عناية الإسلام بالقرابة
لقد اعتنى الإسلام بالقرابة أيما اعتناء ، وأعطى كل ذي حق حقه من الصلة والإحسان ؛ وبيَّن أن خير الناس خيرهم لأهله وعشيرته والمتصلين به من والِدَينِ أو إخوةٍ أو أولادٍ ، أو متصلٍ بأخٍ أو والدٍ أو قريبٍ أو نسيبٍ ؛ وبيَّن فضل صلة الرحم ، وإثم قاطع الرحم وعقوبته في الدنيا والآخرة .
ووصف الله تعالى أهل الإيمان بصلة الرحم ؛ فَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } [ الرعد : 21 ] ؛ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : هِيَ الرَّحِمُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهَا ، وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِي قَطْعِهَا ، وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ فِي الْمُعَاقَبَةِ عَلَيْهَا .
ووصف أهل النفاق بأنهم يقطعون أرحامهم ؛ فقال عز وجل : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ البقرة : 27 ] ، وقال تعالى : وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [ الرعد :25 ] . وقال تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [ النحل : 90 ] ؛ قال ابن عطية - رحمه الله - في قوله : وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى : لفظ يقتضي صلة الرحم ويعم جميع إسداء الخير إلى القرابة ، وتركه مبهمًا أبلغ ، لأن كل من وصل في ذلك إلى غاية وإن علت يرى أنه مقصر ، وهذا المعنى المأمور به في جانب ( ذي القربى ) داخل تحت العدل والإحسان ، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتمامًا به وحضًا عليه ( 1 ) .
وقد بوب البيهقي في ( شعب الإيمان ) الباب السادس والخمسون في صلة الرحم ؛ قال - رحمه الله : قال الله تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ] ، فجعل قطع الأرحام من الإفساد في الأرض ، ثم أتبع ذلك الإخبار بأن ذلك من فعل من حقت عليه لعنته فسلبه الانتفاع بسمعه وبصره ، فهو يسمع دعوة الله ، ويبصر آياته وبيناته ، فلا يجيب الدعوة ، ولا ينقاد للحق ، كأنه لم يسمع النداء ، ولم يقع له من الله البيان ، وجعله كالبهيمة أو أسوء حالا منها ، فقال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [ محمد : 23 ] ؛ وقال في الواصل والقاطع : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ . وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ . وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً ويدرؤون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } إلى آخرها [ الرعد : 19 : 23 ] ، { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ الرعد : 25 ] ، فقرن وصل الرحم - وهو الذي أمر الله به أن يوصل - بخشيته ، والخوف من حسابه ، والصبر عن محارمه ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة لوجهه ؛ وجعل ذلك كله من فعل أولي الألباب ، ثم وعد به الجنة ، وزيارة الملائكة إياهم فيها ، وتسليمهم عليه ، ومدحهم له .
وقَرَنَ قطيعة الرحم بنقض عهد الله ، والإفساد في الأرض ، ثم أخبر أن لهم عند الله اللعنة وسوء المنقلب ، فثبت بالآيتين ما في صلة الرحم من الفضل ، وفي قطعها من الوزر والإثم ؛ وذكر سائر ما ورد في هذا المعنى : أبو عبد الله الحليمي رحمه الله ( 2 ) .
وفي هذا بيان لاعتناء الإسلام بالقرابة حتى قال : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } [ النساء : 1 ] ؛ أي : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، ولكن برُّوها وصِلُوها ؛ قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن والضحاك والربيع ، وغير واحد ( 3 ) .
قال الرازي في ( تفسيره ) : والسبب العقلي في تأكيد رعاية هذا الحق أن القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة ، فلو لم يحصل شيء من ذلك لكان ذلك أشق على القلب وأبلغ في الإيلام والإيحاش والضرورة ، وكلما كان أقوى كان دفعه أوجب ، فلهذا وجبت رعاية حقوق الأقارب .ا.هـ .
وفي الأمر بالإحسان إلى الأقارب - كما يقول محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله - تنبيه على أنَّ من سفالة الأخلاق أن يستخفَّ أحدٌ بالقريب لأنَّه قريبه ، وآمِن من غوائله ، ويصرف برَّه وودَّه إلى الأباعد ليستكفي شرَّهم ، أو ليُذكر في القبائل بالذكر الحسن ، فإنَّ النفس التي يطوِّعها الشرُّ ، وتَدينها الشدَّة ، لنفس لَئيمة ، وكما ورد : " شرُّ الناس من اتَّقاه الناس لشرِّه " ( 4 ) ، فكذلك نقول : شرُّ الناس من عَظَّم أحدًا لشرِّه .ا.هـ .
ومما يدل على اهتمام الإسلام بصلة الأرحام ؛ ما رواه ابن حبان عن أنس أن رسول الله قال في مرضه : " أرحامكم ، أرحامكم " ( 5 ) ؛ أي : صِلُوهم واستوصوا بهم خيرًا ، واحذروا من التفريط في حقهم ؛ والتكرير للتأكيد .
فكان من آخر من وصى بهم قبل موته : الأرحام ، مما يدل على عظم شأنها والعناية بها ؛ وفي حديث أَبِي ذَرٍّ قَالَ : أَمَرَنِي خَلِيلِي بِسَبْعٍ - فذكر منها : " وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ " ( 6 ) .
______________
1 - انظر ( لمحرر الوجيز ) عند تفسير الآية ( 90 ) من سورة النحل .
2 - شعب الإيمان : 14 / 79 ، 80 .
3 - انظر تفسير ابن جرير والقرطبي وابن كثير وغيرها عند الآية الأولى من سورة النساء .
4 - رواه مالك عن عائشة بلاغا : 2 / 903 ( 1605 ) ، بلفظ : " إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ " ؛ وهو في الصحيحين موصولا بنحوه : البخاري ( 6032 ، 6054 ، 6131 ) ، ومسلم ( 2591 ) .
5 - ابن حبان ( 436 ) ، وصححه الألباني في الصحيحة ( 736 ) .
6 - رواه أحمد : 5 / 173 ، والبزار ( 3966 – كشف ) ، وابن حبان ( 449 ) ، وصححه الألباني في الصحيحة ( 2166 ) .