طارق منينة
New member
- إنضم
- 19/07/2010
- المشاركات
- 6,331
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
الكاتب : محمد رشيد رضا
ذو القعدة - 1343هـ
يونيه - 1925م
يونيه - 1925م
الإسلام وأصول الحكم
بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام
بل دعوة جديدة إلى نسف بنائها ، وتضليل أبنائها
( تمهيد ) ما زال أعداء الإسلام الطامعون في ثل عرشه والقضاء على ملكه
وإبطال تشريعه ، واستعباد الشعوب التي تدين الله به ، يجاهدونه بالسيف والنار ،
وبالكيد والدهاء ، وبالآراء والأفكار ، وبإفساد العقائد والأخلاق ، وبالطعن في جميع
مقومات هذه الأمة ومشخصاتها ، وتقطيع جميع الروابط التي ترتبط بها شعوبها
وأفرادها ، ليسهل جعلها طعمة للطامعين ، وفريسة لوحوش المستعمرين ، وقد كانت
هذه الحرب السياسية العلمية للإسلام والمسلمين أضر وأنكى من الحروب الصليبية
باسم الدين , فالحرب الصليبية كانت تجمع كلمة المسلمين للدفاع عن حقيقتهم
والمدافعة عن سلطتهم ، وهذه الحرب المعنوية فرقت كلمتهم وشقت عصاهم ،
ومزقت شمل شعوبهم ، وأذاقت بعضهم بأس بعض ، فصاروا عونًا لأعدائهم على
أنفسهم , يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي خصومهم { فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ } ( الحشر : 2 ) .
قد كان آخر فوز لهذه الحرب على المسلمين محو اسم السلطنة العثمانية
الإسلامية من لوح الوجود ، وإلغاء الترك لمنصب الخلافة من دولتهم الصغيرة ،
التي أمكنهم استبقاؤها من تلك السلطنة العظيمة , وتأليفهم حكومة جمهورية غير
مقيدة بالشرع الإسلامي في أصول أحكامه ولا فروعها , وتصريحهم بالفصل التام
بين الدولة والدين ؛ فذعر العالم الإسلامي وزلزل بعملهم هذا زلزالاً شديدًا ،
وطرب له الإفرنج ومروجو سياستهم من نصارى الشرق وملاحدة المتفرنجين
المارقين من الإسلام ، ورفع هؤلاء عقائرهم في مصر ، هاتفين لعمل الترك ،
وكذلك فعل أمثالهم في سائر البلاد ، إلا أن هؤلاء نشطوا لجعل الحكومة المصرية
حكومة لا دينية كحكومة أنقرة فهزئ العالم الإسلامي بدعوتهم وسخر منهم , وراجت
في مقابلتها الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامي عام ؛ لإحياء منصب الخلافة بقدر ما
تستطيعه قوى الإسلام في هذا الزمان .
بينا نحن معشر المسلمين على هذا إذا نحن بنبأة جديدة في شكلها ، تؤيد تلك
النزعة الإفرنجية النصرانية في موضوعها ، وتلك الفعلة الإلحادية في مشروعها .
بينا نحن كذلك إذا نحن ببدعة حديثة , لم يقل بمثلها أحد انتمى إلى الإسلام
صادقًا ولا كاذبًا ، بدعة شيطانية لم تخطر في بال سني ولا شيعي ولا خارجي ولا
جهمي ولا معتزلي ، بل لم تخطر على بال أولئك الزنادقة الذين زعموا أن للإسلام
باطنًا غير ظاهره ، فظاهره للعوام الجاهلين ، وباطنه للخواص العارفين ، وأرادوا
هدم سلطان الإسلام بالإسلام ؛ لإعادة سلطان المجوسية الكسروية التي قضى عليها
المسلمون القضاء الأبدي ، وإنما سبق الناعق بها اليوم ناعق آخر من متفرنجة هذه
البلاد ومن رجال القانون والقضاء الأهلي , قيل : إنه انضوى إلى دين البابية
البهائية آخر فرق الباطنية , نعق بها هذا الرجل في مجمع عقده لها في الإسكندرية
منذ بضع سنين بخطاب ( محاضرة ) ألقاه على كثير من رجال القانون , ثم طبعه
ووزعه بالمجان فرددنا عليه ردًّا أعجزه فلم يستطع أن يدافع عن نفسه ولا دافع عنه
أحد من أعداء الإسلام , لا من البهائية ولا من رجال قوانينهم الوضعية الذين
يريدون أن ينسخوا بها الشريعة الإسلامية .
وأما الناعق بهذه البدعة اليوم فمن العلماء المتخرجين في الأزهر ومن قضاة
المحاكم الشرعية { إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } ( ص : 5 ) , ومن بيت كريم في هذه
البلاد عُرف أهله بالآداب العالية والأخلاق وبالدين أيضًا , خلاصة هذه البدعة :
أنه ليس للإسلام خلافة ولا إمامة ولا حكومة ولا تشريع سياسي ولا قضائي ,
وأنه دين روحاني محض كدين النصارى بالمعنى الذي فهمته شيعة البروتستانت
منهم دون من قبلهم , وأن ما ادعاه المسلمون من عهد أبي بكر الصديق رضي الله
عنه إلى يومنا هذا من أمر الإمامة والخلافة باطل من القول وضلال من العمل ،
وفساد في الأرض ، لما جعلوه للخليفة من السلطان الديني الإلهي ، وإنما أضل
جماعة المسلمين في ذلك الملوك ؛ لتوطيد سلطانهم فيهم ، وأن أبا بكر كان ملكًا
للعرب أراد أن يحقق وحدتهم . ويجعل السلطان لقريش وحدهم فيهم ، وليس له ولا
لمؤيديه حجة من الدين ، ولم يكن جميع الخارجين عليه والمانعين أداء الزكاة له
مرتدين عن الإسلام ، وأن قتالهم لم يكن دينيًّا بل سياسيًّا للدفاع عن دولة العرب
ووحدتهم ، والدين نفسه لم يوجب أن تكون للعرب ولا لغيرهم من المسلمين دولة
ولا وحدة , بل لكل فريق من المسلمين عربهم وعجمهم أن يقيموا لأنفسهم حكومة
يرضونها ، ودين الإسلام لم يقيدهم في ذلك بقيد ما , بل هو بريء من كل ما
عزوه إليه من ذلك .
هذه خلاصة البدعة الجديدة التي قام ببثها اليوم في العالم الإسلامي الشيخ علي
عبد الرازق ( من علماء الجامع الأزهر وقضاة المحاكم الشرعية ) المصرية بكتاب
ألفه فيها جاوزت صفحاته المائة ، وهو يوزعه في الأقطار الإسلامية - على ما
بلغنا - بغير ثمن ، وما كان لدعاة الأديان والمذاهب والأحزاب السياسية
والاجتماعية أن يستغلوا دعايتهم ويتجروا بالمال فيها فحسب الديني منهم ثواب الله
في الآخرة ، والدنيوي عظمة الدنيا وجاهها والانتظام في سلك مؤسسي الانقلابات
الكبرى فيها .
ولا ينبغي لنا أن نكتفي في بيان ملخص هذه البدعة بما فهمناه من الكتاب من
غير نقل عبارته في النتيجة المرادة منه ، وإن كان هذا الملخص مقدمة وتمهيدًا لرد
طويل مفصل نبطل به نصوصه المختلبة ، ومقاصده المختبلة ، قال في الصفحة
الأخيرة منه ( ص103 ) ما نصه :
( والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون
وبريء من كل ما هيَّأوا حولها من رغبة ورهبة ، ومن عزة وقوة ، والخلافة ليست
في شيء من الخطط الدينية . كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم
ومراكز الدولة ، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة ، لا شأن للدين بها ، فهو لم
يعرفها ولم ينكرها ولا أمر بها ، ولا نهى عنها ، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى
أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة ) ، ثم قال إيضاحًا لهذا :
( لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم
الاجتماع والسياسة كلها , وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه[1]
وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية وأمتن
ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم ) .
أقول : القضية الأولى من هذا الإيضاح حق أريد به باطل وهو ما بعده ،
فنظام الخلافة الإسلامية أفضل نظام عرفه البشر , وكان المسلمون أعز الأمم عندما
أقاموه , وما ذلوا واستكانوا لغير ربهم إلا عندما تركوه ، وما كان لأمة عاقلة مستقلة
أن تبني قواعد ملكها ونظام حكومتها على أحدث تجارب غيرها من الأمم فتكون
كقدح الراكب لا تستقر على حال من القلق والاضطراب ، ومن ذا الذي يحكم لها
بالخيرية بين الجمهورية والملكية ، وبين الاشتراكية والبلشفية والرأسمالية مثلاً ؟
وإذ كان يقول : هذا حكم الإسلام في المسألة عنده فماذا يقول فيما في القرآن
والسنة من الأحكام السياسية : كالمعاهدات والمعاهدين وأحكام الحرب , والأحكام
القضائية الشخصية كالمواريث والزواج والطلاق والعدة , والأحكام المدنية كتحريم
الربا وأكل أموال الناس بالباطل ، وأحكام العقوبات من حدود وتعزيزات ؛ هل
ينكرها من أصلها كما أنكر أحاديث الخلافة والإجماع على نصب الخليفة ؟ أم يقول :
إن طاعة الله ورسوله لا تجب فيها ، وإنها مستثناة من حكم قوله تعالى :
{ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } ( النساء : 59 ) ويستدِلُّ على
ذلك ببعض الشعر الذي يحفظه من الأغاني والعقد الفريد ودواوين الشعراء كما فعل
فيما سنذكره من دلائله في بحث الخلافة .
أم يقول فيها كما قال سلفه والسابق له إلى اقتراح هدم حكومة الإسلام من
أساسها , ونسف أصولها الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس أحمد صفوت
أفندي الذي أشرنا إلى بدعته آنفًا , تلك البدعة التي كانت سببًا فيما نرى لندب
الإنكليز إياه لإصلاح القضاء في فلسطين ! ! وملخصها : أن النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) كان حاكمًا للمسلمين , وكانت طاعته واجبة كما تجب طاعة كل حاكم
في زمن حكمه ، وأن أحكامه لا يجب أن تتبع من بعده ، وأن لكل حاكم في كل
زمن مثلما كان له من ذلك وله بمقتضاه أن يلغي كل حكم كان قبله ، لا فرق بين
الرسول وغيره ، وكذلك إجماع المتقدمين وأقيستهم لا يجب أن يؤخذ بها من بعدهم
فإجماعنا في هذا العصر خير لنا من إجماعهم ، وأقيستنا خير لنا من أقيستهم .
وأما أحكام القرآن فقد صرح بأنها هي التي فرضها الله على المسلمين في كل
زمان دون غيرها , ثم جعل ما عدا المبادئ العامة منها ( أي كالأمر بالعدل ) ثلاثة
أقسام : ما حرمه الله وما أوجبه وما جوزه - فحكم الأول عنده - وقد مثل له بتحريم
الأمهات والبنات - أن لا يتعرض له ولا يحكم بشيء يخالفه في مرماه ! ! وحكم
الثاني عنده - وقد مثل له بالعدة والإشهاد على عقد الزواج - أن يبقى منه ما تتحقق
به الحكمة المقصودة منه , فيستغنى بها عن التزام الحكم نفسه ......... [2] حكومة أن
تحرم بالقوانين الوضعية ما تشاء منه , ثم قال ما نصه : ( وبذلك ينقض وجوب
التقيد بالمعاني الحرفية للألفاظ الواردة في القرآن ) .
فخلاصة رأيه أن كل ما ثبت بالسنة أو الإجماع أو القياس من الأحكام
الشرعية لا يجب على أحد من المسلمين العمل به ، وأن أحكام القرآن نفسها لا
يجب العمل بنصوصها ومدلول ألفاظها ، وإنما يبحث المسلمون ما داموا يدَّعون
الإسلام عن مرمى المحرمات منها فيراعونه ، وعن حكمة الواجبات فيراعونها , وأما
الجائزات فلهم أن يحرموا منها ما أحله الله أو يوجبوه بحسب ما يتراءى لحكوماتهم
في كل زمان .
ولكن ظاهر عبارة عالم الأزهر وقاضي الشرع الذي جاء خلفًا لهذا السلف
القانوني في هدم التشريع الإسلامي أن أحكام القرآن كغيرها لا توجب على المسلمين
التقيد في حكومتهم بها , ولا تمنعهم أن يأخذوا بأحدث تجارب الأمم فيها حتى إذا
فرضنا أن أحدثها وهي البلشفية نجحت فلا حرج عليهم في الأخذ بها .
أول ما يقال في وصف هذا الكتاب لا في الرد عليه : إنه هدم لحكم الإسلام
وشرعه من أساسه ، وتفريق لجماعته ، وإباحة مطلقة لعصيان الله ورسوله في
جميع الأحكام الشرعية الدنيوية ، من شخصية وسياسية ومدنية وجنائية , وتجهيل
للمسلمين كافة من الصحابة والتابعين ، والأئمة المجتهدين والمحدثين والمتكلمين ،
وبالجملة هو اتباع لغير سبيل المؤمنين , فالإسلام بريء منه بحسب ما فهمه
المسلمون من العصر الأول إلى عصرنا هذا , وإننا سنرد على جميع أبوابه
وفصوله ردًّا مفصلاً جريًا على خطتنا في الدفاع عن ديننا وملتنا ، ولكننا لا نقول
في شخص صاحبه شيئًا فحسابه على الله تعالى , وإنما نقول : إنه لا يجوز لمشيخة
الأزهر أن تسكت عنه كما سكتت عن أحمد صفوت وأمثاله ، فإن هذا المؤلف
الجديد رجل منهم , فيجب عليهم أن يعلنوا حكم الإسلام في كتابه لئلا يقول هو
وأنصاره : إن سكوتهم عنه إجازة له أو عجز عن الرد عليه ، فإن كان ردنا عليه
ودحضنا لشبهاته يرفع عنهم إثم الإنكار عليه وتحذير الناس من ضلالته - لأن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات - فإن للأئمة التي توجه
إليهم بالسكوت عن مثل هذا لا ترتفع بردنا وحدنا ، بل يحط من أقدارهم في نظر
الأمة كلها ، وحاشاهم الله من ذلك .
((يتبع بمقال تالٍ))
(1) الاستكانة : الذل والخضوع تتعدى باللام لا بـ (إلى) قال تعالى : [ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ] (المؤمنون : 76) .
(2) يوجد هنا بياض بالأصل لم نقف عليه بعد البحث عنه .
(26/100)