[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم
الأمية وصفة الاستقلالية[/align]
فهم أمية الرسول صلى الله عليه وسلم لا تكتمل إلا بالنظرة إلى لفظ الأمي على أنه فرع من شجرة يشترك فيها مع الفروع الأخرى في خصائصها ومميزاتها وليس بمعزل عن فروع هذه الشجرة، وهذه الشجرة اللغوية نمت على معنى استقلالية الموصوف ووقوفه على نفسه غير تابع لمثله؛ فمنها:
الإمام: وهو الذي يكون دائمًا متبوعًا غير تابع.
والأمام: وهي الجهة التي تتبعها دائمًا بنظرك أو بسيرك، ولا تكون خلفك.
والأم: وهي المرأة التي لها ابن أو أبناء، فهي أم لهؤلاء الأبناء، فعندما ينسبوها يقال أمه أو أمها فلانة بنت فلان، ولا يرفعوا نسبها إلى امرأة مثلها، فلا يقال أمه فلانة بنت فلانة، فيوقف عند الأم فقط، ولا نتبعها إلى غيرها من الأمهات.
أما الآباء فنتبع بعضهم ببعض إلى آدم عليه السلام ما استطعنا.
أم القرى: تسمية خاصة بمكة المكرمة في قوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا (92) الأنعام.
ووصفت بذلك لأنها أول قرية لم تقم على أساس زراعي، والقرية إنما سميت بالقرية؛ لأنها تخزن الطعام للفصول التي لا يكون فيها حصاد، بسبب استقرار أهلها الدائم في المكان، وعدم الرحيل عنها، ولذلك يسمى بيت النمل بقرية النمل؛ لأنها أشهر دواب الأرض في خزن الطعام، وما زالت بعض القبائل تسمي الحجرة أو الغرفة المخصصة لخزن طعام أهل الدار، أو علف البهائم بالقرية، على أصل التسمية، لذلك فإن تسمية القرية تطلق على الناس المستقرين لخزنهم الطعام، وتطلق على المكان لخزن الطعام فيه، وفي فعلهم هذا تأمين حاجتهم، وكفايتهم منه طوال العام، ولمن يأتيهم، فلا يضطروا للرحيل عن القرية.
قال تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) الكهف. فالمقصود بالقرى الناس، وهم الذي ظلموا، والهلاك وقع على الناس، وعلى المكان الذي يصبح مهجورًا بعد هلاك الناس فيه، وقال تعالى: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ(77) الكهف، فالمراد هنا بالقرية المكان دون أهله، أما قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) يوسف، فالمراد بالقرية؛ الذي جمعوا الطعام معهم ليخزنوه قوتًا لهم، ولو أريد بأهل القرية كما يستشهد بهذه الآية على حذف "أهل" لاقتضى ذلك أن يسافر يعقوب عليه السلام إلى مصر ويسأل أهلها، والأولى لو فعل ذلك أن يسأل ابنه ويسأل عزيز مصر بدلا من سؤال أهلها.
ومكة المكرمة هي أول قرية تخزن غذاءها بشكل دائم، لأنها بواد غير ذي زرع، ولم يتقلب عليها غير أهلها، وكثرت ذرية أول ساكن لها، فكانت منه قبائل كثيرة أنشأت لها قرى كثيرة فكانت مكة المكرمة هي حقًا هي أم القرى.
وجعل الله تعالى نار جهنم أُمًّا للمعذبين في قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) القارعة، ولا تذكر الأم إلا إذا لمن لم يكن له غيرها يرجع إليه؛ كعيسى ابن مريم عليه السلام، وفي هذا الوصف دلالة قوية على ضعفه، وانقطاعه بهذا المكان الذي انتهى إليه.
والأَمَة: تطلق على المرأة التي لا يعرف من هو أباها؛ إما جهلا بها، فنقول يا أمة الله، أو تكون من السبي التي انقطع نسبها بأهلها.
والأُمّة: هي التي لا تتبع غيرها من الأمم، ولا يكون عملها إلا لنفسها، وقرارها نابع منها، وفق مصالحها ومبادئها...فإن كانت تابعة لغيرها فلا يصح أن توصف بأنها أمة مهما بلغ عدد أفرادها، وانتشرت مساحة أرضها.
وكل نوع من الطير والحشرات والدواب أمة من الأمم؛ لأن عملها لنفسها وليس لغيرها؛ قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) الأنعام
وسمي إبراهيم عليه السلام أُمَّة في قوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) النحل، لأن عمله منبعه العقيدة التي يؤمن بها، ولا يسأل عن غيره، فقد تبرأ من أبيه آزر؛ عندما تبين له أنه عدو لله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) التوبة.
ولما أمر بذبح ابنه قام لتنفيذ الأمر: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) الصافات. فعليه السلام لم يعمل من أجل قومه، ولا والده، ولا بنيه. وهجر قومه وبلده إلى الله ... ولم يجعل بينه وبين الله أحدًا، فهو حقًا أُمَّة لوحده.
ووصف تعالى بالأمة الرعاء الذين لا يعملون إلا لأنفسهم، تاركين من هو محتاج لمساعدتهم: قال تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) القصص.
ووصف تعالى بالأمة من لا يهتم إلا بنفسه؛ قال تعالى: (قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) الأعراف. حيث انقسم أهل القرية التي كانت حاضرة البحر إلى ثلاثة أقسام؛ قسم لم يلتزم بنهي الله عن الصيد يوم السبت، وقسم التزم بالنهي، وكان يعظ الفريق الأول الذي لم يلتزم، وقسم ثالث التزم بأمر النهي، ولكنه ترك الفريق الأول وشأنه، ولم ينهه عن المعصية، وهؤلاء هم الذين سموا بالأمة في الآية.
وسمى تعالى بالأمة المدة التي عمل فيها السجين الذي نجا ساقيًا للملك، فلم يلتفت لوصية يوسف عليه السلام بأن يذكره عند ربه، ولم يكن همه فيها إلا نفسه؛ قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يوسف.
وتسمى بالأمة كل فرقة من الفرق التي تفرقت عن جماعة واحدة؛ إذا كان عملها لنفسها لوحدها دون غيرها من الجماعات الأخرى؛ قال تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ...(160) الأعراف.
والأمي: هو الذي لا يتبع أحدًا، ولا لأحد عليه فضل يدين له به.
لما كانت القراءة والكتابة هي صنعة من الصناعات كما صنفها ابن خلدون في مقدمته، ولا بد من معلم يعلمها فيكون المتعلم لها تابعًا لمن علمه؛ خرج المتعلم عن الوصف بالأمي لأنه لم يعد مستقلا بنفسه.
وكذلك فإن النصوص تحوي في محتواها علوما متنوعة، فمن يطلع عليها سيكون تابعًا لمن بلغه بها، ومنقادًا لهذه العلوم ومستعينًا بها.
فارتبط لذلك وصف الأمي بمن لم يتعلم القراءة والكتابة؛ لأنه بتعلمه لهما تنتفي صفة الأمي عنه.
ويسمى أميًا من كان عنده كتابًا لا يعلم ما فيه ولا يتبعه، لأن الكتاب في هذا الحال لا أثر له عليه؛ قال تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) البقرة.
وفوق ذلك أنهم أتوا من أنفسهم بما نسبوه إلى الله ،، فقد جاء بعدها: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) البقرة
وبالرغم من عدم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة والكتابة لم يسلم من المشركين؛ قال تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) الفرقان
وقال تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) العنكبوت.
ووصف العرب بالأميين لما كانت العرب في جزيرة العرب ليس لهم كتابًا يتبعونه، ولا يتبعون غيرهم من الأمم، ويسيرون أمورهم بما تعارفوا عليه من أعراف، وعادات، وتقاليد، واتصافهم بالبيان والفصاحة بالتربية من غير معلمين متفرغين لذلك، فكان وصفهم بالأميين مطابقًا لحالهم.
ولم يكن وصفهم بالأميين لجهلهم بالقراءة والكتابة .. وقد كانت معرفة القراءة والكتابة في قلة من الناس عند كافة الأمم، وليس عند العرب فقط، وبعد الإسلام كان العرب والمسلمون أكثر الناس معرفة بهما.
ووصف الرسول بالأمي في التوراة والإنجيل عليه الصلاة والسلام، وأمروا باتباعه؛ يتنافى مع المفهوم الخاطئ للأمي بالنقص والجهالة لأنه لا يعرف القراءة والكتابة؛ قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ .. (157) الأعراف
يفيد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمي الآتي:
- أن هذا النبي لا يعرف الكتابة والقرآن وبعدم علمه بهما ينتفي تعلمه شيئًا من الكتب سرًا أو جهرًا.
- أن هذا النبي لن يكون من أهل الكتاب لأن النبي يختار من أوسط قومه وأفضلهم، وأفضل أهل الكتاب أهل العلم فيهم، الذين تنتفي عنهم صفة الأميين فهو لم يأخذ شيئَا من علمهم قل أم كثر.
- أن هذا النبي لن يكون علمه ودعوته لعائلته أو قبيلته أو قومه بل ستكون دعوة عالمية لكل البشر.
- أنه ذو بيان وفصاحة من غير معلم له.
- أنه ليس لأحد فضل على النبي صلى الله عليه وسلم سوى الله تعالى.
هذا هو الواقع الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام، ووصفه بالنبي له دلالته الاستقلالية عن أهل الكتاب خاصة، وعن جميع الملل والنحل، وهو وصف شرف وصفاء واستقلال للنبي عليه الصلاة والسلام...
وبناء على المفهوم الخاطئ للأمية، دون معرفة سبب وصف الأمي بهذا الاسم، وانتشار العلوم واتساعها، بحيث لا يمكن أن يتمكن أحد منها، دون أن يعرف القراءة والكتابة، انتشر وعم وصف الجاهل بالقراءة والكتابة بالأمي، وتندر بها أصحاب المسارح والتمثيليات، حتى ترسخ هذا الفهم الخاطئ في عقول العامة جميعًا والمتعلمين، وارتبط وصف الأمي بالتخلف والنقص والجهالة، على خلاف الوضع العربي له، والصحيح أن الأمي هو المستقل بنفسه، العالم بما يكفيه من غير معلم. وليس التبشير في كتب أهل الكتاب بالأمي ودعوتهم لاتباعه هو دعوة لاتباع رجل جاهل لا يعرف القراءة والكتاب.... لقد كان الأمر أعظم من ذلك وأجل ... إنه اتباع من اكتمل مستقلا مبرأ من كل تبعية إلا لله عز وجل.
[align=center]أبو مسلم/ عبد المجيد العرابلي[/align]
الأمية وصفة الاستقلالية[/align]
فهم أمية الرسول صلى الله عليه وسلم لا تكتمل إلا بالنظرة إلى لفظ الأمي على أنه فرع من شجرة يشترك فيها مع الفروع الأخرى في خصائصها ومميزاتها وليس بمعزل عن فروع هذه الشجرة، وهذه الشجرة اللغوية نمت على معنى استقلالية الموصوف ووقوفه على نفسه غير تابع لمثله؛ فمنها:
الإمام: وهو الذي يكون دائمًا متبوعًا غير تابع.
والأمام: وهي الجهة التي تتبعها دائمًا بنظرك أو بسيرك، ولا تكون خلفك.
والأم: وهي المرأة التي لها ابن أو أبناء، فهي أم لهؤلاء الأبناء، فعندما ينسبوها يقال أمه أو أمها فلانة بنت فلان، ولا يرفعوا نسبها إلى امرأة مثلها، فلا يقال أمه فلانة بنت فلانة، فيوقف عند الأم فقط، ولا نتبعها إلى غيرها من الأمهات.
أما الآباء فنتبع بعضهم ببعض إلى آدم عليه السلام ما استطعنا.
أم القرى: تسمية خاصة بمكة المكرمة في قوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا (92) الأنعام.
ووصفت بذلك لأنها أول قرية لم تقم على أساس زراعي، والقرية إنما سميت بالقرية؛ لأنها تخزن الطعام للفصول التي لا يكون فيها حصاد، بسبب استقرار أهلها الدائم في المكان، وعدم الرحيل عنها، ولذلك يسمى بيت النمل بقرية النمل؛ لأنها أشهر دواب الأرض في خزن الطعام، وما زالت بعض القبائل تسمي الحجرة أو الغرفة المخصصة لخزن طعام أهل الدار، أو علف البهائم بالقرية، على أصل التسمية، لذلك فإن تسمية القرية تطلق على الناس المستقرين لخزنهم الطعام، وتطلق على المكان لخزن الطعام فيه، وفي فعلهم هذا تأمين حاجتهم، وكفايتهم منه طوال العام، ولمن يأتيهم، فلا يضطروا للرحيل عن القرية.
قال تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) الكهف. فالمقصود بالقرى الناس، وهم الذي ظلموا، والهلاك وقع على الناس، وعلى المكان الذي يصبح مهجورًا بعد هلاك الناس فيه، وقال تعالى: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ(77) الكهف، فالمراد هنا بالقرية المكان دون أهله، أما قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) يوسف، فالمراد بالقرية؛ الذي جمعوا الطعام معهم ليخزنوه قوتًا لهم، ولو أريد بأهل القرية كما يستشهد بهذه الآية على حذف "أهل" لاقتضى ذلك أن يسافر يعقوب عليه السلام إلى مصر ويسأل أهلها، والأولى لو فعل ذلك أن يسأل ابنه ويسأل عزيز مصر بدلا من سؤال أهلها.
ومكة المكرمة هي أول قرية تخزن غذاءها بشكل دائم، لأنها بواد غير ذي زرع، ولم يتقلب عليها غير أهلها، وكثرت ذرية أول ساكن لها، فكانت منه قبائل كثيرة أنشأت لها قرى كثيرة فكانت مكة المكرمة هي حقًا هي أم القرى.
وجعل الله تعالى نار جهنم أُمًّا للمعذبين في قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) القارعة، ولا تذكر الأم إلا إذا لمن لم يكن له غيرها يرجع إليه؛ كعيسى ابن مريم عليه السلام، وفي هذا الوصف دلالة قوية على ضعفه، وانقطاعه بهذا المكان الذي انتهى إليه.
والأَمَة: تطلق على المرأة التي لا يعرف من هو أباها؛ إما جهلا بها، فنقول يا أمة الله، أو تكون من السبي التي انقطع نسبها بأهلها.
والأُمّة: هي التي لا تتبع غيرها من الأمم، ولا يكون عملها إلا لنفسها، وقرارها نابع منها، وفق مصالحها ومبادئها...فإن كانت تابعة لغيرها فلا يصح أن توصف بأنها أمة مهما بلغ عدد أفرادها، وانتشرت مساحة أرضها.
وكل نوع من الطير والحشرات والدواب أمة من الأمم؛ لأن عملها لنفسها وليس لغيرها؛ قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) الأنعام
وسمي إبراهيم عليه السلام أُمَّة في قوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) النحل، لأن عمله منبعه العقيدة التي يؤمن بها، ولا يسأل عن غيره، فقد تبرأ من أبيه آزر؛ عندما تبين له أنه عدو لله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) التوبة.
ولما أمر بذبح ابنه قام لتنفيذ الأمر: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) الصافات. فعليه السلام لم يعمل من أجل قومه، ولا والده، ولا بنيه. وهجر قومه وبلده إلى الله ... ولم يجعل بينه وبين الله أحدًا، فهو حقًا أُمَّة لوحده.
ووصف تعالى بالأمة الرعاء الذين لا يعملون إلا لأنفسهم، تاركين من هو محتاج لمساعدتهم: قال تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) القصص.
ووصف تعالى بالأمة من لا يهتم إلا بنفسه؛ قال تعالى: (قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) الأعراف. حيث انقسم أهل القرية التي كانت حاضرة البحر إلى ثلاثة أقسام؛ قسم لم يلتزم بنهي الله عن الصيد يوم السبت، وقسم التزم بالنهي، وكان يعظ الفريق الأول الذي لم يلتزم، وقسم ثالث التزم بأمر النهي، ولكنه ترك الفريق الأول وشأنه، ولم ينهه عن المعصية، وهؤلاء هم الذين سموا بالأمة في الآية.
وسمى تعالى بالأمة المدة التي عمل فيها السجين الذي نجا ساقيًا للملك، فلم يلتفت لوصية يوسف عليه السلام بأن يذكره عند ربه، ولم يكن همه فيها إلا نفسه؛ قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يوسف.
وتسمى بالأمة كل فرقة من الفرق التي تفرقت عن جماعة واحدة؛ إذا كان عملها لنفسها لوحدها دون غيرها من الجماعات الأخرى؛ قال تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ...(160) الأعراف.
والأمي: هو الذي لا يتبع أحدًا، ولا لأحد عليه فضل يدين له به.
لما كانت القراءة والكتابة هي صنعة من الصناعات كما صنفها ابن خلدون في مقدمته، ولا بد من معلم يعلمها فيكون المتعلم لها تابعًا لمن علمه؛ خرج المتعلم عن الوصف بالأمي لأنه لم يعد مستقلا بنفسه.
وكذلك فإن النصوص تحوي في محتواها علوما متنوعة، فمن يطلع عليها سيكون تابعًا لمن بلغه بها، ومنقادًا لهذه العلوم ومستعينًا بها.
فارتبط لذلك وصف الأمي بمن لم يتعلم القراءة والكتابة؛ لأنه بتعلمه لهما تنتفي صفة الأمي عنه.
ويسمى أميًا من كان عنده كتابًا لا يعلم ما فيه ولا يتبعه، لأن الكتاب في هذا الحال لا أثر له عليه؛ قال تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) البقرة.
وفوق ذلك أنهم أتوا من أنفسهم بما نسبوه إلى الله ،، فقد جاء بعدها: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) البقرة
وبالرغم من عدم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة والكتابة لم يسلم من المشركين؛ قال تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) الفرقان
وقال تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) العنكبوت.
ووصف العرب بالأميين لما كانت العرب في جزيرة العرب ليس لهم كتابًا يتبعونه، ولا يتبعون غيرهم من الأمم، ويسيرون أمورهم بما تعارفوا عليه من أعراف، وعادات، وتقاليد، واتصافهم بالبيان والفصاحة بالتربية من غير معلمين متفرغين لذلك، فكان وصفهم بالأميين مطابقًا لحالهم.
ولم يكن وصفهم بالأميين لجهلهم بالقراءة والكتابة .. وقد كانت معرفة القراءة والكتابة في قلة من الناس عند كافة الأمم، وليس عند العرب فقط، وبعد الإسلام كان العرب والمسلمون أكثر الناس معرفة بهما.
ووصف الرسول بالأمي في التوراة والإنجيل عليه الصلاة والسلام، وأمروا باتباعه؛ يتنافى مع المفهوم الخاطئ للأمي بالنقص والجهالة لأنه لا يعرف القراءة والكتابة؛ قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ .. (157) الأعراف
يفيد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمي الآتي:
- أن هذا النبي لا يعرف الكتابة والقرآن وبعدم علمه بهما ينتفي تعلمه شيئًا من الكتب سرًا أو جهرًا.
- أن هذا النبي لن يكون من أهل الكتاب لأن النبي يختار من أوسط قومه وأفضلهم، وأفضل أهل الكتاب أهل العلم فيهم، الذين تنتفي عنهم صفة الأميين فهو لم يأخذ شيئَا من علمهم قل أم كثر.
- أن هذا النبي لن يكون علمه ودعوته لعائلته أو قبيلته أو قومه بل ستكون دعوة عالمية لكل البشر.
- أنه ذو بيان وفصاحة من غير معلم له.
- أنه ليس لأحد فضل على النبي صلى الله عليه وسلم سوى الله تعالى.
هذا هو الواقع الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام، ووصفه بالنبي له دلالته الاستقلالية عن أهل الكتاب خاصة، وعن جميع الملل والنحل، وهو وصف شرف وصفاء واستقلال للنبي عليه الصلاة والسلام...
وبناء على المفهوم الخاطئ للأمية، دون معرفة سبب وصف الأمي بهذا الاسم، وانتشار العلوم واتساعها، بحيث لا يمكن أن يتمكن أحد منها، دون أن يعرف القراءة والكتابة، انتشر وعم وصف الجاهل بالقراءة والكتابة بالأمي، وتندر بها أصحاب المسارح والتمثيليات، حتى ترسخ هذا الفهم الخاطئ في عقول العامة جميعًا والمتعلمين، وارتبط وصف الأمي بالتخلف والنقص والجهالة، على خلاف الوضع العربي له، والصحيح أن الأمي هو المستقل بنفسه، العالم بما يكفيه من غير معلم. وليس التبشير في كتب أهل الكتاب بالأمي ودعوتهم لاتباعه هو دعوة لاتباع رجل جاهل لا يعرف القراءة والكتاب.... لقد كان الأمر أعظم من ذلك وأجل ... إنه اتباع من اكتمل مستقلا مبرأ من كل تبعية إلا لله عز وجل.
[align=center]أبو مسلم/ عبد المجيد العرابلي[/align]