الإسراء والمعراج بالروح والجسد يقظة لا مناما

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الإسراء والمعراج ( 9 )
الإسراء والمعراج بالجسد والروح يقظة لا منامًا
الصحيح أن الإسراء والمعراج كانا بالجسد والروح يقظة لا منامًا ، والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة :
منها : قوله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1] وفيه دليلان :
الأول : أن التسبيح إنما يكون عند الآيات العظيمة ، وكلمة سبحان أصلها التنزيه وتطلق في موضع التعجب، فلو كان منامًا لما كان مستعظمًا ، ولما أنكرت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذَّبَتْهُ .
فدعوى أنه كان منامًا فاسدة ، إذ ليس في المنام إعجاز ، ولو أخبر إنسان بأنه رأى في المنام عجائب وغرائب لما كان في ذلك دهش ولا استغراب ، ولو أخبر أنه رأى نفسه في آخر بلدان الأرض وهو في أولها ، وجرى له أشياء غير مألوفة ولا معتادة لما كذبه أحد ، وهذا الأمر يحدث كثيرًا .
الثاني : قوله تعالى : { بعبده } والعبد عبارة عن مجموع الروح والجسد ؛ ولو كان بروحه صلى الله عليه وسلم فقط لقال تعالى : بروح عبده .

ومنها : قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } [الإسراء: 60] ؛ روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما – قال : هي رؤيا عين أُريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس .
أي : أن المراد بالرؤيا ما شاهده النبي صلى الله عليه وسلم في رحلته ؛ واستعمال ( رؤيا ) في الرؤية البصرية لا المنامية وارد في كلام العرب ، قال ابن منظور في ( لسان العرب ) : وقد جاء الرؤيا في اليقظة قال الراعي :
فكبر للرؤيا وهش فؤاده ... وبشر نفسًا كان قبلُ يلومها
وعليه فسر قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } ، قال : وعليه قول أبي الطيب : ورؤياك أحلى في العيون من الغمض .ا.هـ.
أي : من النوم ؛ وذهب البعض إلى أن الرؤيا إذا استعملت في البصرية إنما يكون ذلك في الأشياء العجيبة كأنها من الأشياء التي لا تحصل إلا منامًا ؛ ويشهد لذلك قوله تعالى : { إلا فتنةً للناس } ، والرؤيا المنامية ليس فيها فتنة ؛ وقد ثبت في المسند وسنن النسائي الكبرى من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ثم جاء من ليلته ، فحدثهم بمسيره إلى بيت المقدس وبعيرهم ، فقال ناس : نحن لا نصدق محمدًا بما يقول ، فارتدوا كفارًا ، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل .ا.هـ . قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله : وإسناده صحيح .

ومنها : قوله تعالى: { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [النجم:17 ، 18] .
والشاهد : أن البصر من آلات الذات لا الروح ؛ وثبت عن ابن عباس أنه قال : ما ذهب يمينًا ولا شمالاً ، وما جاوز ما أمر به .
قال سيد قطب - رحمه الله : فلم يكن زغللة عين ، ولا تجاوز رؤية ، إنما هي المشاهدة الواضحة المحققة ، التي لا تحتمل شكًّا ولا ظنًّا ، وقد عاين فيها من آيات ربه الكبرى ، واتصل قلبه بالحقيقة عارية مباشرة مكشوفة .ا.هـ.

ومنها : ما رواه الجماعة من أنه - صلى الله عليه وسلم - أوتي بالبراق وركبه ، والركوب للبدن لا للروح ؛ إذ أنها لا تحتاج في انتقالها لدابة .
وما رواه الشيخان عن جابر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لما كذبتني قريش ، قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس ، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه " ؛ وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها ، فكُربت كربًا ما كُربت مثله ، فرفعه الله أنظر إليه ، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم " ؛ ولو كان رؤيا منامية لما استغربه القوم وعجبوا وسألوا أدلة على ذلك ، فإن المرء قد يرى في نومه ما قد يكون محالاً في الواقع ولا ينكر ذلك عليه أحد .

هذا من جهة النقل الصحيح الثابت : وأما من جهة العقل فتكاد تنحصر شبه المخالفين في الإسراء والمعراج بالجسد في استبعاد الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ، ثم الصعود إلى السماوات العلى ثم الرجوع إلى حيث كان في جزء من الليل ؛ وفي أن القرآن الكريم لم يذكر المعراج صراحة كما ذكر الإسراء ، وفي أن المعراج يترتب عليه الخرق والالتئام في الأفلاك والسماوات ، وذلك مستحيل في زعمهم .
والحق أنه لا استحالة في ذلك عقلاً، وإن كان ذلك مستحيلاً في قدرة المخلوق ، فليس في قدرة الخالق جل ذكره شيء من ذلك مستحيل ، وهذا هو حد المعجزة ، أنه لا يقدر على فعلها إلا الله جلت قدرته .
فأما دعوى أن القرآن الكريم لم يذكر المعراج كما ذكر الإسراء ، فإن القرآن نزل ليُتدبر ومن تدبره استطاع أن يصل إلى استنباط المعراج من حديثه في سورة النجم ، وهذا ما قاله أكثر علماء السلف والخلف : إن المعراج ذكر بدلالة الالتزام .
وأما دعوى استبعاد الذهاب من مكة إلى بيت المقدس والرجوع في ليلة ، فأحسب أنها الآن غير ذات موضوع ، إذ أن التقدم التكنولوجي والذي بسببه وجدت نفاثات أسرع من الصوت ، وصنعت أقمار صناعية – كما يسمونها – تخترق حجب الصوت وطبقات الغلاف الجوي ، وغير ذلك من المركبات ، أحسب أن تلك المخترعات كفتنا مؤنة التفكير العقلي في الرد على هذه الشبهة ؛ فإذا كان الله القدير قد علم البشر مثل هذه العلوم وكشفها لهم في عصرنا هذا ، فأصبح في قدرة البشر ما سبق ذكره ، أفبعد ذلك يدعي عاقل استبعاد معجزة الإسراء عقلاً ؛ والله لا يقول ذلك إلا ملحدٌ لا يؤمن بالله ، أو فاقد عقله .
وأما دعوى عدم إمكان الخرق والالتئام على الأفلاك والسماوات ، فهذا ما لم يقم عليه دليل أصلاً ، فإن الذي خلقهم سبحانه قادر على أن يحدث فيهم ما يريد .
وعلى ذلك فلا غرابة في أن إسراءه ومعراجه صلى الله عليه وسلم كانا بالروح والجسد معًا ، يقظة لا منامًا ، ولا حاجة إلى التأويل وصرف النص القرآني وما يماثله من ألفاظ الحديث إلى ما يخالف الحقيقة ، ولا مقتضى لذلك إلا مجرد الاستبعاد ، وتحكيم محض العقول القاصرة عن فهم ما هو معلوم من أنه لا يستحيل على الله سبحانه شيء .
ولله در شوقي حين قال :
يا أيها المُسْرَى به شرفًا إلى ... ما لا تنال الشمس والجوزاء
يتساءلون وأنت أطهرُ هيكلٍ ... بالروح أم بالهيكل الإسراء
بهما سـموت مـطـهرًا وكـلاهــما نـورٌ وروحـانيةٌ وبـهـاء
فضلٌ عليك لذي الجلال ومنةٌ ... والله يفعل ما يرى ويشاء​
هذا ، والعلم عند الله تعالى .
 
عودة
أعلى