الألفاظ التي اقترنت بمصطلح (الجاهلية ) في القرآن الكريم، ودلالة الاقتران

إنضم
16/04/2003
المشاركات
67
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
[align=center]الألفاظ التي اقترنت بمصطلح (الجاهلية ) في القرآن الكريم[/align]
مصطلح الجاهلية مصطلح إسلامي، يراد به عند الإطلاق: الحالة التي كان عليها البشر، قبل مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث اندرست معالم النبوة، وامحت آثار الحنيفية.
بل نستطيع القول جازمين: إن مصطلح الجاهلية ، يطلق على كل فترة تسبق مبعث نبي من الأنبياء ، حيث انحراف الناس عن دين الله وبعدهم عن شريعته. يدل على هذا الحديث الذي أخرجه الترمذي عن عمران بن حصين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ـ الحديث وفيه ـ (فإنها لم تكون نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية) آخذين بعين الاعتبار؛ الاختلاف في نوع الانحراف ، ودرجته.
ومما يلفت النظر أن هناك ألفاظاً بعينها ، وردت في القرآن الكريم مقترنةً بمصطلح الجاهلية ، وسأعرض بين أيديكم محاولةً للوقوف على دلالة هذا الاقتران ، راجياً من أحبابنا الكرام أن يبدوا رأيهم ، سائلا الله أن يعصمني من زلل الرأي وخطل القول.

الموضع الأول: في سورة آل عمران: قال تعالى: ((‏ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ))
هذه الآية الكريمة تتحدث عن موقف المنافقين في غزوة أحد حيث أنزل الله النعاس أمنة للمؤمنين، أما المنافقين فقد أهمتهم أنفسهم. يقول ابن جرير "قوله: (قد أهمتهم أنفسهم) يقول: هم المنافقون لا هم لهم غير أنفسهم، فهم من حذر القتل على أنفسهم وخوف المنية عليها، في شغل قد طار عن أعينهم الكرى، يظنون بالله الظنون الكاذبة ظن الجاهلية من أهل الشرك بالله، شكاً في أمر الله وتكذيباً لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومَحْسَبة منهم أن الله خاذل نبيه ومعل عليه أهل الكفر به... وقوله: (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك) يقول: يخفي يا محمد هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك صفتهم، في أنفسهم من الكفر والشك في الله ما لا يبدون لك، ثم أظهر نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يخفونه بينهم من نفاقهم، والحسرة التي أصابتهم على حضورهم مع المسلمين مشهدهم بأحد، فقال مخبراً عن قيلهم الكفر وإعلانهم النفاق بينهم: (يقولون لو كان لنا من الأمر من شيء ما قُتلنا هاهنا) يعني بذلك أن هؤلاء المنافقين يقولون: لو كان الخروج إلى حرب من خرجنا لحربه من المشركين إلينا، ما خرجنا إليهم ولا قتل منا أحد في الموضع الذي قتلوا فيه بأحد" (الطبري:3/485).

الموضع الثاني: في سورة المائدة: قال تعالى: (( فَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ))
في هذه الآية ينكر تعالى على اليهود إعراضهم عن حكم الله تعالى، وابتغاءهم ما سواه من حكم الجاهلية، قال ابن كثير "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل، إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يصنعونها بآرائهم وأهوائهم.."(تفسير ابن كثير:2/207)

الموضع الثالث: في سورة الأحزاب: قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }
هذه الآية الكريمة في جملة من الآيات، فيها وصايا من الله تعالى لأمهات المؤمنين، قال ابن سعدي "(وقرن في بيوتكن) أي أقررن فيها؛ لأنه أسلم وأحفظ لكن (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) أي لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات كعادة أهل الجاهلية الأولى... (إنما يريد الله) بأمركن بما أمركن به ونهيكن عما نهاكن عنه (ليذهب عنكم الرجس) أي الأذى والشر والخبث" (تفسير السعدي:6/219)

الموضع الرابع: في سورة الفتح: قال تعالى: ((إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ))
هذه الآية الكريمة في سورة تتحدث عن صلح الحديبية وما جرى فيه للمؤمنين، قال ابن سعدي "يقول تعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية) حيث أنفوا من كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم، وأنفوا من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين إليهم في تلك السنة، لئلا يقول الناس: دخول مكة قاهرين لقريش، هذه الأمور ونحوها من أمور الجاهلية، لم تزل في قلوبهم حتى أوجبت لهم ما أوجبت من كثير من المعاصي:فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، فلم يحملهم الغضب على مقابلة المشركين بما قابلوهم به، بل صبروا لحكم الله والتزموا الشروط التي فيها تعظيم حرمات الله... وألزمهم كلمة التقوى وهي لا إله إلا الله" تفسير السعدي: 7/108)

هذه هي المواضع الأربعة :
[align=center] ظن الجاهلية - حكم الجاهلية - تبرج الجاهلية - حمية الجاهلية.[/align]
والتأمل في هذه الألفاظ وما تشي به ، يكشف لنا دلالة اقترانها بمصطلح الجاهلية ، إذ أجملت هذه الآيات الأربع - على ما فيها من قصر - وصف المجتمع الجاهلي بشكل عجب حقاً ، إنها تتحدث عن نظام كامل ، بكل خصائصه ومختلف جوانبه ، نظام مقابل تماماً لنظام الإسلام في شتى الجوانب ، نظام له تصوراته الخاصة به ، ونظمه المقابلة لنظم الإسلام وتصوراته.
كل آية من هذه الآيات الكريمة، تشير إلى جانب بارز في المجتمع الجاهلي ، يتشكل بها جميعاً صورة كلية للمجتمع الجاهلي ، يؤكد هذا: أن الآيات جميعها مدنية ، نزلت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وقيام المجتمع الإسلامي ، المتميز عن الجاهلية ، والمختلف في كل القيم والتصورات.

فآية آل عمران ـ وفيها ذكر ظن الجاهلية ـ تلمح إلى الجانب العقدي عند أهل الجاهلية، المتمثل في الجهل بالله تعالى وصفاته ، فهي تشير إلى تصور خاص بالجاهلية يخالف تماماً ما جاء به الإسلام في جانب الاعتقاد الذي أساسه المعرفة بالله عز وجل.

وآية المائدة وفيها ذكر حكم الجاهلية ، تشير إلى الجانب القانوني الذي ساد المجتمع الجاهلي ، القائم على الأهواء والميول الذاتية ، حيث الناس طبقات في المسؤولية القانونية ، بل وربما تحمل أحدهم جريرة غيره ، وإثم سواه ، بعيداً ـ في هذا كله ـ عن ميزان الحق والقسط المتمثل في قوله تعالى: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } وقوله تعالى: { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}، فالآية الكريمة تشير إلى طبيعة قانونية جاهلية، تخالف الإسلام.

وآية الأحزاب ـ وفيها ذكر تبرج الجاهلية ـ تشير إلى الجانب الخلقي الذي كان سائداً في الجاهلية ، تمثل ذلك في الإشارة إلى أهم الجوانب الخلقية ، حيث علاقة الرجل بالمرأة ، إذ كانت تقوم على النظرة الحيوانية والمتعة الجسدية فحسب ، وتبعات هذه النظرة على واقع الناس وحياتهم ، وهي مصادمة للنظرة التي جاء بها الإسلام للعلاقة بين الجنسين.

وآية الفتح ـ وفيها ذكر حمية الجاهلية ـ وهي تشير إلى طبيعة العقلية الجاهلية ، والأسس التي تحكم العلاقات الاجتماعية بين الأفراد ، والقائمة على مبدأ العصبية والحمية ، التي تولد عاطفة منحرفة ، لا تحكمها عقلية موضوعية ، وهي طبيعة لا تلتقي مع الأسس التي يقيمها الإسلام لعلاقة أفراد المجتمع فيه حيث تقوم على روابط الإيمان وإخوة الدين.

وبعد قد بان لنا، أن هذه المواضع الأربعة ، التي ذكر فيها لفظ الجاهلية مقروناً بالظن ، والحكم ، والتبرج ، والحمية ، قد أجملت وصف الجاهلية في أهم خصائصها ، العقدية والقانونية والخلقية والاجتماعية ، لتشير على نحو بديع وبعبارة مجملة إلى أبرز خصائص المجتمع الجاهلي ، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
 
بارك الله فيكم وفي علمكم ، وهذا من فوائد التفسير الموضوعي ، والعناية به ، فهو يكشف عن جوانب الموضوع الواحد ، ويربط مفرداتها المتفرقة ، حتى تتضح صورة الموضوع لقارئ القرآن الكريم .
 
ناصر الماجد المحترم

لدي سؤال ربما يعتبر جانبيا :

تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى

ما هو معنى ( الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ) ... (الأولى) في نظركم على وجه التحديد ؟
 
[align=justify]الأستاذ الكريم موراني: تحية طيبة، وأشكر لك قراءتك لهذا الموضوع

مسألة المراد بالجاهلية الأولى وقع فيها خلاف قديم ـ كما تعلم ـ بين المفسرين حتى فيما نقل عن الصحابة، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى تقسيم الجاهلية باعتبار الفترة الزمنية إلى جاهليتين: الجاهلية الأولى، والجاهلية الأخرى.
فأما الجاهلية الأولى: فقد اختلفوا في تحديدها في أقوال كثيرة؛ منها: أنها بين آدم ونوح أو بين نوح وإبراهيم أو زمن داود وسليمان عليهم جميعاً السلام.
أما الجاهلية الأخرى: فجعلوا المراد بها الفترة التي سبقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ومستند تقسيمهم هذا؛ الإضافة في قوله تعالى: ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى )) قال في البحر المحيط موجهاً هذا الرأي : " يدل على أن ثَمّ جاهلية متقدمة وأخرى متأخرة " .
والذي يظهر - والله أعلم - أن الجاهلية المشار إليها في الآية الكريمة، هي ما كان عليه العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن الله نهى أمهات المؤمنين عن تبرج نساء الجاهلية الأولى، ومن المسلَّم به: أن المرء لا ينهى عن مشابهة شيء إلا وهو على علم تام بصفة ما نهي عنه، وإذا صح هذا؛ فكيف ينهي أمهات المؤمنين عن شيء لم يدركنه ؟ ويفصله عنهن مدة طويلة من الزمن -على نحو ما ذكر القائمون بهذا- !
قال ابن عطية: "والذي يظهر عندي، أنه إشارة للجاهلية التي لحقنها، فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة" .
يؤكد هذا، الاضطراب الواضح الذي نراه في تحديد زمن الجاهلية الأولى، عند أصحاب هذا الاتجاه؛ مما يُشْعِر أنها لم تكن مشهورة أو معروفة عند الصحابة، وإلا ما وقع هذا الاختلاف بينهم في تحديدها.
بقي أن يقال فما الجواب عن هذه الإضافة في قوله (( الجاهلية الأولى )) ؟
يتلخص كلام المفسرين في اتجاهين، جوابا عن هذه الإضافة وتوجيها لها:
الأول: إنما قيل: (( الجاهلية الأولى )) باعتبار تقدمها على الإسلام، قال الزجاج: " فإن قيل: لم قيل: الأولى؟ قيل: يقال لكل متقدم ومتقدمة: أول وأولى، وتأويله أنهم تقدموا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم أولى وهم أول من أمة محمد"
قال ابن عاشور في تأييد هذا الوجه " ووصفها بالأولى وصف كاشف لأنها أولى قبل الإسلام وجاء الإسلام بعدها، كقوله تعالى : ((وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى )) وكقولهم: العشاء الآخرة. وليس ثمة جاهليتان: أولى، وثانية، ومن المفسرين من جعلوه وصفاً مقيداً، وجعلوا الجاهلية جاهليتين... ووضعوا حكايات في ذلك مختلفة أو مبالغاً فيها أو في عمومها، وكل ذلك تكلف دعاهم إليه حمل الوصف على قصد التقييد"
الثاني: أن الجاهلية الأولى: جاهلية الكفر قبل الإسلام، والأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام قال الزمخشري موجهاً هذا القول: " فكأن المعنى ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر"
قال ابن جرير: " فإن قال قائل: أوفي الإسلام جاهلية حتى يقال: عنى بقوله: (( الجاهلية الأولى)) التي قبل الإسلام ؟ قيل: فيه أخلاق من أخلاق الجاهلية".
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.[/align]
 
د. ناصر الماجد المحترم

لكم شكري الجزيل على هذه المعلومات المفيدة من خلال اعتمادكم على المصادر النافعة

في شرح مفهوم هذه العبارة المطروحة في الموضوع .

تفضل بقبول أطيب التحيات وأعطرها

موراني
 
حديث القرآن عن الجاهلية مقال للدكتور صلاح الخالدي

حديث القرآن عن الجاهلية مقال للدكتور صلاح الخالدي

وردت مادة "جهل" في القرآن، وأساس معنى "الجهل" هو: الخفة والطيش. والجهل خلاف العلم، لأنه يدفع صاحبه إلى الخفة والطيش والاضطراب والقلق، والجاهل هو غير العالم وغير العارف، وهو مندفع خفيف طائش، لا حلم عنده ولا اتزان.

ولهذه المادة ثلاثة مصادر: المصادر القياسي: "جهل" على وزن: "فعل". تقول : جهل يجهل جهلاً. والمصدر السماعي: "جهالة"، على وزن "فعالة". والمصدر الصناعي: "جاهلية".

وقد ورد في القرآن الاشتقاقات التالية من "جهل": الفعل المضارع المسند إلى واو الجماعة: "تجهلون" و"يجهلون"، واسم الفاعل المفرد: "جاهل"، وجمع المذكر السالم "جاهلون"، وصيغة المبالغة: "جهول"، والمصدر القياسي: "جهالة"، والمصدر الصناعي: "جاهلية". ومع أن كل صيغة من هذه الصيغ تحتاج إلى وقفة وتحليل، ومتابعة ورودها في آيات القرآن، إلا أننا سنقف مع صيغة "الجاهلية " فقط.

معنى الجاهلية:

قلنا إن "الجاهلية" مصدر صناعي، من الجذر الثلاثي: جهل. والمصدر الصناعي هو ما كان مختوماً بياء مشددة، تليها تاء مربوطة. مثل: الإنسانية والحرية والعاطفية والشاعرية... ويتحقق في هذا المصطلح "الجاهلية" المعنى الأساسي لمادة "الجهل"، وهو الخفة والطيش. فالجاهلية هي الحالة العامة من الجهل والخفة، التي تصيب الشخص أو الأمة. وهي إما أن تكون بمعنى عدم العلم، وإما أن تكون بمعنى عدم الانضباط والالتزام، وهذا هو الغالب فيها...

الجاهلية تعني الخفة والطيش، والتفلّت والتحلل، واتباع الهوى، وعدم الاتزان والانضباط، والقيام بتصرفات وسلوكيات باطلة، وعدم الالتزام بحكم الله وشرعه.

ويمكنك أن تقول: "الجاهلية" حالة نفسية سيئة، تصيب صاحبها، فيرفض الالتزام بحكم الله، والالتزام بشرعه، ويتمرد عليه، ويتّبع الباطل، ويعيش حياته على هواه، بما لا يتفق مع إنسانيته وكرامته. وقد أحسن المفكر الإسلامي الأستاذ محمد قطب وأجاد وأفاد في كتابه "جاهلية القرن العشرين" الذي نحيل عليه، ونوصي الإخوة والأخوات بقراءته والاستفادة منه.

ونؤكد على أن "الجاهلية" ليست مقابِلة للعلم والمعرفة والثقافة، بمعنى أنه لا يوصف بها إلا الإنسان الجاهل، الذي لا علم ولا معرفة عنده، أو المجتمع المتخلف البدائي، الخالي من الاختراعات والصناعات، فهذه الحالة توصف بالجهل وليس بالجاهلية؛ فيقال: هذا إنسان جاهل. أي: غير عالم. وهذا مجتمع جاهل. أي: مجتمع بدائي متخلف، لا علم عنده ولا صناعة.

أما الجاهلية فإنها مقابِلة للهدى والإيمان، والاستقامة والتقوى، والاتزان والانضباط، والجدية والموضوعية، فيوصف بها من فقد هذه الصفات الإيجابية، فرداً كان أو مجتمعاً، وقد توجد مع العلم والمعرفة، وقد تكون مع الصناعة والتكنولوجيا، وقد تتحقق عند إنسان حمل أرقى الشهادات العلمية، وعند مجتمع بلغ الذروة في تكنولوجيا الصناعة والاختراع، حتى وصل إلى القمر والمريخ.

وبمعنى آخر: الجاهلي هو : الكافر، وهو المذنب العاصي، وهو الخاضع لغير الله، وهو المتبع لهواه، وهو الذي يعيش حياته بعيداً عن شرع الله، والمسرف على نفسه بالشهوات والملذات المحرمة.

والمجتمع الجاهلي هو الذي لا يخضع لحكم الله وشرعه، ولا ينظم حياته ومناهجه ومؤسساته على أساس منهج الله. وقد يكون هذا المجتمع متقدماً في الماديات والاختراعات والصناعات التكنولوجية، كما هو الحاصل الآن في القرن الحادي والعشرين.

وقد يكون عند المسلم بعض الممارسات والتصرفات والنظرات الجاهلية، وهي تلك التي تختلف مع الإسلام، مع أنه ملتزم بالإسلام في معظم حياته، ودليل هذا ما حصل من أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، فقد كان من أصدق الصحابة إيماناً وكلاماً، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، حيث قال: "ما أقلَّت الغبراء، ولا أظلّت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر". ومع ذلك أخطأ في حق أخيه بلال الحبشي رضي الله عنه. قال: حصل بيني وبين بلال كلام، فعيّرته بأمه، وقلت له: يا ابن السوداء؛ فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " أعيّرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية! ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى". لم يكن أبوذر رضي الله عنه كافراً، بل كان من أصدق الصحابة إيماناً، ومع هذا أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيه جاهلية، ولم يقل له: أنت جاهلي. وهذا معناه أن الجاهلية ليست كفراً دائماً، وكل من أذنب وعصى ففيه جاهلية بمقدار ذنبه ومعصيته، مع أنه مسلم صالح؛ فكل كفر جاهلية، وليست كل جاهلية كفراً، وكل كافر جاهلي، وليس كل جاهلي كافراً.

وقد وردت "الجاهلية" أربع مرات في القرآن، وكانت في المرات كلها "مضافة" لما قبلها، وفيما يلي بيان مواضع "الجاهلية" في القرآن:

أولاً: ظن الجاهلية:

أضيفت الجاهلية إلى "الظن" في آية تتحدث عن المنافقين، وتذمهم لسوء فعلهم في غزوة أحد. قال تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم، وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، يقولون هل لنا من الأمر من شيء، قل إن الأمر كله لله، يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك، يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا) (آل عمران: 154).

منَّ الله على الصحابة الصادقين المجاهدين في غزوة أحد بأن أنزل عليهم نعاساً غشيهم، فأمنوا واطمأنوا، وزال غمّهم. أما المنافقون والذين في قلوبهم مرض فقد كانوا قلقين مضطربين، لأنهم أهمتهم أنفسهم، ولم يهتموا بالمصلحة العامة، وهؤلاء المنافقون كانوا يظنون بالله ظنّاً باطلاً، وهو ظن أهل الجاهلية، كانوا يظنون أن الله لن ينصر رسوله ولا دينه، ويخسر المسلمون المعركة في أحد، ولذلك دعوا إلى عدم الاشتراك في المعركة لأنه لا فائدة منها، ودعوا إلى عدم الخروج من المدينة، وهذا ما أشار به زعيم المنافقين عبدالله بن أبي، عندما استشار الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة عند الخروج إلى أحد، فلما خالفهم الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج إلى أحد غضبوا، وقالوا: هل لنا من الأمر من شيء؟! ولو كان لنا من الأمر من شيء ما قتلنا ها هنا، ولكن النبي لم يسمع كلامنا، ولم يأخذ برأينا.

وقد وصفت الآية ظن المنافقين بوصفين قبيحين: (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية)؛ إنه ظن غير الحق، أي أنه ظن الباطل، ثم هو ظن الجاهلية، لأن كل ظن باطل هو ظن الجاهلية.

"غير" صفة لموصوف محذوف هو المفعول المطلق. والتقدير: " يظنون بالله ظنّاً غير الحق. و "الجاهلية" مضاف إليه لمضاف محذوف، هو نفسه مضاف إليه للمصدر "ظن". والتقدير: ظن أهل الجاهلية؛ لأن الجاهلية لا تظن، وإنما يظن أهلها، فوصفت الآية الظن الباطل بأنه ظن أهل الجاهلية. والتقدير: يظنون بالله ظنّاً باطلاً غير حق، هو ظن أهل الجاهلية.

وظن أهل الجاهلية الباطل يتعلق بالعقيدة؛ لأنه ظن بالله باطل. وكل ظن باطل ظن جاهلي، وكل نظرة باطلة بالله نظرة جاهلية، وكل عقيدة باطلة عقيدة جاهلية. والجاهلية هنا جاهلية ظن وعقيدة، وتصور ونظرة.

ثانياً: حكم الجاهلية:

قال تعالى: "أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" (المائدة: 50). تذم الآية الذين يرفضون حكم الله، وهو الحكم الصحيح الصادق العادل، ويختارون حكم أهل الجاهلية عوضاً عنه، فكيف يبغون حكم أهل الجاهلية، ويتركون حكم الله الأحسن؟!

الهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء حرف عطف، و"حكم": مفعول به مقدم، فِعْله "يبغون". و"الجاهلية": مضاف إليه لمضاف محذوف، والتقدير: أيبغون حكم أهل الجاهلية؟!

تدعو الآية إلى المقارنة والمقابلة بين نوعين من أنواع الحكم: حكم الله، وحكم أهل الجاهلية. وتدعو إلى اختيار حكم الله، وتزكّيه قائلة: (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)؟! والاستفهام هنا تقريري، يقرر حقيقة بدهية أنه لا أحد أحسن حكماً من الله.

ومن لطائف الآية أنها مكونة من جملتين: الأولى: (أفحكم الجاهلية يبغون)، والثانية: (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون). الأولى: جملة فعلية. والثانية: جملة اسمية. وفي كلٍّ جملة استفهام. لكنّ الاستفهام الأول بحرف، وهو "الهمزة"، والاستفهام الثاني باسم، وهو "مَنْ". والاستفهام الأول إنكاري، والاستفهام الثاني تقريري. والحكم مذكور في الجملتين، وكان فيهما منصوباً لكنه في الأولى مفعول به مقدم: (أفحكم الجاهلية يبغون)، وفي الثانية تمييز منصوب: (ومن أحسن من الله حكماً). والحكم في الأولى أضيف إلى مضاف إليه محذوف "حكم أهل الجاهلية"، مقيد به للتقبيح والذم، والحكم في الثانية مطلق (مَنْ أحسن من الله حكماً). وهذا الإطلاق للتكريم لأنه تمييز لحكم الله بأنه الأحسن!

وكل حكم غير حكم الله باطل، وكل شرع يتعارض مع شرع الله منكر مردود ظالم قبيح. والمجتمع الإسلامي لا يقرّ أي حكم جاهلي؛ لأنه ملتزم بحكم الله. والمسلمون الصالحون لا يتحاكمون إلى حكم يتعارض مع حكم الله لأنه حكم أهل الجاهلية، ويستحيل على مؤمن أن يساوي بين حكم الله وحكم أهل الجاهلية، كما أنه يستحيل على مؤمن أن يترك حكم الله، ويطلب حكم أهل الجاهلية، وأن يظن أن حكم أهل الجاهلية أفضل أو أعدل أو أنسب من حكم الله، ويستحيل على الدولة المسلمة أن تقرر في قوانينها حكماً جاهليّاً، وتشريعاً جاهليّاً، متعارضاً مع حكم الله.

الجاهلية في هذه الآية جاهلية حكم وتشريع، وجاهلية قانون ونظام. وتقرر بصراحة أن الحكم نوعان لا ثالث لهما: حكم الله في مقابل حكم الجاهلية، ومن لم يشرع أو يطبق حكم الله، فقد شرع أو طبق الحكم الجاهلي لا محالة. وماذا بعد الحق إلا الضلال ؟!

ثالثاً: تبرج الجاهلية:

وردت "تبرج الجاهلية" في سياق توجيه المسلمات إلى الفضائل، ونهيهن عن الرذائل. قال تعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولكل المسلمات من بعدهن: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله) (الأحزاب: 33).

ينهى الله المؤمنات عن أن يتبرجن كما كانت تتبرج النساء في الجاهلية الأولى. (تبرجن): فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، وهو في محل جزم بلا الناهية وأصله بتاءين: "ولا تتبرجن"، فحذفت تاء المضارعة للتسهيل، وصار الفعل: (تبرجن). و(تبرج): مفعول مطلق و(الجاهلية): مضاف إليه لمضاف محذوف، والتقدير: ولا تتبرجن تبرج نساء الجاهلية الأولى.

والتبرج: إظهار المرأة لعورتها، عند خروجها من بيتها، بأن تسير في الشارع أو تجلس في الأماكن العامة وهي تكشف شعرها، أو تضع المساحيق على وجهها، أو تكشف عن عنقها أو عضدها أو صدرها أو رجلها أو بطنها أوسرّتها...

واعتبرت الآية خروج النساء متبرجات كاشفات لعوراتهن من فعل النساء في الجاهلية الأولى، ودلَّ هذا على أن خروج النساء متبرجات سلوك جاهلي بدائي، لا تفعله المرأة الجادة الواعية العفيفة. والجديد في الآية أنها وصفت الجاهلية بالجاهلية الأولى، والمراد بالأولى الأولية الزمنية، أي: الجاهلية السابقة، التي كانت عليها النساء في القرون القديمة، حيث كانت تخرج كاشفة عن مفاتنها.

ووصف الجاهلية بالأولى يدل على أن هناك جاهلية ثانية وثالثة ورابعة، تمر بها النساء في أزيائهن وملابسهن، وفي تبرجهن وتعرّيهن. كما أن وصف جاهلية التبرج والأزياء بالأولى يدل على أن التبرج والتعري ليس فنّاً ولا تقدماً، ولا حضارة ولا "شياكة"، وإنما هو "رجعية" وانحطاط، وتأخّر وتخلّف، لأنه عودة بالمرأة إلى عصور التخلف والبدائية والظلام!

إن المرأة التي ترضى لنفسها أن تقدم جسدها للرجال متخلفة، والتي تكشف أمامهم من جسمها أكثر مما تستر رجعية، تعود إلى البدائية الأولى للبشرية، ولا يتفق هذا مع كرامة المرأة وعفتها وطهارتها. وإن التبرج والتعري سلوك جاهلي طائش، وإن كل امرأة تقوم بهذا التصرف إنما هي جاهلية رجعية متخلفة، أما العفيفة المتسترة فهي المتحضرة المتمدنة الواعية المتزنة.

رابعاً: حمّية الجاهلية:

وردت "حمية الجاهلية" في سياق المقارنة بين ما عليه الكفار من حمية واعتزاز، في مقابل ما عليه المؤمنون من سكينة وهدوء. قال تعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى، وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليماً) (الفتح: 26).

تتحدث الآية عن ما فعلته قريش بالمسلمين، عندما منعت الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الدخول إلى مكة معتمرين، وأوقفتهم في سهل "الحديبية"، وأدت المفاوضات في النهاية إلى عقد صلح "الحديبية" في نهاية السنة السادسة من الهجرة.

لماذا منع الكفار دخول المسلمين الحرم معتمرين مع أنه مفتوح لكل من أتاه حاجّاً أو معتمراً؟! لماذا يُمنع منه المسلمون مع أنهم أهله الأصلاء؟! إن الذي دفعهم إلى هذا هو "حمية الجاهلية". والحمية هي الأنفة والإباء، مأخوذة من "الحمي"، وهو القوة المحركة التي تحمي وتسخن، وتولد الحرارة المعنوية. هذه الحمية الغضبية هي التي حركتهم وسخّنتهم، ودفعتهم إلى أن يخالفوا المنطق والعقل، ويمنعوا المسلمين من دخول الحرم، بدون ذنب ارتكبوه، إلا أنهم مسلمون! ومنَّ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فأنزل السكينة عليهم، وملأت عليهم حياتهم، ودفعتهم إلى حسن التصرف، ومقابلة حمية قريش الجاهلية بتلك السكينة الإيمانية.

و"الجاهلية" في الآية مضاف إليه لمضاف محذوف تقديره:"حمية أهل الجاهلية". فالجاهلية هنا جاهلية انتماء سياسي وقومي، وتصرف قيادي؛ لأنها صفة للحالة العامة التي كان عليها زعماء قريش، عندما أصدروا قرارهم القيادي السيادي بمنع المسلمين من أداء العمرة. والجاهلية حالة يكون عليها الزعماء والمسؤولون، عندما يتخذون قراراً جائراً ظالماً خاطئاً، لأن الذي دفعهم إلى هذا القرار "حمية الجاهلية".

فالجاهليات المذكورة في القرآن أربعة: جاهلية عقيدة وظن، وجاهلية حُكْم وتشريع، وجاهلية تبرُّج وسلوك، وجاهلية حميَّة واندفاع!
المصدر
 
عودة
أعلى