الإسلام وأصول الحكم الكاتب : محمد رشيد رضا

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الكاتب : محمد رشيد رضا

ذو القعدة - 1343هـ
يونيه - 1925م

الإسلام وأصول الحكم

بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام
بل دعوة جديدة إلى نسف بنائها ، وتضليل أبنائها
( تمهيد ) ما زال أعداء الإسلام الطامعون في ثل عرشه والقضاء على ملكه
وإبطال تشريعه ، واستعباد الشعوب التي تدين الله به ، يجاهدونه بالسيف والنار ،
وبالكيد والدهاء ، وبالآراء والأفكار ، وبإفساد العقائد والأخلاق ، وبالطعن في جميع
مقومات هذه الأمة ومشخصاتها ، وتقطيع جميع الروابط التي ترتبط بها شعوبها
وأفرادها ، ليسهل جعلها طعمة للطامعين ، وفريسة لوحوش المستعمرين ، وقد كانت
هذه الحرب السياسية العلمية للإسلام والمسلمين أضر وأنكى من الحروب الصليبية
باسم الدين , فالحرب الصليبية كانت تجمع كلمة المسلمين للدفاع عن حقيقتهم
والمدافعة عن سلطتهم ، وهذه الحرب المعنوية فرقت كلمتهم وشقت عصاهم ،
ومزقت شمل شعوبهم ، وأذاقت بعضهم بأس بعض ، فصاروا عونًا لأعدائهم على
أنفسهم , يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي خصومهم { فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ } ( الحشر : 2 ) .
قد كان آخر فوز لهذه الحرب على المسلمين محو اسم السلطنة العثمانية
الإسلامية من لوح الوجود ، وإلغاء الترك لمنصب الخلافة من دولتهم الصغيرة ،
التي أمكنهم استبقاؤها من تلك السلطنة العظيمة , وتأليفهم حكومة جمهورية غير
مقيدة بالشرع الإسلامي في أصول أحكامه ولا فروعها , وتصريحهم بالفصل التام
بين الدولة والدين ؛ فذعر العالم الإسلامي وزلزل بعملهم هذا زلزالاً شديدًا ،
وطرب له الإفرنج ومروجو سياستهم من نصارى الشرق وملاحدة المتفرنجين
المارقين من الإسلام ، ورفع هؤلاء عقائرهم في مصر ، هاتفين لعمل الترك ،
وكذلك فعل أمثالهم في سائر البلاد ، إلا أن هؤلاء نشطوا لجعل الحكومة المصرية
حكومة لا دينية كحكومة أنقرة فهزئ العالم الإسلامي بدعوتهم وسخر منهم , وراجت
في مقابلتها الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامي عام ؛ لإحياء منصب الخلافة بقدر ما
تستطيعه قوى الإسلام في هذا الزمان .
بينا نحن معشر المسلمين على هذا إذا نحن بنبأة جديدة في شكلها ، تؤيد تلك
النزعة الإفرنجية النصرانية في موضوعها ، وتلك الفعلة الإلحادية في مشروعها .
بينا نحن كذلك إذا نحن ببدعة حديثة , لم يقل بمثلها أحد انتمى إلى الإسلام
صادقًا ولا كاذبًا ، بدعة شيطانية لم تخطر في بال سني ولا شيعي ولا خارجي ولا
جهمي ولا معتزلي ، بل لم تخطر على بال أولئك الزنادقة الذين زعموا أن للإسلام
باطنًا غير ظاهره ، فظاهره للعوام الجاهلين ، وباطنه للخواص العارفين ، وأرادوا
هدم سلطان الإسلام بالإسلام ؛ لإعادة سلطان المجوسية الكسروية التي قضى عليها
المسلمون القضاء الأبدي ، وإنما سبق الناعق بها اليوم ناعق آخر من متفرنجة هذه
البلاد ومن رجال القانون والقضاء الأهلي , قيل : إنه انضوى إلى دين البابية
البهائية آخر فرق الباطنية , نعق بها هذا الرجل في مجمع عقده لها في الإسكندرية
منذ بضع سنين بخطاب ( محاضرة ) ألقاه على كثير من رجال القانون , ثم طبعه
ووزعه بالمجان فرددنا عليه ردًّا أعجزه فلم يستطع أن يدافع عن نفسه ولا دافع عنه
أحد من أعداء الإسلام , لا من البهائية ولا من رجال قوانينهم الوضعية الذين
يريدون أن ينسخوا بها الشريعة الإسلامية .
وأما الناعق بهذه البدعة اليوم فمن العلماء المتخرجين في الأزهر ومن قضاة
المحاكم الشرعية { إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } ( ص : 5 ) , ومن بيت كريم في هذه
البلاد عُرف أهله بالآداب العالية والأخلاق وبالدين أيضًا , خلاصة هذه البدعة :
أنه ليس للإسلام خلافة ولا إمامة ولا حكومة ولا تشريع سياسي ولا قضائي ,
وأنه دين روحاني محض كدين النصارى بالمعنى الذي فهمته شيعة البروتستانت
منهم دون من قبلهم , وأن ما ادعاه المسلمون من عهد أبي بكر الصديق رضي الله
عنه إلى يومنا هذا من أمر الإمامة والخلافة باطل من القول وضلال من العمل ،
وفساد في الأرض ، لما جعلوه للخليفة من السلطان الديني الإلهي ، وإنما أضل
جماعة المسلمين في ذلك الملوك ؛ لتوطيد سلطانهم فيهم ، وأن أبا بكر كان ملكًا
للعرب أراد أن يحقق وحدتهم . ويجعل السلطان لقريش وحدهم فيهم ، وليس له ولا
لمؤيديه حجة من الدين ، ولم يكن جميع الخارجين عليه والمانعين أداء الزكاة له
مرتدين عن الإسلام ، وأن قتالهم لم يكن دينيًّا بل سياسيًّا للدفاع عن دولة العرب
ووحدتهم ، والدين نفسه لم يوجب أن تكون للعرب ولا لغيرهم من المسلمين دولة
ولا وحدة , بل لكل فريق من المسلمين عربهم وعجمهم أن يقيموا لأنفسهم حكومة
يرضونها ، ودين الإسلام لم يقيدهم في ذلك بقيد ما , بل هو بريء من كل ما
عزوه إليه من ذلك .
هذه خلاصة البدعة الجديدة التي قام ببثها اليوم في العالم الإسلامي الشيخ علي
عبد الرازق ( من علماء الجامع الأزهر وقضاة المحاكم الشرعية ) المصرية بكتاب
ألفه فيها جاوزت صفحاته المائة ، وهو يوزعه في الأقطار الإسلامية - على ما
بلغنا - بغير ثمن ، وما كان لدعاة الأديان والمذاهب والأحزاب السياسية
والاجتماعية أن يستغلوا دعايتهم ويتجروا بالمال فيها فحسب الديني منهم ثواب الله
في الآخرة ، والدنيوي عظمة الدنيا وجاهها والانتظام في سلك مؤسسي الانقلابات
الكبرى فيها .
ولا ينبغي لنا أن نكتفي في بيان ملخص هذه البدعة بما فهمناه من الكتاب من
غير نقل عبارته في النتيجة المرادة منه ، وإن كان هذا الملخص مقدمة وتمهيدًا لرد
طويل مفصل نبطل به نصوصه المختلبة ، ومقاصده المختبلة ، قال في الصفحة
الأخيرة منه ( ص103 ) ما نصه :
( والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون
وبريء من كل ما هيَّأوا حولها من رغبة ورهبة ، ومن عزة وقوة ، والخلافة ليست
في شيء من الخطط الدينية . كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم
ومراكز الدولة ، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة ، لا شأن للدين بها ، فهو لم
يعرفها ولم ينكرها ولا أمر بها ، ولا نهى عنها ، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى
أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة ) ، ثم قال إيضاحًا لهذا :
( لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم
الاجتماع والسياسة كلها , وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه[1]
وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية وأمتن
ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم ) .
أقول : القضية الأولى من هذا الإيضاح حق أريد به باطل وهو ما بعده ،
فنظام الخلافة الإسلامية أفضل نظام عرفه البشر , وكان المسلمون أعز الأمم عندما
أقاموه , وما ذلوا واستكانوا لغير ربهم إلا عندما تركوه ، وما كان لأمة عاقلة مستقلة
أن تبني قواعد ملكها ونظام حكومتها على أحدث تجارب غيرها من الأمم فتكون
كقدح الراكب لا تستقر على حال من القلق والاضطراب ، ومن ذا الذي يحكم لها
بالخيرية بين الجمهورية والملكية ، وبين الاشتراكية والبلشفية والرأسمالية مثلاً ؟
وإذ كان يقول : هذا حكم الإسلام في المسألة عنده فماذا يقول فيما في القرآن
والسنة من الأحكام السياسية : كالمعاهدات والمعاهدين وأحكام الحرب , والأحكام
القضائية الشخصية كالمواريث والزواج والطلاق والعدة , والأحكام المدنية كتحريم
الربا وأكل أموال الناس بالباطل ، وأحكام العقوبات من حدود وتعزيزات ؛ هل
ينكرها من أصلها كما أنكر أحاديث الخلافة والإجماع على نصب الخليفة ؟ أم يقول :
إن طاعة الله ورسوله لا تجب فيها ، وإنها مستثناة من حكم قوله تعالى :
{ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } ( النساء : 59 ) ويستدِلُّ على
ذلك ببعض الشعر الذي يحفظه من الأغاني والعقد الفريد ودواوين الشعراء كما فعل
فيما سنذكره من دلائله في بحث الخلافة .
أم يقول فيها كما قال سلفه والسابق له إلى اقتراح هدم حكومة الإسلام من
أساسها , ونسف أصولها الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس أحمد صفوت
أفندي الذي أشرنا إلى بدعته آنفًا , تلك البدعة التي كانت سببًا فيما نرى لندب
الإنكليز إياه لإصلاح القضاء في فلسطين ! ! وملخصها : أن النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) كان حاكمًا للمسلمين , وكانت طاعته واجبة كما تجب طاعة كل حاكم
في زمن حكمه ، وأن أحكامه لا يجب أن تتبع من بعده ، وأن لكل حاكم في كل
زمن مثلما كان له من ذلك وله بمقتضاه أن يلغي كل حكم كان قبله ، لا فرق بين
الرسول وغيره ، وكذلك إجماع المتقدمين وأقيستهم لا يجب أن يؤخذ بها من بعدهم
فإجماعنا في هذا العصر خير لنا من إجماعهم ، وأقيستنا خير لنا من أقيستهم .
وأما أحكام القرآن فقد صرح بأنها هي التي فرضها الله على المسلمين في كل
زمان دون غيرها , ثم جعل ما عدا المبادئ العامة منها ( أي كالأمر بالعدل ) ثلاثة
أقسام : ما حرمه الله وما أوجبه وما جوزه - فحكم الأول عنده - وقد مثل له بتحريم
الأمهات والبنات - أن لا يتعرض له ولا يحكم بشيء يخالفه في مرماه ! ! وحكم
الثاني عنده - وقد مثل له بالعدة والإشهاد على عقد الزواج - أن يبقى منه ما تتحقق
به الحكمة المقصودة منه , فيستغنى بها عن التزام الحكم نفسه ......... [2] حكومة أن
تحرم بالقوانين الوضعية ما تشاء منه , ثم قال ما نصه : ( وبذلك ينقض وجوب
التقيد بالمعاني الحرفية للألفاظ الواردة في القرآن ) .
فخلاصة رأيه أن كل ما ثبت بالسنة أو الإجماع أو القياس من الأحكام
الشرعية لا يجب على أحد من المسلمين العمل به ، وأن أحكام القرآن نفسها لا
يجب العمل بنصوصها ومدلول ألفاظها ، وإنما يبحث المسلمون ما داموا يدَّعون
الإسلام عن مرمى المحرمات منها فيراعونه ، وعن حكمة الواجبات فيراعونها , وأما
الجائزات فلهم أن يحرموا منها ما أحله الله أو يوجبوه بحسب ما يتراءى لحكوماتهم
في كل زمان .
ولكن ظاهر عبارة عالم الأزهر وقاضي الشرع الذي جاء خلفًا لهذا السلف
القانوني في هدم التشريع الإسلامي أن أحكام القرآن كغيرها لا توجب على المسلمين
التقيد في حكومتهم بها , ولا تمنعهم أن يأخذوا بأحدث تجارب الأمم فيها حتى إذا
فرضنا أن أحدثها وهي البلشفية نجحت فلا حرج عليهم في الأخذ بها .
أول ما يقال في وصف هذا الكتاب لا في الرد عليه : إنه هدم لحكم الإسلام
وشرعه من أساسه ، وتفريق لجماعته ، وإباحة مطلقة لعصيان الله ورسوله في
جميع الأحكام الشرعية الدنيوية ، من شخصية وسياسية ومدنية وجنائية , وتجهيل
للمسلمين كافة من الصحابة والتابعين ، والأئمة المجتهدين والمحدثين والمتكلمين ،
وبالجملة هو اتباع لغير سبيل المؤمنين , فالإسلام بريء منه بحسب ما فهمه
المسلمون من العصر الأول إلى عصرنا هذا , وإننا سنرد على جميع أبوابه
وفصوله ردًّا مفصلاً جريًا على خطتنا في الدفاع عن ديننا وملتنا ، ولكننا لا نقول
في شخص صاحبه شيئًا فحسابه على الله تعالى , وإنما نقول : إنه لا يجوز لمشيخة
الأزهر أن تسكت عنه كما سكتت عن أحمد صفوت وأمثاله ، فإن هذا المؤلف
الجديد رجل منهم , فيجب عليهم أن يعلنوا حكم الإسلام في كتابه لئلا يقول هو
وأنصاره : إن سكوتهم عنه إجازة له أو عجز عن الرد عليه ، فإن كان ردنا عليه
ودحضنا لشبهاته يرفع عنهم إثم الإنكار عليه وتحذير الناس من ضلالته - لأن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات - فإن للأئمة التي توجه
إليهم بالسكوت عن مثل هذا لا ترتفع بردنا وحدنا ، بل يحط من أقدارهم في نظر
الأمة كلها ، وحاشاهم الله من ذلك .
((يتبع بمقال تالٍ))

(1) الاستكانة : الذل والخضوع تتعدى باللام لا بـ (إلى) قال تعالى : [ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ] (المؤمنون : 76) .
(2) يوجد هنا بياض بالأصل لم نقف عليه بعد البحث عنه .
(26/100)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

ذو الحجة - 1343هـ
يوليو - 1925م

الإسلام وأصول الحكم

كان صاحب هذه المجلة أول من قام بفريضة تفنيد ما أُودعَ في كتاب
( الإسلام وأصول الحكم ) من الكفر والضلال ، وتحليل الحرام وتحريم الحلال ،
ومنع الحكم بما أنزل الله ، وإباحة حكم الطاغوت ، وكان أول من دعا علماء
الأزهر إلى رفع أصواتهم بالإنكار له والرد عليه ، قبل أن تصل أيدي أكثرهم إليه ،
ومن ذلك ما رآه القراء في مقالة الجزء الماضي ، وكنا نشرناها قبله في جريدة
اللواء والأخبار ، وقد أرسل إلينا طائفة منهم صورة عريضة في ذلك رفعوها إلى
فضيلة شيخ الأزهر وإلى بعض المقامات العالية ، ووزعوا نسخًا منها على الصحف ،
وهذا نصها :
عريضة مقدمة من علماء الأزهر
حضرة صاحب الفضيلة
السلام عليكم ورحمة الله
نحن الموقعين على هذا نرفع إلى فضيلتكم ما يأتي :
يا صاحب .. . ، نص قانون الأزهر أن الغرض من وجود الأزهر وسائر
المعاهد العلمية الدينية هو حراسة الدين وتخريج رجال أكفاء يقومون بوظائف
الشريعة وإرشاد الأمة ، ونص كذلك أن شيخ الأزهر الشريف هو صاحب الرياسة
العامة على كل المنتسبين إلى الدين من وجهة سيرهم الشخصي فيما يلائم صفتهم
الدينية .
ونص قانون الدولة أن دين الدولة المصرية هو الدين الإسلامي ، واعترفت
سائر القوانين الأجنبية بحرمة الأديان ومعاقبة الطاعن عليها ، هذا من الجهة
القانونية .
ثم من الوجهة الشرعية لا نعلم فائدة للعلم الديني ، ولا لعلماء الدين ، ولا
للأزهر الشريف منذ نشأته إلى الآن إلا القيام بحراسة الدين ودراسة العلوم النافعة
في تأييده ، والدفاع عنه بكل الوسائل المشروعة ، ونشر هدي الشريعة السمحة
الغراء بين المسلمين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومقاومة الإلحاد
والزندقة وسوء الأخلاق والمعاملة ، ودراسة الشبهات والرد عليها، وغير ذلك من كل
ما تقتضيه خدمة الإسلام ، ويحبب إلى الناس الآخرين الانتظام في هداه ، تلك هي
وظيفة العلماء منذ كان الإسلام ، وذلك هو واجبهم الشرعي كالصلاة والصيام ، الذي
لا يخرجون عند الله من عهدته ما لم يقوموا به حق القيام .
فهل يجوز ونحن الآن في عهد يوالي حضرة صاحب الجلالة الملكُ الأزهرَ
وعلماءه بما يتفق وكرامتهم ، ويغنيهم عن الشغل بوسائل العيش ؛ لأجل أن ينقطعوا
لواجبهم العلمي الديني .
وهل يجوز ونحن الآن من الكثرة بما لم يبلغه الأزهر في تاريخه من عدد
العلماء ؟
وهل يجوز ونحن الآن من تيسير دواوين الشريعة وأمهات الكتب الدينية
وكثرتها بواسطة المطبوعات بما لم يبلغه عصر قبل ؟
فهل يجوز مع هذه الاعتبارات أن يكون هذا العصر في الإلحاد والجهل
بالشريعة والمجاهرة بمحاربتها ، وانتشار الدعاية كل يوم في الجرائد وسائر
المطبوعات ضدها ، ممن هم من سلالة المسلمين أكثر من كل عصر مضى ، ولا
يوجد من يدفع هذه الهجمات ، ولا يذود عن بيضة الدين خصمًا واحدًا ، بينما نحن
نتمتع باسم الدين بهذه الميزات الكبرى ، وبينما نحن من الكثرة بحيث نملأ القرى
والبلدان ؟ فماذا هو العذر لنا في ذلك أمام المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ،
وأمام حضرة صاحب الجلالة الملك الذي يوالي دائمًا إيقاظنا بجميع صنوف الرعاية ؟
بل ماذا العذر لنا أمام الله سبحانه وتعالى وأمام رسوله صلى الله عليه وسلم
يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا ولد ؟ فهل نعتذر بأن نظم الدراسة وشئون الطلبة
ومصلحة التعليم البحتة استغرقت أعمارنا ، واستنفدت هممنا حتى صرفنا بها عما
وجدنا نحن ومعاهدنا من أجله ؟
هل كان الأزهر قبل أربعين سنة من إهمال الدين وانصراف أهله عن نشره
في الأمة والدفاع عنه بهذه الدرجة التي نحن بها الآن ؟ بينما كان أولئك في شغل
من العيش ، ونحن في كفاية بفضل الدين وباسم الدين .
هل يجوز أن يطعن الدين كل يوم بين أيدينا طعنات قاتلة ؟ ولا شيء يلهينا
عنه إلا نفس الرفاهية التي أغدقها علينا الدين ؟ نعم في كل زمان وُجد إلحاد ، ونجم
للدين أعداء ، وظهرت مقالات سخيفة واعتراضات فاسدة ، وتحريف وتبديل
ولكن كان العلماء على قلتهم وكدِّهم ممتطين هممهم العالية عند كل بادرة من ذلك
بدافع الشرع ، منتضين عزمهم القوي وبراهينهم الساطعة ، فلا تظهر شبهة إلا
كانوا أول من يقتلها بحثًا ، ويقف على منشئها أكثر من صاحبها حتى يعود الحق
جليًّا والضال مهديًّا .
يشهد بذلك علم الكلام الذي ما تكوَّن إلا من ذلك ، ويشهد بذلك تلك المصنفات
العديدة في رد الشبهات ، ويشهد بذلك تاريخ علماء الإسلام ومناظراتهم التي كانوا
يقيمونها في كل زمان ومكان ، ويشهد بذلك علم الخلاف والجدل وعلم آداب البحث
والمناظرة .
نقول هذا ونقدمه إلى فضيلتكم بمناسبة فشو دعاية الإلحاد في هذا الزمان ،
والمجاهرة كل وقت بمحاربة الدين والقضاء على آدابه وأحكامه ممن لم يدرسوا منه
كلمة واحدة ، ونحن من ذلك في سكوت عميق حتى اتخذوا من سكوتنا دليلاً قويًّا
على عجزنا ، واستطرد منه الجاهلون إلى أن ذلك العجز إنما هو في نفس الدين ،
فأصبحنا بذلك حجة على ديننا ، وسدًّا بينه وبين الناس ، شغلاً منا بمصلحة التعليم
البحتة عن نتيجة ذلك التعليم ، ولم يقف التشكيك في الدين وتسريب الريب فيه إلى
المسلمين على أولئك الذين لم يدرسوه فحسب ، حتى نجم اليوم ناجم ، ونطق بعد
دهره ناطق ، لم يشأ أن يباحث العلماء في خواطر نفسه قبل أن يفاجئ الناس بها ،
وأخرج للناس كتابًا سماه ( الإسلام وأصول الحكم ) بصفة كونه عالمًا من علماء
الأزهر ، وقاضيًا من القضاة الشرعيين ملأه بالشك والترديد ، وأنكر أشياء لا نعلم
إلا أنها معلومة من الدين بالضرورة باتفاق العلماء .
أنكر الخلافة وأنها مقام إسلامي واجب بالشرع ، وأفاض في النعاية على
معتقديها من عهد أبي بكر إلى الآن ، ولم يُبالِ في ذلك بمس الصحابة أو الخلفاء
الراشدين ، من أن عملهم عليها كان من قبيل المُلك لا من قبيل الدين ! وهكذا
أنكر القضاء وسائر صنوف الحكومة ، وأنها ليست من الدين في شيء .. . حاول
أكثر من ذلك في القسم الثاني من كتابه : أن النبي كان نبيًّا فحسب أم كان نبيًّا ملكًا ؟
وأكثر من الترديد في ذلك ، ومراودة العقول عليه ، وبسط الاعتراضات وأوجز
الإجابة الواهية ، ليَعبُر عابر من ذلك إلى أن سنة النبي صلى الله وآله وسلم التي
هي توأم الكتاب العزيز وبيانه ، وديوان الشرع وأدلته التفصيلية إنما هي أحكام
محلية وقتية تنتهي بانتقاله صلى الله عليه وسلم ، فلا يصح أن نأخذ بها الآن ، ولا
أن نقيمها في أي زمان أو مكان ، بل نأخذ في كل شئوننا ومرافقنا بآخر ما أنتجته
العقول البشرية : أي ( طبعًا من أمثال رجال أوربة و أمريكا المسيحيين ) وكثير
من خصوم الدين من يتشدقون بذلك ، فكيف يكون انتصارهم إذا رأوا بارقة تلوح
لهم بذلك من عالم من علماء المسلمين .
فنرغب إلى مقامكم السامي ورياستكم العظمى على تلك المصلحة الكبرى ،
مصلحة الدين التي تتمتع بكل الصفات المرعية في مصالح الدولة ، من قوانين
عالية ، وإرادات سنية ، ومقام لدى ولي الأمر لا يدانيه مقام ، وكرامة في الأمة
دونها كل كرامة ، ومسئولية عند الله تعالى دونها كل مسئولية ، نرغب إليكم وأنتم
بهذه الصفة العالية أن تتخذوا الدفاع عن الدين وتأييده بالحجة والبرهان جميع وسائل
النفوذ المشروعة التي تخولها لكم القوانين ؛ حتى تظفروا به على كل خصم ،
وتنجلي آياته الباهرة رغم كل تشكيك ، كما هو الشأن في حماية كل مصلحة من
مصالح الدولة .
كما أننا نرغب إلى فضيلتكم أن تساعدوا هذه الهيئة الدينية العظمى في النزول
إلى معترك الحياة العامة ، ومشاركة الناس في مصالح الحياة ؛ إعلانًا بأن الدين لا
ينافي الدنيا بل إنما جاء لصلاحها ، والعمل على رفع الشر والظلم منها ، وبث
العدل والأمن فيها ، وأن يدرس رجال الدين كل ما يطرأ عند الناس من شبهة في
الدين ؛ ليكشفوا عنها اللثام ، ويعود الخلاف في الأمة وفاقًا ، وتأمن الأمة شر
الانقسام ، ونقوم بواجب الشرع خير قيام والسلام .
وهذه هي أرقام الصحائف التي تتضمن زيادة شذوذ وإغراب وتحريف :
ص 20 دعوى الوجوب الشرعي دعوى كبيرة ، وليس كل حديث وإن صح
بصالح لموازنة تلك الدعوى .
ص 36 ( فإنما كانت الخلافة - ولم تزل - نكبة على الإسلام والمسلمين ،
وينبوع شر وفساد ) .
ص53 ( وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد لجأ إلى القوة والرهبة فذلك لا
يكون في سبيل الدعوة إلى الدين وإبلاغ رسالته إلى العالمين ، وما يكون لنا أن نفهم
إلا أنه كان في سبيل المُلك ، ولتكوين الحكومة الإسلامية - إلى أن قال : فذلك
عندهم هو سر الجهاد النبوي ومعناه .
ص55 المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام وخارج عن حدود
الرسالة .
ص57 القول بأن الإسلام سلطة دينية وسياسية قول لا نعرف سندًا له ، وهو على ذلك ينافي معنى الرسالة .
ص92 بيعة أبي بكر بيعة سياسية على القوة والسيف .
ص96 اختراع لقب خليفة لأبي بكر ليأخذ الناس برهبة هذا اللقب .
ص97 حرب أبي بكر لمن سُموا مرتدين ليس للدين وإنما هو للسياسة .
ص 102 التصاق الخلافة بمباحث الدين من جناية الملوك .
ص 103 وهي آخر صحيفة قال فيها : ( والحق أن الدين الإسلامي بريء
من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون ، وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة
ورهبة ومن عز وقوة ، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية كلا ولا القضاء
ولا غيرهما من وظائف الحكم ) إلى آخر الصحيفة .
تحريرًا في يوم الثلاثاء غرة ذي الحجة سنة 1343 ( 23 يونيو سنة 1925 )
إمضاءات علماء الأزهر
حضرات المشايخ : يوسف حجازي ، محمد مطاوع نصير ، إبراهيم
عمارة ، إسماعيل عبد الباقي ، محمد علي شايب ، إسماعيل علي ، محمد علي
القاضي الطماوي ، عتمان صبره ، على جاويش ، أحمد المكاري . إبراهيم
الدسوقي . حسب النبي محمود . علي شقير : عبد الحميد الهنامي . محمد خليل
بدوي . جاد عزام . بركات أحمد عواد علي . شمس الدين أحمد . محمد
مخلوف عيسى . معوض السخاوي . علي إبراهيم منيب . حسن حجازي . طه
البيباتي . رفاعي عصر . محمد حماد . سعيد حسن . أحمد أبو العينين كامل .
على الهنامي . أحمد عبد السلام . محمد علي الخولي . كمال القاوقجي . علي جاد
الله عبد الجليل. عيسى أبو النصر . عبد الرحيم البرديسي . خليفة راشد . محمود
عفيفي . حسن أبو عزب . علي أحمد صبره . عبد العزيز مهنا . محمد سامون .
عبد الحميد البجيرمي . مصطفى بدر زيد . عبد الحميد السرو . محمد العربي .
محمد عبد السلام القباني . سيد رضوان عثمان . محمد إبراهيم الحنبلي . قنديل
الفقي . سليمان البيلي . عبد الحافظ محمد عسل . سليمان الشيخ . إبراهيم
سليمان. محمد الشنواني : محمد البراوي . محمود زيد . توفيق البتشتي . محمد
العشري . عبد المقصود عبد الخالق ، أحمد المرشدي ، حسين البيومي ، عبيد عبد
ربه ، محمد مصطفى علي ناصر . عبد الفتاح قطب الملاح .
((يتبع بمقال تالٍ))
(26/212)
الكاتب : محمد رشيد رضا

المطبوعات الحديثة
( أحدهما ) كتاب ( الإسلام وأصول الحكم ) الذي رأى القراء في الجزء
الماضي ويرون في هذا الجزء شيئًا من بيان مفاسده ، وأنه لرجل متخرج في
الجامع الأزهر وقاضٍ شرعي في بعض المحاكم المصرية ، هو أضر على
المسلمين من كل عدو
 
صفر - 1344هـ
سبتمبر - 1925م
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
حكم هيئة كبار العلماء
في كتاب الإسلام وأصول الحكم

هيئة كبار العلماء المجتمعة بصفة تأديبية بمقتضى المادة الأولى بعد المائة من
قانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية والإسلامية رقم 10 لسنة 1911 في
دار الإدارة العامة للمعاهد الدينية يوم الأربعاء 22 المحرم سنة 1344 ( 12 أغسطس
سنة 1925 ) ، برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد أبي
الفضل شيخ الجامع الأزهر ، وحضور أربعة وعشرين عالمًا من هيئة كبار
العلماء ، وهم حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة :
الشيخ محمد حسنين ، والشيخ دسوقي العربي ، والشيخ أحمد نصر ، والشيخ
محمد بخيت ، والشيخ محمد شاكر ، والشيخ محمد أحمد الطوخي ، والشيخ
إبراهيم الحديدي ، والشيخ محمد النجدي ، والشيخ عبد المعطي الشرشيمي ، والشيخ
يونس موسى العطافي ، والشيخ عبد الرحمن قراعة ، والشيخ عبد الغني محمود ،
والشيخ محمد إبراهيم السمالوطي ، والشيخ يوسف نصر الدجوي ، والشيخ إبراهيم
بصيلة ، والشيخ محمد الأحمدي الظواهري ، والشيخ مصطفى الههياوي . والشيخ
يوسف شلبي الشبرابخومي , والشيخ محمد سبيع الذهبي , والشيخ محمد حموده ,
والشيخ أحمد الدلبشاني ، والشيخ حسين والي ، والشيخ محمد الحلبي , والشيخ
سيد علي المرصفي .
نظرت في التهم الموجهة إلى الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع
الأزهر ، والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية التي تضمنها
كتابه ( الإسلام وأصول الحكم ) ، وأعلنت له في يوم الأربعاء 8 المحرم سنة
1344 ( 29 يولية سنة 1925 ) .
وقد قام بعمل السكرتارية لهذه الهيئة محمد قدري أفندي رئيس أقلام
السكرتارية العامة لمجلس الأزهر الأعلى والمعاهد الدينية ، وعلي أحمد عزت
أفندي الكاتب الأول للجامع الأزهر ، والمنتدب بالإدارة العامة للمعاهد الدينية .
***
الوقائع
نشر باسم الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي
الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية الكتاب المسمى ( الإسلام وأصول
الحكم ) ؛ فقدمت إلى مشيخة الجامع الأزهر عرائض وقع عليها جمع غفير من
العلماء في تواريخ 23 ذي القعدة وأول و8 ذي الحجة سنة 1343 ( 15 و23 و30
يونية سنة 1925 ) وقد تضمنت أن الكتاب المذكور يحوي أمورًا مخالفة للدين
ولنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الأمة . منها :
1- جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم
والتنفيذ في أمور الدنيا .
2- وأن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل
الملك لا في سبيل الدين ، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين .
3- وأن نظام الملك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضوع غموض
أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجبًا للحيرة .
4- وأن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بلاغًا للشريعة مجردًا عن
الحكم والتنفيذ .
5- وإنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام ، وعلى أنه لا بد للأمة
ممن يقوم بأمورها في الدين والدنيا .
6- وإنكار أن القضاء وظيفة شرعية .
7- وأن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم كانت لا
دينية .
وقرر حضرة صاحب الفضيلة الشيخ الأكبر محمد أبي الفضل شيخ الجامع
الأزهر ، بناءً على ذلك اجتماع هيئة كبار العلماء بصفة تأديبية في يوم الأربعاء 15
المحرم سنة 1344 ( 5 أغسطس سنة 1925 ) الساعة العاشرة صباحًا في دار
الإدارة العامة للمعاهد الدينية ، وأعلن ذلك للشيخ علي عبد الرازق في يوم الأربعاء 8
المحرم سنة 1344 ( 29 يولية سنة 1925 ) ، وكلف الحضور أمام
الهيئة المذكورة في التاريخ والمكان المذكورين .
وفي التاريخ المذكور اجتمعت الهيئة برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ
الأكبر الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر ، وحضور ثلاثة وعشرين عالمًا
من هيئة كبار العلماء ، وهم المذكورة أسماؤهم أولاً عدا فضيلة الأستاذ الشيخ
دسوقي العربي ، ولم يحضر الشيخ علي عبد الرازق ، وإنما أرسل خطابًا مؤرخًا
في 14 المحرم سنة 1344 يطلب فيه إعطاءه فرصة طويلة ، تكفي لإعداد ما يلزم
للمناقشة ، وقد عرض الكتاب على الهيئة في هذه الجلسة ؛ فقررت تأجيل النظر في
الموضوع إلى يوم الأربعاء 22 المحرم سنة 1344 ( 12 أغسطس سنة 1925 )
الساعة العاشرة صباحًا في دار الإدارة العامة للمعاهد الدينية ، وأعلن ذلك للشيخ
علي عبد الرازق في يوم الأربعاء 25 المحرم سنة 1344 ( 5 أغسطس سنة
1925 ) .
وفي التاريخ المذكور اجتمعت الهيئة برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ
الأكبر الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر ، وحضور أربعة وعشرين
عالمًا من هيئة كبار العلماء ، وهم المذكورة أسماؤهم أولاً ، وقد حضر الشيخ علي
عبد الرازق أمام هذه الهيئة ، وسئل عن كتابه ( الإسلام وأصول الحكم ) المشار
إليه ؟ فاعترف بصدوره منه ، ثم تليت عليه التهم الموجهة إليه ومآخذها من كتابه ،
وقبل إجابته عنها وجه دفعًا فرعيًّا ، وهو أنه لا يعتبر نفسه أمام هيئة تأديبية ،
وطلب ألا تعتبر الهيئة حضوره أمامها اعترافًا منه بأن لها حقًّا قانونيًّا .
فبعد المداولة القانونية في هذا الدفع قررت الهيئة رفضه ؛ اعتمادًا على أنها
إنما تنفذ حقًّا خوله إياها القانون ، وهي المادة الأولى بعد المائة من قانون الجامع
الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية رقم 10 لسنة 1911 .
ثم دعي الشيخ علي عبد الرازق أمام هذه الهيئة ، فأعلن له حضرة صاحب
الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس رفض دفعه طبقًا للمادة المذكورة ، فطلب الشيخ علي
عبد الرازق أن تسمع له الهيئة مذكرة أعدها للدفاع عن التهم الموجهة إليه ، فأذن له
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس أن يتلوها فتلاها ، وبعد الفراغ من
تلاوتها وتوقيعه على كل ورقة منها أخذت منه وحفظت في أضمامة الجلسة ، ثم
انصرف .
***
هيئة كبار العلماء
بعد الاطلاع على كتاب ( الإسلام وأصول الحكم ) المطبوع في مطبعة مصر
الطبعة الأولى سنة 1343 هـ الموافقة سنة 1925 م السابق الذكر والعلم بما
تضمنه من الأمور المخالفة للدين ولنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية ،
وإجماع الأمة ، وسماع ما جاء في مذكرة دفاع الشيخ علي عبد الرازق عن التهم
الموجهة إليه .
وبعد الاطلاع على المادة الأولى بعد المائة من قانون الجامع الأزهر والمعاهد
الدينية العلمية الإسلامية رقم 10 لسنة 1911 ، وعلى المادة الرابعة من هذا
القانون .
وبعد المداولة القانونية :
من حيث إن الشيخ عليًّا جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا
علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا ، فقد قال في ص 78 و79 : ( والدنيا من
أولها لآخرها وجميع ما فيها من أغراض وغايات أهون عند الله من أن يقيم على
تدبيرها غير ما ركب فينا من عقول ، وحبانا من عواطف وشهوات ، وعلمنا من
أسماء ومسميات ، هي أهون عند الله من أن يبعث لها رسولاً ، وأهون عند رسل
الله من أن يشغلوا بها ، وينصبوا لتدبيرها ) .
وقال في ص 85 : ( إن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب
وعقوبات فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى ، ولمصلحة البشر الدينية لا غير .
وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية أم تخفى علينا . وسيان أن يكون
منها للبشر مصلحة مدنية أم لا . فذلك ما لا ينظر الشرع السماوي إليه ، ولا ينظر
إليه الرسول ) .
الدين الإسلامي بإجماع المسلمين ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من
عقائد وعبادات ومعاملات لإصلاح أمور الدنيا والآخرة .
وإن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كلاهما مشتمل على
أحكام كثيرة في أمور الدنيا وأحكام كثيرة في أمور الآخرة .
والشيخ علي في ص 78 و79 يزعم أن أمور الدنيا قد تركها الله ورسوله -
صلى الله عليه وسلم - تتحكم فيها عواطف الناس وشهواتهم . وفي ص 85 زعم
أن ما جاء به الإسلام إنما هو المصلحة الأخروية لا غير ، وأما المصلحة المدنية أو
المصلحة الدنيوية ، فذلك مما لا ينظر الشرع السماوي إليه ، ولا ينظر إليه
الرسول .
وواضح من كلامه أن الشريعة الإسلامية عنده شريعة روحية محضة جاءت
لتنظيم العلاقة بين الإنسان وربه فقط . أما ما بين الإنسان من المعاملات الدنيوية
وتدبير الشؤون العامة ؛ فلا شأن للشريعة به وليس من مقاصدها .
وهل في استطاعة الشيخ علي أن يشطر الدين الإسلامي شطرين ، ويلغي منه
شطر الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا ، ويضرب بآيات الكتاب العزيز وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم عرض الحائط ؟ وقد قال الشيخ عليّ في دفاعه : إنه لم يقل
ذلك مطلقًا لا في الكتاب ولا في غير الكتاب ، ولا قال قولاً يشبهه أو يدانيه .
وقد علمت أن ذلك واضح من كلامه الذي نقلناه لك , وقد ذكر مثله في مذكرة دفاعه.
وقال في دفاعه أيضًا : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء بقواعد وآداب
وشرائع عامة ، وكان فيها ما يمس إلى حد كبير أكثر مظاهر الحياة والأمم ، فكان
فيها بعض أنظمة للعقوبات وللجيش والجهاد ، وللبيع والمداينة والرهن ، ولآداب
الجلوس والمشي والحديث ) . إلخ ص 84 .
غير أنه قال عقب ذلك ص 84 أيضًا : ولكنك إذا تأملت وجدت أن كل ما
شرعه الإسلام وأخذ به النبي المسلمين من أنظمة وقواعد وآداب لم يكن في
شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم ... إلى آخره .
فآخر كلامه في الصحفة المذكورة يهدم كلامه ، ولا ينفعه ركونه إلى حديث :
( لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما متع الكافر منها بشربة ماء ) .
وحديث : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) ، لأن الحديث الأول ضعيف لا يصلح حجةً ,
وهو على فرض صحته وارد في معرض التزهيد في الدنيا وعدم الإفراط في طلبها ،
وليس معناه كما يزعم الشيخ عليّ أن تترك الناس فوضى تتحكم فيهم العواطف
والشهوات ليس لهم حدود يقفون عندها ، ولا معالم ينتهون إليها .
ولو لم يكن معناه كما ذكرنا ؛ لهدم آيات الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا ، وصادم
آيات كثيرة كقوله تعالى : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا } ( القصص : 77 ) ، وقوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ
لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ } ( الأعراف : 32 ) ، وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا } ( المائدة : 87 ) .
ولأن الحديث الثاني وارد في تأبير النخل وتلقيحه ، ويجري فيما يشبه ذلك
من شؤون الزراعة وغيرها من الأمور التي لم تجئ الشريعة بتعليمها ، وإنما
تجيء لبيان أحكامها من حل وحرمة ، وصحة وفساد ونحو ذلك ، يعلم ذلك من له
صلة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وهل يجترئ الشيخ علي أن يسلخ الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا من الدين ،
ويترك الناس لأهوائهم ويقول : ( إن ذلك من الأغراض الدنيوية التي أنكر النبي صلى
الله عليه وسلم أن يكون له فيها حكم وتدبير ) ، ويدعي على النبي صلى الله
عليه وسلم هذه الدعوى .
وهل يرى الشيخ علي أن تدبير أمور الدنيا ، وسياسة الناس أهون عند الله من
مشية يقول الله في شأنها : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً } ( الإسراء : 37 ) ،
وأهون عند الله من شيء من المال يقول الله في شأنه : { وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ } ( النساء : 5 ) ويقول أيضًا : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ
البَسْطِ } ( الإسراء : 29 ) ، وأهون عند الله من صاع شعير أو رطل ملح ، يقول
الله في شأنهما : { أَوْفُوا الكَيْلَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ
المُسْتَقِيمِ } ( الشعراء : 181-182 ) .
وماذا يعمل الشيخ علي في مثل قوله تعالى : { إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } ( النساء : 105 ) ، وقوله تعالى : { وَأَنِ احْكُم
بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } ( المائدة : 49 )
، وقوله تعالى : { إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } ( النساء : 58 ) وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ
إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } ( النساء : 29 ) ، وقوله تعالى في شأن
الزوجين : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا
إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } ( النساء : 35 ) ، وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } ( النور : 27 ) .
وماذا يعمل الشيخ علي في مثل ما رواه البخاري و مسلم في صحيحيهما : أن
ابنة النضر أخت الربيع لطمت جارية فكسرت سنها ، فاختصموا إلى النبي صلى
الله عليه وسلم ، فأمر بالقصاص ، فقالت أم الربيع : يا رسول الله أتقتص من فلانة ؟
لا والله . فقال : ( سبحان الله يا أم الربيع كتاب الله القصاص ) . ومثل ما رواه
البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله - رضى الله عنهما - أنه قال : قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود
وصرفت الطرق فلا شفعة . وما رواه أيضًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه
قال : قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذا تشاجروا في الطريق بسبعة أذرع . وما
رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه - وما رواه أيضًا عن ابن عباس -
رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد .
(2)
ومن حيث إنه زعم أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين .
فقد قال في ص 52 : ( وظاهر أول وهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة
إلى الدين ، ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله ) .
ثم قال في ص 53 : ( وإذا كان - صلى الله عليه وسلم - قد لجأ إلى القوة
والرهبة ، فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين ، وإبلاغ رسالته إلى العالمين ،
وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك ) .
فالشيخ علي في كلامه هذا يقطع بأن جهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -
كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين .
وفي كلامه الذي سنذكره زعم أن الدين لا يمنع من أن جهاده - صلى الله
عليه وسلم - كان في سبيل الملك .
فقد قال في ص54 : ( قلنا : إن الجهاد كان آية من آيات الدولة الإسلامية ،
ومثالاً من أمثلة الشؤون الملكية ، وإليك مثلاً آخر : كان في زمن النبي - صلى الله
عليه وسلم - عمل كبير متعلق بالشؤون المالية من حيث الإيرادات والمصروفات ،
ومن حيث جمع المال من جهاته العديدة ( الزكاة والجزية والغنائم إلخ ) ، ومن
حيث توزيع ذلك كله بين مصارفه ، وكان له - صلى الله عليه وسلم - سعاة وجباة
يتولون ذلك له ، ولا شك أن تدبير المال عمل ملكي ؛ بل هو من أهم مقومات
الحكومات ) .
ثم قال في ص55 : إذا ترجح عند بعض الناظرين اعتبار تلك الأمثلة ، واطمأن
إلى الحكم بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان رسولاً وملكًا ، فسوف يعترضه حينئذ
بحث آخر جدير بالتفكير ، فهل كان تأسيسه - صلى الله عليه وسلم - المملكة
الإسلامية ، وتصرفه في ذلك الجانب شيئًا خارجًا عن حدود رسالته صلى الله عليه
وسلم ؟ أم كان جزءًا مما بعثه الله له ، وأوحى به إليه ؟ فأما أن المملكة النبوية عمل
منفصل عن دعوة الإسلام ، وخارج عن حدود الرسالة ، فذلك رأي لا نعرف في
مذاهب المسلمين ما يشاكله ، ولا نذكر في كلامهم ما يدل عليه ، وهو على ذلك
رأي صالح لأن يذهب إليه ، ولا نرى القول به يكون كفرًا ولا إلحادًا ، وربما كان
محمولاً على هذا المذهب ما يراه بعض الفرق الإسلامية من إنكار الخلافة في
الإسلام مرة واحدة . ولا يهولنك أن تسمع أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - عملاً
كهذا خارجًا عن وظيفة الرسالة ، وأن ملكه الذي شيده هو من قبيل ذلك العمل
الدنيوي الذي لا علاقة له بالرسالة ، فذلك قول إن أنكرته الأذن - لأن التشدق به
غير مألوف في لغة المسلمين - فقواعد الإسلام ، ومعنى الرسالة وروح التشريع
وتاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك لا يصادم رأيًا كهذا ولا يستفظعه ،
بل ربما وجد ما يصلح له دعامة وسندًا ، ولكنه على كل حال رأي نراه بعيدًا ) .
فعلم من كلامه هذا أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين ،
وهذا أقل ما يؤخذ عليه في مجموعة نصوصه .
على أنه لم يقف عند هذا الحد ، بل كما جوز أن يكون الجهاد في سبيل الملك ،
ومن الشؤون الملكية جوز أن تكون الزكاة والجزية والغنائم ونحو ذلك في سبيل
الملك أيضًا ، وجعل كل ذلك على هذا خارجًا عن حدود رسالة النبي صلى الله عليه
وسلم ، لم ينزل به وحي ، ولم يأمر به الله تعالى .
ومن حيث إن دفاع الشيخ علي بقوله : ( إننا قد استقصينا الكتاب أيضًا فلم
نجد ذلك القول فيه ، وربما كان استنتاجًا لم نهتد إلى مقدماته ) . غير صحيح ؛ لأن
ما اتهم به نجده صريحًا في صحيفة 52 و53 و54 . وفي ص55 حيث يقول :
( وهو على ذلك رأي صالح لأن يذهب إليه ، ولا نرى القول به يكون كفرًا ولا
إلحادًا ) ، وحيث يقول بعد ذلك : ( فقواعد الإسلام ، ومعنى الرسالة ، وروح التشريع
وتاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك لا يصادم رأيًا كهذا ولا يستفظعه ،
بل ربما وجد ما يصلح له دعامة وسندًا ) .
ومن حيث إن دفاع الشيخ علي بقوله : ( إنه رأي من الآراء لم نرض به ،
ومذهب رفضنا آخر الأمر أن نذهب إليه ) ، غير مطابق للواقع ؛ لأنه قال : ( وهو
على ذلك رأي صالح لأن يذهب إليه ) إلى آخره ، وقوله بعد ذلك : ( ولكنه على
كل حال رأي نراه بعيدًا ) لا ينفعه ، فإنه مع قوله : وهو على ذلك رأي صالح لأن
يذهب إليه ، إلى آخره - أسلوب تجويز لا أسلوب رفض ، يعرف ذلك من له إلمام
بالمنطق وأساليب الكلام .
وقال الشيخ علي في دفاعه بعد ذلك : ( بل نحن قررنا ضد ذلك على خط
مستقيم ص70 حيث قلنا ... ( وفي سبيل هذه الوحدة الإسلامية ناضل - عليه
السلام - بلسانه وسنانه ) ، وقلنا في ص79 : ( لا يريبنك هذا الذي ترى أحيانًا في
سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيبدو لك كأنه عمل حكومي ، ومظهر للملك
والدولة ، فإنك إذا تأملت لم تجده كذلك ، بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التي
كان عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يلجأ إليها تثبيتًا للدين وتأييدًا للدعوة ، وليس
عجيبًا أن يكون الجهاد وسيلة من تلكم الوسائل ) .
ودفاعه هذا لا يجدي ، فإنه زعم أن ما قاله هنا ضد لما اتهم به ، والواقع أنه
ليس ضدًّا ؛ لأنه ساقه محتملاً أن يكون نضاله وجهاده - عليه الصلاة والسلام -
مما خرج عن حدود رسالته صلى الله عليه وسلم ، وأن يكون جزءًا مما بعثه الله له
وأوحى به إليه على الرأيين اللذين قررهما الشيخ علي ، فالتهمة الموجهة إليه باقية .
والشيخ علي بذلك لا يمنع أن يصادم صريح آيات الكتاب العزيز فضلاً عن
صريح الأحاديث الصحيحة المعروفة ، ولا يمنع أن ينكر معلوم من الدين
بالضرورة .
قال الله تعالى : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ( النساء : 84 ) ، وقال تعالى :
{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ } ( النساء : 74 ) ،
وقال تعالى : { وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } ( البقرة : 193 ) ،
وقال تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } ( البقرة : 43 )، وقال تعالى :
{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا } ( التوبة : 103 ) ، وقال تعالى في
بيان مصارف الزكاة : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} ( التوبة : 60 ) ، وقال تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ
وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى
يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } ( التوبة : 29 ) ، وقال تعالى : { َاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ } ( الأنفال : 41 ) .
(3 )
ومن حيث إنه زعم أن نظام الحكم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -
كان موضع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجبًا للحيرة ، فقد قال في
ص40 : ( لاحظنا أن حال القضاء زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - غامضة
ومبهمة من كل جانب ) .
وقال في ص46 : ( كثيرًا كلما أمعنا في حال القضاء زمن النبي - صلى الله
عليه وسلم - ، وفي حال غير القضاء أيضًا من أعمال الحكم وأنواع الولاية - وجدنا
إبهامًا في البحث يتزايد ، وخفاءً في الأمر يشتد ، ثم لا تزال حيرة الفكر تنقلنا من
لبس إلى لبس ، وتردنا من بحث إلى بحث ، إلى أن ينتهي النظر بنا إلى غاية ذلك
المجال المشتبه الحائر ) .
وقال في ص57 : ( إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أسس
دولة سياسية أو شرع في تأسيسها ، فلماذا خلت دولته إذًا من كثير من أركان الدولة
ودعائم الحكم ، ؟ ولماذا لم يعرف نظامه في تعيين القضاة والولاة ؟ ولماذا لم
يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى ؟ ولماذا ترك العلماء في
حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه ؟ ولماذا ولماذا ؟ نريد أن
نعرف منشأ ذاك الذي يبدو للناظر كأنه إبهام أو اضطراب أو نقص أو ما شئت
فسمه ، في بناء الحكومة أيام النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وكيف كان ذلك وما
سره ؟ ) .
وهذا تصريح من الشيخ علي بما يثبت التهمة .
وإذا كان قد اعترف ببعض أنظمة للحكم في الشريعة الإسلامية ، فإنه نقض
الاعتراف ، وقرر أن هذه الأنظمة ملحقة بالعدم .
قال في ص84 : ( ربما أمكن أن يقال : إن تلك القواعد والآداب والشرائع
التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمم العربية ولغير الأمم العربية
أيضًا كانت كثيرة ، وكان فيها ما يمس إلى حد كبير أكثر مظاهر الحياة في الأمم ،
فكان فيها بعض أنظمة للعقوبات وللجيش وللجهاد وللبيع والمداينة والرهن ، ولآداب
الجلوس والمشي والحديث وكثير غير ذلك ) ، ثم قال : ( ولكنك إذا تأملت وجدت
أن كل ما شرعه الإسلام ، وأخذ به النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين من
أنظمة وقواعد وآداب ، لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي ،
ولا من أنظمة الدولة المدنية ، وهو بعد إذا جمعته لم يبلغ أن يكون جزءًا يسيرًا مما
يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين ) .
ومن حيث إنه قال في دفاعه : إنه ساق ذلك مساق الاعتراض على من يقول :
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان صاحب حكومة . وإنه أخذ في رد
الاعتراض عقب توجيهه . ولكنه رد الاعتراض بجوابين لم يرتض واحدًا منهما
ص59 و63 ؛ فالتهمة باقية .
وقد رضي لنفسه بعد ذلك مذهبًا هو قوله : ( إنما كانت ولاية محمد - صلى
الله عليه وسلم - على المؤمنين ولاية الرسالة غير مشوبة بشيء من الحكم ) - ص
80 - وهذه هي الطريقة الخطيرة التي خرج إليها ، وهي أنه جرد النبي - صلى
الله عليه وسلم - من الحكم ، وقال : ( رسالة لا حكم ، ودين لا دولة ) .
وما زعمه الشيخ علي مصادم لصريح القرآن الكريم ، فقد قال الله تعالى :
{ إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } ( النساء : 105 ) ،
وقال تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } ( النحل : 89 ) ، وقال
تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ( النحل : 44 ) ، وقال
تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ( النساء : 59 ) ، ومعلوم أن الرد إلى
الله بالرجوع إلى كتابه العزيز ، والرد إلى الرسول بالرجوع إلى سنته صلى الله
عليه وسلم ، وقال تعالى : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً } ( المائدة : 3 ) ، والدين عند المسلمين ما جاء به محمد - صلى
الله عليه وسلم - من عند الله في معاملة الخالق والمخلوق .
( 4 )
ومن حيث إنه زعم أن مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت بلاغًا
للشريعة مجردًا عن الحكم والتنفيذ ، فقد قال الشيخ علي في ص71 : ( ظواهر
القرآن المجيد تؤيد القول : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له شأن في
الملك السياسي ، وآياته متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ
المجرد من كل معاني السلطان ) .
ثم عاد فأكد ذلك فقال في ص73 : ( القرآن كما رأيت صريح في أن
محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله تعالى
إلى الناس ، وأنه لم يكلف شيئًا غير ذلك البلاغ ، وليس عليه أن يأخذ الناس
بما جاء به ، ولا أن يحملهم عليه ) .
ولو كان الأمر كما زعم هو لكان ذلك رفضًا لجميع آيات الأحكام الكثيرة في
القرآن الكريم . ودون ذلك خرط القتاد .
وقد قال الشيخ علي في دفاعه : ( إنه قرر في مكان آخر من الكتاب بصراحة
لا مواربة فيها أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - سلطانًا عامًا ، وأنه ناضل في
سبيل الدعوة بلسانه وسنانه ) .
وهذا دفاع لا يجدي ؛ إذ لو كان معنى ذلك الذي قرره في ص66 و70 كما
أشار إليه أن عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السماوي يتجاوز حد البلاغ
المجرد عن كل معاني السلطان ، لما كان سائغًا أن يقول بعد ذلك في صفحة 71 :
إن آيات الكتاب متضافرة ، على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد
من كل معاني السلطان . وأن يقول بعد ذلك في صفحة 73 : إن القرآن صريح في
أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله تعالى إلى
الناس ، ولم يكلف شيئًا غير ذلك البلاغ ، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به ،
ولا أن يحملهم عليه .
والواقع أن السلطان الذي أثبته إنما هو السلطان الروحي كما صرح به في
مذكرة دفاعه ، حيث قال فيها : ( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستولي
على كل ذلك السلطان ، لا من طريق القوة المادية وإخضاع الجسم كما هو شأن
الملوك والحكام ، ولكن من طريق الإيمان به إيمانًا قلبيًّا والخضوع له خضوعًا
روحيًّا ) فكان دفاعه إثباتًا للتهمة لا نفيًا لها .
على أنه قد نسب في ص65 و66 السلطان إلى عوامل أخرى من نحو : الكمال
الخلقي ، والتميز الاجتماعي ، لا إلى وحي الله وآيات كتابه الكريم ، كما أنه جعل
الجهاد في موضع آخر من كتابه وسيلة كان على النبي - صلى الله عليه وسلم -
أن يلجأ إليها لتأييد الدعوة ، ولم ينسبه إلى وحي الله وأمره .
وكلام الشيخ علي مخالف لصريح كتاب الله تعالى الذي يرد عليه زعمه ،
ويثبت أن مهمته - صلى الله عليه وسلم - تجاوزت البلاغ إلى غيره من الحكم
والتنفيذ ، فقد قال الله تعالى : { إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا
أَرَاكَ اللَّهُ } ( النساء : 105 ) ، وقال تعالى : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } ( المائدة : 49 ) ،
وقال تعالى : { وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } ( الشورى : 15 ) ، وقال تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا } ( التوبة : 103 ) ، وقال تعالى : { وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ } ( الأنفال : 39 ) ، وقال تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ
الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } ( التوبة : 29 ) ، وقال تعالى :
{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ( النساء : 84 ) ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ
المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ } ( الأنفال : 65 ) ، وقال تعالى : { وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ
فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } ( الأنفال : 61 ) ، وقال تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ
المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } ( الحجرات : 9 ) .
وكلام الشيخ علي مخالف أيضًا لصريح السنة الصحيحة ، فقد روى البخاري
في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن
لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا
ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ) ، وروى عن أبي سلمة عن
أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد
شرب فقال : اضربوه . وروى عن عروة - رضي الله عنه - أن قريشًا أهمتهم
المرأة المخزومية التي سرقت ، وقالوا : من يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( أتشفع في حد من حدود الله ؟ ) ثم قام
فخطب ، فقال : ( يا أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف
تركوه ، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد
سرقت لقطع محمد يدها ) .
فهل يجوز أن يقال بعد ذلك في محمد - صلى الله عليه وسلم - : إن عمله
السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان ، وإنه لم يكلف أن
يأخذ الناس بما جاءهم به ، ولا أن يحملهم عليه ؟
وهل يجوز أن يقال بعد ذلك في القرآن الكريم : إنه صريح في أنه صلى الله
عليه وسلم لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله إلى الناس ، وليس عليه أن
يأخذ الناس بما جاءهم به ، ولا أن يحملهم عليه .
(5)
ومن حيث إنه أنكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام ، وعلى أنه لا
بد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا ، فقد قال في ص22 : ( أما دعوى
الإجماع في هذه المسألة - وجوب نصب الإمام - فلا نجد مساغًا لقبولها على أي
حال ، ومحال إذا طالبناهم بالدليل أن يظفروا بدليل ، على أننا مثبتون لك فيما يلي أن
دعوى الإجماع هنا غير صحيحة ولا مسموعة ، سواء أرادوا بها إجماع الصحابة
وحدهم ، أم الصحابة والتابعين ، أم علماء المسلمين ، أم المسلمين كلهم بعد
أن نمهد لهذا تمهيدًا ) .
ادعى الشيخ علي في ذلك التمهيد أن حظ العلوم السياسية في العصر الإسلامي
كان سيئًا ، على الرغم من توافر الدواعي التي تحمل على البحث فيها ، وأهمها أن
مقام الخلافة منذ زمن الخليفة الأول كان غرضه للخارجين عليه ، غير أن حركة
المعارضة كانت تضعف وتقوى . ثم ساق بعض أمثلة يؤديد بها ما يدعيه من أن
الخلافة كانت قائمة على السيف والقوة لا على البيعة والرضا .
ولو سلم للشيخ علي ذلك جدلاً لما تم له ما يزعمه من إنكار إجماع الصحابة
على وجوب نصب إمام للمسلمين ، فإن إجماعهم على ذلك شيء ، وإجماعهم على
بيعة إمام معين شيء آخر . واختلافهم في بيعة إمام معين لا يقدح في اتفاقهم على
وجوب نصب الإمام ، أي إمام كان ، وقد ثبت إجماع المسلمين على امتناع خلو
الوقت من إمام ، ونقل إلينا ذلك بطريق التواتر فلا سبيل إلى الإنكار .
وقد اعترف الشيخ علي عبد الرازق في دفاعه بأنه ينكر الإجماع على وجوب
نصب الإمام بالمعنى الذي ذكره الفقهاء ، وقال عن نفسه : إنه يقف في ذلك في
صف جماعة غير قليلة من أهل القبلة . ( يعني بعض الخوارج ولا صم ) ،
وهو دفاع لا يبرئه من أنه خرج على الإجماع المتواتر عند المسلمين ، وحسبه في
بدعته أنه في صف الخوارج لا في صف جماهير المسلمين . وهل وقوفه في
صف الخوارج الذين خالفوا الإجماع بعد انعقاده يسوغ له أن يخرج على إجماع
المسلمين ؟ قال في المواقف وشرحه : ( تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول
بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على امتناع خلو الوقت عن خليفة وإمام ،
حتى قال أبو بكر - رضي الله عنه - في خطبته المشهورة حين وفاته عليه
السلام : ألا إن محمدًا قد مات ، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به ، فبادر الكل إلى
قبوله ، ولم يقل أحد : لا حاجة إلى ذلك ، بل اتفقوا عليه وقالوا : ننظر في هذا
الأمر . وبكروا إلى سقيفة بني ساعدة ، وتركوا له أهم الأشياء ، وهو دفن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - . واختلافهم في التعيين لا يقدح في ذلك الاتفاق ، ولم يزل
الناس على ذلك في كل عصر إلى زمننا هذا من نصب إمام متبع في كل عصر ) .
وقد روى مسلم في صحيحه حديث حذيفة ، وقد جاء فيه أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال : ( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ) ، قلت : فإن لم يكن لهم إمام ،
قال : ( فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك
الموت ) وروى مسلم أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من خلع يدًا
من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات
ميتة جاهلية ) ، وروى مسلم أيضًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي
وستكون خلفاء فتكثر ، قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : فوا بيعة الأول فالأول ، وأعطوهم
حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ) ، وروى مسلم أيضًا عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال : ( إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به ، فإن أمر بتقوى
الله - عز وجل - وعدل كان له بذلك أجر ، وإن أمر بغيره كان عليه منه ) .
(6)
ومن حيث إنه أنكر أن القضاء وظيفة شرعية ، فقد قال في ص103 :
( والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية كلا ، ولا القضاء ولا غيرهما من
وظائف الحكم ومراكز الدولة ، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين
بها ، فهو لم يعرفها ولم ينكرها ، ولا أمر بها ولا نهى عنها ، وإنما تركها لنا لنرجع
فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة ) .
وكلام الشيخ علي في دفاعه يقضي بأن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة
شرعية جعلوه متفرعًا عن الخلافة ، فمن أنكر الخلافة أنكر القضاء .
وكلامه غير صحيح ؛ فالقضاء ثابت في الدين على كل تقدير تمسكًا بالأدلة
الشرعية التي لا يستطاع نقضها ، وقد ذكرنا فيما تقدم كثيرًا من الآيات والأحاديث
في الحكم والقضاء ، وسنذكر شيئًا من ذلك فيما يأتي : -
وقال الشيخ علي في دفاعه : ( إن الذي أنكر أنه خطة شرعية إنما هو جعل
القضاء وظيفة معينة من وظائف الحكم ومراكز الدولة ، واتخاذه مقامًا ذا أنظمة
معينة وأساليب خاصة ) .
وهو دفاع غير صحيح ، فإن عبارته في صفحة 103 فيها إنكار أن القضاء
نفسه خطة دينية ، وقد زعم أنه خطة سياسية صرفة لا شأن للدين فيها .
وقد نقل عن ميزان الشعراني في دفاعه ( أن الإمام أحمد في أظهر رواياته
يرى أنه -أي : القضاء- ليس من فروض الكفايات ، ولا يجب على من تعين له
الدخول فيه وإن لم يوجد غيره ) .
وهذا دفاع عن القضاء نفسه . وبذلك يتبين أيضًا أنه قد أنكر أن القضاء نفسه
وظيفة شرعية ، لا جعل القضاء وظيفة معينة من وظائف الحكم ومراكز الدولة ،
واتخاذه مقامًا ذا أنظمة معينة وأساليب خاصة . فلزمته التهمة .
واستناده على ما نقله الشعراني في ميزانه عن الإمام أحمد استناد لا ينفعه ،
فإن الذي حرر من ميزان الشعراني إنما هو إلى باب ما يحرم من النكاح ، وقد ذكر
ذلك الشعراني نفسه في ص8 من الجزء الأول من الميزان ، وكتاب الأقضية واقع
بعد ذلك بسبعة عشر كتابًا ، فكتاب الأقضية في ميزان الشعراني لم يحرر حتى
يكون ما فيه مستندًا صحيحًا . وقال صاحب الإشاعة في أشراط الساعة : إن
الشعراني لم يحرر ميزانه في حياته ، وإنه قال : لا أحل لأحد أن يروي هذا الكتاب
عني حتى نعرضه على علماء المسلمين ويجيزوا ما فيه . انتهى كلامه ، والمعروف
في كتب الحنابلة أن القضاء من فروض الكفايات . راجع ص258 من الجزء الرابع
من المنتهى ، و ص968 من الإقناع ، و ص580 من المقنع ، وقد ذكر محشيه عند
قوله : ( وهو فرض كفاية ) : إن ذلك هو المذهب . وذكر قولاً عن الإمام أحمد بأن
القضاء سنة . فإذا لم يكن القضاء فرض كفاية عند الإمام أحمد فهو سنة عنده
والمسنون من الخطط الشرعية ، فما زعمه الشيخ علي من إنكار أن القضاء وظيفة
شرعية وخطة دينية باطل ومصادم لآيات الكتاب العزيز ، قال الله تعالى : { فَلاَ
وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } ( النساء : 65 ) ، وقال تعالى : { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ
اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ } ( المائدة : 48 )
، وقال تعالى :
{ إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } ( النساء : 105 ) ،
وقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } ( النساء : 58 ) .
(7)
ومن حيث إنه يزعم أن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده - رضي
الله عنهم - كانت لا دينية [1] فقد قال في صفحة 90 : ( طبيعي ومعقول لي درجة
البداهة ألا توجد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - زعامة دينية ، وأما الذي يمكن
أن يتصور وجوده فإنما هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلاً بالرسالة ولا قائمًا
على الدين ، هو إذًا نوع لا ديني ) .
وهذه جرأة لا دينية ، فإن الطبيعي والمعقول عند المسلمين إلى درجة البداهة
أن زعامة أبي بكر - رضي الله عنه - كانت دينية ، يعرف ذلك المسلمون سلفهم
وخلفهم جيلاً بعد جيل ، ولقد كانت زعامته على أساس ( أنه لا بد لهذا الدين ممن
يقوم به ) ، وقد انعقد على ذلك إجماع الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - كما
سبق .
ودفاع الشيخ علي بأن الذي يقصده من أن زعامة أبي بكر لا دينية أنها لا
تستند إلى وحي ولا إلى رسالة مضحك موقع في الأسف ، فإن أحدًا لا يتوهم أن أبا
بكر - رضي الله عنه - كان نبيًّا يوحى إليه ، حتى يعنى الشيخ علي بدفع هذا
التوهم .
لقد بايع أبا بكر - رضي الله عنه - جماهير الصحابة من أنصار ومهاجرين
على أنه القائم بأمر الدين في هذه الأمة بعد نبيها محمد - صلى الله عليه وسلم -
فقام بالأمر خير قيام ، ومثله في هذا بقية الخلفاء الراشدين .
وإن ما وصم به الشيخ علي أبا بكر - رضي الله عنه - من أن حكومته لا
دينية لم يقدم على مثله أحد من المسلمين , فالله حسبه .
ولكن الذي يطعن في مقام النبوة يسهل عليه كثيرًا أن يطعن في مقام أبي بكر
وإخوانه الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين .
ومن حيث إنه - علاوة على ما ذكر - يقف الشيخ علي في ص 34 و35 من
المسلمين موقف الطاعن على دليلهم الديني ، والخارج على إجماعهم المتواتر الذي

انعقد على شكل حكومتهم الدينية ، أو موقف المجيز للمسلمين إقامة حكومة بلشفية ،
وكيف ذلك والدين الإسلامي في جملته وتفصيله يحارب البلشفية ؛ لأن البلشفية فتنة
في الأرض وفساد كبير . لقد وضع الدين الإسلامي للمواريث أحكامًا يلجأ إليها
أحيانًا غير المسلمين لما فيها من الرحمة والعدل ، وأوجب على المسلمين مقادير من
الصدقات ، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، وأمر بإقامة الحكومة الدينية التي
تحفظ لكل ذي حق حقه ، ولكل عامل ثمرة عمله ، وجعل الدماء والأعراض
والأموال حرمة لا يجوز انتهاكها ، وضرب على أيدي المفسدين في الأرض ،
وحسبنا في ذلك أن نقول : إن البلشفية تهدم نظام المجتمع الإنساني ، وتضيع حكمة
الله في جعل الناس درجات ينتفع بعضهم من بعض ، قال الله تعالى : { نَحْنُ قَسَمْنَا
بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم
بَعْضاً سُخْرِياً } ( الزخرف : 32 ) .
ومن حيث إن الشيخ عليًّا يقول في ص 103 : ( لا شيء في الدين يمنع
المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها ، وأن يهدموا
ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه ، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام
حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية ، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على
أنه خير أصول الحكم ) ، ومعلوم أن أصول الحكم ومصادر التشريع عند المسلمين
إنما هي كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين ،
وليس هناك للمسلمين خير منها . والشيخ علي يطلب أن يهدموا ما بنوه على هذه
الأصول من نظام حكومتهم ( العتيق ) ، ويطلب إليهم أن يبنوا حكومتهم وشؤونهم
الدينية والدنيوية على أصول خير من أصولهم ، يجدونها عند الأمم غير الإسلامية ،
فكيف يبيح دين الإسلام للمسلمين أن يهدموه ؟!
ومن حيث إنه يزعم في ص 83 و84 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم
يغير شيئًا من أساليب الحكم عند أي أمة أو قبيلة في البلاد العربية ، وإنما تركهم
وما لهم من فوضى أو نظام ، وهذا طعن صريح على محمد - صلى الله عليه وسلم
- بأنه لم يرسل لسعادة الناس في دينهم ودنياهم ، وطعن صريح على كتاب الله
تعالى بأنه غير وافٍ بما يلزم في الشؤون الاجتماعية ، وقد قال الله تعالى : { وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } ( الأنبياء : 107 ) ، وقال تعالى : { وَرَحْمَتِي
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ *
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ
يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ } ( الأعراف : 156-157 ) ،
وقال تعالى : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ
دِيناً } ( المائدة : 3 ) .
ومن حيث إنه تبين مما تقدم أن التهم الموجهة ضد الشيخ علي عبد الرازق
ثابتة عليه ، وهي مما لا يناسب وصف العالمية وفاقًا للمادة ( 101 ) من القانون
رقم 10 لسنة 1911 ونصها :
( إذا وقع من أحد العلماء أيًّا كانت وظيفته أو مهنته ما لا يناسب وصف
العالمية ، يحكم عليه من شيخ الجامع الأزهر بإجماع تسعة عشر عالمًا معه من هيئة
كبار العلماء ، المنصوص عليها في الباب السابع من هذا القانون بإخراجه من زمرة
العلماء ، ولا يقبل الطعن في هذا الحكم .
ويترتب على الحكم المذكور محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع
الأزهر والمعاهد الأخرى ، وطرده من كل وظيفة ، وقطع مرتباته في أي جهة
كانت ، وعدم أهليته للقيام بأية وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية ) .
فبناءً على هذه الأسباب :
حكمنا نحن شيخ الجامع الأزهر بإجماع أربعة وعشرين عالمًا معنا من هيئة
كبار العلماء بإخراج الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي
الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ، ومؤلف كتاب ( الإسلام وأصول
الحكم ) من زمرة العلماء .
صدر هذا الحكم بدار الإدارة العامة للمعاهد الدينية في يوم الأربعاء 22
المحرم سنة 1344 ( 12 أغسطس سنة 1925 ) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر
***
تنفيذ الحكم
( وهو النصر المبين ، لأهل الدين على اللادينيين )
كان الشيخ علي عبد الرازق مغرورًا بأنصاره من الإفرنج والمتفرنجين ،
وملاحدة اللادينيين ، ظانًّا أنهم يرهبون - بما يكتبون في جريدة السياسة - كبار
علماء الدين ، فلا يتجرؤون على الحكم عليه ، ثم إنه كان متكلاً على الوزيرين
النافذي الرأي : إسماعيل صدقي باشا وزير الداخلية ، وعبد العزيز فهمي باشا
وزير الحقانية ورئيس الحزب الحر الدستوري ، واثقًا هو وأنصاره اللادينيون بأن
يبقى في وظيفته القضاء الشرعي ، بالرغم من أنوف كبار العلماء إن هم حكموا
بإخراجه من جماعتهم - وبلغنا أن وزير الحقانية وعده ببقائه في منصب القضاء
الشرعي الذي أنكر هو كونه منصبًا شرعيًّا بالتبع لإنكار كون منصب الخلافة دينيًّا ؛
أي : مقيدًا بأحكام الدين . كما علم واشتهر أن إسماعيل صدقي باشا لم يحفل بقرار
هيئة العلماء الذي بلغته إياه قبل المحاكمة ، ولم يجب إلى ما طلبه بعضهم منه من
مصادرة الكتاب - وإننا لم نكن نعلم من هذا شيئًا حين كتبنا في إحدى مقالاتنا في الرد
على كتاب ( الإسلام وأصول الحكم ) : إننا نعلم أن من أنصاره بعض الباشوات
والدكاترة ، وغيرهم من الأكابر ، وأنهم أقوياء ، ولكن قوتهم تتضاءل أمام قوة ملك
البلاد . وقد عاقبتنا جريدة السياسة على القول بنشر تهمة غريبة تتهمنا فيها بأعمال
دينية سياسية تغضب علينا - لو صحت - جلالة الملك وحكومته ، وتجعلنا
عرضة للعقاب ، ولكن الحكومة كذبت التهمة ، وقد أشير علينا يومئذ أن نقاضي جريدة
السياسة على تلك التهمة ، فقلنا : إنه لا يليق بنا - معشر أرباب الصحف - أن
نتقاضى إلى الحكام ، وقد صرف الله عنا شر التهمة الباطلة بسلام .
هذا الغرور والاتكال على الوزراء والأحزاب هو الذي جرأ الشيخ علي عبد
الرازق على تهديد هيئة كبار العلماء في مقال نشرته له السياسة في صدر عددها
الذي صدر في 20 ذي الحجة سنة 1343 ، نهاهم فيه أن تأخذهم العزة بالإثم ،
وتقحم بهم في أودية ليس عليها دليل ، وتهجم بهم على موارد لا يجدون عنها
مصدرًا ، وتنتهي بهم إلى عواقب لا يحمدون عندها السرى ، ثم قال : يا أيها
السادة لا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا ، ولا تركبوا للانتقام مركبًا أخاف أن
يرديكم قبل أن يصل بكم إلى الانتقام .
إن شر ما ترجونه لنا لهو خير ما نرجو لأنفسنا ، ولئن كنا غالبين أو
مغلوبين ، فإن لنا في الحالتين ، لإحدى الحسنيين ، أما أنتم أيها السادة فخافوا على
أنفسكم شرين مالكم من أحدهما بد ، شر الانتصار إن غَلَبْتُمْ ، وشر الهزيمة إن غُلِبْتُمْ
أنا النذير لكم مني مجاهرة ... كيلا ألام على نهجي وإنذاري
فإن عصيتم مقالي اليوم فاعترفوا ... أن سوف تلفون خزيًا ظاهر العار
ثم كررت جريدة السياسة بلسانها وألسنة كتابها أمثال هذه النذر بما هو أشد
تهديدًا ووعيدًا وتقريعًا وتثريبًا ، ولكن الحكم صدر ثم نفذ ، ولقد امتنع عبد العزيز
باشا عن تنفيذه ، فكان جزاؤه العزل من الوزارة ، ثم كان جزاء حزبه الحر
الدستوري الخروج من الوزارة أيضًا ، فقد استقال سائر وزراء الحزب حتى
إسماعيل باشا صدقي ، فقبلت استقالتهم أجمعين ، وكانوا يظنون أنها لا تقبل ، وأن
الحكومة الشاذة المعطلة للدستور لا تقوم إلا بهم .
تنفيذ هذا الحكم من الجهة العامة منوط في القانون برئيس الوزراء ، ومقتضى
التنفيذ طرد الشيخ علي عبد الرازق من منصب القضاء الشرعي التابع لوزارة
الحقانية ، ورئيس الوزراة الآن في أوربة ، ونائبه يحيى باشا إبراهيم وزير المالية ،
وهو الذي بلغ وزير الحقانية الحكم مع توقيعه عليه بالتنفيذ ، وكان الواجب على
وزير الحقانية إخراج الشيخ علي عبد الرازق بمقتضاه من القضاء من غير تريث ،
ولكنه لم يفعل ، بل أحاله على لجنة قسم القضايا في الوزارة مبينًا لها ما عنده من
الإشكال في تنفيذه لترى رأيها فيه . وهذا نص عبارته في ذلك نقلاً عن جريدتهم
( السياسة )
قال وزير الحقانية بعد الديباجة :
( وحيث إننا نتشكك كثيرًا ( أولاً ) : فيما إذا كان نص الفقرة الأولى من
المادة 101 من قانون الأزهر نمرة 10 سنة 1911 يقصر الموضوع الذي تختص
هيئة كبار العلماء بالنظر فيه على الأفعال الشائنة التي تمس كرامة العالم : كالفسق
وشرب الخمر ، والميسر ، والرقص ، وما أشبه ذلك مما يتعلق بالسلوك الشخصي ،
أم هو يتعدى ذلك إلى الخطأ في الرأي في الأبحاث العلمية والدينية ، من مثل ما
نسب للشيخ علي عبد الرازق ، ووقعت المحاكمة فيه .
( ثانيًا ) : على فرض أن اختصاص تلك الهيئة شامل - بمقتضى النص -
لجريمة الفعل الشائن ، الماس بكرامة العالم ، ولجريمة الرأي معًا ، فهل هذا النص
مستمر النفاذ للآن فيما يتعلق بجريمة الرأي ولا تأثير لأحكام المواد 12 و14
و 167 من الدستور فيها ؟
( ثالثًا ) : إن كان نص الفقرة المذكورة عامًّا يشمل الجريمتين ، وكان لا
تأثير لشيء من أحكام الدستور فيه ، وكان الحكم الصادر من هيئة كبار العلماء
بإخراج الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء صحيحًا ، فهل الفقرة الأخيرة من
المادة 101 المذكورة - وهي المنصوص فيها على العقوبات التبعية - هي أيضًا
واجبة التنفيذ لم ينسخها شيء من أحكام مواد الدستور المذكورة أو غيرها من
أحكامه ) .
( لذلك نرسل لجنابكم أوراق هذا الموضوع رجاء عرضها على لجنة قضايا
الحكومة مجتمعة لدراسته وموافاتنا برأيها فيه ، والرجاء عند البحث ملاحظة سلطة
شيخ الجامع الأزهر المبينة بالمادة الرابعة من القانون المذكور ، فإنها بالنسبة للعلماء
خاصة بالإشراف على سيرتهم الشخصية ، وكأنه يظهر لنا أن الفقرة الأولى من
المادة 101 المذكورة هي الوازع في هذا الصدد ، فقد يجوز أن يفسرها ذلك على ما
يظهر ) .
... ... ... ... ... ... بولكلي في 5 سبتمبر سنة 1925
( المنار )
قد كان هذا الاستفتاء من عبد العزيز باشا فهمي مستنكرًا من جماهير الناس
وجميع الأحزاب - ما عدا حزبه طبعًا - واشتدت مؤاخذتهم إياه عليه حتى بما لا
يرضاه الأدب كسنة جريدة حزبه ، ومن أقوى وجوه تلك المؤاخذة المنطقية التي
تعنينا أن الاستفتاء من وزير مسلم في حكم صدر من كبار علماء الإسلام في
موضوع متعلق بدين الإسلام ، وأن اللجنة المستفتاة أكثر أعضائها غير مسلمين
وغير وطنيين - إن من وجوه الاستفتاء تفسير ما يسمى كرامة العالم الديني ، هل
يشمل مثل الآراء التي نشرها المحكوم عليه في كتابه أم لا ؟ وهل الحكم الصادر
من كبار هيئة العلماء صحيح أم لا ؟
الحق أقول : إن استفتاء عبد العزيز فهمي باشا لهذه اللجنة غريب ، فإذا كان
هو على علمه الإجمالي بالشريعة ، ونشأته الإسلامية ( يشك كثيرًا ) في كون ما
فهمته هيئة كبار العلماء وغيرهم من علماء الشرع وسائر الطبقات المسلمة ، من
كون تلك الآراء مشتملة على الطعن في القرآن وفي النبي عليه الصلاة والسلام ،
وإهانة للمسلمين وللإسلام ؛ أي : ردة : وخروجًا من الملة - إذا كان هو على علمه
وذكائه وإسلامه يشك كثيرًا في كون هذه الآراء تمس كرامة العالم المسلم : كالشرب أو
اللعب أو الرقص ، فماذا ينتظر من موسيو فلان ومستر فلان ، ولا سيما بعد إبداء
رأي الوزير المسلم ما بين شك وجزم ؟ أيعقل أن يصدر عن مسلم عامي الشك في
كون إهانة الإسلام والمسلمين من عهد الخلفاء الراشدين إلى الآن ، والقول بجعل
حكومتهم لا دينية - أهون من الرقص الذي قد يكون مباحًا ، وقد يكون
مكروهًا للتنزيه ؟ وإنما يعد مخلاًّ بكرامة العالم الديني مروءة وعرفًا فقط .
يغلب على ظني أن عبد العزيز باشا فهمي لم يقرأ هذا الكتاب الرجس الذي
هو شر من كتب ابن الراوندي الزنديق المشهور ، وأن جريدة السياسة قد خدعته
بزعمها أن ليس في الكتاب إلا آراء في شكل حكومات الخلفاء ، ونظام القضاء ،
وكونها ليست من أمور الدين التي تعبد الله بها المسلمين ، ولم أروجها لحسن الظن
به أقوى من هذا .
***
عزل وزير الحقانية
لما علم رئيس مجلس الوزراء بالنيابة ( يحيى باشا إبراهيم ) بأن عبد العزيز
باشا فهمي امتنع من تنفيذ الحكم ، وجعله موضعًا للاستفتاء والبحث ، عرض الأمر
على جلالة الملك ، فوافق على عزله من وزارة الحقانية ، ونوط أمرها مؤقتًا بوزير
المعارف ، وأصدر مرسومًا بذلك ؛ فقامت قيامة ( الحزب الحر الدستوري ) لذلك ،
وقرر عدم مساعدة الوزارة ، واستقال سائر وزراء الحزب ، وكانوا يظنون أن
استقالتهم لا تقبل لمكانتهم عند الإنكليز ، ولأن الوزارة مؤلفة من حزبهم ومن حزب
الاتحاد الجديد - وهما متفقان على مقاومة سعد باشا زغلول وحزبه أو ( الوفد
المصري ) ، وأن حزب الاتحاد وحده لا يقوى على المقاومة ، ولا يستطيع
النهوض بأعباء الوزارة - ولكن جلالة الملك لم يتلبث في قبول استقالتهم
واستقالة إسماعيل صدقي باشا وزير الداخلية ، وأقوى خصوم سعد زغلول باشا
وهو منهم فعلاً لا رسمًا ، وتألفت الوزارة من الاتحاديين وحدهم ، واشتد طعن كل
من الحزبين وجرائدها في الآخر . ومن أنصار جريدة ( الاتحاد ) ، وحزبها علماء
الدين الذين يصفون محرري السياسة وأركان حزبها باللادينيين وبالملاحدة ، وما
كنت لأذكر - هذا على اجتنابي الخوض في مسائل الأحزاب المصرية إلا للإشارة إلى
خيبة أمل الشيخ علي عبد الرازق ، ومكانة انتصار أهل الدين على خصومهم في
أول معركة علنية ، كان الفصل فيها بصفة رسمية ، لهذا اشتغلت الجرائد منذ تقرر
تنفيذ الحكم برفع برقيات التهاني والثناء من هيئة كبار العلماء بالأزهر ، ومن علماء
سائر المعاهد الدينية ، ومن الطبقات الإسلامية المختلفة إلى جلالة الملك أولاً بالذات ،
وإلى رئيس الوزراء بالنيابة ، على تأييد الدين ، وخذل ( الإلحاد والملحدين ) ،
ولا تزال تنشر المقالات الكثيرة في ذلك .
***
حكم المجلس المخصوص بوزارة الحقانية
بتنفيذ الحكم بالفعل وعزل الشيخ علي عبد الرازق من القضاء
( بجلسة تأديب قضاة المحاكم الشرعية بوزارة الحقانية ببولكلي ، في يوم
الخميس 17 سبتمبر سنة 1925- 29 صفر سنة 1344 الساعة العاشرة وثلث
صباحًا تحت رئاسة حضرة صاحب المعالي علي ماهر باشا وزير الحقانية بالنيابة ،
وبحضور كل من حضرات : حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية الشيخ
عبد الرحمن قراعة ، وحضرة صاحب الفضيلة الشيخ أحمد العطار نائب المحكمة
العليا الشرعية ، وحضرتي الشيخ محمد مخلوف رئيس التفتيش الشرعي ، والشيخ
عبد الجليل عشوب مفتش المحاكم الشرعية أعضاء ، وحضرة أحمد محمد حسن
أفندي مدير إدارة مكتب وزير الحقانية .
صدر الحكم الآتي في قضية تأديب الشيخ علي عبد الرازق .
***
المجلس
( بعد الإطلاع على قرار هيئة كبار العلماء الصادر بتاريخ 22 محرم سنة
1344 الموافق 12 أغسطس سنة 1925 ) .
( وعلى الخطاب المرسل من الشيخ علي عبد الرازق لمعالي وزير الحقانية
بتاريخ 5 سبتمبر سنة 1925 الذي يبين فيه أوجه دفاعه ) .
( ومن حيث إن المتهم قد أعلن قانونًا بتاريخ 10 سبتمبر سنة 1925
للحضور أمام هذا المجلس ولم يحضر ) .
( وبما أن فضيلة شيخ الجامع الأزهر ومعه أربعة وعشرون عالمًا من هيئة
كبار العلماء ، قضوا بالإجماع في 22 محرم سنة 1344 الموافق 12 أغسطس سنة
1925 بإخراج الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء ، بسبب ما أذاعه في كتابه
( الإسلام وأصول الحكم ) .
( وبما أن المادة الأولى بعد المائة من القانون رقم 10 سنة 1911 الخاص
بالجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية ترتب على هذا الحكم طرد
المحكوم عليه من كل وظيفة ، وقطع مرتباته في أية جهة كانت ) .
( وبما أن مجلس تأديب القضاة الشرعيين ( المنصوص عنه في قرار وزير
الحقانية الصادر في 18 أبريل سنة 1917 ) ، وهو الذي يملك عزل القضاة
الشرعيين بصفة نهائية ، هو كذلك بطبيعة الحال الجهة المنوط بها تنفيذ مثل هذا
الحكم الصادر من هيئة كبار العلماء ) .
( وبما أنه يلزم البدء بتعرف وتحديد ماهية ما لمجلس التأديب من السلطة
حين ينعقد لتنفيذ الحكم الصادر تطبيقًا للمادة الأولى بعد المائة من قانون الجامع
الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية، لمعرفة ما إذا كان مجلس التأديب
مختصًّا بالنظر في موضوع التهمة ، وبالفصل فيما إذا كان الحكم الصادر فيها من
هيئة كبار العلماء صحيحًا أو غير صحيح ، وفيما إذا كان العالم الذي حوكم قد
ارتكب بالفعل أمرًا يوقعه تحت طائلة القانون ، أو أن هنالك تجاوزًا في التطبيق
القانوني ) .
( وبما أنه من المسلم الذي لا ريب فيه أن مجلس التأديب لا يملك شيئًا مما
تقدم ، إذ من المبادىء العامة المقررة أن الهيئات القضائية المختلفة تعتبر في
الدولة على حد سواء ، وليس بينها في دوائر اختصاصها أي تفاوت في الاعتبار ) .
( وبما أن الفقرة الثانية من المادة الأولى بعد المائة الآنف ذكرها تنص على
أن الحكم الصادر من هيئة كبار العلماء لا يقبل الطعن ، فيلزم من هذا أنه ليس لأية
سلطة قضائية أن تلغيه أو تبحث عن صحته ، كما يلزم منه أن سلطة مجلس
التأديب مقصورة حتمًا على النظر فيما يترتب على حكم هيئة كبار العلماء من
النتائج القانونية ) .
***
عن الاختصاص
( وبما أن الدفع بعدم اختصاص هيئة كبار العلماء بالنظر في موضوع كتاب
( الإسلام وأصول الحكم ) مبناه أن عبارة ( ما لا يناسب وصف العالمية ) الواردة
في المادة الأولى بعد المائة من القانون رقم 10 سنة 1911 لا تتناول إلا الأفعال
الشائنة التي تمس كرامة العالم : كالفسق ، وشرب الخمر ، والميسر ، وما أشبه ذلك
مما يتعلق بالسلوك الشخصي ، وأن هذه العبارة لا يمكن أن تتعدى ذلك إلى الخطأ
في الأبحاث العلمية الدينية ) .
( وبما أن الدفع على فرض صحته وقبوله لا يطعن في اختصاص هيئة كبار
العلماء ، وليس له من نتيجة سوى ما قد يفهم من أن حكم الهيئة أخطأ في تطبيق
القانون ، أما اختصاص الهيئة فلا يطعن فيه ؛ لأن الشيخ علي عبد الرازق كان من
العلماء ، ولأن الفعل الذي حوكم من أجله مما قد يقع من العلماء ويتصل بهم ، ولأن
القانون أجاز لهيئة كبار العلماء محاكمة العالم أيًّا كانت وظيفته أو مهنته ) .
( وبما أنه على فرض وقوع خطأ في التطبيق القانوني ، فليس من
اختصاص أية سلطة أخرى أن تنظر فيه ) .
( على أنه ليس ثمة ما يدل على وقوع خطأ في تطبيق القانون ؛ لأن عبارة
( ما لا يناسب وصف العالمية ) جاءت عامة مطلقة من كل قيد بحيث لا يمكن
قصرها على السلوك الشخصي ، فضلاً عن أن وصف العالمية يفترض بذاته فوق
السلوك الشخصي كفاية علمية خاصة ، وعقيدة معينة . ولا شك أن هيئة كبار
العلماء هي المختصة دون غيرها بالفصل فيما إذا كانت هذه العقيدة مطابقة أو غير
مطابقة للدين ، وفيما إذا كان صاحبها قد ارتكب أو لم يرتكب ما لا يناسب وصف
العالمية ) .
( يؤيد ما تقدم أن هيئة كبار العلماء ليست هيئة مدنية ، ولا مجرد هيئة
أخلاقية حتى يقصر عملها على مراقبة السلوك الشخصي للعلماء ، وإنما هي قبل
كل شيء هيئة دينية ، الغرض من تكوينها رعاية أصول الدين ومبادئه ، وصيانتها
من كل عبث ) .
( وبما أنه مسلم فوق ذلك أن لكل جماعة ناموسًا خاصًّا ، وحقًّا مقررًا يجيز
لها أن تطرد من هيئتها كل عضو ترى أنه غير لائق بها ، وهذا الحق الطبيعي
ثابت لها بدون احتياج إلى نص وضعي يقرره . ويبنى على ذلك أن هيئة كبار
العلماء يصح لها أن تخرج أي عالم من زمرة العلماء ولو لم يكن ثمة قانون ينص
على ذلك [2] ) .
وبما أنه لا معنى كذلك للاحتجاج بالمواد 12 و14 و167 من الدستور ؛ لأن
المادة 12 التي تنص على أن ( حرية الرأي مكفولة .. . في حدود القانون ) لا تفيد
سوى أن لكل إنسان الحق في أن يعتنق الدين الذي يريده ، أو يكون لنفسه الاعتقاد
الذي يرضاه ، أو يعرب عن رأيه بالقول ، أو الكتابة أو التصوير بدون أن يتعرض
للعقاب بسبب اعتناقه دينًا من الأديان ، أو إبانته عن رأي من الآراء ما دام أنه لم
يخرج عن حدود القانون .
( وبعبارة أخرى : لا تفيد هاتان المادتان سوى أن كل إنسان له أن يتمتع
بحقوقه الوطنية ، كحق الترشيح للانتخاب أو التصويت فيه مهما كان دينه أو مذهبه
أو رأيه ، وهذا لا ينافي أن الحكومة مثلاً لها أن تفصل من خدمتها كل وطني
يرتكب أمورًا معينة ، ولهذا قيدت المادة 14 من الدستور حرية الرأي بأنها الحرية
المستعملة في حدود القانون ) .
( ويلزم مما تقدم أن الذي حظره الدستور إنما هو المحاكمة الجنائية ، أو
الحرمان من الحقوق الوطنية ؛ بسبب اعتناق دين أو عقيدة ما ، أما صفة العالم أو
صفة الموظف فلا مانع من أن تكون محلاًّ لتقنين خاص ، وهذا التقنين لا يتعارض
مع الدستور في شيء ما ) .
( وبما أنه لا صحة للقول : بأن الفقرة الأخيرة من المادة الأولى بعد المائة ،
وهي المادة السابق الإشارة إليها ، والمنصوص فيها على العقوبات التبعية قد نسخها
الدستور ؛ لأن الدستور قد نص في المادة 167 على استمرار العمل بالقوانين
والمراسيم والأوامر واللوائح والقرارات ، ما دام نفاذها متفقًا مع المبادىء المقررة
فيه . وظاهر أن قانون الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية لا يوجد فيه ما
يخالف تلك المبادئ كما سبق بيانه ) .
( وفوق ذلك فما دامت الوظيفة التي يشغلها الشيخ علي عبد الرازق من
وظائف العلماء ؛ أي : وظيفة دينية ، فهي لذلك لا تحل إلا لمن كان مقرًّا له بأنه من
رجال الدين ) .
( وبما أن المجلس يرى أن يقرر إثبات عزل الشيخ علي عبد الرازق من
اليوم الذي صدر فيه قرار هيئة كبار العلماء بإخراجه من زمرة العلماء ) .
فلهذه الأسباب
( قرر المجلس بإجماع الآراء إثبات فصل الشيخ علي عبد الرازق المذكور
من وظيفته اعتبارًا من يوم 22 محرم سنة 1344 ( 12 أغسطس سنة 1925 ) ،
مع مراعاة عدم حرمانه من حقه في المكافأة ) اهـ .
... ... ... ... ... ... ... الأعضاء ... ... رئيس المجلس
... ... ... ... ... ... ... إمضاءات ... إمضاء
***
تضمن الحكم على الشيخ علي عبد الرازق
الإفتاء بارتداده عن الإسلام
إن هذا الحكم له صفة قانونية يجب تنفيذها على الحكومة المصرية ، وقد
فعلت . وله صفة الفتوى ، وهي بيان الحكم الشرعي في هذا الكتاب ومؤلفه ، وكل
من يعتقد اعتقاده في المسائل المخالفة لنصوص القرآن القطعية المعنى ، وغير ذلك
من الأمور المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة - وهو الردة عن
الإسلام ، والخروج من الملة الإسلامية ، وهيئة كبار العلماء لا تملك الحكم بالردة
في هذه البلاد ، وإنما تملك الفتوى ببيان الحكم الشرعي ؛ إذ لا يحتاج هذا إلى تقريره
بنص قانوني ، وهي لم تصرح بأن الشيخ علي عبد الرازق ارتد عن الإسلام بلفظ
الردة أو الارتداد ، وإنما ذكرت بعض ما يدل على ذلك باتفاق المذاهب الأربعة
التي هم كبار علماؤها في الأزهر ، بل بإجماع المسلمين أيضًا ؛ لأجل أن يحتاط إلى
نفسه ، ويرجع إلى دينه بالرجوع عن ذلك ، ولئلا يغتر أحد من المسلمين بشيء من
ضلاله ، وقد كان بعض الجاهلين بأحكام الشرع استنكر قول هيئة كبار العلماء قبل هذا
الحكم : إنه لا يصدر مثله عن مسلم فضلاً عن عالم ، وهذا الحكم بما فيه من التفصيل
يبين لهم ذلك ، وإن لم يجعل تفسيرًا لتلك الكلمة البليغة ، على أنها ليست بنص في
الردة كأقوالهم في أسباب هذا الحكم .
ولكن صاحب هذا الكتاب ليس عنده من العلم ولا من الحجة إلا الخلابة
اللفظية ، والتلبيس والتمويه والإفك اللفظي ، ومن ذلك أنه كتب مقالة نشرتها له
نصيرته ( جريدة السياسة ) في صدر عددها الذي نشرت فيه صورة الحكم ، وهو
المؤرخ في 16 صفر ، زعم فيها أن كبار العلماء تراجعوا عن اتهامه بشيء ( لا
يصدر من مسلم ) ، بعد أن ذكر أنه كان خائفًا وجلاً أن يقرروا خروجه من زمرة
المسلمين ، ( وإن كان قد تبرأ منهم في كتابه مرارًا ) ، وهو يعلم أنهم قرروا
خروجه من ملة الإسلام ، وأراد أن يضل عن ذلك العوام ، وإلا كان مثله كمثل من
قيل له : من أكل السمك وشرب العسل فدخل الحمام جنّ ؛ فأراد أن يجرب ذلك
لضعف عقله ففعل فجن ، فخرج من الحمام إلى السوق عاريًا ، وطفق يقول للناس :
( يقول : من فعل كذا وكذا جن ، وها أنا ذا فعلت ولم أجن ! ! وإننا نذكر بعض
عباراتهم :
( 1 ) التصريح في الحيثية الأولى بأنه ألغى من الدين شطره ، وهو الأحكام
المتعلقة بأمور الدنيا ، وإن كان الكثير منها من المجمع عليه المعلوم من الدين
بالضرورة ، أقول : وكل ما كان كذلك فجحده ردة لا خلاف فيها .
( 2 ) التصريح في الحيثية الثانية وغيرها بأن الشيخ علي عبد الرازق ( لا
يمنع أن يصادم صريح آيات الكتاب العزيز ، فضلاً عن صريح الأحاديث
الصحيحة المعروفة ، ولا يمنع أن ينكر معلوم من الدين بالضرورة ( راجع ص
372 من المنار ) .
( 3 ) في الحيثية السابعة بيان لما ذكر في غيرها من جعله الحكومة
الإسلامية لا دينية ، لا تقوم أحكامها السياسية ولا القضائية على الدين ، وتصريحه
بأن حكومة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وسائر الخلفاء الراشدين لا دينية ،
وأنه لا يمنع المسلمين مانع من هدمها ، واستبدال أي نوع من الحكم بها ، ولو
الحكم البلشفي ، وتلك إباحة لهدم أحكام القرآن ، واستحلال لما هو محرم بالإجماع ،
ومعلوم من الدين بالضرورة .
( 4 ) التصريح فيها بأن في كلامه في إجازة النبي - صلى الله عليه وسلم -
لما كان في قبائل الجاهلية من أحكام وفوضى ونظام ( طعنًا صريحًا على النبي -
صلى الله عليه وسلم - وعلى كتاب الله تعالى ) ، ( راجع أول ص382 ) ،
والطعن فيهما ردة صريحة بالإجماع .
هذا وإن البرقيات التي رفعها العلماء إلى الملك ورئيس الوزارة على عنايتهما
بتنفيذ الحكم صريحة فيما يعتقدون من اشتمال هذا الكتاب على الكفر والإلحاد ،
وكتب بعضهم مقالات صرحوا فيها بالتكفير والردة : كالشيخ محمد شاكر ، والشيخ
يوسف الدجوي ، ونكتفي من البرقيات الكثيرة بواحدة وهي الرسمية الخاصة بالملك :
صاحب السعادة كبير الأمناء بالنيابة بالإسكندرية
أرجو أن ترفعوا إلى السدة العلية الملكية عني وعن هيئة كبار العلماء وسائر
العلماء فروض الشكر وواجبات الحمد والثناء ؛ على أن حفظ الدين في عهد جلالة
مولانا الملك من عبث العابثين وإلحاد الملحدين ، وحفظت كرامة العلم والعلماء ،
وإننا جميعًا نبتهل إلى الله ونضرع إليه أن يديم جلالة مولانا الملك مؤيدًا للدين ،
ورافعًا لشأن الإسلام والمسلمين ، وأن يحرس بعين عنايته حضرة صاحب السمو
الأمير فاروق ولي عهد الدولة المصرية ، إنه سميع مجيب .
... ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار : إن الغرض الأول له من الكتاب إثبات أن الحكومة في الإسلام (لا دينية) بناءً على زعمه أن جميع الأحكام الواردة في الكتاب والسنة - وهو لا ينكرها - خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم- من حيث هو رسول الله ، وأنه ليس لأحد أن يخلفه فيها كالرسالة . وإنما نص على خلافة الراشدين ؛ لأن قيامها على الدين أظهر ، ودفاعه مبني على زعمه هذا لا رجوع عنه ، فهو يريد أن الحكم الديني خاص يوحى إليه ، وأبو بكر ليس كذلك فحكمه ، فكان الظاهر أن يجعل هذا أول أسباب الحكم ، وهو ردة صريحة ؛ لأنه نفي للدين من شطر الشريعة - وهو الأحكام السياسية والقضائية - وتعطيل له كما أشير إليه في الحكم ، وقد استغرب هو في مقال انتقد فيه الحكم جعله كالأمر الثانوي .
(2) المنار : هذا الإطلاق في هذا السبب غير مسلم ولا حاجة إليه في تعليل صحة القرار ، وإنما تطرد الجماعة من أفرادها من تجمعه بهم صفات وحقوق تميزهم من غيرهم ، تتعلق بها أحكام شرعية ووضعية أعطتهم حق الجزاء على الإخلال بتلك الصفات والحقوق ، كما فعل الشيخ علي عبد الرازق بإخلاله بالعقيدة الإسلامية وبإهانته للإسلام والمسلمين ، وبإنكاره كون الحكم والقضاء في الإسلام مقيدًا بأحكام الدين ، وهو لم يكن قاضيًا إلا بكونه مسلمًا وعالمًا أزهريًّا ، ولكن ليس لكل هيئة طبية أن تطرد كل طبيب ترى أنه غير لائق بها ، فالإطلاق فيه تسامح لعله لا يراد به العموم ، وشرح المسألة لا محل له في هذه الحاشية .
(26/363)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
جمادى الآخرة - 1344هـ
يناير - 1926م

اللادينيون في تونس ومصر
وكتاب علي عبد الرازق

ما فتئت جريدة السياسة مصرة على ضلالها في التنويه بهذا الكتاب والثناء
عليه وعلى مؤلفه ، فذكرت أخيرًا أنها جاءها من مراسلها الخاص بتونس أنه كان
للضجة التي قامت حولهما بمصر رنة استياء بين طبقات الأحرار والأدباء
والمفكرين ( أي : اللادينيين ) ، وكذلك كان لموقف حزب الأحرار الدستوريين
وجريدة ( السياسة ) الذي وقفاه انتصارًا لحرية الرأي وحرية النقد العلمي النزيه أثر
حسن ووقع جميل لدى الطبقات التي عدته تسلية عما أصاب الإسلام خاصة والشرق
عامة من آثار الموقف الأول المحزن ، وعما يلحق الدين القيم دين التسامح من هذه
النظرة الخاطئة التي سينظر إليه بها الغرب بعد تلك الضجة .
( قال المراسل ) : لكن بعض الجامدين من علماء وطلبة جامع الزيتونة ،
ومن الذين يتبعون خطة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة ( المنار ) قد نظروا
إلى المسألة من وجه آخر ، واستصوبوا خطة زملائهم الأزهريين ، وكان كتاب
( الإسلام وأصول الحكم ) حديث نواديهم طول هذه المدة ، بل إن بعضهم قد عزم على
الكتابة في الموضوع ، وكان أول من بدأ منهم الأستاذ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
كبير علماء المالكية ورئيس مجلسهم الشرعي ( محكمة الاستئناف الشرعية ) ، فنشر
سلسلة مقالات في جريدة ( النهضة ) اليومية ، لم تتم إلى اليوم ، رد فيها ردًّا مطولاً
على تفصيلات ما جاء في الكتاب ، وستنشر ( النهضة ) - على ما اتصل بي من
بعض محرريها - سلسلة مقالات أخرى بهذا المعنى للأستاذ الشيخ محمد بن
يوسف وكيل المجلس الشرعي الحنفي ووكيل كبير علماء الحنفية أيضًا .
وقد نشرت جريدة ( الصواب ) في أحد أعدادها كلمة ننقلها لقراء ( السياسة )
لأنها تعبر عن الرأي المستنير ( ؟ ) في قضية هذا الكتاب . قالت الرصيفة :
برز أخيرًا بمصر كتاب ألفه أحد علماء الدين وسماه ( الإسلام وأصول الحكم ) .
بحث فيه صاحبه بحثًا فلسلفيًّا ، ونظر لما بين يديه من الحجج فاستخدمها
بحرية وصراحة تامة ، وقد تعرض فيما حبر إلى مسألة الخلافة ، وصرح بأنها
ليست من الدين في شيء ، فقامت قيامة رجال الأزهر ، وحاكمت مشيخة هذا المعهد
الديني الشيخ المذكور ، وبعد مرافعات ومناضلات جردته من رتبته العلمية ورفتته
من كافة الوظائف التي كان يشغلها بدعوى أنه مرق من الدين ، ولم يقولوا في حقه
حسب العادة : إنه اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ) . ا . هـ
هذا وقد منيت مصر بكثير من الحوادث على شاكلة كتاب ( الإسلام وأصول
الحكم ) وظهرت فيها أفكار شتى من هذا القبيل ، وناهيك بما وقع للشيخ محمد
عبده - رحمه الله - وما اتهم به من مخالفة روح الدين الإسلامي بمناسبة فتوى
البرنيطة ( القبعة ) والتذكية بالبلط وشركة جرشام الإنكليزية لتأمين الحياة ،
ومسألة حمل المطلق على المقيد في آيات الربا ، ومع ذلك فقد اقتصر المعترضون
على نقد ما قيل ، وتتبعه بالرد إن مخطئًا وإن مصيبًا .
وعلى هذا يظهر أن مصر قد سارت إلى الوراء ليس في الحرية السياسية فقط
بل حتى في حرية القول في الشؤون الدينية التي هي ملك مشاع بين المسلمين ،
بشرط أن يكون ذلك ضمن دائرة المعقول ، وبمقتضى منطوق ومفهوم النصوص
الواردة على لسان صاحب الشرع صلوات الله عليه .
أما سر هذه المصاولة والمقاومة العنيفة والتحامل من مشايخ الأزهر على ما
يشاع ، فإنما هو نيل رضا نواح معينة ذات مطامع في تَبْويء منصب الخلافة .
وسواء كان ذلك حقيقة لا ريب فيها أو هو من باب اللغط والإرجاف الذي كان
وما زال شنشنة العامة والبسطاء ، فالذي يسوؤنا في هذه الحادثة بنوع خاص إنما
هو تدخل أحد أعيان علمائنا في الأمر ووقوفه موقف الخصم العنود لهذا الشيخ الذي
أراد - وإن أخطأ - خدمة الإسلام ، وتخليصه من وصمات طالما ألصقها به
الغربيون ، ولله في خلقه شؤون ) ا هـ .

( المنار )
إن لجريدة السياسة غرضين في الانتصار لهذا الكتاب وصاحبه :
( أحدهما ) : سياسي ، وهو ما أشار إليه مراسلها بتونس - الناطق بلسانها -
في طعنه بإخلاص علماء مصر ، وتعريضه بذلك المقام العالي ، وهو ما يتجنب
المنار الخوض فيه .
( وثانيهما ) : ديني اجتماعي ، وهو أنها لسان حال اللادينيين في مصر ،
وأكبر مفاسد هذا الكتاب أنه يحاول هدم الشريعة الإسلامية من طريق الدين
الإسلامي ، فهي لهذا تنصره ولم تجد من مخازيه أهون من مسألة الخلافة ، فجعلت
جل خوضها فيها . وجميع اللادينيين في مصر وتونس على رأي أمثالهم من الترك
يرون أن الخلافة سياج للشريعة مهما يكن حال المتولي لأمرها ، فلا يسهل هدم
الإسلام مع وجودها ولو بصفة ضعيفة .
ونرى مراسل هذه الجريدة قد شايعها على المغالطة في التحزب له بدعوى
المدافعة عن حرية الرأي ، فزعم أن مصر رجعت فيها القهقرى ، والصواب أنها
زادت فيها قوة بل غلوًّا ، فجريدة السياسة طعنت في الدين وفي كبار علماء الإسلام ،
ولم ينلها عقاب ولا حجز .
وقد أخطأ المراسل في تسمية الطعن في الدين ، وإنكار المجمع عليه من
أحكامه وأصوله - اجتهادًا فيه ، وتبع في هذا جريدة الصواب ، وكان كل منهما أفضل
من جريدة السياسة باعترافهما أن صاحب كتاب ( الإسلام وأصول الحكم ) أخطأ في
اجتهاده ، ولكن ما ذكره المراسل من شروط حرية الرأي في الإسلام ينافي كون
الرجل اجتهد فأخطأ ؛ لأنه خالف النصوص القطعية والإجماع الصحيح والمعقول ،
ولم يدفع شيئًا من شبه أعداء الإسلام عنه ، بل كان طعنه فيه أقبح من طعنهم ،
ولذلك أثنوا عليه ونوهوا به .
ومن أغرب ما تجرأ عليه هؤلاء اللادينيون بمصر وقلدهم فيه مراسل
جريدتهم في تونس _ تشبيه شر الجناة على الإسلام بخير أنصاره في هذا العصر
الأستاذ الإمام قدس الله روحه ، ولم يخجلوا من جعل أنفسهم أولى بالأستاذ الإمام من
أشهر مريديه وأنصاره بمصر وتونس ، حتى في المسألة التي ذكروا إنكار بعض
الحامدين على الإمام فيها ، وهي الفتوى في ذبائح أهل الكتاب ولبس البرنيطة -
فكما أن صاحب المنار كان أول مريدي الأستاذ الإمام الذين قاموا بنصره وتأييد
فتواه في مصر - كذلك كان العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تونس ، فقد
كتب في ذلك رسالة نفيسة أرسلها إِلَيَّ في وقتها ، ونوهت بها ولا تزال عندي بخطه .
ولا يخجل اللادينيون اليوم من جعل مراسل السياسة المجهول وصاحب جريدة
الصواب بتونس أولى بالأستاذ الإمام من صاحب المنار ومن العلامة المذكور
والعلامة الشيخ محمد يوسف ، وهما أشهر علماء المالكية والحنفية العارفين بحال
العصر ، القادرين على خدمة الإسلام في تونس ، فإذا كان هذان الأستاذان العصريان
يطعنان في كتاب الشيخ علي عبد الرازق فما القول في سائر علماء تونس الجامدين
المتعصبين لكل ما في كتب الفقه والكلام ، ورد كل ما خالف فقهاء مذاهبهم من غير
نظر في الأدلة .
وكأني بجريدة السياسة تقرن بهما قرينهما في العلم والفضل ومعرفة شؤون
العصر العلامة الشيخ محمد الخضر بن الحسين نزيل مصر ؛ لأنه ألف كتابًا من
أنفس الكتب في إظهار جهل الشيخ علي عبد الرازق بالإسلام وجنايته عليه ، سماه
( نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم ) .
فليهنأ الشيخ علي عبد الرازق وجريدة السياسة بانتصار جريدة الصواب لهما
على هؤلاء العلماء الأعلام ، وهي كأمثالها من الجرائد الأسبوعية في مصر ليست
مما يعتد بفهمها ورأيها في مثل هذا الكتاب ، ولعل صاحبها لو قرأه لما اغتر بخلابة
ألفاظه وشعريَّاته ، ولعلم أنه جان على الإسلام متعمد للتنفير عنه لا مخطئ في
اجتهاده مع إرادته تخليصه مما ألصقه به الغربيون من الوصمات ، والظاهر لنا أنه
اغتر بكلام جريدة السياسة فكتب ما كتب ، ولكنه على عدم قراءته للكتاب لم يتهور
كما تهورت جريدة السياسة ، فكانت جريدته أرقى منها .
(26/548)
 
رمضان - 1344هـ
سبتمبر - 1926م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الحديثة
( الرد على كتاب الإسلام وأصول الحكم )
قد علم قراء المنار من مجلد المنار السادس والعشرين نبأ جرأة الشيخ علي
عبد الرازق الذي كان من علماء الأزهر وقضاة المحاكم الشرعية على نشر كتاب
باسم ( الإسلام وأصول الحكم ) حاول فيه هدم شريعة الإسلام من أساسها والإباحة
المطلقة للمسلمين بأن يختاروا لأنفسهم من الشرائع ونظم الحكم ما شاءوا من غير
تقيد بنص كتاب إلهي ولا سنة نبوية ، ولا هدي سلف ، ولا اجتهاد إمام متبع
بالأولى .
وعلموا أننا أول من انتدب لتزييف هذا الكتاب وإبطال كفره وضلاله ،
وتحريض علماء الأزهر وغيرهم على الرد عليه ومؤاخذته ، وأنهم قد فعلوا فقررت
جمعية كبار العلماء اشتمال هذا الكتاب على ما ينافي الدين ، ويرد المعلوم منه
بالضرورة بإجماع المسلمين ، وحكمت بمحو اسمه من علماء الأزهر ووجوب طرده
من وظيفة القضاء الشرعي وعدم إسناد وظيفة أخرى في الحكومة إليه ، وأن
الحكومة نفذت هذا الحكم فعزلته من منصب القضاء الشرعي ، وأنه زاد احترامه
عند الزنادقة والمنافقين ولا سيما جمعية الدعوة إلى الإلحاد والزندقة ، والإباحة
المطلقة ، وصارت جريدتهم السياسة تلقبه بالعلامة المحقق .
ونذكر الآن أن بعض العلماء ألفوا كتبًا في الرد التفصيلي على ذلك الكتاب
وقد أهدي إلينا منذ العام الماضي كتابان حافلان في ذلك ( أولهما ) سمي ( بنقض
الإسلام وأصول الحكم ) من تصنيف الشيخ محمد الخضر حسين أحد مدرسي جامع
الزيتونة وقضاة المحاكم الشرعية في وطنه تونس قبل هجرته منه - وقد نال أخيرًا
شهادة العالمية الرسمية من الجامع الأزهر بعد الامتحان الرسمي فيه - ( وثانيهما )
سمي ( حقيقة الإسلام أصول الحكم ) وهو من تصنيف الشيخ محمد بخيت المطيعي
أحد كبار علماء الأزهر الحاضرة وأشهر المدرسين فيه ، وقد كان تقلب في القضاء
الشرعي ورياسة المحاكم حتى كان أشهر أعضاء المحكمة الشريعة العليا في مصر
ثم أسند إليه منصب مفتي الديار المصرية .
فهذان المصنفان في الرد على كتيب الشيخ علي عبد الرزاق يفوقانه فيما نال
من شهادة أزهرية ، وقضاء شرعي في محكمة ابتدائية ، ولا يلحق غبار واحد منهما
في العلوم الشرعية ، إذ انصرف كل همه إلى الكتابة الأدبية ، وتقاليد أعداء الإسلام
من الشعوب الإفرنجية ، وهذا تعريف وجيز بالكتابين .
***
( نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم )
بلغت صفحات هذا الكتاب 245 صفحة كصفحات المنار ، وقد رتبه ترتيب
الأصل المردود عليه كتابًا كتابًا ، وبابًا بابًا ، وقال في مقدمته :
( وطريقتنا في النقد أن نضع في صدر كل باب ملخص ما تناوله المؤلف من
أمهات المباحث ثم نعود إلى ما نراه مستحقًّا للمناقشة من دعوى أو شبهة فنحكي
ألفاظه بعينها ، ونتبعها بما يزيح لبسها أو يحل لغزها ، أو يجتثها من منبتها .
وتخيرنا هذا الأسلوب لتكون هذه الصحف قائمة بنفسها ، ويسهل على القارئ
تحقيق البحث وفهم ما تدور عليه المناقشة ، ولو لم تكن بين يديه نسخة من هذا
الكتاب الموضوع على بساط النقد والمناظرة .
وقد طبع الكتاب في العام الماضي بالمطبعة السلفية طبعًا حسنًا وأهداه مؤلفه
إلى خزانة جلالة ملك مصر المعظم ، وثمن النسخة منه 10 قروش ما عدا أجرة
البريد ، وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر .
***
( حقيقة الإسلام وأصول الحكم )
بلغت صفحات هذا الكتاب 447 صفحة بقطع المنار ، وحروفه فهو مرتب
ترتيب ما سبقه ، ولكنه لم يكتف بتفنيد مزاعم الشيخ علي عبد الرازق ، وإبطال
دعاويه بكونها دعاوى لا تقوم عليها بينة على كونها كما قال سلبية ، بل استطرد
إلى إيراد الشواهد على إثبات ما ادعى نفيه من نظم الحكومة الإسلامية بالنقول من
الكتب المعروفة ، وأهمها مبحث بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لنظام القضاء
وما يتوقف عليه ، وقد عقد لذلك سبعة أبواب ( الأول في الوظائف والأعمال البلدية)
وفيه 23 فصلاً ، أدخل فيها الوظائف الدينية كإمامة الصلاة ( الثاني في العمالات
المتعلقة بالأحكام ) ، وفيه ستة فصول ( الثالث في العمالات الجهادية ، وما يتشعب
منها ) ، وفيها 11 فصلاً ( الرابع في العمالات الجبائية ) وفيه ثلاثة فصول...إلخ
وقد طبع الكتاب في المطبعة السلفية أيضًا طبعًا حسنًا ، وثمن النسخة منه 15
قرشًا ، ويطلب من مكتبة المنار بمصر .
 
جمادى الأولى - 1345هـ
ديسمبر - 1926م
( الموسيو علي عبد الرازق ينزع العمامة
ويودعها ويفتري على الأستاذ الإمام وعلينا )
موسيو علي عبد الرازق صاحب كتاب ( الإسلام وأصول الحكم ) المعروف
الذي طرد بسببه من حظيرة علماء الأزهر ومن منصب القضاء الشرعي بقرار من
هيئة كبار علماء الأزهر الذين كان أهون ما قالوه في كتابه : إنه لا يصدر مثله عن
مسلم - فضلاً - عن عالم , ونفذت ذلك الحكومة - نزع عمامته في فرنسة واستبدل
بها البرنيطة في أوربة كالمعتاد وعزم ألا يعود إلى العمامة ولم يتركها ساكتًا بل كتب
مقالة ودعها بها ، واحتقرها فيها ، هي وأهلها علماء الدين الذين كان قد قال في دينهم
وشرعهم شرًّا مما قال في عمامتهم الآن . كتب هذه المقالة من باريس وأرسلها إلى
جريدة السياسة لسان حاله وحال جمعيته المعلومة فنشرتها له مغتبطة بها .
لم يكتف موسيو علي عبد الرازق بفعلته وجنايته على الإسلام من قبل وسوء
قيله في مشخصات علمائه اليوم لعلمه بأن كلامه لا قيمة له عند غير الملاحدة
والزنادقة فأراد أن يجعل له قيمة عند غيرهم فافترى على حكيم الإسلام شيخنا
الأستاذ وعلينا كانت إحدى الفريتين ناقضة للأخرى .
أراد أن يحتج لإلقائه العمامة إذ لم تعد لائقة به بعد طرد علماء الأزهر إياه من
جماعة علماء الإسلام فزعم أن الأستاذ الإمام كان يحتقر العمائم ويكرهها ولما لم يكن
له دليل ولا شبهة على زعمه إلا محاولة استنباطه ذلك من أحد الأبيات التي نظمها
الإمام رحمه الله تعالى في مرض موته فلم يجد بدًّا من إيراده وهو :
ولكنه دين أردت صلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم
ثم لما كانت هاته الأبيات متضمنة لأمل الأستاذ الإمام - قدس الله سره - في
تلميذه ومريده محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي بقوله فيها :
فبارك على الإسلام وارزقه مرشدًا ... رشيدًا يضيء النهج والليل قاتم
وكان صاحب المنار أول من أثار علماء الأزهر والعالم الإسلامي على كتاب
موسيو علي عبد الرازق الذي هاجم به الإسلام وحاول فيه هدم شريعته وتشويه
محاسن تاريخه افترض ذكر بيت العمائم للانتقام منه بزعمه أنه هو الذي نظم تلك
الأبيات المشهورة التي نشرتها الجرائد المصرية يوم وفاته ونسبها إلى أستاذه وعزا
ذلك إلى الثقات ، ومَن هؤلاء الثقات ؟ ولماذا لم يسمع لأحد منهم صوت إنكار من
سنة 1323 التي توفي فيها الأستاذ الإمام إلى هذه السنة 1345 ؟
كذب موسيو علي عبد الرازق في زعمه أن الأستاذ الإمام كان يحتقر العمامة
فلو كان يحتقرها لتركها ولكنه لم يتركها في سفر ولا حضر وقد رغب إليه بعض
كبراء حكومته في تركها ليزول باستبداله الزي الإفرنجي بها المانع من ارتقائه إلى
منصب الوزارة فلم يقبل وإذا كان الجامدون من حملة العمائم قد جنوا على الإسلام
بتقصيرهم فيما يجب عليهم من النهوض به ومقاومتهم للمصلحين فيه فليس الذنب
في ذلك لعمائمهم كما لا يخفي بل من المجرب أن أكثر المعممين ولو من غير علماء
الدين أبعد من غيرهم عن ارتكاب الفواحش والمجاهرة بالمنكرات والمعاصي .
نحن قد سررنا بما فعله الموسيو علي عبد الرازق وبما كتبه سررنا بنزعه
للعمامة ؛ لأن من العار على المسلمين أن يطعن في دينهم من يتزيا بزي علمائهم
وسررنا بما ظهر من عدم تنزهه عن الكذب الصريح الذي هو شر الرذائل على
الإطلاق لا لذاته فإننا نستاء من كل رذيلة ، بل لأن خصمنا في ديننا لا قيمة لآدابه
ولا ثقة بروايته ، بل أقول والحق ما أقول : إن هذا السرور ليس إلا تعزية لنا
عن خسارة شخص كنا نرجو أن يكون صديقًا لنا وعونًا على مقاومة رذائل الإلحاد
ومفاسد التفرنج في أمتنا فظهر لنا أننا لم نخسر بضياع أملنا فيه شيئًا ومن حسن
الحظ أن أكثر هؤلاء الملاحدة فساق فجار مجان سكيرون مقامرون وليس فيهم من له
قيمة أخلاقية إلا نفر معدودون على أنهم مراءون مذبذبون .
ذلك وإننا لا ندري ماذا يضع علي عبد الرازق على رأسه بعد عودته من
أوربة إلى مصر فإذا أصر على لبس البرنيطة فإن لقبه سيكون موسيو أو مستر وإذا
لبس الطربوش فسيكون لقبه أفندي ، وكل من اللقبين أهون علينا من تحليه بلقب
الشيخ ولكن هذا يسوء أصدقاءه خصوم الإسلام من الإفرنج ومن ملاحدة الترك
المتفرنجين أو ( المتغربين ) كما يقولون عن أنفسهم لأن مزيته عندهما أن يطعن
في الإسلام ويصد عنه وهو شيخ معمم .
***
( تناصر ملاحدة الترك وملاحدة مصر )
( وتنويه الصحف التركية بعلي عبد الرازق وطه حسين )
لما ظهر كتاب موسيو علي عبد الرازق فرح به ملاحدة الترك وقرظوه وأثنوا
على مؤلفه بل ترجموه بلغتهم التركية ونشروه في جرائدهم الإلحادية ؛ لأنه جاء
معززًا لرفضهم الشريعة الإسلامية والخلافة الصورية وتأسيسهم حكومة لا دينية
ولهؤلاء الملاحدة عناية بنشر الإلحاد في جميع البلاد الإسلامية ويرجون أن يكون
السبق في اتباعهم للبلاد المصرية ( خيب الله رجاءهم ) .
ولما ظهر كتاب الدكتور طه حسين في هذا العام أكبروه وقرظوه وأنكروا على
الذين ردوا عليه وجهلوه وكانت حجتهم حجة جمعية الإلحاد والزندقة هنا وهي
( حرية الرأي ) ، فإذا كان أولئك الملاحدة يحترمون حرية الرأي حقيقة لذاتها فلماذا
يخصون هذا الاحترام برأي الكفر دون رأي الإيمان وبدعاة الإلحاد دون المدافعين
عن الإسلام ؟
قد احترموا رأي علي عبد الرازق وطه حسين في الطعن في الإسلام وخلفائه
وعلمائه وفي تكذيب كتاب الله ورسوله أيضًا فهلا احترموا رأي علماء الإسلام
ونصراء الإيمان الذين كتبوا ما يعتقدون وأما ذانك فقد طعنا في الإسلام مطاعن لا
يعتقدانها كلها فما قالاه ليس رأيًا لهما بل افتراء يريدون به تقليد ملاحدة أوربة
وإرضاء أمثالهم .
ثم لماذا لا يحترم ملاحدة الترك رأي المؤمنين الثابتين على الإسلام من قومهم
ولا يسمحون لهم بإظهار رأيهم في هذا الكفر والإباحة للفواحش والإعراض في
قوانين حكومتهم والاستقباح للبس البرنيطة ولو في خاصة أنفسهم ؟ بل تجبرهم
حكومتهم على ما تريد من ذلك ومن عارض تسوقه إلى محكمة الاستقلال فتحكم
عليه إما بالصلب والنكال وإما بالسجن في السلاسل والأغلال .

 
الكاتب : مستر كراين

رمضان - 1345هـ
أبريل - 1927م

محاضرة مستر كراين
عن جزيرة العرب - أو - الحجاز و اليمن
في جمعية الرابطة الشرقية
[*]

لأسباب عديدة قمت في هذا الشتاء برحلة في البحر الأحمر , وقد سبق لي أن
زرت قبل هذه المرة ( جدة ) , وأعجبت كثيرًا بمناظر البحر ، وإني طفت معظم
بحار العالم , فلم أر له مثيلاً بينها ، فبينما ترى فيه الزرقة القاتمة تراها تخضرّ , ثم
تحمرّ وتميل إلى لون الذهب ، وترى شاطئًا رمليًّا أصفر , ومن ورائه سلاسل
طويلة من الجبال الوردية القفراء .
إن طراز الحياة في مواني البحر الأحمر الصغيرة لا يزال كما كان عليه منذ
قرون عديدة ، ففي عرض هذا البحر تمخر السفن العظيمة بين السويس و عدن دون
أن تحدث أثرًا في هذه المواني القديمة التي ما زالت تحتفظ بعاداتها الأولى لعلاقاتها
بالحج والحجاج .
إني مولع برؤية الحياة الإسلامية القديمة التي شاهدتها في مصر والشام ،
والقسطنطينية عندما أتيت هذه البلاد منذ خمسين عامًا ، ولكن هذه البلاد الآن
أضاعت رونقها القديم ، وتغير فيها طراز الحياة تغيرًا محسوسًا ، ويقال : إن
( بخارى ) أيضًا أضاعت سابق أسواقها الجميلة القديمة ، ولذلك سررت كثيرًا منذ
أربعة أعوام لما رأيت أن جدة لا تزال محتفظة ببهائها الإسلامي القديم ، وبحجاجها
المحرمين ، وبوسائط نقليتها القديمة , ألا وهي : الجمل والفرس والأتان ، وأن
أسواقها المعوجة الصغيرة لا تزال ملأى بالتجار الشرقيين يروحون ويغدون فيها ،
وتنحصر تجارتهم في بعض الأشياء الضرورية , وبعض المصنوعات اليدوية .
إن شبه جزيرة العرب هي مهد الأنبياء , ومهبط الوحي ، ولما كنت أهتم
كثيرًا بهذه الشؤون ؛ شئت أن أتقرب بقدر الإمكان إلى حياة هذه الجزيرة التي كانت
تنجب الأنبياء آونة بعد أخرى ، ومن البديهي أن البلاد المتمدنة لا تنجب أنبياء .
ومن أهم الأشياء في الجزيرة الآن الحركة الوهابية التي ترمي إلى الرجوع
لحياة التقشف كما كانت عليه الحال أيام النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
نحن في الغرب نقول : إن التاريخ لا يعيد نفسه ، ولكن لهذه القاعدة شواذ في
الصحراء ، فالحياة فيها دائمًا تعيد نفسها .
يقال : إن الدين في العالم منشؤه بعض الشخصيات البارزة التي تضيء
كالأنوار مثل بوذا [1] , و المسيح و محمد ، وهذه الشخصيات لها حياة خاصة ,
وتعاليم خاصة , وأتباع خاصة ، ولكنها عندما تختفي ؛ يقوم بعدها بعض الأتباع
الذين كانوا مقربين إليها كثيرًا , ويفسرون أعمالها , وينشرون أخبارها ، وهم
المعروفون بالتلاميذ أو الصحابة ، ولكن النور الأصلي يضعف عندما ينتقل إليهم ،
ومن بعدهم تقوم الهيئات الدينية , وتنشر أعمال تلك الشخصيات حسب ما يتراءى
لها ؛ وبذلك يزداد ضعف النور ، ولا شك أن بوذا لو بعث حيًّا الآن لا يوافق على
أن الصينيين واليابانيين يتبعون حياته وتعاليمه , وخصوصًا متى شاهد البون
الشاسع بين تعاليمه الصحيحة , وبين تعاليم كهنوت اللاميين [2] , وإنه لا يمكن
للمسيح أن يعترف بأن أوربا الحديثة المعروفة بمسيحيتها , والتي يقال : إنها تتبع
حياته و تعاليمه هي حقيقة مسيحية [3] .
لقد أدرك محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا من أمر هذا التحريف الذي لعب
دورًا مهمًّا في تاريخ الديانات القديمة على ممر الأيام ؛ ولذلك حدد أقواله بحديثه ,
وأظهر بصورة واضحة علاقة المسلم مع خالقه ، ولم يترك ميدانًا واسعًا لتدخل
الهيئات الدينية من بعده , ومع هذا كله رأينا أن الدين الإسلامي عندما ابتعد عن
مركزه الأصلي في الصحراء , وأخذ يتزاحم مع غيره من الديانات والمدنيات في
العجم والصين مثلاً ؛ خرج عن الصراط المستقيم ، وأضاع شيئًا كثيرًا من بساطته
وبهائه .
ولما كانت الحياة في نجد بعيدة عن مثل هذا الضغط , وبعيدة عن المدنية
الحاضرة , فلا شك أن هذه البلاد هي المكان الوحيد المعد لحفظ علاقة المسلم
الحقيقية بخالقه بصفة لا تشوبها شائبة ، وقد ظهر الآن أشياء عديدة تثبت جميعها أن
القاعدة الأساسية في الدين الإسلامي , والمسيحي , واليهودي هي علاقة الإنسان
بخالقه , وأصبح الاعتراف بهذه الحقيقة أمرًا لازبًا ؛ لأن البولشفيك ينظمون دعاية
ضد جميع الديانات , وقد وجهوا سهامهم إلى قلب هذه الحقيقة الظاهرة , ألا وهي :
وجود الخالق , وتدبيره لهذا الكون ، وقد أدرك العالم المسيحي هذا الخطر , وأصبح
ميَّالاً إلى ترك الجزئيات , والتمسك بالكليات ، ويوجد في الغرب أناس كثيرون
يعتقدون أن في الإمكان التأليف بين العالم المسيحي , وغيره من البشر ممن يعتقدون
بوجود الخالق , ويسعون لطاعته .
ولاشك أن العالم ليشهد منذ أول التاريخ إلى عهدنا هذا ثورة شديدة على الدين ,
كالثورة التي يديرها البولشفيك .
يوجد بين المسيحيين طائفة صغيرة تقول بالتوحيد , وتشابه عقائد هذه الطائفة
من وجوه عديدة العقائد الإسلامية القديمة ، وقد ظهر بين أفرادها كثير من العظماء
الذين أفادوا العالم فائدة تذكر فتشكر ، ففي النمسا مثلاًُ ظهر بعض أفراد منها للعالم ،
وشغلوا وظائف سامية ، وكانوا موضع إعجاب جميع من عرفهم ، وفي أمريكا ظهر
أيضًا بعض أتباع هذا المذهب المحترم , وكان في مقدمتهم الرئيس ( إيليوت ) الذي
بقي مدة أربعين سنة رئيسًا لأعظم جامعة أميريكية ألا وهي : جامعة ( هارفرد )
وقد توفي في السنة الماضية عن عمر جاوز اثنين وتسعين عامًا , ولا شك أنه كان
أحد رجال أمريكا العظام [4] , وقد كان يهتم كثيرًا برحلاتي إلى البلاد الإسلامية ،
وشعر أنه من الواجب أن يحصل تعارف بين الموحدين المسيحيين , وبين المسلمين ،
وكنت دائمًا عند عودتي أزوره , وأطلعه على جميع اختباراتي الحديثة .
إنه بقي محافظًا على قواه العقلية إلى آخر دقيقة من حياته ، وكان لصوته
أعظم وقع على الأميركيين , كما أنه كان الخادم الأمين لحفظ الضمير الأميركي
الحي ، وعندما كان يتكلم في موضوع سياسي , أو تهذيبي , أو اجتماعي كان يتكلم
دون خجل , أو وجل .
وقبلما أنشبت المنون أظفارها فيه شعر بدنو أجله , فقلت له : اسمع هذه
الصلاة الإسلامية الجميلة , وقرأت له : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } ( الفاتحة : 2-7 ) , وقد
أعجب بهذه الصلاة الوجيزة كثيرًا , وكانت هي آخر العهد بيننا ، وكان صديقي هذا
دائمًا يتمنى الحج إلى شواطئ البحر الأحمر , والتقرب من الحركة الوهابية ؛ لأنه
هو نفسه كان يعيش عيشة بسيطة , ويعتقد بعظم فائدة الصلاة , وتأثيرها في
العالم , ولكنه كان بعيدًا عن الظواهر الدينية الميكانيكية [5] , وسأرسل إليكم عندما
أعود إلى أمريكا جميع ما قاله عظماء الأميركيين بشأن هذا الرجل الجليل عند
وفاته .
إن بوذا , والمسيح عاشا عيشة روحية , ولم يكونا يومًا من الأيام إداريين ,
ولا فكرا أن ينظما الحياة الدينية ، وأما محمد صلى الله عليه وسلم , فكان نبيًّا
وإداريًّا عظيمًا ، وقد مد الله في أجله إلى أن تمكن من تنظيم الحياة الاجتماعية على
أسس دينية ، وها هو ذا ابن سعود ينسج اليوم على منواله ، ويتبع سننه في كل
خطوة بحزم وعزم ، وهو يسعى لأن يوفق بين الحياة الاجتماعية , وبين الشريعة
الغراء , ولست مغاليًا إذا قلت لكم : إنه لا جنايات في مملكة ابن سعود ، وإن البدو
الذين مازالوا منذ الأزل يضربون في بلاد الله الواسعة , ويغزو بعضهم بعضًا أخذوا
في عهده يبنون البيوت الثابتة ، ويشتغلون بالأشغال النافعة .
ولاشك أن الأمن في الطرقات أصبح مستتبًّا ، والتجارة في البلاد محمية ،
ومال الحاج مضمونًا ، وأسعار الحاجيات محددة .
***
فليحيا ابن سعود
إن الحماسة التي تدعم حركة كحركة ابن سعود الوهابية , والتي ترمي إلى
إرجاع الدين الحنيف , كما كان عليه قديمًا , تتعارض في بعض الأحيان مع العادات
الإسلامية الحاضرة ، وليس بالعجيب أن نرى ( الإخوان ) في حماستهم قد هدموا
أشياء كثيرة ذات قيمة تاريخية ومعنى ديني للحجاج الذين يحجون إلى هذه البلاد
المقدسة , وقد قتلوا أثناء حماستهم بضعة آلاف حاج من حجاج اليمن , بينما كانوا
قادمين إلى مكة بقصد الحج ، واعتذروا عن عملهم بأن نيتهم كانت سيئة نحو
الإخوان [6] , ومع ذلك , لا شك أن الأحوال الآن أحسن من ذي قبل ، وإذا مد الله
في عمر ابن سعود ؛ فالحالة تزداد تقدمًا ، والروح الاجتماعية تنتشر أكثر فأكثر بين
العرب مستمدة نشاطها من بعد ابن سعود من روحه .
نزلت بجدة في دار السيد محمد نصيف , وهي كأنها مجمع علمي يحتوي على
مكتبة عامرة , يؤمه جميع أقطاب جدة وأشرافها .
والسيد محمد نصيف عالم محقق , ورجل شريف يزوره جميع من يمر بجدة
من العلماء والنبلاء قبل ذهابهم إلى مكة ، وقد اجتمعت عنده بأناس كثيرين ,
وتكلمت معهم بصراحة زائدة ، وكانوا جميعهم عنوان اللطف بي , والعطف علي ،
وأفهموني حقيقة سير الحياة بالحجاز في هذه الأيام ، وبعد وصولي إلى جدة جاء
سمو الأمير فيصل من مكة , ورحب بي , وتأكد بنفسه أن راحتي مضمونة , وقال
لي : إن كل شيء في جدة تحت أمري .
في الليل كنت أدعو الكثيرين ؛ ليسمعوني الأناشيد الوطنية والغناء العربي
القديم والحديث , وكان بين هؤلاء المنشدين شيخان ضريران يترددان دائمًا على
دار السيد محمد نصيف ، وقد أسمعاني مرارًا ترتيل القرآن ، والحق يقال : إن
ترتيلهما كان في غاية الإبداع .
لا يسمح الوهابيون لأحد أن يغني غناءً عاديًّا , ولا أن يستعمل معازف
موسيقية ، وقد منعوا الحجاج المصريين من جلب المحمل التي كانت العادة أن
يجلبوه مع موسيقى الحج [7] , ولكنهم لا يتعرضون لترتيل القرآن , وقد تسامحوا
معي في بعض الشؤون , ولم يمنعوني من دعوة بعض البدو إلى داري , وسماع
أناشيدهم ، وقد أسمعني أحد أصحاب القوافل بعض الأناشيد التي ينشدها الحداة من
رجال القافلة أثناء سيرهم في البادية .
كان ابن سعود يوم زرت جدة في طرف البادية [8] , ولم أتمكن من مقابلته ،
ولكنه تلطف , وأرسل لي عدة برقيات تنم جميعها عن عطفه علي ، وقبل سفري
ببضعة ساعات أخذت وأنا على ظهر الباخرة برقية منه أعرب لي فيها كثرة أشغاله ،
وأفصح عن أسفه الشديد ؛ لعدم تمكنه من مقابلتي ، وتمنى لي سفرًا سعيدًا [9] .
والحق يقال : إن ابن السعود كالإمام يحيى لا يوجد حوله رجال عاملون
يساعدونه في إدارة دفة الحكم , فهو يعتمد على نفسه في كل شيء .
وقد مضى عليه ثلاث سنوات , ولم يزر في خلالها أرض نجد ؛ ولذلك ذهب
هذه السنة ؛ ليزورها ، ولينظر في شؤون الإخوان , وتنظيم أعمالهم .
***
السيد أحمد السنوسي
كان من جملة الأسباب التي حملتني على القيام برحلتي هذه ؛ رغبتي في
مقابلة صديقي القديم السيد أحمد السنوسي , الطائر الصيت الذي تعرفت إليه في
بورصة في صيف سنة 1919 , وكانت تلك الرحلة التي تعرفت إليه في خلالها من
أهم الرحلات التي قمت بها في هذا العالم .
قلت : إني قمت برحلات عديدة في هذه الأرض , وكنت دائمًا أدرس نفسية
البشر في أطرافها ، وقد أعجبت مرارًا ببعض العقول التي لم تبلغها أيدي التهذيب ,
وقابلت كثيرًا من أصحاب هذه العقول , ولا غرو أن مقابلتهم ساعة عملهم كانت
نهاية الإبداع , وهذه العقول لا تنمو إلا بين أصحاب الفيافي والقفار , وكل ذرة , لا
بل كل خلية من خلايا دماغ هؤلاء الأشخاص هي حية في ذاتها ، وحساسة لكل
عارض يعرض لها ، وسريعة في تنفيذ أحكامها , وحكيمة في استنتاجاتها .
وأحمد السنوسي هو أحد أصحاب هذه العقول النيرة ، ودليلي على ذلك أنه
تمكن في برهة وجيزة من إيجاد مملكة تحيط بها القفار من كل الأطراف .
منع الحلفاء عامة , والتليان خاصة هذا الزعيم الكبير من العودة إلى بلاده
وأهله بعد الحرب العظمى ؛ فاضطر أن يذهب من تركية إلى سورية , فالصحراء .
ولا يزال إلى يومنا هذا هائمًا على وجهه من بلاد إلى بلاد بعيدًا عن أهله
وعائلته [10] , ومع الأسف الشديد لم يهتم به أحد , وهو اليوم في العسير , وقد
أرسل أحد عماله إلى جدة ؛ ليفاوض ابن سعود , فرأيت أن أراه لأطلع منه على
أخبار السنوسي ؛ لأني قلت سابقًا : إن من جملة الأسباب التي حملتني على هذه
الرحلة هي مقابلة هذا الرجل العظيم , ولكن لم يؤذن لي أن أقابل ذلك الرسول , ويا
حبذا لو اهتمت بعض الحكومات الإسلامية بشأن هذا الرجل العظيم ما دام شعبه قد
حرم من زعامته , وحرم هو من بلاده .
للمحاضرة بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) مستر تشارلس كراين من أكارم رجال الأمة الأميركية , وتولى مناصب عالية في دولتها نعرف منها أنه كان سفيرًا للولايات المتحدة في الصين ، وعهدت إليه رياسة اللجنة الأميركية التي أرسلت لاستفتاء أهل سورية وغيرهم في مصير بلادهم بعد الحرب بناء على مبادئ صديقه مستر ولسن الذي كان رئيس جمهورية حكومته , وكان صاحب الكلمة العليا لدى دول الحلف البريطاني اللاتيني ؛ لأنه هو الذي أنقذ هذه الدول من بطشة ألمانية الكبرى ، ومستر كراين قد طاف أقطار الشرق , واختبر المسلمين ؛ فأحبهم , وعرف فضل دينهم , وعرف به كما يعلم من محاضرته هذه , وقد آلمت بعض من سمعها من متعصبي أبناء جلدته وإخوان ملتهم , وقد حضرها في نادي جمعية الرابطة الشرقية جمهور منهم ومن المصريين والسوريين وغيرهم , وكان يترجم كلامه بالعربية جعفر ولي باشا المشهور جملة جملة . وما ننشره هنا هو ترجمة ما كان كتبه لإلقائه ، ولكنه زاد في أثناء الإلقاء مسائل وإيضاحات أخرى , فنشير إلى بعضها في الحواشي .
(1) هو زعيم الدين الذي ينتمي إليه مئات الملايين في الهند والشرق الأقصى ، والظاهر أنه كان من الأنبياء الذين ضاعت كتبهم ؛ فتمكنت الوثنية من أتباعهم .
(2) هم أهل التبت نسبة إلى اللام , وهو لقب رئيسهم الديني .
(3) قد خص بالذكر سوء حال أوربة بعد الحرب الكبرى ؛ إذ صار البعد بينها وبين تعاليم المسيح أشد مما كان قبلها , كما أنه صرح بأنه رأى في هذا العهد أن الإسلام قد ضعف وصول نوره في مصر والشام والآستانة عما كان عهده من عشرات السنين في هذه الأمصار , وقوله هذا يؤيده قوله تعالى في المسلمين : [ ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ] .
(4) زاد في الإلقاء هنا : ورؤساء المدارس عندنا أجل من رؤساء الجمهورية ؛ لأنهم الذين يربون رؤساء الجمهوريات وسائر الرجال العظام .
(5) يعني بهذا تقاليد الكنيسة النصرانية ، وكل من عرف دين الفطرة بعد عن دين الصنعة .
(6) السبب الصحيح لهذه الحادثة أن الملك حسينًا كان قد أثار فتنة في العسير لانتزاعها من ابن السعود والإدريسي , وفي أثناء القتال بين ثواره , وبين الإخوان وصل حجاج اليمن , فظن الإخوان أنهم مدد من الملك حسين لابن عايض الذي أثاره لحربهم , فأصلوهم نارًا حامية ، ثم حزنوا لما علموا أنهم من اليمن , واعتذر ابن السعود للإمام يحيى , ورد إليه جميع ما كان قد أخذه الإخوان من جماعته.
(7) الصواب إنهم منعوا حرس المحمل من استصحاب معازف الموسيقى العسكرية فتركوها في جدة وأعادوها معهم إلى مصر عند عودة المحمل .
(8) الصواب أنه كان في المدينة المنورة .
(9) جاء في البلاغ 310 من بلاغات مكتب الاستعلامات السوري الذي صدر في 20 يناير سنة 1927 نص البرقيتين اللتين تبودلتا بين مستر كراين , وملك الحجاز ابن السعود في رسالته للمكتب من جدة مؤرخة في 10 يناير وهذا نصها : برقية المستر كراين : اسمح لي يا صاحب الجلالة قبل أن أبرح بلادكم أن أقدم لجلالتكم عظيم الامتنان لما لاقيته من الحفاوة من قبل نجلكم الكريم , ومن قبل رجال حكومتكم الموقرة , ولا سيما السيد محمد نصيف , وإنني أضرع إليه تعالى أن يوفقكم لتوحيد صفوف شعبكم خاصة , والمسلمين عامة ، وعساكم تعطفون على جميع الذين يعملون على إطاعة الله , ويراقبون أعمالكم المجيدة باهتمام زائد , والذين يعرفون أن لشعبكم الكريم المعتصم من مفاسد العالم بصحرائه الشاسعة خدمات جليلة مقدسة في هذه الدنيا ألا وهي : حفظ كيان الدين الصحيح , ونشره بين العالم خاليًا من كل شائبة وتفضلوا في الختام بقبول فائق الاحترام ( جواب جلالة الملك على برقية المستر كراين ) أشكركم على حسن ظنكم بنا , وأحيي فيكم هذه العاطفة الشريفة نحو أمتنا , ورغبتكم في نجاحها , وهذا أكبر دليل على طيب سريرتكم , وسمو مبادئكم , فالله أسأل أن يعلي الحق ويؤيده ، وإني آسف أن الظروف لم تمكننا من مقابلتكم , فأتمنى لكم سفرًا سعيدًا .
(10) ( المنار) كان قد ألقى رحله بمكة المكرمة ؛ فأكرم الملك عبد العزيز مثواه , ثم سافر إلى عسير حيث آل الإدريسي من ذوي القربى , وهو الذي وضع أساس معاهدة مكة المكرمة التي جعلت بلاد عسير , وأمرائها تحت حماية ابن السعود .
(28/132
 
عودة
أعلى