فريد البيدق
New member
في مقالي "النية التي هي القصد شرط من شروط إنتاج الأدب الإسلامي" بينت أن الأديب المسلم لا بد أن تكون له نية قبل البدء في عمله الأدبي.
هذا الشيء الذي سميته النية يصيغه المعنيون بالأدب في سؤال: "لماذا أكتب؟" كما ورد في كتيب "كيف تكتب القصة" الصادر عن دار المعارف في سلسلة "كتابي"؛ فهو من أسس الفن.
وفي مقالي "تفصيل الحلال وإجمال الحرام شرط من شروط الإدب الإسلامي" بينت شرطا في الموضوع الأدبي كما يظهر من العنوان.
وهنا أكتب حول تصور الأديب نفسه ورسالته، وهو تصور مستمد من كونه مسلما يعي رسالة دينه في العالم والزمن.
وإن الأدب العلماني يبحث هذه الجزئية بتدعيمه الاتجاه الفوقي الذي يجعل الأديب يستشعر فوقيته عن بقية المواطنين؛ لأنه يحس بما لا يحسون به ويرى ما لا يرونه؛ لذا فهو الموجِّه، وإن الأوطان والأمم تقاس بالأدب ومكانة الأدباء، و... إلخ.
لكن أهكذا ينبغي أن يكون الأديب المسلم الملتزم بالإسلام؟
(2)
إن الأديب المسلم الملتزم بالإسلام يضع نصب عينيه كتاب ربه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يستمد منه تصوراته حول نفسه وحول وظيفته ورسالته، وحول علاقته بالآخرين.
كيف؟
يقرأ الأديب المسلم الملتزم بالإسلام قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]- فيعلم سبب الخلق ووظيفة المخلوقين.
ويقرأ قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، وقوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]- فيعلم أنه بإيمانه الأعلى والأعز وإن كانت الأسباب المادية ليست الآن في جانبه وجانب أمته الإسلامية.
ويقرأ قوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، وقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46]- فيعلم أن المتاع زائل، فيعيش مع القيم والباقيات الصالحات.
ويقرأ قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78]، ويقرأ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح البخاري (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيُّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَهْلٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ! فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى، فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ. فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيٌّ؟ فَقِيلَ: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ. فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ، فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ فَقَالَ: أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)- فيستشعر وظيفته العالمية، ويستحضر مسئوليته عن كل الناس في العالم.
ويظل يقرأ كتاب ربه وسنة رسوله فيكون التصور الصحيح عن نفسه مسلما وأديبا، فماذا يرى؟
(3)
يرى أن أرضه حيث يوجد الإسلام، وأنه مسئول عن كل ما يخص المسلمين أينما كانوا، وأنه مسئول عن غيره من كل سكان العالم مهما كانوا.
ولنا أن نسأل: أيكون بهذا عنصريا كما يقول الغربيون في شبهتهم التي بها يحاولون تقليل اعتزاز المسلم بدينه؟
لا؛ فهو تصور ليس من عند نفسه، بل هو من عند ربه. أما هم فإنهم يمارسون التمييز العنصري من عند أنفسهم على أساس الجنس والقومية وأشياء أخرى زائلة وتتداولها الأمم حسب الرسم البياني للحضارات والتاريخ.
ويبرز سؤال آخر يردده الأذناب المنحصرون في القومية والوطنية: أتهون قضايا الوطن والأمة بذلك ويقل الانتماء وتحدث العمالة للخارج؟
والجواب: لا؛ فإن الوطن هو أقرب الأماكن إلى القلب فِطْرةً، وهو أرض إسلامية. ومن يردد ذلك يحصر نفسه في دائرة ضيقها رسمها له المستخربون الغربيون، حتى ينحصر في أزماته ويحدث التفرق والتشرذم، وهو ما نعاني منه بما لا يخفى على غير ذي عينين، فما البال بذي العين؟ وما البال بذي العينين؟ وما البال بذي العينين والبصيرة؟ فيصير من يردد ذلك هو المتهم بالعمالة للخارج وهو المتهم بقلة الانتماء.
وإن من يردد ذلك يعجب أشد العجب من النماذج المخترقة هذه الحدود السياسية الضيقة المسماة الأوطان.
كيف؟
إنهم يمجدون "جيفارا"، ويجعلونه محررا إنسانيا، ويرسمونه على الملابس وأغطية الرؤوس. يفعلون ذلك وينكرون عالمية الإسلام ونماذجه، فيدل ذلك على عنصريتهم المعادية للإسلام والموالية للغرب.
(4)
لكن أيعني هذا انحصاره وانزواءه بعيدا عما يرد من الغرب؟
الجواب: لا، وألف لا.
لماذا؟
لأنه سينفتح على العالم.
لماذا؟
لأنه استشعر وظيفته نحو هذا العالم؛ لذا فهو سينفتح ليفهم ماذا يجري؛ ليحدد كيف يؤدي وظيفته كما فعل الأجداد العظام كالغزالي وابن تيمية من دراستهم الوارد وفهمه ثم دحضه.
فهو سينفتح انفتاحا أكثر مما كان عليه قبل إدراك أهميته، وسيلتهم ما يأتي من الغرب.
إذن: أين يكمن الفرق؟
إنه يكمن في التفاعل مع هذا الوارد.
إنه قبلا كان يتابع ليتَّبِع ويصير ذنبا، وينتظر الجديد ليغير التبعية. أما الآن فهو يتابع ليفهم ويقود ويوجِّه ويستطيع أن يستعين بربه؛ لأنه ينطلق من تصور كتابه الكريم وسنة نبيه الأمين.