عبدالرحمن الشهري
المشرف العام
- إنضم
- 29/03/2003
- المشاركات
- 19,331
- مستوى التفاعل
- 138
- النقاط
- 63
- الإقامة
- الرياض
- الموقع الالكتروني
- www.amshehri.com
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
نشر في العدد الأخير من مجلة العرب (محرم وصفر 1427هـ) مقال بعنوان :
[align=center]الأصول العامّة لتحليل النص القرآني [/align]
للدكتور قاصد ياسر الزيدي. الأستاذ بكلية التربية للبنات بجامعة بغداد بالعراق. وبحثت عنه في موقع المجلة الالكتروني فوجدته ، فأحببت نقله للفائدة .
[line]
لا بدّ للباحث المحلل للنص القرآني من اعتماد أصول عامّة منوّعة، تعينه على فهم النص الكريم فهمًا دقيقًا شاملاً، يتناول أطُرَه المختلفة وصوره المتعددة، بما فيها من معان وجمال وأساليب. ويمكن إجمال هذه الأصول العامّة بما يأتي:
(1) وجوب فهم النص المراد تحليله فهمًا جيّدًا أوّلاً، في ضوء كتب التفسير ومعاني القرآن، وكتب مفردات القرآن، والوجوه والنظائر في القرآن، وكتب البلاغة، وكتب إعجاز القرآن، وما إليها.
(2) ملاحظة (علوم القرآن) المختلفة المتعلقة بالنص الكريم المراد تحليله، من أجل فهمه فهمًا سليمًا متكاملاً، وذلك بالرجوع إلى (أسباب النـزول)، من حيث إنها تلقي ضوءًا على النص المراد تحليله، وتكشف عن ظروفه التي صحبته عند نزوله، من حيث الزمان والمكان والأحداث.
وينبغي الرجوع أيضًا إلى علم (المكي والمدني)؛ إذ إنّ أسلوب السُّوَر المكية يختلف في كثير من الأحيان عن أسلوب السُّوَر المدنية، في صفات وخصائص عدّة، من حيث إنّ المكية تُعنى قبل كل شيء بأصول العقيدة الإسلامية: من توحيد الله تعالى، وإيمان بكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر، وما يتعلق به من بعث ونشور، وما إلى ذلك. على حين تُعنى السُّوَر المدنية كثيرًا بالتشريع والأحكام، وبالجوانب الاقتصادية، كالزكاة والخمُس والصدقات والدِّيات والكفّارات والإرث، وما إليها. هذا إلى جانب عنايتها بالنواحي العبادية العملية: من صلاة وصوم وحجّ وعمرة ونذور... كما تُعنى هذه السُّوَر بالقضايا الاجتماعية: من زواج وطلاق وعِدّة وصداق، وما إليها.
ومن علوم القرآن التي ينبغي على المحلل أن يلتفت إليها، معرفة (الْمُحْكَم والمتشابه) ولاسيما (متشابه الصفات)، صفات الله تعالى، لئلاّ يحملها المحلل للنص الكريم على غير المراد.
وينبغي على المحلل للنص الكريم الالتفات إلى (الناسخ والمنسوخ) من نصوص القرآن؛ لئلاّ يقع في وَهْم الأخذ بما هو منسوخ من الآيات، ولاسيما ما يتعلق منها بالتشريع؛ إذ لا خلاف بين أهل العلم في أنّ المنسوخ لا يجوز العمل به، بل يعمل بالناسخ له.
(3) دراسة النص المراد تحليله من جانبه اللغوي، بحيث يتناول المحلل ابتداء تفسير (الألفاظ القرآنية الغريبة)، وهي الألفاظ التي تحتاج إلى شرح وبيان، وهو ما يعرف الاصطلاح بـ (غريب القرآن)، مثل: الرحمن، ويوم الدين، والصراط، والصّمد، والقارعة، والواقعة، وثُلَّة، وما إليها.
وقد أُلِّفتْ في هذا العلم كتب كثيرة قديمًا وحديثًا، من أشهرها "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة الدينوري (ت276هـ)، و"تفسير غريب القرآن" المسمى نزهة القلوب، لمحمد بن عزيز السجستاني (ت330هـ)، و"مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني (ت 420هـ)، وهو أفضلها؛ وذلك لما فيه من إبداع في تفسير أغلب الألفاظ القرآنية الغريبة؛ إذ كان مؤلفه يلحظ السياق عند ذلك، فامتاز بذلك ممن سبقه من أصحاب غريب القرآن(1).
(4) ملاحظة أثر النص القرآني الكريم في دقة استعمال غريب الألفاظ، كاستعمال (المائدة) للخُوان الذي عليه طعام، وإلاّ سُمِّي (خوانًا)، ولم يُسمَّ (مائدة)، كما في قوله على لسان عيسى : اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [المائدة 114]. ومثله استعمال (صكَّ) للضرب الشديد، بدل (ضرب)،كما في قوله تعالى: فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ، في قصة امرأة إبراهيم ، مستغربة بذلك ومتعجبة من خبر حملها بولد، وهي عجوز عقيم، وغير ذلك من استعمالات دقيقة في تعبير القرآن.
(5) الإشارة إلى (اللهجات العربية)، ذات الصلة بالنص القرآني المراد تحليله وربطه قدر الإمكان بالمعنى المراد، وبالبيئة العربية القديمة التي نطق بها، كالحجاز ونجد، وتهامة، واليمن، وما إليها. وذلك نحو تسهيل الهمز أو تحقيقه، والإمالة، والمدّ والقصر، ونحوها من لهجات(2).
(6) بيان ماهية دلالة اللفظ أو التركيب، إن كانت (أصلية)، أم (إسلامية)، أحدثها الإسلام بعد ظهوره، مثل (الزكاة)، فإنّ في أصل اللغة: النماء والزيادة؛ إذ يقال: زكاة الزرعُ: إذا كثُر ونما. ثم استعملت في القرآن والحديث للدلالة على مال معيّن معلوم، يُدفَع إلى بيت مال المسلمين عند توفّر الشروط بالمال؛ إذ ينبغي أن يبلغ أصل المال مقدارًا مُعيَّنًا يسمى (النصاب) كي تؤخذ منه الزكاة. ومثلها (الربا)؛ إذ أصله الزيادة من ربا يربو: إذا زاد، ثم استعمل في الاصطلاح الإسلامي، للمال الذي يؤخذ زائدًا على القرض، وهو ما حرّمه الإسلام بنص القرآن والحديث بشِدّة. ومن هذه الألفاظ الإسلامية (الكَلالة) في الإرث، وغير ذلك.
(7) ملاحظة العلاقات الدلالية بين الألفاظ التي في النص القرآني المراد تحليله، مثل: (الاشتراك)، و(التضادّ)، و(التقابل) بنوعيه: تقابل الضد والنقيض، وتقابل الخلاف(3)، وكذلك علاقة (الترادف)، سواء أكان ترادفًا تامًّا، كما بين (البعل) و(الزّوج)، أم ترادفًا غير تامٍّ، كما بين (اليمين) و(الحِلْف)، و(الرُّؤيا) و(الحُلُم)، وغير ذلك.
(8) بيان (الدلالة الإيحائية) للألفاظ والتراكيب والتعابير القرآنية، وهي الدلالة التي يسمّيها المعاصرون (الإضافية)، أو (ظل المعنى) "shade of meaning "، وهي من الدلالات ذات القيمة المعنوية العالية الدقيقة في تعبير القرآن، كإيحاء (البَغْتة)، فإنه لا يستعمل في القرآن إلاّ في سياق (العذاب). ومثله الإيحاء الصوتي متمثّلاً بجرس اللفظ، كما في (هزّ) و(أَمَّ)؛ إذ استعمل القرآن الأول لهزِّ النخلة، على حين استعمل الثاني لهزِّ الشياطين للكافرين؛ عقوبة من الله تعالى لهم على كفرهم. ولنا في (الدلالة الإيحائية) أكثر من بحث، (الجرْس والإيقاع في تعبير القرآن)(4)، و(الدلالة الإيحائية لطائفة من ألفاظ الزمان في القرآن الكريم)(5).
(9) بيان (الدلالة الرمزية) في التعبير القرآني، بصورها المتعددة، كرموز (الألوان) من بياض، وسواد، وخُضرة، وصُفرة، وزُرقة، بحسب ما ترمز إليه لدى العرب عند ظهور الإسلام، وكذلك رموز الحركات، كالعضّ على اليدين، وتقليب الكفَّين -في الرمز على الندم-، ورموز الأصوات عن مختلف الحالات النفسية، كالتأوُّه (آهٍ)، والتأفُّف (أُفٍّ)، في التعبير عن التحسُّر والتضجُّر، وما إلى ذلك من رموز صوتية.
(10) بيان (القرائن الدلالية) الثلاث: (اللفظية)، السياقية وغير السياقية، و(الحالية) " Context of situation"، و(العقلية) وهي التي سمّاها اللغوي المعاصر الشهير (جومسكي): "Competence"، أي (القُدرة).
(11) التأمّل في التراكيب المختلفة للنص المراد تحليله من (جانبها النحوي)، من اسمية، وفعلية، وحرفية، وظرفية، وما إليها، مع بيان علاقة ورودها بصورة أو أخرى -في هذه الصور- بالمعنى المراد التعبير عنه.
(12) الكشف عن (وجوه الصَّرْف)، وعلاقتها بالمعنى، ولاسيما ما يتعلق منها بالصيغ، كصيغ (الأفعال)، مثل دلالة (فعل) على مجرّد حدوث الفعل لمرة، و(فَعَّلَ) على التكثير والتكرير، و(فاعَلَ) على المشاركة، وكذلك الصيغ الأخرى، مثل (فَعْلَلَ)، و(اسْتَفْعَلَ) وغيرها من الصيغ؛ إذ لها دلالات معيّنة، كالدلالة على الاضطراب والحركة الشديدة للأولى، وطلب الشيء للثانية، وكذلك صيغ (الأسماء)، مثل (فَعِلٌ) للدلالة على المبالغة، و(فَعُولٌ) كذلك، و(فَعّال) للتكثير... وغيرها من صيغ ذات دلالات معيّنة.
(13) بيان العلاقة بين (زيادة المبنى) و(زيادة المعنى)، كما بين (خَرْج) و(خراج) و(صَرَّ) و(صَرْصَرُ)؛ إذ الثانية منهما أبلغ من الأولى في المعنى، ولهذا قال سبحانه وتعالى مخاطبة النبي : أَمْ تَسْئَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المؤمنون: 72]، فأضاف الأكثر والأعظم إليه سبحانه وهو (الخراج) دون الخرج.
(14) بيان (العلاقة الدلالية) بين الألفاظ والتراكيب في السياقات التعبيرية المختلفة، وفي السياق الواحد، من نواح متعددة، مثل (الإبهام) و(البيان) في سياقين مختلفين ومتباعدين، كقوله تعالى في [سورة النبأ: 12]: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا، وقوله في سورة [الْمُلْك: 3] الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا. فأبهم في النص الأول بقوله: (سَبْعًا شِدَادًا)، ثم بيّن في النص الثاني ماهية السبع الشِّداد هذه، بأنها (سبْع سموات).
ومن هذا النوع المتعلق بالعلاقات الدلالية بين الألفاظ، علاقة (الإبهام)، ثم (البيان القائم على التفصيل) في سياق واحد متصل، كقوله تعالى في صفة فريق من المؤمنين: ... إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ. كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 16-19]؛ إذ أبهم التعبير الكريم عملهم الصالح أوّلاً، مكتفيًا بوصفهم بأنهم كانوا محسنين في دنياهم قبل أن يقفوا بين يدي الله تعالى للحساب، ثم فصَّل في السياق بعده مباشرة، ماهية هذا الإحسان بثلاث صفات هي أنهم أوّلاً: كانوا يسهرون أكثر الليل في الصلاة، وذكر الله، وتلاوة القرآن. وثانيًا: أنهم كانوا في أوقات السَّحَر، أي قبيل الفجر، يستغفرون الله تعالى. وثالثًا: أنهم يجعلون جزءًا من أموالهم للفقراء والمساكين، بحسب ما تمليه شريعة ربّ العالمين.
ومن هذا النوع المتعلق بالعلاقات الدلالية بين الألفاظ والتراكيب في السياقات، عطف العامّ على الخاصّ، كعطف (كُلّ الثمرات) على ما تقدّمه، وهو الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ [النحل: 11].
(15) مراعاة الجانب النفسي في الخطاب القرآني، كالترقيق في مخاطبة لقمان لابنه وهو ينصحه بقوله: (يَبُنَيَّ) التي تُشعر بالحنان البالغ، وروح التحبُّب، التي أنبأ عنها هذا التصغير للفظة (ابن)، توخِّيًا للتأثير في هذا المتلقِّي الحبيب. وكذلك (يَأَبَتِ) في خطاب إبراهيم لأبيه، وهو يدعوه إلى التوحيد ونبذ الشِّرْك، وقول هارون لأخيه موسى حين عبد بنو إسرائيل العِجْل في غياب موسى: (يَبْنَؤُمَّ) دفعًا لغضبه عليه، ولم يقل له: (يا ابن أبي) أو (يا ابن والدي) مثلاً؛ وذلك لما في ذِكْر الأمّ هنا من أثر في نفس المتلقِّي، وهو موسى، منبعث من رِقّتها وحنانها على أولادها بكثرة. وهذا ونظائره من رائع ما عبّر به القرآن، مراعيًا الجانب النفسي فيه.
(16) ملاحظة النسق التعبيري في القرآن، ومحاولة فهمه وتحليله، كتقديم لفظ على آخر، كتقديم اليمين على الشمال في قوله : وَأَصْحَبُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَبُ الْيَمِينِ ، ثم قوله بعد آيات وَأَصْحَبُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَبُ الشِّمَالِ؟ [الواقعة: 27، 41]؛ إذ (أصحاب اليمين) هم أهل الجنّة والنّعيم، في حين أنّ (أصحاب الشِّمال) هم أهل النّار والجحيم. وقد سمّى التعبير القرآني الفريق الأوّل: (أَصْحَبُ الميْمَنَةِ)، وسمّى الفريق الثاني: (أَصْحَبُ المشْئَمَةِ). وهذا مبنيّ على التفاؤل والتشاؤم في عادات العرب؛ إذ كانوا يتفاءلون باليمين، ويتشاءمون بالشمال. وبقي هذا في العُرْف الاجتماعي الذي تجلّى كذلك في التعبير القرآني، سائدًا في حياة المسلمين. فكانوا يتيامنون في كل عمل، كالأكل باليمين، وتناول الشيء وغير ذلك. وقد أكد ذلك الحديث الشريف، إذ كان يحثّ على التيامن، كالأكل باليمين، والتختُّم باليمين، والصبّ عند الاغتسال باليمين(6).
(17) بين الفنّ التعبيري بظاهرة (التشخيص الفني) "Personification" التي تضفي على الشيء المتحدَّث عنه (صفة الإنسانية)، وهي البشرية، كتشخيص عدد من عناصر الطبيعة(7) (الصامتة)، مثل الشمس والقمر والكواكب، في رؤيا نبيّ الله يوسف ؛ إذ رآها في منامه ساجدة له [يوسف: 4]. ومنه تشخيص الطبيعة (الحية)، كتشخيص النملة في خطابها للنمل الذي معها، بقوله تعالى: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَـأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَكِنَكُمْ [النمل: 18] فقالت بصيغة جمع العقلاء (ادخلوا)، ولم تقل في هذا الخطاب التشخيصي ما لا يدلّ على ذلك. وقد نبّه على هذه الظاهرة عدد من كبار قدماء اللغويين، كأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت215هـ)، في كتابه "مجاز القرآن"(8)، ونبّه عليه كذلك عبد القاهر الجرجاني(9) (ت 474هـ) واصفًا إياه بأنه "ضرب من المجاز كثير في القرآن". ونبّه عليه بعدهما جار الله الزمخشري(10) (ت 537هـ)، مجلّيًا ظاهرة التشخيص في آية السجود بقوله: "...فلِمَ أُجرِيَتْ مجرى العقلاء في (رَأَيْتُهُمْ لِي سَجِدِينَ)؟ وأجاب عن ذلك بقوله: "لَمّا وصفوه بما هو خاصّ بالعقلاء وهو السجود، أجرى عليه حُكمَهُ، كأنها عاقلة". ثم وصف الزمخشري هذا اللون من التعبير بأنه "كثير شائع" في كلام العرب.
(18) بيان الفنّ التعبيري بظاهرة (التجسيم الفنّي)، سواء أكان تجسيمًا للحسِّيات -أي ما يدرك بإحدى الحواسّ- كالليل والنهار والصبح، أم كان تجسيمًا للمعنويات، عقلية كانت كالحق والباطل، أم نفسية، كالرُّعْب والخوف. فمن الأول قوله : يُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجَ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ [فاطر: 13]، أي: يُدخل أحدَهما في الآخر، فيكون بهذا وذاك نهارًا تارة وليلاً تارة أخرى. وهذا ضرب مما نسمِّيه (تجسيم الزمان)، وقد أشرفنا قبل سنوات على رسالة ماجستير فيه.
ومن الثاني وهو المتعلق بتجسيم المعنوي، قوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء: 18]، فجعل الحق -وهو معنويّ- جسمًا ثقيلاً مقذوفًا على الباطل، الذي صوّره التعبير القرآني كأنه جسم أيضًا. وهذا من رائع تصوير القرآن في تجسيم المعنويات.
(19) العناية (بالتحليل الصوتي) للتعبير القرآني المراد دراسته وتحليله، سواء تعلّق بالصوت المفرد (الفُونيم) Phoneme، كالباء، والميم، والنون، والهاء، أم تعلّق بـ(المقطع) المؤلَّف من صوتين أو ثلاثة، وسواء تعلّق بالصوت المفرد، أم بالمركّب، أم بالتعبير، مع ربط الصور الصوتية بالمعاني المختلفة في التعابير القرآنية، مع ضرورة التنبيه على ظاهرة الاستبدال الصوتي بين الوحدات الصوتية الصغيرة، وهي (الفونيمات)، وأثر ذلك في تحقيق الفروق الدلالية بين كثير من الألفاظ القرآنية المتقاربة الأصوات، ما بين سياق وآخر، كما في: هَزَّ وأَزَّ، وكتَمَ وكَظَمَ، وغَشَّى وغَطَّى.
(20) العناية (بالقراءات القرآنية) التي قُرِئ بها النص الكريم، سواء أكانت مشهورة، قرأ بها السبعة أو العشرة، أم غير مشهورة، وهي التي قرأ بها غيرهم، مع كشف أوجهها اللغوية والنحوية والصرفية والبلاغية، وذلك لتعلّق معنى النص بها، واختلاف بين قراءة وأخرى، أو لكشفها لظواهر اللغة المختلفة، كالهمز في (كُفُؤًا) وتسهيله في (كُفُوًا)، وكالإطباق الصوتي في صاد لفظة (الصِّراط)، وعدمه في سين (السِّراط)، وكالمدّ في (مَالِكِ) والقَصْر في (مَلِكِ)، إذ معنى (مَلِكِ) أبلغ من معنى (مَالِك)، من حيث إنّ كلَّ مَلِكٍ مالِكٌ، وليس كلُّ مالِكٍ مَلِكًا.
(21) العناية بعلوم البلاغة الثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع؛ إذ يتعلّق بالعلم الأول، وهو (علم المعاني) ظواهر تعبيرية كثيرة، كالتقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والإيجاز بنوعيه: إيجاز لحذف وإيجاز لقِصَر، فمن الأول حذف المبتدأ من الجملة الاسمية، كما في قوله :كِتَبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُه [هود:1]، ومن الثاني قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوةٌ يَـأُولِي الأَلْبَابِ [البقرة: 179].
ومن (علم البيان) ما يتعلّق بالحقيقة والمجاز. فمن المجاز: التشبيه، والاستعارة، والكناية، والمجاز المرسل، وما إليها. وتنبغي العناية بفنّ (الالتفات) كذلك، إذ هو فنّ رفيع في تعبير القرآن، وثيق الارتباط بالمعنى، وذلك بالانتقال من ضمير إلى آخر في السياق، كانتقاله من الغَيبة إلى الخطاب في قوله تعالى: مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179]، فالتفت بقوله (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من الغَيبة في الحديث عن المؤمنين إلى الخطاب.
ومن موضوعات (علم البديع)، الطِباق، والجِناس، والتَّوْرِية، والتقابل، وما إليها. فهذه كلها ينبغي على المحلل للنص القرآنيّ أن يعطيَها حقَّها من الدرس والفهم والتحليل والتعليل، لمعرفة معاني القرآن المجيد معرفة شاملة وافية، لا تقف عند جوانب دون أخرى، وإنما تتناول الجواب كلها(11).
(22) ضرورة بيان العلاقات الدلالية بين الآيات الكريمة، والكشف عن الوشائج التي تربط الجمل والألفاظ والتراكيب، وما يترتب على ذلك من ترابط وتلاؤم معنويّ، بحيث يُرَدّ المتأخر على المتقدّم عند التحليل ويُربَط به معنويًّا، أو يُشار إلى علاقة المتقدِّم بالمتأخِّر، أو تأثيره فيه لفظًا ودلالة، من خلال التأمّل في السياق، وهو مجرى الكلام، ليكشف المحلل بذلك عن حقيقة أنّ القرآن العظيم بناء متماسك لا نظير له، بل هو نسيج وحده. ولتحقيق ذلك، ينبغي على المحلل للنص الكريم أن يُحسِن التفهم؛ إذ إنّ الكتاب المجيد كلّما أكثر فيه الدارس التأمّل والسَّبْر، منح دارسه من المعاني والدلالات ما لا يحققه القارئ المتعجِّل، الذي لا يُحسِن إلاّ القراءة، دون عمق الفهم والتحليل.
ويذكر أهل العلم أنّ مَن فسَّر القرآن، وهو غير محيط بهذه العلوم التي تقدّم الحديث عنها وبيانها، في ما أوردناه منها، انطبق عليه (التفسير بالرأي) المنهي عنه، وإذا فسّره وهو محيط بها، لم يكن تفسيره من هذا النوع المنهيّ عنه في الشرع، بل هو من النوع المباح.
والله سبحانه الموفِّق للصواب، والهادي إلى سواء السبيل.
الهوامش:
* كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، العراق.
(1) ينظر: منهج الراغب في كتابه مفردات ألفاظ القرآن، رافع عبدالله مالو، رسالة ماجستير، جامعة الموصل، 1989م.
(2) ينظر: كتاب اللهجات العربية، للدكتور إبراهيم أنيس، مطبعة الرسالة، القاهرة؛ وكتابنا فقه اللغة العربية، ص210، دار الكتب، جامعة الموصل، 1987م.
(3) ينظر: التقابل الدلالي في القرآن الكريم، رسالة ماجستير، منال صلاح الدين الصفار، كلية الآداب، جامعة الموصل، 1993م، بإشرافنا.
(4) بحث ألقيته في "ندوة الدراسات الإسلامية للجامعات العربية" في جامعة الخرطوم في السودان، شباط 1978م.
(5) نشر في مجلة الدراسات اللغوية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، م2، ع 1، سنة 2000م.
(6) ينظر المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، أ.ي.ونسنك ورفيقيه، مطبعة بريل، ليدن 1969م.
(7) ينظر في هذا بحثنا: التشخيص الفني لعناصر الطبيعة في القرآن الكريم، مجلة منار الإسلام، أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة، العدد 9، سنة 2001م.
(8) ص 10، من الجزء الأول.
(9) أسرار البلاغة، ص431، تحقيق أحمد مصطفى المراغي، مطبعة الاستقامة، القاهرة.
(10) ينظر الكشاف لجار الله الزمخشري، 2/123، مطبعة القاهرة، 1948م.
(11) ينظر في بيان هذه الفنون البلاغية كلها: كتابنا منهج الشيخ أبي جعفر الطوسي في تفسير القرآن: دراسة لغوية نحوية بلاغية، ص247 وما بعدها.
المصدر
نشر في العدد الأخير من مجلة العرب (محرم وصفر 1427هـ) مقال بعنوان :
[align=center]الأصول العامّة لتحليل النص القرآني [/align]
للدكتور قاصد ياسر الزيدي. الأستاذ بكلية التربية للبنات بجامعة بغداد بالعراق. وبحثت عنه في موقع المجلة الالكتروني فوجدته ، فأحببت نقله للفائدة .
[line]
لا بدّ للباحث المحلل للنص القرآني من اعتماد أصول عامّة منوّعة، تعينه على فهم النص الكريم فهمًا دقيقًا شاملاً، يتناول أطُرَه المختلفة وصوره المتعددة، بما فيها من معان وجمال وأساليب. ويمكن إجمال هذه الأصول العامّة بما يأتي:
(1) وجوب فهم النص المراد تحليله فهمًا جيّدًا أوّلاً، في ضوء كتب التفسير ومعاني القرآن، وكتب مفردات القرآن، والوجوه والنظائر في القرآن، وكتب البلاغة، وكتب إعجاز القرآن، وما إليها.
(2) ملاحظة (علوم القرآن) المختلفة المتعلقة بالنص الكريم المراد تحليله، من أجل فهمه فهمًا سليمًا متكاملاً، وذلك بالرجوع إلى (أسباب النـزول)، من حيث إنها تلقي ضوءًا على النص المراد تحليله، وتكشف عن ظروفه التي صحبته عند نزوله، من حيث الزمان والمكان والأحداث.
وينبغي الرجوع أيضًا إلى علم (المكي والمدني)؛ إذ إنّ أسلوب السُّوَر المكية يختلف في كثير من الأحيان عن أسلوب السُّوَر المدنية، في صفات وخصائص عدّة، من حيث إنّ المكية تُعنى قبل كل شيء بأصول العقيدة الإسلامية: من توحيد الله تعالى، وإيمان بكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر، وما يتعلق به من بعث ونشور، وما إلى ذلك. على حين تُعنى السُّوَر المدنية كثيرًا بالتشريع والأحكام، وبالجوانب الاقتصادية، كالزكاة والخمُس والصدقات والدِّيات والكفّارات والإرث، وما إليها. هذا إلى جانب عنايتها بالنواحي العبادية العملية: من صلاة وصوم وحجّ وعمرة ونذور... كما تُعنى هذه السُّوَر بالقضايا الاجتماعية: من زواج وطلاق وعِدّة وصداق، وما إليها.
ومن علوم القرآن التي ينبغي على المحلل أن يلتفت إليها، معرفة (الْمُحْكَم والمتشابه) ولاسيما (متشابه الصفات)، صفات الله تعالى، لئلاّ يحملها المحلل للنص الكريم على غير المراد.
وينبغي على المحلل للنص الكريم الالتفات إلى (الناسخ والمنسوخ) من نصوص القرآن؛ لئلاّ يقع في وَهْم الأخذ بما هو منسوخ من الآيات، ولاسيما ما يتعلق منها بالتشريع؛ إذ لا خلاف بين أهل العلم في أنّ المنسوخ لا يجوز العمل به، بل يعمل بالناسخ له.
(3) دراسة النص المراد تحليله من جانبه اللغوي، بحيث يتناول المحلل ابتداء تفسير (الألفاظ القرآنية الغريبة)، وهي الألفاظ التي تحتاج إلى شرح وبيان، وهو ما يعرف الاصطلاح بـ (غريب القرآن)، مثل: الرحمن، ويوم الدين، والصراط، والصّمد، والقارعة، والواقعة، وثُلَّة، وما إليها.
وقد أُلِّفتْ في هذا العلم كتب كثيرة قديمًا وحديثًا، من أشهرها "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة الدينوري (ت276هـ)، و"تفسير غريب القرآن" المسمى نزهة القلوب، لمحمد بن عزيز السجستاني (ت330هـ)، و"مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني (ت 420هـ)، وهو أفضلها؛ وذلك لما فيه من إبداع في تفسير أغلب الألفاظ القرآنية الغريبة؛ إذ كان مؤلفه يلحظ السياق عند ذلك، فامتاز بذلك ممن سبقه من أصحاب غريب القرآن(1).
(4) ملاحظة أثر النص القرآني الكريم في دقة استعمال غريب الألفاظ، كاستعمال (المائدة) للخُوان الذي عليه طعام، وإلاّ سُمِّي (خوانًا)، ولم يُسمَّ (مائدة)، كما في قوله على لسان عيسى : اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [المائدة 114]. ومثله استعمال (صكَّ) للضرب الشديد، بدل (ضرب)،كما في قوله تعالى: فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ، في قصة امرأة إبراهيم ، مستغربة بذلك ومتعجبة من خبر حملها بولد، وهي عجوز عقيم، وغير ذلك من استعمالات دقيقة في تعبير القرآن.
(5) الإشارة إلى (اللهجات العربية)، ذات الصلة بالنص القرآني المراد تحليله وربطه قدر الإمكان بالمعنى المراد، وبالبيئة العربية القديمة التي نطق بها، كالحجاز ونجد، وتهامة، واليمن، وما إليها. وذلك نحو تسهيل الهمز أو تحقيقه، والإمالة، والمدّ والقصر، ونحوها من لهجات(2).
(6) بيان ماهية دلالة اللفظ أو التركيب، إن كانت (أصلية)، أم (إسلامية)، أحدثها الإسلام بعد ظهوره، مثل (الزكاة)، فإنّ في أصل اللغة: النماء والزيادة؛ إذ يقال: زكاة الزرعُ: إذا كثُر ونما. ثم استعملت في القرآن والحديث للدلالة على مال معيّن معلوم، يُدفَع إلى بيت مال المسلمين عند توفّر الشروط بالمال؛ إذ ينبغي أن يبلغ أصل المال مقدارًا مُعيَّنًا يسمى (النصاب) كي تؤخذ منه الزكاة. ومثلها (الربا)؛ إذ أصله الزيادة من ربا يربو: إذا زاد، ثم استعمل في الاصطلاح الإسلامي، للمال الذي يؤخذ زائدًا على القرض، وهو ما حرّمه الإسلام بنص القرآن والحديث بشِدّة. ومن هذه الألفاظ الإسلامية (الكَلالة) في الإرث، وغير ذلك.
(7) ملاحظة العلاقات الدلالية بين الألفاظ التي في النص القرآني المراد تحليله، مثل: (الاشتراك)، و(التضادّ)، و(التقابل) بنوعيه: تقابل الضد والنقيض، وتقابل الخلاف(3)، وكذلك علاقة (الترادف)، سواء أكان ترادفًا تامًّا، كما بين (البعل) و(الزّوج)، أم ترادفًا غير تامٍّ، كما بين (اليمين) و(الحِلْف)، و(الرُّؤيا) و(الحُلُم)، وغير ذلك.
(8) بيان (الدلالة الإيحائية) للألفاظ والتراكيب والتعابير القرآنية، وهي الدلالة التي يسمّيها المعاصرون (الإضافية)، أو (ظل المعنى) "shade of meaning "، وهي من الدلالات ذات القيمة المعنوية العالية الدقيقة في تعبير القرآن، كإيحاء (البَغْتة)، فإنه لا يستعمل في القرآن إلاّ في سياق (العذاب). ومثله الإيحاء الصوتي متمثّلاً بجرس اللفظ، كما في (هزّ) و(أَمَّ)؛ إذ استعمل القرآن الأول لهزِّ النخلة، على حين استعمل الثاني لهزِّ الشياطين للكافرين؛ عقوبة من الله تعالى لهم على كفرهم. ولنا في (الدلالة الإيحائية) أكثر من بحث، (الجرْس والإيقاع في تعبير القرآن)(4)، و(الدلالة الإيحائية لطائفة من ألفاظ الزمان في القرآن الكريم)(5).
(9) بيان (الدلالة الرمزية) في التعبير القرآني، بصورها المتعددة، كرموز (الألوان) من بياض، وسواد، وخُضرة، وصُفرة، وزُرقة، بحسب ما ترمز إليه لدى العرب عند ظهور الإسلام، وكذلك رموز الحركات، كالعضّ على اليدين، وتقليب الكفَّين -في الرمز على الندم-، ورموز الأصوات عن مختلف الحالات النفسية، كالتأوُّه (آهٍ)، والتأفُّف (أُفٍّ)، في التعبير عن التحسُّر والتضجُّر، وما إلى ذلك من رموز صوتية.
(10) بيان (القرائن الدلالية) الثلاث: (اللفظية)، السياقية وغير السياقية، و(الحالية) " Context of situation"، و(العقلية) وهي التي سمّاها اللغوي المعاصر الشهير (جومسكي): "Competence"، أي (القُدرة).
(11) التأمّل في التراكيب المختلفة للنص المراد تحليله من (جانبها النحوي)، من اسمية، وفعلية، وحرفية، وظرفية، وما إليها، مع بيان علاقة ورودها بصورة أو أخرى -في هذه الصور- بالمعنى المراد التعبير عنه.
(12) الكشف عن (وجوه الصَّرْف)، وعلاقتها بالمعنى، ولاسيما ما يتعلق منها بالصيغ، كصيغ (الأفعال)، مثل دلالة (فعل) على مجرّد حدوث الفعل لمرة، و(فَعَّلَ) على التكثير والتكرير، و(فاعَلَ) على المشاركة، وكذلك الصيغ الأخرى، مثل (فَعْلَلَ)، و(اسْتَفْعَلَ) وغيرها من الصيغ؛ إذ لها دلالات معيّنة، كالدلالة على الاضطراب والحركة الشديدة للأولى، وطلب الشيء للثانية، وكذلك صيغ (الأسماء)، مثل (فَعِلٌ) للدلالة على المبالغة، و(فَعُولٌ) كذلك، و(فَعّال) للتكثير... وغيرها من صيغ ذات دلالات معيّنة.
(13) بيان العلاقة بين (زيادة المبنى) و(زيادة المعنى)، كما بين (خَرْج) و(خراج) و(صَرَّ) و(صَرْصَرُ)؛ إذ الثانية منهما أبلغ من الأولى في المعنى، ولهذا قال سبحانه وتعالى مخاطبة النبي : أَمْ تَسْئَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المؤمنون: 72]، فأضاف الأكثر والأعظم إليه سبحانه وهو (الخراج) دون الخرج.
(14) بيان (العلاقة الدلالية) بين الألفاظ والتراكيب في السياقات التعبيرية المختلفة، وفي السياق الواحد، من نواح متعددة، مثل (الإبهام) و(البيان) في سياقين مختلفين ومتباعدين، كقوله تعالى في [سورة النبأ: 12]: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا، وقوله في سورة [الْمُلْك: 3] الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا. فأبهم في النص الأول بقوله: (سَبْعًا شِدَادًا)، ثم بيّن في النص الثاني ماهية السبع الشِّداد هذه، بأنها (سبْع سموات).
ومن هذا النوع المتعلق بالعلاقات الدلالية بين الألفاظ، علاقة (الإبهام)، ثم (البيان القائم على التفصيل) في سياق واحد متصل، كقوله تعالى في صفة فريق من المؤمنين: ... إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ. كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 16-19]؛ إذ أبهم التعبير الكريم عملهم الصالح أوّلاً، مكتفيًا بوصفهم بأنهم كانوا محسنين في دنياهم قبل أن يقفوا بين يدي الله تعالى للحساب، ثم فصَّل في السياق بعده مباشرة، ماهية هذا الإحسان بثلاث صفات هي أنهم أوّلاً: كانوا يسهرون أكثر الليل في الصلاة، وذكر الله، وتلاوة القرآن. وثانيًا: أنهم كانوا في أوقات السَّحَر، أي قبيل الفجر، يستغفرون الله تعالى. وثالثًا: أنهم يجعلون جزءًا من أموالهم للفقراء والمساكين، بحسب ما تمليه شريعة ربّ العالمين.
ومن هذا النوع المتعلق بالعلاقات الدلالية بين الألفاظ والتراكيب في السياقات، عطف العامّ على الخاصّ، كعطف (كُلّ الثمرات) على ما تقدّمه، وهو الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ [النحل: 11].
(15) مراعاة الجانب النفسي في الخطاب القرآني، كالترقيق في مخاطبة لقمان لابنه وهو ينصحه بقوله: (يَبُنَيَّ) التي تُشعر بالحنان البالغ، وروح التحبُّب، التي أنبأ عنها هذا التصغير للفظة (ابن)، توخِّيًا للتأثير في هذا المتلقِّي الحبيب. وكذلك (يَأَبَتِ) في خطاب إبراهيم لأبيه، وهو يدعوه إلى التوحيد ونبذ الشِّرْك، وقول هارون لأخيه موسى حين عبد بنو إسرائيل العِجْل في غياب موسى: (يَبْنَؤُمَّ) دفعًا لغضبه عليه، ولم يقل له: (يا ابن أبي) أو (يا ابن والدي) مثلاً؛ وذلك لما في ذِكْر الأمّ هنا من أثر في نفس المتلقِّي، وهو موسى، منبعث من رِقّتها وحنانها على أولادها بكثرة. وهذا ونظائره من رائع ما عبّر به القرآن، مراعيًا الجانب النفسي فيه.
(16) ملاحظة النسق التعبيري في القرآن، ومحاولة فهمه وتحليله، كتقديم لفظ على آخر، كتقديم اليمين على الشمال في قوله : وَأَصْحَبُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَبُ الْيَمِينِ ، ثم قوله بعد آيات وَأَصْحَبُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَبُ الشِّمَالِ؟ [الواقعة: 27، 41]؛ إذ (أصحاب اليمين) هم أهل الجنّة والنّعيم، في حين أنّ (أصحاب الشِّمال) هم أهل النّار والجحيم. وقد سمّى التعبير القرآني الفريق الأوّل: (أَصْحَبُ الميْمَنَةِ)، وسمّى الفريق الثاني: (أَصْحَبُ المشْئَمَةِ). وهذا مبنيّ على التفاؤل والتشاؤم في عادات العرب؛ إذ كانوا يتفاءلون باليمين، ويتشاءمون بالشمال. وبقي هذا في العُرْف الاجتماعي الذي تجلّى كذلك في التعبير القرآني، سائدًا في حياة المسلمين. فكانوا يتيامنون في كل عمل، كالأكل باليمين، وتناول الشيء وغير ذلك. وقد أكد ذلك الحديث الشريف، إذ كان يحثّ على التيامن، كالأكل باليمين، والتختُّم باليمين، والصبّ عند الاغتسال باليمين(6).
(17) بين الفنّ التعبيري بظاهرة (التشخيص الفني) "Personification" التي تضفي على الشيء المتحدَّث عنه (صفة الإنسانية)، وهي البشرية، كتشخيص عدد من عناصر الطبيعة(7) (الصامتة)، مثل الشمس والقمر والكواكب، في رؤيا نبيّ الله يوسف ؛ إذ رآها في منامه ساجدة له [يوسف: 4]. ومنه تشخيص الطبيعة (الحية)، كتشخيص النملة في خطابها للنمل الذي معها، بقوله تعالى: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَـأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَكِنَكُمْ [النمل: 18] فقالت بصيغة جمع العقلاء (ادخلوا)، ولم تقل في هذا الخطاب التشخيصي ما لا يدلّ على ذلك. وقد نبّه على هذه الظاهرة عدد من كبار قدماء اللغويين، كأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت215هـ)، في كتابه "مجاز القرآن"(8)، ونبّه عليه كذلك عبد القاهر الجرجاني(9) (ت 474هـ) واصفًا إياه بأنه "ضرب من المجاز كثير في القرآن". ونبّه عليه بعدهما جار الله الزمخشري(10) (ت 537هـ)، مجلّيًا ظاهرة التشخيص في آية السجود بقوله: "...فلِمَ أُجرِيَتْ مجرى العقلاء في (رَأَيْتُهُمْ لِي سَجِدِينَ)؟ وأجاب عن ذلك بقوله: "لَمّا وصفوه بما هو خاصّ بالعقلاء وهو السجود، أجرى عليه حُكمَهُ، كأنها عاقلة". ثم وصف الزمخشري هذا اللون من التعبير بأنه "كثير شائع" في كلام العرب.
(18) بيان الفنّ التعبيري بظاهرة (التجسيم الفنّي)، سواء أكان تجسيمًا للحسِّيات -أي ما يدرك بإحدى الحواسّ- كالليل والنهار والصبح، أم كان تجسيمًا للمعنويات، عقلية كانت كالحق والباطل، أم نفسية، كالرُّعْب والخوف. فمن الأول قوله : يُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجَ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ [فاطر: 13]، أي: يُدخل أحدَهما في الآخر، فيكون بهذا وذاك نهارًا تارة وليلاً تارة أخرى. وهذا ضرب مما نسمِّيه (تجسيم الزمان)، وقد أشرفنا قبل سنوات على رسالة ماجستير فيه.
ومن الثاني وهو المتعلق بتجسيم المعنوي، قوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء: 18]، فجعل الحق -وهو معنويّ- جسمًا ثقيلاً مقذوفًا على الباطل، الذي صوّره التعبير القرآني كأنه جسم أيضًا. وهذا من رائع تصوير القرآن في تجسيم المعنويات.
(19) العناية (بالتحليل الصوتي) للتعبير القرآني المراد دراسته وتحليله، سواء تعلّق بالصوت المفرد (الفُونيم) Phoneme، كالباء، والميم، والنون، والهاء، أم تعلّق بـ(المقطع) المؤلَّف من صوتين أو ثلاثة، وسواء تعلّق بالصوت المفرد، أم بالمركّب، أم بالتعبير، مع ربط الصور الصوتية بالمعاني المختلفة في التعابير القرآنية، مع ضرورة التنبيه على ظاهرة الاستبدال الصوتي بين الوحدات الصوتية الصغيرة، وهي (الفونيمات)، وأثر ذلك في تحقيق الفروق الدلالية بين كثير من الألفاظ القرآنية المتقاربة الأصوات، ما بين سياق وآخر، كما في: هَزَّ وأَزَّ، وكتَمَ وكَظَمَ، وغَشَّى وغَطَّى.
(20) العناية (بالقراءات القرآنية) التي قُرِئ بها النص الكريم، سواء أكانت مشهورة، قرأ بها السبعة أو العشرة، أم غير مشهورة، وهي التي قرأ بها غيرهم، مع كشف أوجهها اللغوية والنحوية والصرفية والبلاغية، وذلك لتعلّق معنى النص بها، واختلاف بين قراءة وأخرى، أو لكشفها لظواهر اللغة المختلفة، كالهمز في (كُفُؤًا) وتسهيله في (كُفُوًا)، وكالإطباق الصوتي في صاد لفظة (الصِّراط)، وعدمه في سين (السِّراط)، وكالمدّ في (مَالِكِ) والقَصْر في (مَلِكِ)، إذ معنى (مَلِكِ) أبلغ من معنى (مَالِك)، من حيث إنّ كلَّ مَلِكٍ مالِكٌ، وليس كلُّ مالِكٍ مَلِكًا.
(21) العناية بعلوم البلاغة الثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع؛ إذ يتعلّق بالعلم الأول، وهو (علم المعاني) ظواهر تعبيرية كثيرة، كالتقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والإيجاز بنوعيه: إيجاز لحذف وإيجاز لقِصَر، فمن الأول حذف المبتدأ من الجملة الاسمية، كما في قوله :كِتَبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُه [هود:1]، ومن الثاني قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوةٌ يَـأُولِي الأَلْبَابِ [البقرة: 179].
ومن (علم البيان) ما يتعلّق بالحقيقة والمجاز. فمن المجاز: التشبيه، والاستعارة، والكناية، والمجاز المرسل، وما إليها. وتنبغي العناية بفنّ (الالتفات) كذلك، إذ هو فنّ رفيع في تعبير القرآن، وثيق الارتباط بالمعنى، وذلك بالانتقال من ضمير إلى آخر في السياق، كانتقاله من الغَيبة إلى الخطاب في قوله تعالى: مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179]، فالتفت بقوله (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من الغَيبة في الحديث عن المؤمنين إلى الخطاب.
ومن موضوعات (علم البديع)، الطِباق، والجِناس، والتَّوْرِية، والتقابل، وما إليها. فهذه كلها ينبغي على المحلل للنص القرآنيّ أن يعطيَها حقَّها من الدرس والفهم والتحليل والتعليل، لمعرفة معاني القرآن المجيد معرفة شاملة وافية، لا تقف عند جوانب دون أخرى، وإنما تتناول الجواب كلها(11).
(22) ضرورة بيان العلاقات الدلالية بين الآيات الكريمة، والكشف عن الوشائج التي تربط الجمل والألفاظ والتراكيب، وما يترتب على ذلك من ترابط وتلاؤم معنويّ، بحيث يُرَدّ المتأخر على المتقدّم عند التحليل ويُربَط به معنويًّا، أو يُشار إلى علاقة المتقدِّم بالمتأخِّر، أو تأثيره فيه لفظًا ودلالة، من خلال التأمّل في السياق، وهو مجرى الكلام، ليكشف المحلل بذلك عن حقيقة أنّ القرآن العظيم بناء متماسك لا نظير له، بل هو نسيج وحده. ولتحقيق ذلك، ينبغي على المحلل للنص الكريم أن يُحسِن التفهم؛ إذ إنّ الكتاب المجيد كلّما أكثر فيه الدارس التأمّل والسَّبْر، منح دارسه من المعاني والدلالات ما لا يحققه القارئ المتعجِّل، الذي لا يُحسِن إلاّ القراءة، دون عمق الفهم والتحليل.
ويذكر أهل العلم أنّ مَن فسَّر القرآن، وهو غير محيط بهذه العلوم التي تقدّم الحديث عنها وبيانها، في ما أوردناه منها، انطبق عليه (التفسير بالرأي) المنهي عنه، وإذا فسّره وهو محيط بها، لم يكن تفسيره من هذا النوع المنهيّ عنه في الشرع، بل هو من النوع المباح.
والله سبحانه الموفِّق للصواب، والهادي إلى سواء السبيل.
الهوامش:
* كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، العراق.
(1) ينظر: منهج الراغب في كتابه مفردات ألفاظ القرآن، رافع عبدالله مالو، رسالة ماجستير، جامعة الموصل، 1989م.
(2) ينظر: كتاب اللهجات العربية، للدكتور إبراهيم أنيس، مطبعة الرسالة، القاهرة؛ وكتابنا فقه اللغة العربية، ص210، دار الكتب، جامعة الموصل، 1987م.
(3) ينظر: التقابل الدلالي في القرآن الكريم، رسالة ماجستير، منال صلاح الدين الصفار، كلية الآداب، جامعة الموصل، 1993م، بإشرافنا.
(4) بحث ألقيته في "ندوة الدراسات الإسلامية للجامعات العربية" في جامعة الخرطوم في السودان، شباط 1978م.
(5) نشر في مجلة الدراسات اللغوية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، م2، ع 1، سنة 2000م.
(6) ينظر المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، أ.ي.ونسنك ورفيقيه، مطبعة بريل، ليدن 1969م.
(7) ينظر في هذا بحثنا: التشخيص الفني لعناصر الطبيعة في القرآن الكريم، مجلة منار الإسلام، أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة، العدد 9، سنة 2001م.
(8) ص 10، من الجزء الأول.
(9) أسرار البلاغة، ص431، تحقيق أحمد مصطفى المراغي، مطبعة الاستقامة، القاهرة.
(10) ينظر الكشاف لجار الله الزمخشري، 2/123، مطبعة القاهرة، 1948م.
(11) ينظر في بيان هذه الفنون البلاغية كلها: كتابنا منهج الشيخ أبي جعفر الطوسي في تفسير القرآن: دراسة لغوية نحوية بلاغية، ص247 وما بعدها.
المصدر