخْوَتِهِ: «الْتَقِطُوا حِجَارَةً». فَاخَذُوا حِجَارَةً وَعَمِلُوا رُجْمَةً وَاكَلُوا هُنَاكَ عَلَى الرُّجْمَةِ.
وَدَعَاهَا لابَانُ «يَجَرْ سَهْدُوثَا» وَامَّا يَعْقُوبُ فَدَعَاهَا «جَلْعِيدَ»
وَقَالَ لابَانُ: «هَذِهِ الرُّجْمَةُ هِيَ شَاهِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْيَوْمَ». لِذَلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا «جَلْعِيدَ»
وَ «الْمِصْفَاةَ» لانَّهُ قَالَ: «لِيُرَاقِبِ الرَّبُّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ حِينَمَا نَتَوَارَى بَعْضُنَا عَنْ بَعْضٍ.
انَّكَ لا تُذِلُّ بَنَاتِي وَلا تَاخُذُ نِسَاءً عَلَى بَنَاتِي. لَيْسَ انْسَانٌ مَعَنَا. انْظُرْ. اللهُ شَاهِدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ».
وَقَالَ لابَانُ لِيَعْقُوبَ: «هُوَذَا هَذِهِ الرُّجْمَةُ وَهُوَذَا الْعَمُودُ الَّذِي وَضَعْتُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ.
شَاهِدَةٌ هَذِهِ الرُّجْمَةُ وَشَاهِدٌ الْعَمُودُ انِّي لا اتَجَاوَزُ هَذِهِ الرُّجْمَةَ الَيْكَ وَانَّكَ لا تَتَجَاوَزُ هَذِهِ الرُّجْمَةَ وَهَذَا الْعَمُودَ الَيَّ لِلشَّرِّ.
الَهُ ابْرَاهِيمَ وَالِهَةُ نَاحُورَ الِهَةُ ابِيهِمَا يَقْضُونَ بَيْنَنَا». وَحَلَفَ يَعْقُوبُ بِهَيْبَةِ ابِيهِ اسْحَاقَ[60].
يلاحظ أن هذا النص يضم مجموعة من العناصر التي ينبغي تسجيلها: 1) العهد الشاهد، 2)عمود الحجر، 3)التقاط الحجارة
4)عمل الرجمة، 5) جلعيد ورجمة الشهادة، 6) عدم إذلال البنات والنساء؛ ومن خلال هذه العناصر يمكن أن نتحدث عن شعيرة رمي الجمار بشكل أكثر وضوحا من نصوص أخرى؛ وقبل الحديث عن تفاصيل هذا الطقس لابد من التأكيد أنه جزء من العهد، أو الحلف أو القسم، وهو واحدة من الفرائض التي عاهد الله بها الناس، وأوجبها عليهم في كل عام، وهو معنى العهد الشاهد، فهو ليس عهدا بين رجلين، وإنما هو عهد بين الله والناس يقوم به المؤمنون طاعة وإيمانا واحتسابا.
تضم هذه الشعيرة 1) عمود الحجر القائم، أو على الأصح أعمدة الحجر الثلاثة القائمة، والتي تسمى العقبات الكبرى والوسطى والصغرى، وسنجد الحديث في أماكن أخرى من أسفار الكتاب المقدس. و2) الحجارة التي ينبغي أن تلتقط، من مكان المبيت كما فعل يعقوب في غير ما مرة، وإن كانت النصوص السابقة تراوحت بيت الحديث عن مجموعة من حجارة المكان وبين حجر واحد؛ 3) عمل الرجمة، أو رمي الجمرات في الأماكن المخصصة لها؛ 4) عدم إذلال النساء، أو الامتناع عن معاشرة النساء أثناء أداء هذه الفريضة، وقد وجدنا الإشارة إلى هذا الموضوع في العديد من المواضع في الكتاب المقدس، وسنخصص مبحثا خاصا للحديث عن هذا الموضوع[61]. وطبعا فإن هذه الرجمة ستصبح عيدا يعاد في كل سنة، وهو مفهوم "جل" و "عيد"، بمعنى الرجمة الشاهدة والتي تقام كل عام. "وهكذا تصبح "جلعيد" و "جلعاد" و "جلجال" و "عاي" تدل على مكان واحد كان قائما منذ عهد إبراهيم ويعقوب، وإلى يومنا هذا، هو مكان الرجمة التي تشهد على أن بيت الله هو المكان الذي اختاره الله لأداء الفريضة السنوية الدهرية، والذي لازال قائما بجميع تفاصيله في بيت الله الحرام في مكة المكرمة إلى يوم الناس هذا.
بعد القيام بشعيرة رمي الجمار، يواصل يعقوب حجه، فيذبح الذبيحة في الجبل، ويأكل منها ويطعم إخوته، ويبيتون في الجبل، قبل يوم المباركة والوداع؛ قال:
وَذَبَحَ يَعْقُوبُ ذَبِيحَةً فِي الْجَبَلِ وَدَعَا اخْوَتَهُ لِيَاكُلُوا طَعَاما. فَاكَلُوا طَعَاما وَبَاتُوا فِي الْجَبَلِ.
ثُمَّ بَكَّرَ لابَانُ صَبَاحا وَقَبَّلَ بَنِيهِ وَبَنَاتِهِ وَبَارَكَهُمْ وَمَضَى. وَرَجَعَ لابَانُ الَى مَكَانِهِ.[62]
من خلال رحلة يعقوب يتبين لنا جليا أن هدف يعقوب من الصعود إلى بيت الله إنما كان الحصول على المباركة، وهو ما رأيناه في نهاية المراحل بعد الذبح والمبيت في الجبل والقيام باكرا للوقوف للمباركة، ثم توديع المكان المقدس وأهله، وليس توديع أبنائه وبناته وتقبيلهم؛ وهو ما يسمى بطواف الوداع وإنهاء المناسك؛ ثم رجوع كل واحد إلى مكانه الذي جاء منه، بعد ان أتم منسكه.
حج يعقوب:
رغم حديثنا الوافي عن وصف حج يعقوب ومن معه إلى بيت الله الحرام في إصحاحات مختلفة من سفر التكوين، فإن الإصحاح الخامس والثلاثين سيحدثنا بشكل مباشر عن طقوس هذا الحج ومناسكه بوضوح أكبر، وسيضيف إلينا مجموعة من العناصر الأخرى التي لم نتعرض لها في ما سبق، يقول:
ثُمَّ قَالَ اللهُ لِيَعْقُوبَ: «قُمِ اصْعَدْ الَى بَيْتِ ايلَ وَاقِمْ هُنَاكَ وَاصْنَعْ هُنَاكَ مَذْبَحا لِلَّهِ الَّذِي ظَهَرَ لَكَ حِينَ هَرَبْتَ مِنْ وَجْهِ عِيسُو اخِيكَ».
فَقَالَ يَعْقُوبُ لِبَيْتِهِ وَلِكُلِّ مَنْ كَانَ مَعَهُ: «اعْزِلُوا الْالِهَةَ الْغَرِيبَةَ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَتَطَهَّرُوا وَابْدِلُوا ثِيَابَكُمْ.
وَلْنَقُمْ وَنَصْعَدْ الَى بَيْتِ ايلَ فَاصْنَعَ هُنَاكَ مَذْبَحا لِلَّهِ الَّذِي اسْتَجَابَ لِي فِي يَوْمِ ضِيقَتِي وَكَانَ مَعِي فِي الطَّرِيقِ الَّذِي ذَهَبْتُ فِيهِ».
فَاعْطُوا يَعْقُوبَ كُلَّ الْالِهَةِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي فِي ايْدِيهِمْ وَالاقْرَاطَ الَّتِي فِي اذَانِهِمْ فَطَمَرَهَا يَعْقُوبُ تَحْتَ الْبُطْمَةِ الَّتِي عِنْدَ شَكِيمَ.
ثُمَّ رَحَلُوا. وَكَانَ خَوْفُ اللهِ عَلَى الْمُدُنِ الَّتِي حَوْلَهُمْ فَلَمْ يَسْعُوا وَرَاءَ بَنِي يَعْقُوبَ.
فَاتَى يَعْقُوبُ الَى لُوزَ الَّتِي فِي ارْضِ كَنْعَانَ (وَهِيَ بَيْتُ ايلَ) هُوَ وَجَمِيعُ الْقَوْمِ الَّذِينَ مَعَهُ.
وَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحا وَدَعَا الْمَكَانَ «ايلَ بَيْتِ ايلَ» لانَّهُ هُنَاكَ ظَهَرَ لَهُ اللهُ حِينَ هَرَبَ مِنْ وَجْهِ اخِيهِ.
وَمَاتَتْ دَبُورَةُ مُرْضِعَةُ رِفْقَةَ وَدُفِنَتْ تَحْتَ بَيْتَ ايلَ تَحْتَ الْبَلُّوطَةِ فَدَعَا اسْمَهَا «الُّونَ بَاكُوتَ»[63].
يظهر من هذا النص أن الله قد أمر يعقوب أمرا مباشرا بالصعود إلى بيت إيل والقيام بمجموعة من الأمور هناك؛ وهي: 1) الإقامة هناك، 2) صناعة المذبح لله ، ويضم تقديم الذبائح والصلوات والأدعية، 3) عزل الآلهة الغريبة، 4) التطهر، 5) تبديل الثياب، 6) والقيام والصعود إلى بيت إيل، 7) إعطاء أقراط الذهب، 8) الرحلة أو السعي، 9) الأمن؛
فقام يعقوب بما أمره به ربه، وبلّغ ذلك لأهل بيته ولكل من كان معه، وأتوا إلى بيت الله، وقاموا بجميع هذه الشعائر في بيت إيل في المكان الذي سماه يعقوب "إيلون باكوت" أي "بلوطة باكوت" أو "سهل بكة"[64].
وتبدأ هذه الطقوس منذ الاستجابة لأمر الله، ونية الصعود إلى هذا البيت، وطبعا فإن الأمر الإلهي بالصعود إلى بيت الله لم يبدأ في عهد يعقوب، كما قد يفهم من النص، وإنما هو فريضة دينية، أمر بها الله عز وجل كل الناس وكل الأمم في كتبه المقدسة وعلى لسان رسله، منذ إبراهيم وإلى آخر الأيام، فريضة دهرية، من لم يستجب لها من الأمم يكون عاصيا لأمر الله ومستحقا لعقوبته[65]؛ وتبعا لترتيب هذه الطقوس في النص الذي بين أيدينا سنرى مسيرة هذه العبادة التي أسسها إبراهيم وقام بها الأنبياء والصالحون من بعده، ومنهم يعقوب عليه الصلاة والسلام وبنوه ومن كان معه:
1) الإقامة، إن على الحاج إلى بيت الله أن يقيم في هذه الأماكن مدة أداء طقوس العبادة، لأن هذه الطقوس لا تؤدى في يوم واحد، وإنما تحتاج إلى أيام عديدة في مواطن مختلفة، توجد كلها في بيت الله الحرام، 2) صناعة المذبح، تعني طقوس العبادة بكل أشكالها، بدءا من الصلاة والدعاء وتقديم القرابين والصدقات والصيام والطواف والعكوف وغير ذلك، وليس معناه تقديم الذبائح فقط؛ ولذلك سمي مكان العبادة مذبحا، واعتبرت الصلوات ومختلف العبادات قرابين وذبائح؛ وهو معنى قول النص "اصعد إلى بيت إيل وأقم هناك واصنع مذبحا للرب"، فيشمل هذا المذبح كل الشعائر والمناسك التي يقوم بها الصاعد إلى "بيت الله". 3) عزل الآلهة الغريبة، إن غاية بناء هذا البيت هو إقامة دين الله الواحد وإفراده بالعبادة والصلاة دون غيره من الآلهة المزعومة، وهي المهمة التي جاء من أجلها إبراهيم، وصار على أثرها إسحاق ويعقوب والأسباط وكل الصالحين من بني إسرائيل. 4) التطهر، فبعد التطهر المعنوي والعقائدي من الشرك والآلهة الغريبة من دون الله، يأتي التطهر المادي والذي يكون عادة قبل إقامة الصلوات والعبادات، ويشمل غسل الجسم والأطراف والثياب ونظافة المحيط الذي يقيم فيه الإنسان. 5) تبديل الثياب، ليس المطلوب تغيير ثياب الإنسان بثياب أخرى كيف ما كان نوعها، ولكن المطلوب هو لبس ثياب تليق بالعبادة، يتجرد فيها الإنسان من بهرج الحياة الدنيا وزينتها، حتى لا تشغله مظاهر اللباس والزينة عن عبادة الله والخشوع له والتذلل له، ولذلك فقط اشترط في هذه الثياب أن تكون في أبسط المستويات، وأن يستغني الحاج عن كل مظاهر الزينة وعن الحلي وما إلى ذلك مما لا يليق بمقام التجرد لتعظيم الله وتقديسه؛ 6) الصعود إلى بيت إيل؛ يمكن إطلاق بيت الله على كل مناسك الحج، وهو ما يسمى إجمالا "الصعود إلى بيت إيل"، كما يطلق بيت الله على البيت المسمى بهذا الاسم، والذي هو واحد من المناسك، وهو البيت المربع الذي يطوف عليه الناس، باعتباره واحدا من شعائر البيت الحرام، وهو الذي يطلق عليه الكعبة، والبيت الحرام، كذلك، وإن كانت هذه الأسماء نفسها يمكن أن تطلق على مجمل المناسك، كما تطلق على هذا المنسك الخاص، والذي هو البيت المكعب الذي يتوسطها؛ والذي يطوف به الناس باعتباره واحدا من مناسك الحج؛ وقد يضم معه منسك الصفا والمروة دون منسك رمي الجمار الذي يطلق عليه مع المناسك التي تجاوره اسم عاي أو الجلجال أو جلعيد أي"الرجمة"؛ ومهما يكن فإن صعود يعقوب بعد أن قام بشروط الصعود المادية والمعنوية، أو ما يسمى الإحرام، والتي رأيناها فيما سبق، فسيقوم في هذه المرحلة بما ينبغي أن يقوم به في هذا البيت، والذي هو الطواف بالكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، وبعد ذلك ينتقل إلى المرحلة الثانية من هذه المسيرة التعبدية والتي هي مرحلة عاي وقد وجدنا تفاصيلها فيما سبق، مع يعقوب في حاران وفي جلعيد؛ 7) تقديم الأقراط، إن أقراط الذهب التي في الآذان تأتي في الكتاب المقدس في سياقين، السياق الأول هو سياق الحديث عن الشرك، وهو يذكِّر عند بني إسرائيل، باتخاذهم من حليهم وذهبهم عجلا من دون الله على عهد موسى، ولذلك فهم يربطون بين إزالة الآلهة المزعومة وإزالة الأقراط من الآذان؛ والثاني هو الهدايا والصدقات والعشور المقدمة إلى بيت الله من الذهب والفضة، وهي التي يقولون عنها "فوضعت في خزانة بيت الله"، ومهما يكن فإن أقراط الآذان تحيل على الإسماعيليين الذين يميزهم عن غيرهم من سكان المنطقة وضع الأقراط في الآذان كما ينص عليه الكتاب المقدس، وقد أحال ركوب الجمال من قبل على طبيعة المنطقة التي يوجد بها بيت الله باعتبارها منطقة صحراوية يتنقل الناس فيها على الجمال. 8) الرحلة أو السعي، إن كل مناسك الحج إنما هي عبارة عن سعي متوال بين كل هذه المناسك من جهة لآداء طقوس العبادة؛ كما يوجد فيها أماكن محددة لسعي خاص قد يكون طوافا على أشواط متوالية، أو سعيا بين الصفا والمروة في سبعة أشواط كذلك، أو مشيا لرمي الجمار أو غيرها. 9) الأمن، إن أهم ما يميز هذا المكان هو الأمن والسلام سواء للعاكف أو البادي، وهو الذي نجد الحديث عنه في نصوص كثيرة بطرق مختلفة، تؤكد أن هذا البلد هو البلد الأمين الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، ومن دخله كان آمنا بينما يتخطف النس من حوله في غيره من البلاد.
هذه هي بعض تفاصيل طقس الصعود إلى بيت إيل، التي جعلها الله فريضة دهرية وعيدا سنويا يقام من سنة إلى سنة في المكان الذي اختاره الله من أول يوم وإلى آخر الأيام؛ والذي لا نعرفه واقعيا إلا في مكان واحد في الأرض وهو "بكة" التي بقيت محتفظة بكل هذه الشعائر إلى يومنا هذا، وهي تقام في المكان نفسه من سنة إلى سنة إلى هذا اليوم. وهي لا زالت كما كانت ، لم يتغير منها شيء، وإنما أصبحت عامرة أكثر من أي وقت مضى، خلافا لكل المواضع المدعاة أنها "بيت إيل"، إذ لا شيء فيها يوحي لا بعبادة قديمة ولا حديثة، ولا فيها تحقيق لعهد ولا لمواعيد، وإنما هي أهواء قوم أرادوا أن يجعلوا لبيت الله بيتا ضرارا للإغاطة، لكن من غير سلطان مبين، والله بكل شيء عليم.
3- مع القرآن الكريم:
3- إن القرآن الكريم وهو يدفعنا إلى إعادة تلاوة الكتاب المقدس يقدم لنا مقترحات أساسية تعين على هذه التلاوة من أجل استرجاع الأبعاد الأساسية المكتومة والمخفية في الكتاب، والملبس فيها الحق بالباطل بدون علم أحيانا وعن علم أحيانا أخرى؛ ولأن مجال المدارسة محدود، فإننا سنكتفي بهذا القدر في بيان بعد الدين والملة الإبراهيمية العالمية التي تنبني على تعظيم شعائر الله وحرماته في المكان الذي اختاره، وسنورد على ذلك مجموعة من النصوص القرآنية الدالة عليه.
قال تعالى عن أهل الكتاب بعد ذكره لأول بيت وضع للناس: " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)[66]
إن هذا النص يجمع بين بيت الله الحرام وآياته البينات وبين كفر أهل الكتاب بهذه الآيات وهم شهداء؛ ولم نجد من العلماء والفقهاء والمفسرين من وقف عند هذا الربط بين بيت الله الذي كان أول بيت وضع للناس وما فيه من آيات بينات وبين كفر أهل الكتاب وهم شهداء.
وفي الحديث عن الصفا والمروة قال تعالى:
- إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)[67]
يشير هذا النص إلى مستوى آخر لم ينتبه إليه المفسرون المسلمون، وهو ما يقوم به الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه الله في الكتاب، وأولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون.
أي كتاب يتحدث عنه هذا النص؟ ومن هم هؤلاء الكاتمون للحق المبين في هذا الكتاب؟ وما علاقة ذلك بشعائر الله وخصوصا الصفا والمروة؟ لم يتحدث المفسرون والعلماء والفقهاء المسلمون كثيرا عن كل هذه الأسئلة السالفة الذكر؛ غير أننا نعلم أن كل كلمة في هذا النص تثير قضية غاية في الأهمية ينبغي لقارئي القرآن، وكان ينبغي لهم من قبل، أن يأخذوها بعين الاعتبار؛ فالكتاب الذي بينه الله للناس هو الكتاب السابق على محمد صلى الله عليه وسلم، بما يحويه من أسفار مختلفة أنزلت على الانبياء، بيّن فيه الله ما أنزل من البينات و الهدى، ومنها موضوع الصفا والمروة وشعائر الله الأخرى؛ لكن الذين يكتمون ما أنزل الله أرادوا إخفاءه وكتمانه عن الناس، بأساليب مختلفة، فأولئك هم الملعنون من الله واللاعنين من الملائكة ومن الناس إلا إذا تابوا وأصلحوا وبينوا والله تواب رحيم، وإلا فسيكونون في النار مع الخالدين.
وقال تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)[68]
مناقشة موضوع القبلة من أهم المناقشات التي أوردها القرآن الكريم، معتبرا مثيري هذا الموضوع من أهل الكتاب "السفهاء من الناس"، وهو يرتبط بتعريفه السابق في نفس السياق "من سفه نفسه"؛ فالسفهاء هم الذين رغبوا عن ملة إبراهيم، وإبراهيم هو باني البيت وخادمه الأول وإمامه والمؤذن في الناس بالحج ليأتوا إليه على كل ضامر من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، وليأخذوا عنه مناسكهم، وليسلموا وجوههم لله رب العالمين، ومن تنكر لهذا الموضوع بما يحمله من اعتقاد وتوحيد وعبادة فقد سفه نفسه لأنه رغب عن دين الله الذي أسسه إبراهيم.
إن القبلة التي كان عليها أتباع محمد عندما هاجروا إلى المدينة، لم تكن إلا قبلة أهل الكتاب، وكانت امتحانا للمؤمنين الأوائل بمحمد، إلى أي حد يتعلق إيمانهم بالله ورسوله؟ وإلى أي حد هم مستعدون لترك أعرافهم وتقاليدهم والتي منها التوجه إلى البيت الحرام؟ أم أن ارتباطهم بتقاليدهم سيكون أقوى فينقلبون على أعقابهم عندما يؤمرون بتغيير قبلتهم؟ لقد نجحوا في الامتحان واتبعوا الرسول الذي صلى معهم إلى قبلة أهل الكتاب؛ لكنهم جميعا كانت تتقلب وجوههم في السماء بحثا عن القبلة الحق، وانتظارا للأمر الإلهي فيها؛ إلا أن جاء الأمر بالتحول إلى البيت الحرام لأنه القبلة الحق التي اختارها الله مع إبراهيم من قبل وارتضاها رسوله، قبل الهجرة وبعد الامر الإلهي بالعودة إليها، وأما قبلة أهل الكتاب فلم تكن إلا هوى خالفوا به أوامر الله من قبل ومن بعد، وهم غير مستعدين بأي وجه من الوجوه إلى اتباع القبلة الإبراهيمية والربانية والمحمدية وإن أتيتهم بكل آية. ولذلك فهم السفهاء الذين رغبوا عن ملة إبراهيم وقبلته ومناسكه، وسيقولون للمؤمنين ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟.
قال تعالى: " الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)[69]
يستمر القرآن في عرض موضوع القبلة، مبينا أن أهل الكتاب يعرفون هذا الموضوع معرفة جيدة كما يعرفون أبناءهم لكن فريقا منهم يكتم الحق وهو يعلم، والباقي فهم لا يعلمون الكتاب إلا أماني ويرددون ما يقوله أئمتهم دون علم ولا تعقل.
المطلوب من المؤمنين إذن أن يعملوا على شاكلتهم وأن يتوجهوا بصلاتهم شطر المسجدالحرام، وحيثما خرجوا يتوجهون إلى المسجد الحرام؛ ولعل في تكرار المعنى إشارة إلى الواقع التاريخي الذي كان على العهد النبوي، فقبل الهجرة لما كانوا المؤمنون عند البيت الحرام كانوا يتوجهون إلى هذا البيت بالصلاة شأن باقي المصلين قبل البعثة وبعدها، ولكنهم عندما خرجوا إلى المدينة توجهوا إلى قبلة أهل الكتاب، وهو ما اتخذه أهل الكتاب حجة ضدهم، فكان التأكيد القرآني على هذه المسألة وبيانا لسببها: "ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون."
هكذا إذن يصبح بيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم، ويصبح الحج إليه وتعظيم شعائره وحرماته والاتجاه إليه بالصلاة من جملة الملة الإبراهيمية، لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه في الدنيا والآخرة.
هناك نصوص قرآنية عديدة ناقشت أهل الكتاب في دعاواهم العنصرية والمذهبية الباطلة التي نسبت إلى إبراهيم، وردتهم إلى ما انزل الله في الكتاب وطلبت منهم أن يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، ودعتهم إلى الملة الإبراهيمية الواحدة، التي لا تنفك فيها العقيدة عن الشريعة والتوحيد عن المناسك، وإلى الكلمة السواء التي تجمعهم مع المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وهناك إصرار كتابي على إبعاد غير اليهود من الإرث، بدءا من بكر إبراهيم الذي أخرج هو وأمه لئلا يرث مع أخيه إسحاق، ومرورا بنزع البركة من عيسو حتى لا ينافس أخاه يعقوب، وانتهاء بطرد جميع الشعوب وإبادتها حتى يتمكن أسباط الشعب المختار من تقسيم أرض الميعاد ؛ ويقابل هذا الإصرار الكتابي هناك إصرار قرآني على وحدة الملة والدين والمناسك والبركة والقيم والنفس الإنسانية وعلى إعادة بناء المفاهيم الدينية وفقا لهذه الوحدة.
4- مع الحديث النبوي في صحيح البخاري:
أما الحديث النبوي، والذي نطلع عليه من خلال الحديث عن إبراهيم في أحاديث البخاري، فيمكن تناوله من خلال ثلاث قضايا أساسية:
القضية الأولى
46،6 في المائة مما أورده البخاري في شأن إبراهيم يتعلق بأمور غيبية، يمثل موضوع الشفاعة منها 19،5 في المائة، ويمثل موضوع العروج إلى السماء 17 في المائة منها؛ إلا أن الكلام عن إبراهيم في هذين الموضوعين لم يمثل إلا جزءا ضئيلا منهما؛ حيث ذكر إبراهيم في موضوع الشفاعة ذكرا خافتا جدا، إذ لم يستطع أن يشفع لأحد من الناس الذين توجهوا إليه من أجل ذلك، بسبب كذباته الثلاث التي كذبها.
وكذلك الأنبياء الآخرون إلا محمدا صلى الله عليه وسلم لما أذن له ربه.
وأما في موضوع المعراج فكان حضوره باهتا كذلك، فمحمد صلى الله عليه وسلم يلقاه في إحدى السماوات فيسلم عليه إبراهيم ويرحب به، ولا يقوم بشيء آخر أكثر من ذلك؛ بينما يأتي الحديث عن البيت المعمور في نفس السياق، لكنه بدل أن يربط بإبراهيم وبحج الناس إلى هذا البيت الذي بناه، فإنه يربط بالملائكة الذين يأتون إليه من غير انقطاع حتى أن من جاء إليه منه مرة لا يعود إليه أبدا. ويلاحظ أن لموسى في هذا الحديث مكانة في الدين أكبر من مكانة إبراهيم، فعندما فرض الله على المؤمنين خمسين صلاة تدخل موسى ليخفف عن الأمة عددا من المرات، في كل مرة يحط عنها خمس صلوات، تماما مثلما هي مجادلة إبراهيم للملائكة في شأن قوم لوط لترك عقابهم، فكان ينقص من عدد خمسين شخصا في كل مرة خمسا. حتى استقر الأمر على خمس صلوات بأجر خمسين صلاة.
وأما الموضوع الثالث الذي تناولته هذه المجموعة من الأحاديث المتحدثة عن الغيب فهو موضوع أول من يكسى يوم القيامة، والذي هو إبراهيم، لأن الناس يبعثون عراة وحفاة وغرلا؛ وهو حديث يحضر فيه الأثر اليهودي وخصوصا في الحديث عن الغرلة والتي تقتضي الختان. وتمثل نسبة هذا الموضوع 4،4 في المائة من مجموع أحاديث إبراهيم في صحيح البخاري؛ غير أن هذا الحديث ينطلق من إبراهيم ليعالج موضوعا آخر في التاريخ الإسلامي، هو موضوع الردة، وخصوصا ردة الصحابة، حيث يذكر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة سيراهم في العذاب فيرغب في إنقاذهم فينادي أصحابي أصحابي فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
أما باقي الموضوعات التي جاءت في هذه المجموعة فلا تمثل في مجموعها إلا أقل من ستة في المائة، وتتحدث عن إبراهيم الذي يشبه محمدا، وعن صورة إبراهيم وإسماعيل التي وجدها محمد صلى الله عليه وسلم في الكعبة وفي أيديهما الأزلام، فاعتبر عليه السلام ذلك كذبا عليهما.
ثم موضوع أبو إبراهيم الذي نال من الله أشد العذاب.
هذه هي صورة إبراهيم الغيبية كما وردت في الحديث واحتلت نسبتها قريبا من نصف مفردات الحديث عند البخاري.
وأما المجموعة الثانية، والتي يمكن أن نطلق عليها مسمى أخبار إسرائيلية، فتمثل ما يزيد على خمس مفردات الحديث بنسبة 21،16 في المائة، أكثر من نصفها أي 11،16 في المائة تتحدث عن خروج إبراهيم بإسماعيل وأمه إلى الصحراء وتركهما هناك في يد الله.
ويليها موضوع كذبات إبراهيم بنسبة 6،7 في المائة من مجموع مفردات الحديث في الباب. ثم موضوع أكرم الناس والذي هو الكريم يوسف ابن الكريم يعقوب ابن الكريم إسحاق ابن الكريم إبراهيم. ويليه موضوع اختتان إبراهيم بقدوم وهو ابن خمس وثمانين سنة.
والملاحظ أن الصورة المقدمة من هذه الاحاديث هي عينها المقدمة من الأسفار القانونية الكتابية، ونصوص هذه الأحاديث موجودة بحذافيرها في الكتاب القانوني المقدس.
أما المجموعة الثالثة من الأحاديث فهي المتعلقة بحديث عرضي عن إبراهيم، لمعالجة موضوع من موضوعات الواقع الإسلامي، وتمثل نسبة هذه المجموعة ما يزيد على ربع مفردات الأحاديث الواردة عن البخاري في شأن إبراهيم؛ وجزء مهم منها إنما هو تفسيرات مأثورة عن البخاري والناقل عنهم بما فيها آيات قرآنية وضعها البخاري ترجمة لأبواب معينة؛
يمثل حديث تحريم مكة من طرف إبراهيم، وتحريم المدينة من طرف محمد صلى الله عليه وسلم نسبة 6،4 في المائة من العدد الإجمالي لمفردات الأخبار المتحدثة عن إبراهيم.، وهي محاولة لجعل المدينة المنورة في مكانة مكة المكرمة من حيث القدسية؛
ويمثل حديث إعادة بناء قواعد البيت على أسس إبراهيمية نسبة 5 في المائة من مجموع مفردات هذه الأحاديث عند البخاري؛ والواضح أن الحاجة إلى توسيع البيت كانت ملحة مع الرفض المجتمعي للأمر، فكان الحديث وسيلة أساسية لجعل الناس يسمحون بتوسعة البيت الحرام وإعادة بناء الكعبة وهو ما قام به الزبير بن العوام.
ويمثل موضوع الصلاة الإبراهيمية نسبة 4،5 في المائة من مجموع مفردات هذه الأحاديث، والواضح أن لصيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم علاقة بالصراع القائم بين الأهل والأزواج والأصحاب، وهل يذكر في الصلاة على النبي الصلاة على أصحابه أو أزواجه أم آله فقط..
وتمثل باقي الأحاديث ما يقل عن نسبة 5 في المائة المتبقية، وكلها تتحدث عن إبراهيم بشكل عرضي، فموضوع "مقام إبراهيم" الذي شغلت مفرداته 2،1 في المائة، كان يتحدث عن موافقات القرآن لعمر، ومنها موافقته في اتخاذ مقام إبراهيم مصلى؛ وموضوع "دين إبراهيم" يتعلق بأحد العرب الذي كان في الجاهلية على دين إبراهيم، وحديث "قرت عين أم إبراهيم"، هو كلام أحد المصلين في اليمن سمع المقريء يقول "واتخذ الله إبراهيم خليلا؛ وحديث الجد أب، يتعلق بحكم فقهي أخذه أبو بكر من قول يوسف في قوله تعالى: "آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب"؛ كل أخبار هذه المجموعة الأخيرة ورد ذكر إبراهيم فيها بشكل عرضي، و لم يكن إبراهيم هو المقصود في حد ذاته، وإنما قصدت مواضيع أخرى تتعلق بالواقع التاريخي الإسلامي أو الفهم والاجتهاد الفردي انطلاقا من نصوص قرآنية ذكر فيها إبراهيم الخليل.
وخلاصة القول إن الأحاديث النبوية التي أوردها الإمام البخاري عن إبراهيم بعد هجرته من أرض مولده، لم تتوافق مع الحديث القرآني عن نفس المرحلة، بل إن المقصد القرآني كان هو الغائب الأساسي عنها، بينما كانت الروح الكتابية هي الموجهة لها، وكان الواقع العربي بأحواله المختلفة مؤثرا أساسيا فيها؛ ولذلك وجدنا إبراهيم سواء في المعراج وهو يستقبل محمدا صلى الله عليه وسلم في أحد السماوات ، تماما مثلما نجده في معارج الأنبياء في الأسفار المقدسة الكتابية قانونية وغيرها؛ ومنه معراج إبراهيم الذي يطلق عليه رؤيا أبراهام، أو معراج باروخ أو أخنوخ أو إيليا أو موسى نفسه، ومعارج كثيرة تذكر في الأدبيات الكتابية وتحكي عن الرحلة السماوية. ومثلما وجدنا إبراهيم في المعراج وجدناه في حديث الشفاعة متأثرا بكذباته التي منعته أن يشفع في الناس، إلى أن يأتي الشافع المشفع محمد صلى الله عليه وسلم، فيأذن الله له فيقوم بالشفاعة لأمته؛ ورغم ما يحمله هذا الحديث من تنكر للأعمال واعتماد على الفضل الإلهي الخاص بالأمة المحمدية عندنا، وبأتباع الأنبياء الآخرين في فكرة الخلاص عند الأمم الأخرى؛ فإن إبراهيم يبدو متناقضا مع أحاديث أخرى أوردها البخاري نفسه عن أبي ذر الغفاري ، تبدأ الشفاعة فيها بالملائكة ثم يشفع الأنبياء عموما دون حرمان أي واحد من هذا العمل ثم الشهداء ثم الصالحون، ثم يشفع الله سبحانه وتعالى ويضع رجله في النار حتى تقول قط قط؛ وفي هذا الحديث شفاعة الأنبياء جميعا دون أن تمنعهم ذنوبهم. ونجد من أحاديث الغيب كذلك حديث أول من يكسى يوم القيامة والذي هو إبراهيم، ويذكر لنا الحديث جوانب مذهبية وسياسية تتعلق بالمرحلة الإسلامية تتعلق بالصحابة الذين غيروا بعده، حيث ينادي عليهم رسول الله صلعم أصحابي أصحابي فيقال له لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقال لهم بعدا بعدا وفي روايات أخرى سحقا سحقا؛ تماما كما ورد في أقوال المسيح في الإنجيل بالنسبة لأصحابه ومريديه الذين لم يسيروا على نهجه..
أما المجموعة الثانية من الأحاديث فقد كانت موافقة بشكل حرفي لما ورد في أسفار العهد القديم، إبراهيم يكذب فيقول عن زوجته هي أختي، وإبراهيم يختتن بقدوم، وإبراهيم يخرج جاريته وابنه منها إلى الصحراء ويتركهما ويرجع إلى أهله حيث يوجد الوارث الحقيقي..
وأما المجموعة الثالثة فهي مرتبطة بالواقع الإسلامي، حيث المدينة المحرمة التي حرمها محمد كما حرم إبراهيم مكة، وحيث تغيير قواعد إبراهيم التي لم يستطعها محمد لأن قومه حديثو عهد بالجاهلية؛ وحيث الخلاف عن الصلاة على النبي ومن يضم إليه أصحابه أم أزواجه أم آله فقط؟، وحيث الفهوم الفردية الخاصة لنصوص قرآنية ذكر فيها إبراهيم.
أما الحديث القرآني عن ما قبل الهجرة الإبراهيمية حيث الجهاد الأكبر من أجل التوحيد ضد الشرك حتى وصل الأمر بالمشركين إلى إحراقه بالنار فنجاه الله منها، وما بعد الهجرة حيث إقرار الدين العالمي وشعائر الله في البيت الذي اختاره، في ملة إنسانية واحدة تجمع الاعتقاد مع التشريع وتجعل البركة لجميع الأمم فإن كلا من النص التوراتي القانوني والنص الحديثي الإسلامي كان غافلا عنه.
وختاما اجمع بين أيديكم نسب إحصاءات الدراسة كما خلصنا إليها:
قبل هجرة إبراهيم
بعد هجرته
مجموع الكلمات
النص القرآني
4200 كلمة
40 %
6400 كلمة
60 %
10600 كلمة
أثار القرآن أهم المواضيع التي أغفلها النص التوراتي في هذه المرحلة، وهي موضوعي التوحيد والبعث
ركز القرآن على قضية بناء بيت الله وإقامة شعائر الدين فيه، واستحضار الأبعاد الإنسانية والقيمية للملة الإبراهيمية الواحدة التي يتبارك جميع أمم الأرض
النص الكتابي
250 كلمة
2 %
11350 كلمة
98 %
11600 كلمة
لم يهتم النص التوراتي بهذه المرحلة من حياة إبراهيم، ولم يذكر عنها النص القانوني إلا نتفا غابت عنها الأبعاد الأساسية للدين وعلى رأسها البعث والتوحيد، وحضرت مكانها الأبعاد العنصرية المتمثلة في النسب والذرية.
تحولت إمامة البيت الحرام إلى امتلاك الأرض وإرثها، ولذلك تحدثت الرواية عن ترك إبراهيم لابنه البكر وأمه في الصحراء حتى لا يرث مع إسحاق، غلب الحديث عن الأرض الموعودة والنسل المبارك والإرث الخاص بالشعب المختار. وغابت الأبعاد الإنسانية والدينية في المكان المختار للبركة العالمية.
النص الحديثي عند البخاري
511 كلمة
4 %
12014 كلمة
96 %
12525 كلمة
تماما مثل النص التوراتي غاب الحديث عن هذه المرحلة عموما، وما ذكر من قضايا لا ينسجم أبدا مع المضامين القرآنية وإضافاتها النوعية، وإنما يعيد إثارة إشكالات حول ما جاء به القرآن الكريم، فبدلا من الحديث عن إبراهيم ورشده وإيمانه واطمئنانه هناك حديث عن شك إبراهيم، وبدلا من إسقاط فكرة العنصرية، كان اعتبار عذاب أبي إبراهيم أبعد الخزي وهو يناقض قول إبراهيم ولا تخزني يوم يبعثون...
وأما باقي الأحاديث فيمثل قريبا من نصفها حديث عن أمور غيبية، بعضها يتعلق بالمعراج، وبعضها بالشفاعة، وبعضها بأول من يكسى يوم القيامة..
وتمثل المجموعة الثانية منها حديثا عن إبراهيم كما ورد في النص التوراتي، إبراهيم يكذب، ويختتن بقدوم، ويخرج ابنه إسماعيل وأمه إلى الصحراء...
وأما المجموعة الثالثة فتمثل أمورا تتعلق بتاريخ المسلمين، ومن ذلك تحريم المدينة، وإعادة بناء الكعبة، والصلاة على النبي محمد، وباقي الكلام الآخر إنما هو تفسيرات للبخاري ولمن نقل عنهم من الأئمة.
والظاهر أن الغائب الأكبر في كل هذه الأخبار هو المقترح القرآني بما يضمه من أبعاد دينية وإنسانية...
مجموعة 1:
46،6 % من الأحاديث تتحدث عن أمور غيبية،
يمثل حديث المعراج 19،5 %
ويمثل حديث المعراج17 %
وحديث أول من يكسى يوم القيامة 4،4 %.
مجموعة 2:
21،16 %
يمثل حديث إخراج إسماعيل وأمه 11،1 %.
موضوع كذبات إبراهيم بنسبة 6،7 في المائة.
إسحاق بن إبراهيم 2،4 في المائة
اختتان إبراهيم 0،96
مجموعة 3:
21،23 %
حرمة المدينة 6،4/
قواعد إبراهيم 5 في المائة
الصلاة على إبراهيم 4،5 في المائة
مقام إبراهيم 2،1 في المائة
دين إبراهيم 1،98 في المائة
قرت عين أم إبراهيم 0،7 في المائة
الجد أب 0،55 في المائة/ فقه
مجموعة 4:
7 %
تفسيرات البخاري والناقل عنهم من المحدثين وغيرهم
الحواشي:
[1] سفر التكوين إصحاح 11 عدد 31-32.
[2] سفر التكوين إصحاح 12 عدد 1-3.
[3] سفر يشوع إصحاح 24 عدد 2-3.
[4] سفر يشوع إصحاح 24 عدد 14-15.
[5] بَعْدَ هَذِهِ الامُورِ صَارَ كَلامُ الرَّبِّ الَى ابْرَامَ فِي الرُّؤْيَا: «لا تَخَفْ يَا ابْرَامُ. انَا تُرْسٌ لَكَ. اجْرُكَ كَثِيرٌ جِدّا». (2) فَقَالَ ابْرَامُ: «ايُّهَا السَّيِّدُ الرَّبُّ مَاذَا تُعْطِينِي وَانَا مَاضٍ عَقِيما وَمَالِكُ بَيْتِي هُوَ الِيعَازَرُ الدِّمَشْقِيُّ؟» (3) وَقَالَ ابْرَامُ ايْضا: «انَّكَ لَمْ تُعْطِنِي نَسْلا وَهُوَذَا ابْنُ بَيْتِي وَارِثٌ لِي». (4) فَاذَا كَلامُ الرَّبِّ الَيْهِ: «لا يَرِثُكَ هَذَا. بَلِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ احْشَائِكَ هُوَ يَرِثُكَ». (5) ثُمَّ اخْرَجَهُ الَى خَارِجٍ وَقَالَ: «انْظُرْ الَى السَّمَاءِ وَعُدَّ النُّجُومَ انِ اسْتَطَعْتَ انْ تَعُدَّهَا». وَقَالَ لَهُ: «هَكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ». (6) فَامَنَ بِالرَّبِّ فَحَسِبَهُ لَهُ بِرّا. (سفر التكوين 15/1-6)
[6] وَقَالَ لَهُ: «انَا الرَّبُّ الَّذِي اخْرَجَكَ مِنْ اورِ الْكِلْدَانِيِّينَ لِيُعْطِيَكَ هَذِهِ الارْضَ لِتَرِثَهَا». (8) فَقَالَ: «ايُّهَا السَّيِّدُ الرَّبُّ بِمَاذَا اعْلَمُ انِّي ارِثُهَا؟» (9) فَقَالَ لَهُ: «خُذْ لِي عِجْلَةً ثُلاثِيَّةً وَعَنْزَةً ثُلاثِيَّةً وَكَبْشا ثُلاثِيّا وَيَمَامَةً وَحَمَامَةً». (10) فَاخَذَ هَذِهِ كُلَّهَا وَشَقَّهَا مِنَ الْوَسَطِ وَجَعَلَ شِقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مُقَابِلَ صَاحِبِهِ. وَامَّا الطَّيْرُ فَلَمْ يَشُقَّهُ. (11) فَنَزَلَتِ الْجَوَارِحُ عَلَى الْجُثَثِ وَكَانَ ابْرَامُ يَزْجُرُهَا. (سفر التكوين 15/7-11)
[7] وَلَمَّا صَارَتِ الشَّمْسُ الَى الْمَغِيبِ وَقَعَ عَلَى ابْرَامَ سُبَاتٌ وَاذَا رُعْبَةٌ مُظْلِمَةٌ عَظِيمَةٌ وَاقِعَةٌ عَلَيْهِ. (13) فَقَالَ لابْرَامَ: «اعْلَمْ يَقِينا انَّ نَسْلَكَ سَيَكُونُ غَرِيبا فِي ارْضٍ لَيْسَتْ لَهُمْ وَيُسْتَعْبَدُونَ لَهُمْ فَيُذِلُّونَهُمْ ارْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ. (14) ثُمَّ الامَّةُ الَّتِي يُسْتَعْبَدُونَ لَهَا انَا ادِينُهَا. وَبَعْدَ ذَلِكَ يَخْرُجُونَ بِامْلاكٍ جَزِيلَةٍ. (15) وَامَّا انْتَ فَتَمْضِي الَى ابَائِكَ بِسَلامٍ وَتُدْفَنُ بِشَيْبَةٍ صَالِحَةٍ. (16) وَفِي الْجِيلِ الرَّابِعِ يَرْجِعُونَ الَى هَهُنَا لانَّ ذَنْبَ الامُورِيِّينَ لَيْسَ الَى الْانَ كَامِلا». (سفر التكوين 15/12-16)
[8] ثُمَّ غَابَتِ الشَّمْسُ فَصَارَتِ الْعَتَمَةُ وَاذَا تَنُّورُ دُخَانٍ وَمِصْبَاحُ نَارٍ يَجُوزُ بَيْنَ تِلْكَ الْقِطَعِ. (18) فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ ابْرَامَ مِيثَاقا قَائِلا: «لِنَسْلِكَ اعْطِي هَذِهِ الارْضَ مِنْ نَهْرِ مِصْرَ الَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ. (19) الْقِينِيِّينَ وَالْقَنِزِّيِّينَ وَالْقَدْمُونِيِّينَ (20) وَالْحِثِّيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالرَّفَائِيِّينَ (21) وَالامُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ». (سفر التكوين 15/17-21)
[9] عهد القطع
بعد وقت قصير من الحرب ، أظهر الله نفسه لابراهام لتهدئة ضميره من إراقة دماء الأبرياء ، لكون الاضطراب قد سبب له الكثير من عذاب الروح. فأكد الله له في الوقت نفسه انه سيظهر رجال أتقياء بين ذريته، مثله ، من شأنهم أن يكونوا درعا في أجيالهم. (نص مترجم عن النسخة الإنجليزية للهاجادة: بوهندي)
[10] وزيادة في التفضيل ، فإن الله أعطاه أن يسأل ما يريد ، وهي نعمة نادرا ما تمنح لأحد، ما عدا يعقوب وسليمان ، وأحاز والمسيح. فتكلم ابراهيم قائلا: "يا رب العالمين ، وإذا كان أحفادي سيثيرون غضبك في المستقبل فالأفضل لي أن أعيش عقيما. فمن أجل لوط رحلت بعيدا عن دمشق ، حيث كان الله حافظي ، و سيكون من دواعي سروري أن يكون وارثي. إضافة إلى ذلك ، فقد قرأت في النجوم ، أن أبراهام ، لن يولد له أطفال. (الهجادة: ترجمة بوهندي)
[11] "وعندها أصعد الله أبراهام فوق قبة السماء ، وقال له :" أنت نبي ، ولست منجما "؛ ولم يسأل ابراهام آنئذ أي آية على أنه سوف ينعم بذرية. ودون أن يضيف كلمة أخرى ، آمن بالرب ، فجزاه الله على إيمانه التلقائي بنصيب في هذا العالم ، ونصيب في العالم الآخر كذلك ، وإلى جانب هذا ، فإن عودة اسرائيل من المنفى ستكون جزاء على ثقته القوية بالله.
[12] ولكن على الرغم من انه يعتقد ان الوعد الذي قطعه له الله كامل وبإيمان راسخ ، فقد كان المطلوب أن يعرف حتى الآن ماالذي تحتاجه ذريته لتحافظ على نفسها. ولذلك أمره الله بالتضحية ببقرة ثلاثية ومعزة ثلاثية ، وكبش ثلاثي ، ويمامة وحمامة ، وهو ما يبين لابراهام مختلف القرابين التي ينبغي تقديمها في المعبد في كل مرة ، للتكفير عن خطايا إسرائيل ومزيد من العناية بها. وسأل ابراهيم "ولكن ما الذي سوف يحدث لذريتي" "بعد تدمير المعبد؟" فأجاب الله قائلا : "اذا كانوا يقرأون أمر القرابين كما هي في الكتب المقدسة ، سأحتسبها لهم كما لو أنهم قدموها فعلا ، وأغفر لهم جميع خطاياهم". ثم كشف الله لإبراهيم مسار تاريخ اسرائيل ، وتاريخ العالم كله : فبقرة ثلاث سنوات تشير إلى سيطرة بابل ، وماعز ثلاث سنوات يقف لامبراطورية الإغريق ، وكبش ثلاثة سنوات لسلطة ميدو الفارسية ، وسيادة إسماعيل تمثلها اليمامة ، واسرائيل هي الحمامة البريئة.
[13] فأخذ ابراهام هذه الحيوانات وشقها من الوسط. ولو أنه لم يفعل ذلك، فإن إسرائيل لن تكون قادرة على مقاومة قوة الممالك الأربع. لكن الطيور لم يشقها ، ليدل على أن إسرائيل سوف تظل كاملة. وسقطت الطيور الجارحة على الجثث ، ومنعها ابراهام. وهكذا أعلن عن مجيء المسيح ، الذي يجعل الأوثان جذاذا، ولكن ابراهام جعل المسيح ينتظر إلى الوقت المعين له. ولأن الوقت المسيحي كان معلوما لدى ابراهام، وكذلك وقت قيامة الموتى. فعندما وضع شطري القطع مقابل بعضها البعض ، عادت الحيوانات إلى الحياة ثانية وحلقت الطيور.
[14] بينما كان يعد أبراهام هذه القرابين ، رأى رؤيا عظيمة. غربت الشمس ، واستغرق في نوم عميق ، فرأى دخان نار جهنم ، النار التي أعد الله للآثمين ، ورأى مشعل نار ، وحي سيناء ، حيث شهد كل الناس المشاعل المشتعلة ؛ ورأى القرابين تحمل من قبل إسرائيل ؛ ورعب مع ظلمة شديدة حلت عليه ، إنها سيطرة الممالك الأربع. وقال الله له : "ياابراهام لطالما يلتزم أبناؤك بواجبي دراسة التوراة والخدمة في المعبد ، وهما الواجبان ، فجهنم وتسلط الغرباء لن يصل إليهم؛ ولكن اذا أهملوا هذين الواجبين ، سيكون عليهم أن يعانوا من عقوبتين اثنين؛ وليس لهم إلا اختيار ما إذا كانوا سيعاقبون عن طريق جهنم أو عن طريق تسلط الغريب عليهم ". فظل ابراهام طيلة اليوم حيران ، حتى قال الله له : "كم ستظل حائرا بين الرأيين؟ لتقرر واحدا من اثنين ، فليكن تسلط الغريب!"
[15] عندها أعلمه الله بعبودية إسرائيل في مصر لمدة أربعمائة سنة، والحساب من ولادة اسحق ، لأن أبراهام قد وعد بأن يلحق بآبائه في سلام ، ولن يمسه شيء من غطرسة الغريب الظالم. وفي الوقت نفسه ، فقد كان معلوما أن والد ابراهام تراح سيكون له نصيب في العالم الآخر ، لكونه قام بالتكفير عن أفعاله الآثمة. إضافة إلى أنه قد أوحي إليه أن ابنه إسماعيل سيتحول إلى الطريق القويم ، بينما والده كان لا يزال على قيد الحياة ، وحفيده عيسو لن يبدأ طريقته المنحرفة في الحياة حتى يكون هو نفسه قد وافته المنية. وعندما تلقى وعدا بخلاصهم جميعا مع الإعلان عن عبودية ذريته ، في أرض ليست لهم ، أعلمه الله بأنه سيحاكم الممالك الأربع ويدمرها.
[16] مخطوطات قمران التوراة المنحول ج3 ص 573.
[17] مخطوطات قمران التوراة المنحول ج3 ص 573.
[18] سورة الأنعام 74- 79.
[19] الخمسينيات مخطوطات قمران ج2 ص 198.
[20] الخمسينيات مخطوطات قمران ج2 ص 198.
[21] سورة الصافات 83- 98.
[22] سورة الأنبياء 51- 70.
[23] الخمسينيات مخطوطات قمران ج2 ص 200.
[24] الخمسينيات مخطوطات قمران ج2 ص 200.
[25] الخمسينيات مخطوطات قمران ج2 ص 199.
[26] الآثار التوراتية مخطوطات قمران ج3 ص 199.
[27] الآثار التوراتية مخطوطات قمران ج3 ص 200.
[28] سورة الصافات 83- 98.
[29] سورة الأنبياء 51- 70.
[30] مخطوطات قمران التوراة المنحول ج3 ص 573.
[31] صحيح البخاري - (11 / 138)
[32] سفر التكوين إصحاح 12 عدد 1-9.
[33] سورة البقرة 124.
[34] سورة الأنبياء 71.
[35] سفر التكوين إصحاح 12 عدد 1-9.
[36] سورة البقرة 125- 129.
[37] سورة آل عمران 96-97.
[38] انظر سفر التكوين 12/8.
[39] انظر سفر التكوين 13/3-4.
[40] سفر التكوين 28/19.
[41] سفر التكوين 31/13.
[42] سفر التكوين 35/1-6.
[43] سفر التكوين 35/8.
[44] سفر التكوين 35/15-16.
[45] سفر التكوين 12/1-3.
[46] سفر التكوين 12/ 4-5.
[47] سفر التكوين 11/ 31-32.
[48] سفر التكوين 28/ 10-17.
[49] انظر مبحث حاران.
[50] سفر التكوين 12/6-9.
[51] سفر التكوين 12/ 6-9.
[52] سفر التكوين 13/1-9.
[53] سفر التكوين 13/ 1-9.
[54] سفر التكوين 12/9.
[55] سفر التكوين 13/ 14-18.
[56] سفر التكوين 13/14-18.
[57] سفر التكوين 28/ 10- 19.
[58] سفر التكوين 28/ 20-22.
[59] سفر التكوين 31/ 17-25.
[60] سفر التكوين 31/ 43-53.
[61] انظر مبحث النساء في الحج.
[62] سفر التكوين 31/ 34-35.
[63] سفر التكوين 35/ 1-8.
[64] انظر مبحث بكة في الكتب المقدسة.
[65] انظر مبحث "الحج فريضة عالمية".
[66] سورة آل عمران 98- 100.
[67] سورة البقرة 158- 163.
[68] سورة البقرة 142- 145.
[69] سورة البقرة 146- 153.