الأدب مع ذوي القربى

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الأدب مع ذي القربى
لذوي القربى حق معلوم ، وفضل غير مجهول عند أهل الإيمان ، وما أصبحنا في زمن يُجحد فيه حق ذوي القربى ، وينكر فيه فضلهم إلا بسبب ضعف العقول عن فهم الحقائق ، وضعف الوازع الإيماني عن درك العواقب ، فعصى من عصى ، وقطع من قطع ، ولله تعالى يومٌ يجمع فيه الأولين والآخرين ويجازي كلا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر .
وواقع الناس يدفعنا إلى أن نبيَّن حق ذوي القربى والإحسان إليهم ، إظهارًا للحق وإعذارًا إلى الله تعالى ، ولعل الذين وقعوا في القطيعة أن يتقوا ويتداركوا أمرهم ، فتكون منهم توبة يُرجِعون بها الحق إلى أهله ، ويندمون على ما قصروا في حق قراباتهم ؛ ومن تابَ تاب الله عليه .
 
الحديث عن الأدب مع ذوي القربى حديث عن طاعةٍ لله تعالى .. عن دينٍ يتبع .. عن حقٍ يؤدى .. عن وشيجةِ رحم وعصب .. عن صلةٍ للرحم موصولة بصلة الله لأصحابها .. عن منهج حياةٍ طيبةٍ .. عن جنةٍ ونارٍ .
هذا هو الإسلام ، ووالله ما رأيت ذلك في غير الإسلام .
إنه منهج حياة ؛ ليس هو عبادة في دور معروفة بها ؛ إنما هو عبادة لله تعالى في كل مناحي الحياة وأمورها ؛ فكما أن الصلاة والزكاة والصيام والحج والتلاوة والذكر والدعاء عبادات لله تعالى ؛ فكذا صلة الأرحام عبادة لله تعالى ؛ موعود عليها الجنة ، ومن قطع رحمه متوعد بأن لا يدخلها ؛ ففي الصحيحين عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ t أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ e يَقُولُ : " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ " ( [1] ) .
ومما يدل على عظيم حق القرابة أن أول حوار كان بعد أن خلق الله تعالى الخلق كان بين الله Y والرحم ؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتْ الرَّحِمُ فَقَالَتْ : هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنْ الْقَطِيعَةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ؟ قَالَتْ : بَلَى ؛ قَالَ : فَذَاكِ لَكِ " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : ] فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [ ( [2] ) .
لقد أراد الإسلام أن تكون أواصر العائلة قوية العُرى مشدودة الوثوق ، فأمر بما يحقق ذلك الوثوق بين أفراد القرابات ، فأمر بالإحسان إلى الوالدين ، ثم ثنى بالإحسان إلى ذوي القربى ؛ قال الله تعالى : ] وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى [ [ النساء : 36 ] ؛ وكذا في سورة الإسراء بعد أن أمر الله تعالى بالإحسان إلى الوالدين قال : ] وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ [ [ الإسراء : 26 ] .
ومن النصوص التي جاءت ببيان حق ذوي القربى ، إلى النصوص التي بينت أنواع الأدب معهم ، مع النصوص التي نهت عن قطيعة الرحم وأوضحت العقوبة المترتبة على ذلك ؛ تكونت القواعد التي شدت أواصر العلاقة بين القرابات .
وفي هذا التكوين لأواصر القرابة صلاح عظيم للأمة تظهر آثاره في مواساة بعضهم بعضًا ، وفي اتحاد بعضهم مع بعض ، مما يجعل مجتمع المسلمين مجتمعًا متماسكًا ، لا تهزه العواصف ولا تؤثر فيه النوائب ؛ بإذن الله تعالى .
وفي زمن تقطعت فيه وشائج الأرحام ؛ فرأينا الشقيق عادى شقيقه ، والشقيقة خاصمت شقيقتها ؛ والعم قطع أبناء أخيه ، وأبناء الأخوة أظهروا العداوة لعمهم ، وأبناء الأخوات قطعوا الصلة بأخوالهم .. أقول في زمن هذا حال الناس فيه ، وجب أن نبين حقوق الأرحام والأدب معهم .
وفي هذه الرسالة نحاول إيضاح الآداب مع ذوي القربى ، التي أمر الإسلام أهله بها ليكُِّون بذلك مجتمع الصلاح والطهارة ، مجتمع الترابط والمواساة ، مجتمع الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر ؛ وهذا منتهى الكمال البشري ؛ والله من وراء القصد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، لا رب غيره ولا نرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ؛ وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .

[1] - البخاري ( 5984 ) ، ومسلم ( 2556 ) .

[2] - البخاري ( 4832 ، 5987 ، 7502 ) ، ومسلم ( 2554 ) .
 
القرابة والرحم
القرابة والرحم لفظان يطلقان على الأقارب الأدنين ، ولا يفترقان في المعنى عند إطلاقهما ، فالأرحام تستعمل في القرآن لعموم القرابة ، كقوله تعالى : ] وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [ [ الأنفال : 75 ] ؛ فَذَوُو الرَّحِم ( بِفَتْحِ الرَّاء وَكَسْر الْحَاء ) يُطْلَق عَلَى الْأَقَارِب ، وَهُمْ مَنْ بَيْنه وَبَيْن الْآخَر نَسَب ، سَوَاءً كَانَ يَرِثهُ أَمْ لَا ، سَوَاءً كَانَ ذَا مَحْرَم أَمْ لَا ؛ وفي قوله تعالى : ] وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [ قال ابن عباس : الأرحام ( [1] ) .
والقرابة في اللغة معناها : الدُّنو في النسب ، وأقارب الرجل عشيرته الأدنَون .
قال الرازي في ( تفسيره ) : واعلم أن ذوي القربى هم الذين يقربون منه بولادة الأبوين أو بولادة الجدِّين ، فلا وجه لقصر ذلك على ذوي الرحم المحرم - على ما حكي عن قوم - لأن المحرمية حكم شرعي ، أما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب وإن كان من يختص بذلك يتفاضل ويتفاوت في القرب والبعد ( [2] ) .

وتشتمل القرابة على أصول وفروع وحواشي ، فالأصول هم : الآباء والأجداد وإن علوا ، والأمهات والجدات وإن علون ؛ والفروع هم : الأولاد وأولاد الأولاد وإن نزلوا ؛ ويشمل هذا الإناث من كلٍ ؛ والحواشي هم : الإخوة والأخوات وبنو الجميع وان نزلوا ، والأعمام والعمات وإن علوا ، وبنو الجميع وإن نزلوا ؛ والأخوال والخالات وإن علو ، وبنو الجميع وإن نزلوا .
وأقرب القرابة : الوالدان وإن علوا ، والأولاد وإن نزلوا ، ولذلك يسمى هذان الصنفان من القرابة : عمودي النسب .
وأما قرابة المصاهرة فهم الذين يكونون بسبب زواج الرجل من المرأة ، فإن الأصهار هم أهل بيت المرأة على الأشهر في اللغة ؛ قال الله تعالى : ] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [ [ الفرقان : 54 ] ؛ والنسب لا يخلو من أُبوَّة وبُنوَّة وأُخُوة لأولئك وبنوةٍ لتلك الأُخوة ؛ وأما الصِّهر فهو اسم لما بين المرء وبين قرابة زوجه وأقاربه من العلاقة ، ويسمى - أيضًا - مصاهرة لأنه يكون من جهتين ، وهو آصرة اعتبارية تتقوَّم بالإضافة إلى ما تضاف إليه ، فصهر الرجل قرابة امرأته ، وصهر المرأة قرابة زوجها ؛ والأكثر في إطلاق الصهر أن يُخص بقريب زوج الرجل ، وأما قريب زوج المرأة فهو خَتَن لها أو حَمٌ ؛ ولا يخلو أحد عن آصرة صهر ولو بعيدًا .
قال الماوردي - رحمه الله - في ( أدب الدنيا والدين ) : وَلَمْ تَزَلْ الْعَرَبُ تَجْتَذِبُ الْبُعَدَاءَ وَتَتَأَلَّفُ الْأَعْدَاءَ بِالْمُصَاهَرَةِ ، حَتَّى يَرْجِعَ الْمُنَافِرُ مُؤَانِسًا ، وَيَصِيرَ الْعَدُوُّ مُوَالِيًا ، وَقَدْ يَصِيرُ لِلصِّهْرِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ أُلْفَةٌ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ وَمُوَالَاةٌ بَيْنَ الْعَشِيرَتَيْنِ ؛ حُكِيَ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ أَبْغَضُ خَلْقِ اللَّهِ U إلَيَّ آلَ الزُّبَيْرِ حَتَّى تَزَوَّجْت مِنْهُمْ أَرْمَلَةً ، فَصَارُوا أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ U إلَيَّ .ا.هـ .
واتصال أواصر النسب وأواصر الصهر ، هو أصل نظام الاجتماع البشري لتكوين القبائل والشعوب وتعاونهم مما جاء بهذه الحضارة المرتقية مع العصور والأقطار ، قال تعالى : ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [ [ الحجرات : 13 ] .

[1] - انظر تفسير ابن جرير عند الآية ( 90 ) من سورة النحل .

[2] - انظر تفسير الرازي عند الآية ( 177 ) من سورة البقرة ، ونحوه في البحر المحيط لأبي حيان عند تفسير نفي الآية .
 
أقسام الرحم

قسَّم القرطبي - رحمه الله - الرحم إلى قسمين : رحم عامة ، ورحم خاصة ، ولكل حقه ؛ قال - رحمه الله : وبالجملة فالرحم على وجهين : عامة ، وخاصة ، فالعامة رحم الدين ؛ ويجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم ، والنصيحة وترك مضارتهم ، والعدل بينهم ، والنصفة في معاملتهم ، والقيام بحقوقهم الواجبة ، كتمريض المرضى ، وحقوق الموتى : من غسلهم ، والصلاة عليهم ، ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم .
وأمـا الرحم الخاصة ، وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه ، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة ، كالنفقة وتفقد أحوالهم ، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم ، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة ، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب ( [1] ) .


[1] - انظر تفسير القرطبي : 16 / 247 ، 248 .
 
عناية الإسلام بالقرابة
لقد اعتنى الإسلام بالقرابة أيما اعتناء ، وأعطى كل ذي حق حقه من الصلة والإحسان ؛ وبيَّن أن خير الناس خيرهم لأهله وعشيرته والمتصلين به من والِدَينِ أو إخوةٍ أو أولادٍ ، أو متصلٍ بأخٍ أو والدٍ أو قريبٍ أو نسيبٍ ؛ وبيَّن فضل صلة الرحم ، وإثم قاطع الرحم وعقوبته في الدنيا والآخرة .
ووصف الله تعالى أهل الإيمان بصلة الرحم ؛ فَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } [ الرعد : 21 ] ؛ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : هِيَ الرَّحِمُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهَا ، وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِي قَطْعِهَا ، وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ فِي الْمُعَاقَبَةِ عَلَيْهَا .
ووصف أهل النفاق بأنهم يقطعون أرحامهم ؛ فقال عز وجل : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ البقرة : 27 ] ، وقال تعالى :  وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ  [ الرعد :25 ] . وقال تعالى :  إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى  [ النحل : 90 ] ؛ قال ابن عطية - رحمه الله - في قوله :  وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى  : لفظ يقتضي صلة الرحم ويعم جميع إسداء الخير إلى القرابة ، وتركه مبهمًا أبلغ ، لأن كل من وصل في ذلك إلى غاية وإن علت يرى أنه مقصر ، وهذا المعنى المأمور به في جانب ( ذي القربى ) داخل تحت العدل والإحسان ، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتمامًا به وحضًا عليه ( 1 ) .
وقد بوب البيهقي في ( شعب الإيمان ) الباب السادس والخمسون في صلة الرحم ؛ قال - رحمه الله : قال الله تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ] ، فجعل قطع الأرحام من الإفساد في الأرض ، ثم أتبع ذلك الإخبار بأن ذلك من فعل من حقت عليه لعنته فسلبه الانتفاع بسمعه وبصره ، فهو يسمع دعوة الله ، ويبصر آياته وبيناته ، فلا يجيب الدعوة ، ولا ينقاد للحق ، كأنه لم يسمع النداء ، ولم يقع له من الله البيان ، وجعله كالبهيمة أو أسوء حالا منها ، فقال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [ محمد : 23 ] ؛ وقال في الواصل والقاطع : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ . وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ . وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً ويدرؤون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } إلى آخرها [ الرعد : 19 : 23 ] ، { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ الرعد : 25 ] ، فقرن وصل الرحم - وهو الذي أمر الله به أن يوصل - بخشيته ، والخوف من حسابه ، والصبر عن محارمه ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة لوجهه ؛ وجعل ذلك كله من فعل أولي الألباب ، ثم وعد به الجنة ، وزيارة الملائكة إياهم فيها ، وتسليمهم عليه ، ومدحهم له .
وقَرَنَ قطيعة الرحم بنقض عهد الله ، والإفساد في الأرض ، ثم أخبر أن لهم عند الله اللعنة وسوء المنقلب ، فثبت بالآيتين ما في صلة الرحم من الفضل ، وفي قطعها من الوزر والإثم ؛ وذكر سائر ما ورد في هذا المعنى : أبو عبد الله الحليمي رحمه الله ( 2 ) .
وفي هذا بيان لاعتناء الإسلام بالقرابة حتى قال  : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } [ النساء : 1 ] ؛ أي : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، ولكن برُّوها وصِلُوها ؛ قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن والضحاك والربيع ، وغير واحد ( 3 ) .
قال الرازي في ( تفسيره ) : والسبب العقلي في تأكيد رعاية هذا الحق أن القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة ، فلو لم يحصل شيء من ذلك لكان ذلك أشق على القلب وأبلغ في الإيلام والإيحاش والضرورة ، وكلما كان أقوى كان دفعه أوجب ، فلهذا وجبت رعاية حقوق الأقارب .ا.هـ .
وفي الأمر بالإحسان إلى الأقارب - كما يقول محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله - تنبيه على أنَّ من سفالة الأخلاق أن يستخفَّ أحدٌ بالقريب لأنَّه قريبه ، وآمِن من غوائله ، ويصرف برَّه وودَّه إلى الأباعد ليستكفي شرَّهم ، أو ليُذكر في القبائل بالذكر الحسن ، فإنَّ النفس التي يطوِّعها الشرُّ ، وتَدينها الشدَّة ، لنفس لَئيمة ، وكما ورد : " شرُّ الناس من اتَّقاه الناس لشرِّه " ( 4 ) ، فكذلك نقول : شرُّ الناس من عَظَّم أحدًا لشرِّه .ا.هـ .
ومما يدل على اهتمام الإسلام بصلة الأرحام ؛ ما رواه ابن حبان عن أنس  أن رسول الله  قال في مرضه : " أرحامكم ، أرحامكم " ( 5 ) ؛ أي : صِلُوهم واستوصوا بهم خيرًا ، واحذروا من التفريط في حقهم ؛ والتكرير للتأكيد .
فكان من آخر من وصى بهم قبل موته : الأرحام ، مما يدل على عظم شأنها والعناية بها ؛ وفي حديث أَبِي ذَرٍّ  قَالَ : أَمَرَنِي خَلِيلِي  بِسَبْعٍ - فذكر منها : " وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ " ( 6 ) .
______________
1 - انظر ( لمحرر الوجيز ) عند تفسير الآية ( 90 ) من سورة النحل .
2 - شعب الإيمان : 14 / 79 ، 80 .
3 - انظر تفسير ابن جرير والقرطبي وابن كثير وغيرها عند الآية الأولى من سورة النساء .
4 - رواه مالك عن عائشة بلاغا : 2 / 903 ( 1605 ) ، بلفظ : " إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ " ؛ وهو في الصحيحين موصولا بنحوه : البخاري ( 6032 ، 6054 ، 6131 ) ، ومسلم ( 2591 ) .
5 - ابن حبان ( 436 ) ، وصححه الألباني في الصحيحة ( 736 ) .
6 - رواه أحمد : 5 / 173 ، والبزار ( 3966 – كشف ) ، وابن حبان ( 449 ) ، وصححه الألباني في الصحيحة ( 2166 ) .
 
حقوق ذوي القربى
بيَّن القرآن الكريم والسنة النبوية حقوق ذوي القربى ؛ الأقرب فالأقرب ؛ فقوله تعالى : { وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } [ النحل : 90 ] قال ابن جرير - رحمه الله : وإعطاء ذي القربى الحقّ الذي أوجبه الله عليك بسبب القرابة والرحم ( 1 ) ؛ وقال الله تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه وبالوالدين إِحْسَانًا } الآية [ الإسراء : 23 ] ، فيه إشارة - كما يقول الرازي - إلى أنه ليس بعد رعاية حق الله تعالى شيء أوجب من رعاية حق الوالدين ، لأن الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود في الحقيقة ، والوالدان هما اللذان أخرجاه إلى عالم الوجود في عالم الأسباب الظاهرة ، فثبت أن حقهما أعظم من حق غيرهما فلهذا أوجب تقديمهما على غيرهما في رعاية الحقوق .ا.هـ . ثم ذكر تعالى بعد حق الوالدين حق الأقربين ، فلما كانت القرابة كلها متشعبة عن الأبوة ، لا جرم انتقل من الكلام على حقوق الأبوين إلى الكلام على حقوق القرابة ؛ فقال تعالى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } [ الإسراء : 26 ] ، والسبب فيه - كما يقول الرازي - أن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء ، بل لابد وأن يرجح البعض على البعض ، والترجيح لا بد له من مرجح ، والقرابة تصلح أن تكون سببًا للترجيح من وجوه ؛ أحدها : أن القرابة مظنة المخالطة ، والمخالطة سبب لاطلاع كل واحد منهم على حال الآخر ، فإذا كان أحدهما غنيًا والآخر فقيرًا كان اطلاع الفقير على الغني أتم ، واطلاع الغني على الفقير أتم ، وذلك من أقوى الحوامل على الإنفاق ؛ وثانيها : أنه لو لم يراع جانب الفقير ، احتاج الفقير للرجوع إلى غيره ، وذلك عار وسيئة في حقه فالأولى أن يتكفل بمصالحهم دفعًا للضرر عن النفس ؛ وثالثها : أن قريب الإنسان جار مجرى الجزء منه ، والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير ، فلهذا السبب كان الإنفاق على القريب أولى من الإنفاق على البعيد ( 2 ) .ا.هـ .
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بيانًا شافيًا ، فعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ ؟ " فَقَالَ : لَا ، فَقَالَ : " مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي ؟ " فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : " ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا " يَقُولُ : فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ ( 3 ) . وروى النسائي عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ : قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ ، وَهُوَ يَقُولُ : " يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ " ( 4 ) .
قال ابن عاشور - رحمه الله : وللقرابة حقَّان : حق الصلة ، وحق المواساة ؛ وقد جمعهما جنس الحق في قوله ؛  حَقَّهُ  ؛ والحوالة فيه على ما هو معروف وعلى أدلة أخرى ؛ والإيتاء : الإعطاء ؛ وهو حقيقة في إعطاء الأشياء ، ومجاز شائع في التمكين من الأمور المعنوية كحسن المعاملة والنصرة ؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا " الحديث ( 5 ) ؛ وإطلاق الإيتاء هنا صالح للمعنيين ، كما هي طريقة القرآن في توفير المعاني وإيجاز الألفاظ .
وقد بينت أدلة شرعية حقوق ذي القربى ومراتبها : من واجبة مثل بعض النفقة على بعض القرابة مبينة شروطها عند الفقهاء ؛ ومن غير واجبة مثل الإحسان ( 6 ) .
وحقيقة الإحسان هو إيصال الخير ومنع الأذى والشر ؛ فمن أوصل الخير ولم يمنع الأذى والشر ، فليس بمحسن ، ومن منع الأذى والشر ولم يوصل الخير ، فليس بمحسن .
ويؤكد حقوق القرابة كثير من الأحاديث النبوية التي بينت جزاء الصلة وعقوبة القطع ، وسيأتي منها طائفة إن شاء الله تعالى ؛ لكنا هنا نقف عند هذا الحديث العظيم الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " قَالَ اللَّهُ : أَنَا الرَّحْمَنُ ، وَهِيَ الرَّحِمُ ، شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنْ اسْمِي ، مَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ " ( 7 ) ؛ أي : من راعى حقوقها ، ووصلها بالإحسان ؛ راعيت حقه ووفيت ثوابه ؛ ومن لم يراع حقوقها وقطعها ، " بَتَتُّهُ " أي : قطعته من كل خير ، والبت القطع ؛ والمراد تعظيم شأن الرحم ، وفضيلة واصليها ، وعظيم إثم قاطعيها .
فليحذر قاطع الرحم أن يكون له نصيب من هذا الحديث ؛ ثم ليحذر أن يداوم على قطعه لرحمه فيحرم من دخول الجنة ابتداء ؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ " ( 8 ) .
_________________
1 - انظر تفسير ابن جرير عند الآية ( 90 ) من سورة النحل .
2 - انظر تفسير الرازي عند الآية ( 26 ) من سورة الإسراء .
3 - مسلم ( 997 ) ، ورواه أحمد : 3 / 369 ، وأبو داود ( 3957 ) ، والنسائي ( 4652 ، 4653 ) بألفاظ متقاربة .
4 - رواه النسائي ( 2532 ) ، عن طارق المحاربي ، وإسناده حسن . وله شاهد عند أحمد عن أبي رمثة : 2 / 226 ، 4 / 163. وآخر عن رجل من بني يربوع أدرك النبي : 4 / 64 ، 5 / 377 ، فالحديث صحيح .
5 - متفق عليه من حديث ابن مسعود  : البخاري ( 73 ، 1409 ، 7141 ) ، ومسلم ( 816 ) .
6 - انظر التحرير والتنوير عند الآية ( 26 ) من سورة الإسراء .
7 - رواه أحمد : 1 / 194 ، وأبو داود ( 1694 ) ، والترمذي ( 1907 ) ، وصححه ابن حبان ( 443 ) ، والحاكم ( 7268 : 7272 ) .
8 - متفق عليه من حديث جبير بن مطعم : البخاري ( 5984 ) ، ومسلم ( 2556 ) .
 
الأقربون أولى بالمعروف
الأقربون أولى بالمعروف ؛ عبارة يرددها كثير من الناس ، وهي مستفادة من كثير من أحاديث رسول الله e ؛ مما يدل على مكانة القرابة وتقدم حقها .
روى أحمد وأهل السنن إلا أبا داود عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ : صَدَقَةٌ ، وَصِلَةٌ " ( [1] ) ؛ وقَوْله e : " اثْنَتَانِ " أَيْ : صدقتان ، وقيل : خَيْرَانِ ، فَفِيهَا أَجْرَانِ ، إِذْ فِي كُلٍ مِنْهمَا أَجْرٌ عَلَى حِدَتِهِ ؛ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذلك أَفْضَلُ ؛ فَهَذَا حَثٌّ عَلَى التَّصَدُّق عَلَى الرَّحِم وَالاهْتِمَام بِهِ ؛ فالمقصود أن الصدقة على القريب أولى وآكد من الصدقة على الأجنبي وإن كان القريب كاشحًا ؛ فَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ " ( [2] ) ؛ والكاشح : المتولي عنك بِوُدِّه ؛ يقال : طَوى فلانٌ كَشْحَه إِذا قطعك وعاداك ؛ أي : هو العدوّ الباطنُ العداوة ، كأَنَّه يطويها في كَشْحه ، أَو كأَنَّه يُوَلِّيك كَشْحَه ويُعْرِض عنك بوجهه ولا يَألَفُك ، والكَشْح : الخَصْر ؛ وقيل : وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع ( [3] ) .
فإذا تصدق المرء بدأ بذوي أرحامه ، ولا يميز فيها بين الواصل والقاطع ، بل يبدأ بذي الرحم الكاشح ؛ لما في ذلك من إزالة العداوة ، واستجلاب ودَّه ، فالإنسان أسير الإحسان .
وَعَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً وَلَمْ تَسْتَأْذِنْ النَّبِيَّ e ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ قَالَتْ : أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي ؛ قَالَ : " أَوَفَعَلْتِ ؟ " قَالَتْ : نَعَمْ ، قَالَ : " أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ " ( [4] ) ؛ قال النووي - رحمه الله : فِيهِ : فَضِيلَة صِلَة الْأَرْحَام ، وَالْإِحْسَان إِلَى الْأَقَارِب وَأَنَّهُ أَفْضَل مِنْ الْعِتْق ( [5] ) .ا.هـ . لكن هذا ليس على إطلاقه ، فهو أغلبي ، وقد يقتضي الحال العكس ؛ ولذلك قال ابن حجر - رحمه الله - في ( فتح الباري ) : لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هِبَةُ ذِي الرَّحِم أَفْضَل مُطْلَقًا ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون الْمِسْكِين مُحْتَاجًا وَنَفْعه بِذَلِكَ مُتَعَدِّيًا وَالْآخَر بِالْعَكْسِ ؛ وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ : فَقَالَ : " أَفَلَا فَدَيْت بِهَا بِنْت أَخِيك مِنْ رِعَايَة الْغَنَم " فَبَيَّنَ الْوَجْه فِي الْأَوْلَوِيَّة الْمَذْكُورَة وَهُوَ اِحْتِيَاج قَرَابَتهَا إِلَى مَنْ يَخْدُمُهَا ( [6] ) .ا.هـ . قلت : الحديث الذي أشار إليه الحافظ رواه النسائي والطبراني عَنْ عَطَاءِ بن يَسَارٍ عَنِ الْهِلالِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ e أَنَّهَا كَانَتْ لَهَا جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُعْتِقَ هَذِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " أَفَلا تَفْدِينَ بِهَا بنتَ أَخِيكِ أَوْ بنتَ أُخْتِكِ مِنْ رِعَايَةِ الْغَنَمِ ؟ " ( [7] ) ؛ والهلالية هي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها .
والمراد ألا يحابى بها ذا الرحم ، ولكن إذا كان ذا حاجة فهو أولى من ذي الحاجة البعيد .
ومن هذا الباب ما رواه النسائي في الكبرى عَنْ جُوَيْرِيَةَ زَوْجِ النَّبِىَّ e أنَّهَا قَالَتْ : يَا نَبِيَّ الله ، أرَدْتُ أنْ أعْتِقَ هَذَا الْغُلاَمَ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِّ e : " بَلْ أعْطِهِ أخَاكِ الَّذِي فِي الأعْرَابِ يَرْعَى عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لأَجْرِكِ " ( [8] ) .
وروى الشيخان عَنْ أَنَسَ t قَالَ : كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ ( [9] ) ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ e يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ ؛ قَالَ أَنَسٌ : فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ] لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [ قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ : ] لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [ ، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ ؛ قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " بَخْ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ؛ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهِ ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ " فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ ( [10] ) ؛ قال النووي - رحمه الله : فِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْأَقَارِبِ أَفْضَلُ مِنْ الْأَجَانِبِ إِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ ( [11] ) .
بل إن ذا السعة إذا بَخِلَ على ذي الرحم بفضلٍ عنده ، فقد توعده النبي e بشجاع يُخرَج له من جهنم يطوِّقه ؛ فقد روى الطبراني عَنْ جَرِيرِ بن عَبْدِ اللَّهِ t عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ : " مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي رَحِمَهُ ، فَيَسْأَلُهُ فَضْلا أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ فَيَبْخَلُ عَلَيْهِ ، إِلا أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ جَهَنَّمَ حَيَّةٌ يُقَالُ لَهَا : شُجَاعٌ ، يَتَلَمَّظُ ، فَيُطَوَّقُ بِهِ " ( [12] ) ؛ ويتلمَّظ ، أي : يدير لسانه في فيه ويحرَّكُه .
وقد نهى الله تعالى أولي الفضل أن يحلفوا على عدم إيتاء أولي القربى ، وإن كان منهم إيذاء ؛ قال U : ] وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ [ النور : 22 ] ؛ وقد نزلت هذه الآية في مسطح بن أثاثة t ، وكان تكلم في عائشة - رضي الله عنها - مع من تكلموا ، وكان أبو بكر t ينفق عليه لقرابته منه ؛ ففي حديث عائشة - رضي الله عنها - لما نزلت براءتها : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : ] إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [ الْآيَاتِ ؛ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ t - وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ : وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : ] وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا [ إِلَى قَوْلِهِ ] أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : بَلَى وَاللَّهِ ، إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي ؛ فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ ( [13] ) .
وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن مسارعًا لأمر ربه ، محبًا أن يغفر له بصلة رحمه ، وإن كان منهم شيء من الإيذاء .

[1] - أحمد : 4 / 17 ، 18 ، 214 ، والترمذي ( 658 ) وحسنه ، والنسائي ( 2582 ) ، وابن ماجة ( 1844 ) ، وصححه ابن خزيمة ( 2385 ) ، وابن حبان ( 3344 ) ، والحاكم ( 1476 ) .

[2] - رواه أحمد : 5 / 416 ، والطبراني في الكبير : 4 / 138 ( 3923 ) ؛ ورواه أحمد : 3 / 402 ، والدارمي ( 1679 ) ، وغيرهما عن حكيم بن حزام ؛ ورواه الطبراني في الكبير : 25 / 80 ( 204 ) ، وابن خزيمة ( 2386 ) ، والحاكم ( 1475 ) عن أم كلثوم بنت عقبة .

[3] - انظر لسان العرب باب الحاء فصل الشين ، والنهاية في غريب الحديث والأثر ( مادة : ك ش ح ) .

[4] - رواه أحمد : 6 / 332 ، والبخاري 0 2592 ) ، ومسلم ( 999 ) ، وأبو داود ( 1690 ) .

[5] - انظر شرح مسلم : 7 / 86 .

[6] - فتح الباري : 5 / 219 .

[7] - النسائي في الكبرى ( 4933 ) ، والطبراني في الكبير : 23 / 438 ( 1062 ) .

[8] - النسائي في الكبرى ( 4939 ) عن مجاهد عن جويرية رضي الله عنها ، وهكذا ورواه الطبراني في الأوسط ( 975 ) ، وعنده : " بل أعطه بعض خالاتك " ؛ ورواه البزار – كما في مجمع الزوائد – وعنده " أعطه خالك " ، وقال الهيثمي : 8 / 153 : رواه البزار ، ورجاله رجال الصحيح .ا.هـ .

[9] - بيرحاء : بستان كان بجوار مسجد النبي e ، والبيرحاء هي الأرض الظاهرة المنكشفة .

[10] - البخاري ( 1461 ) ، ومسلم ( 998 ) ؛ ورواه غيرهما .

[11] - انظر شرح مسلم : 7 / 86 .

[12] - الطبراني في الكبير : 2 / 322 ( 2343 ) ، والأوسط ( 5593 ) ، وجوَّد إسناده المنذري في الترغيب : 2 / 18 ؛ والهيثمي في مجمع الزوائد : 8 / 154 ؛ وحسن الألباني إسناده في الصحيحة ( 2548 ) .

[13] - أحمد : 6 / 194 : 197 ، والبخاري ( 2661 ، 4750 ) ، ومسلم ( 2770 ) .
 
فضل صلة الرحم
جاء في فضل صلة الرحم ما يدعو إلى المسارعة إليها ، والمنافسة فيها ، وتحمل الصعاب في تحصيلها ، واحتمال الأذى في الحصول على ثوابها ؛ فجاءت أحاديث تبين ما في صلة الرحم من فضل ؛ فالواصل من خير الناس ، وصلة الأرحام من أفضل الأعمال بعد الإيمان ، والواصلون لأرحامهم تنمو أموالهم ويكثر عددهم ؛ ويُمد في أعمارهم ، ويُوسع في أرزاقهم ، ويرزقون محبة أهلهم ؛ ويدفع عنهم ميتة السوء ، وصلة الأرحام من أسباب دخول الجنة ؛ ومن هذه الأحاديث :
1 - ما رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ ؛ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ " ( [1] ) ؛ وقوله : " مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ " أَيْ : مَظِنَّةٌ لِلْحُبِّ وَسَبَبٌ لِلْوُدِّ فِي أَهْلِ الرَّحِمِ ؛ وقوله : " مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ " أَيْ : سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْمَالِ ؛ وقوله : " مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ " المَنْسَأَةٌ مَفْعَلَةٌ مِنْ النَّسَاءِ ، وَهُوَ التَّأْخِيرُ ؛ والمراد بِالْأَثَرِ : الْأَجَلِ ، وَسُمِّيَ الْأَجَلُ أَثَرًا لِأَنَّهُ يَتْبَع الْعُمُر ؛ أي : إِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ سَبَبٌ لِتَأْخِيرِ الْأَجَلِ وَمُوجِبٌ لِزِيَادَةِ الْعُمُرِ ؛ وَقِيلَ : بَاعِثُ دَوَامٍ وَاسْتِمْرَارٍ فِي النَّسْلِ ؛ وَالْمَعْنَى أَنَّ يُمْنَ الصِّلَةِ يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ ( [2] ) .

2 - وروى البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُـولُ : " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " ( [3] ) . قال الحافظ في ( فتح الباري ) : قَالَ ابْن التِّين : ظَاهِر الْحَدِيث يُعَارِض قَوْله تَعَالَى : ] فَإِذَا جَاءَ أَجَلهمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [ ؛ وَالْجَمْع بَيْنهمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَة كِنَايَة عَنْ الْبَرَكَة فِي الْعُمُر بِسَبَبِ التَّوْفِيق إِلَى الطَّاعَة ، وَعُمَارَة وَقْتِهِ بِمَا يَنْفَعهُ فِي الْآخِرَة ، وَصِيَانَته عَنْ تَضْيِيعه فِي غَيْر ذَلِكَ ... وَحَاصِله أَنَّ صِلَة الرَّحِم تَكُون سَبَبًا لِلتَّوْفِيقِ لِلطَّاعَةِ وَالصِّيَانَة عَنْ الْمَعْصِيَة ، فَيَبْقَى بَعْده الذِّكْر الْجَمِيل ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ ؛ وَمِنْ جُمْلَة مَا يَحْصُل لَهُ مِنْ التَّوْفِيق الْعِلْم الَّذِي يَنْتَفِع بِهِ مَنْ بَعْده ، وَالصَّدَقَة الْجَارِيَة عَلَيْهِ ، وَالْخَلَف الصَّالِح .
ثَانِيهمَا : أَنَّ الزِّيَادَة عَلَى حَقِيقَتهَا ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْم الْمَلَك الْمُوَكَّل بِالْعُمُرِ ، وَأَمَّا الْأَوَّل الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَة فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْم اللَّه تَعَالَى ، كَأَنْ يُقَال لِلْمَلَكِ مَثَلًا : إِنَّ عُمْر فُلَان مِائَة مَثَلًا إِنْ وَصَلَ رَحِمه ، وَسِتُّونَ إِنْ قَطَعَهَا ، وَقَدْ سَبَقَ فِي عِلْم اللَّه أَنَّهُ يَصِل أَوْ يَقْطَع ، فَاَلَّذِي فِي عِلْم اللَّه لَا يَتَقَدَّم وَلَا يَتَأَخَّر ؛ وَاَلَّذِي فِي عِلْم الْمَلَك هُوَ الَّذِي يُمْكِن فِيهِ الزِّيَادَة وَالنَّقْص وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ] يَمْحُو اللَّه مَا يَشَاء وَيُثْبِت وَعِنْده أُمّ الْكِتَاب [ فَالْمَحْو وَالْإِثْبَات بِالنِّسْبَةِ لِمَا فِي عِلْم الْمَلَك ، وَمَا فِي أُمّ الْكِتَاب هُوَ الَّذِي فِي عِلْم اللَّه تَعَالَى فَلَا مَحْو فِيهِ الْبَتَّة ؛ وَيُقَال لَهُ الْقَضَاء الْمُبْرَم ، وَيُقَال لِلْأَوَّلِ الْقَضَاء الْمُعَلَّق . وَالْوَجْه الْأَوَّل أَلْيَق بِلَفْظِ حَدِيث الْبَاب ، فَإِنَّ الْأَثَر مَا يَتْبَع الشَّيْء ، فَإِذَا أُخِّرَ حَسُنَ أَنْ يُحْمَل عَلَى الذِّكْر الْحَسَن بَعْد فَقْد الْمَذْكُور ( [4] ) .ا.هـ .
وللحديث صلة .

[1] - رواه أحمد 2 / 374 ، والترمذي ( 1979 ) ؛ والطبراني في الأوسط ( 8308 ) مختصرا ، والحاكم : 4 / 161 ، وصححه ووافقه الذهبي . وله شاهد عن العلاء بن خارجة عند الطبراني في الكبير : 18 / 98 ( 176 ) ، وقال الهيثمي في المجمع : 8 / 152 ، ورجاله قد وثقوا .ا.هـ . وشاهد آخر عند الحاكم : 1 / 89 ، والبيهقي في الشعب ( 7943 ، 7944 ) عن ابن عباس ، وصححه الحاكم على شرط البخاري ووافقه الذهبي وقال : لكن لم يخرِّج لأبي داود الطيالسي ؛ وآخر عن عمر موقوفا عند هناد في الزهد ( 996 ) ، والبخاري في الأدب ( 72 ) . فالحديث صحيح .

[2] - ونقل المباركفوري عن صاحب ( اللُّمَعَاتِ ) قال : وَالْمُرَادُ بِتَأْخِيرِ الْأَجَلِ بِالصِّلَةِ إِمَّا حُصُولُ الْبَرَكَةِ وَالتَّوْفِيقُ فِي الْعَمَلِ وَعَدَمِ ضَيَاعِ الْعُمُرِ فَكَأَنَّهُ زَادَ ؛ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّهُ سَبَبٌ لِبَقَاءِ ذِكْرِهِ الْجَمِيلِ بَعْدَهُ ، أَوْ وُجُودِ الذُّرِّيَّةِ الصَّالِحَةِ ؛ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْعُمُرِ كَسَائِرِ أَسْبَابِ الْعَالَمِ ، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى زِيَادَةَ عُمُرِهِ وَفَّقَهُ لِصِلَةِ الْأَرْحَامِ ، وَالزِّيَادَةُ إِنَّمَا هِيَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَلْقِ ، وَأَمَّا فِي عِلْمِ اللَّهِ فَلَا زِيَادَةَ وَلَا نُقْصَانَ ، وَهُوَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ e : " جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ " ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ] يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ [ انْتَهَى ، وانظر ( تحفة الأحوذي ) : 6 / 97 .

[3] - البخاري ( 2067 ) ، ومسلم ( 2557 ) وغيرهما ؛ ورواه البخاري ( 5985 ) عن أبي هريرة .

[4] - انظر فتح الباري : 10 / 416 ، مع شيء من الاختصار .
 
فضل صلة الرحم
3 - وروى أحمد عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ لَهَا : " إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ وَصِلَةُ الرَّحِمِ ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ ، يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ " ( [1] ) ؛ ورواه البيهقي في ( الشعب ) بلفظ : " صِلَةُ الرَّحِمِ ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ يَعْمُرْنَ الدِّيَارَ وَيَزِدْنَ فِي الْأَعْمَارِ " ( [2] ) .

4 - وَأَخْرَجَ عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد فِي ( زَوَائِد الْمُسْنَد ) وَالْطبَرَاني وَالْحَاكِم مِنْ حَدِيث عَلِيٍّ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ ، وَيُوَسَّعَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ، وَيُدْفَعَ عَنْهُ مِيتَةُ السُّوءِ ؛ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " ( [3] ) .

5 - وروى ابن حبان عن أبي بكرة t أن النبي e قال : " إِنَّ أَعْجَلَ الطَّاعَةِ ثَوَابًا صِلَةُ الرَّحِمِ ، حَتَى إِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ لَيَكُونُوا فَجَرَةً ، فَتَنْمُو أَمْوَالُهُمْ ، وَيَكْثُرُ عَدَدُهُمْ إِذَا تَوَاصَلُوا ، وَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَتَوَاصَلُونَ فَيَحْتَاجُونَ " ؛ ورواه الطبراني عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ : " إِنَّ أَعْجَلَ الطَّاعَةِ ثَوَابًا صِلَةُ الرَّحِمِ ، وَإِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ لَيَكُونُونَ فُجَّارًا ، فَتَنْمُو أَمْوَالُهُمْ ، وَيَكْثُرُ عَدَدُهُمْ إِذَا وَصَلُوا أَرْحَامَهُمْ ، وَإِنَّ أَعْجَلَ الْمَعْصِيَةِ عُقُوبَةً الْبَغْيُ وَالْخِيَانَةُ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ تُذْهِبُ الْمَالَ ، وَتُقِلُّ فِي الرَّحِمِ ، وَتَذَرُ الدِّيَارَ بَلاقِعَ " ( [4] ) .

6 - وروى أبو يعلى عن رجل من خثعم قال : أتيت النبي e وهو في نفر من أصحابه ؛ قال : قلت : أنت الذي تزعم أنك رسول الله ؟ قال : " نَعَمْ " ؛ قال : قلت : يا رسول الله ! أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : " إِيمَانٌ بِاللهِ " ؛ قال : قلت : يا رسول الله ، ثم مه ؟ قال : " ثُمَّ صِلَةُ الرَّحِمِ " . قال : قلت : يا رسول الله ! أي الأعمال أبغض إلى الله ؟ قال : " الْإِشْرَاكُ بِاللهِ " ؛ قال : قلت : يا رسول الله ، ثم مه ؟ قال : " ثُمَّ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ " ؛ قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : " ثُمَّ الْأَمْرُ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمَعْرُوفِ " ( [5] ) .
7 - وروى أحمد عَنْ دُرَّةَ بِنْتِ أَبِي لَهَبٍ - رضي الله عنها - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَ e : مَنْ خَيْرُ النَّاسِ ؟ فَقَالَ : " أَفْقَهُهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ ، وَأَوْصَلُهُمْ لِرَحِمِهِ " ( [6] ) .
8 – روى أحمد وابن ماجه عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ e الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ ، وَقِيلَ : قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ e ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - ثَلَاثًا - فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ ؛ فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ ؛ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ " ( [7] ) . وفي صحيح مسلم عن أَبِي أَيُّوبٍ t أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ e وَهُوَ فِي سَفَرٍ ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ أَوْ بِزِمَامِهَا ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ - أَوْ يَا مُحَمَّدُ - أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنْ الْجَنَّةِ وَمَا يُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ ! قَالَ : فَكَفَّ النَّبِيُّ e ، ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ ، ثُمَّ قَالَ : " لَقَدْ وُفِّقَ ، أَوْ لَقَدْ هُدِيَ " قَالَ : " كَيْفَ قُلْتَ ؟ " قَالَ : فَأَعَادَ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ e : " تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ ؛ دَعْ النَّاقَةَ " ( [8] ) .


[1] - رواه أحمد : 6 / 159 ؛ وقال الحافظ في الفتح : 10 / 415 : بِسَنَد رِجَاله ثِقَات ؛ وصححه الألباني في الصحيحة ( 519 ) .

[2] - شعب الإيمان ( 7599 ) .

[3] - انظر المسند : 1 / 143 ، ورواه الطبراني في الأوسط ( 3015 ) ، والحاكم ( 7280 ) وسقط من المطبوع ( علي t ) ، وجوَّد إسناده المنذري في ( الترغيب والترهيب ) : 3 / 227 ؛ وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) : 8 / 74 : رواه عبد الله بن أحمد والبزار والطبراني في الأوسط ، ورجال البزار رجال الصحيح ، غير عاصم بن ضمرة وهو ثقة .ا.هـ .

[4] - ابن حبان ( 440 ) والبيهقي في شعب الإيمان ( 7589 ) عن أبي بكرة ؛ ورواه الطبراني في الأوسط ( 1092 ) عن أبي هريرة ؛ ورواه القضاعي في مسند الشهاب ( 978 ) عن عبد الرحمن بن عوف مختصرا ؛ وله شاهد آخر عند البيهقي في الكبرى : 10 / 35 عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ : " ليس شيء أُطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم ، وليس شيء أعجل عقابا من البغي وقطيعة الرحم ، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع " ؛ وصححه الألباني في الصحيحة ( 987 ) ، وبلاقع : جمع بلقع وهي الأرض القفراء التي لا شيء فيها .

[5] - أبو يعلى ( 6839 ) ، وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) : 8 / 72 : ورجاله رجال الصحيح ، غير نافع بن خالد الطاحي وهو ثقة .ا.هـ . وجوَّد إسناده المنذري في ( الترغيب ) : 3 / 227 ؛ وصححه الألباني في صحيح الترغيب ( 2522 ) .

[6] - أحمد : 6 / 68 ، 431 ، 432 ؛ والطبراني في الكبير : 24 / 257 ؛ وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) : 7 / 203 : ورجالهما ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر .ا.هـ . وحسنه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء .

[7] - رواه أحمد : 5 / 451 ، والترمذي ( 2485 ) وصححه ، وابن ماجة ( 1334 ، 3251 ) ، والطبراني في الأوسط ( 5410 ) ، والحاكم : 3 / 13 ، وصححه على شرطيهما ، ووافقه الذهبي .

[8] - نقلا عن شح النووي على صحيح مسلم : 16 / 113 .
 
حكم صلة الرحم
مما تقدم من الأدلة يتبين أن صلة الرحم أدبٌ إسلامي راقٍ لا يُعرف في أيٍّ من المناهج بمثل ما في الإسلام ؛ وأن منه ما هو واجب يأثم صاحبه بتركه ، بل ويكون سببًا من أسباب دخول النار ، أعاذنا الله تعالى منها ؛ ومنه ما هو مستحبٌ ، فلفاعله من الأجر والثواب الكثير ، ولتاركه الحرمان من ذلك .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض - رحمه الله : وَلَا خِلَاف أَنَّ صِلَة الرَّحِم وَاجِبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَقَطِيعَتهَا مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ .. قَالَ : وَالْأَحَادِيث فِي الْبَاب تَشْهَد لِهَذَا ، وَلَكِنَّ الصِّلَة دَرَجَات بَعْضهَا أَرْفَع مِنْ بَعْض ، وَأَدْنَاهَا تَرْك الْمُهَاجَرَة ، وَصِلَتهَا بِالْكَلَامِ وَلَوْ بِالسَّلَامِ ، وَيَخْتَلِف ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْقُدْرَة وَالْحَاجَة ؛ فَمِنْهَا وَاجِبٌ ، وَمِنْهَا مُسْتَحَبٌّ ؛ وَلَوْ وَصَلَ بَعْض الصِّلَة لَمْ يَصِل غَايَتهَا لَا يُسَمَّى قَاطِعًا ، وَلَوْ قَصَّرَ عَمَّا يَقْدِر عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي لَهُ لَا يُسَمَّى وَاصِلًا ( [1] ) .


[1] - نقلا عن شرح النووي على صحيح مسلم : 2 / 201 .
 
الواصل والمكافئ
لم يجعل النبي e الواصل والمكافئ سواء ، بل بيَّن أن المكافئ - وهو الذي يرد الزيارة بمثلها والهدية بمثيلتها - لا يُعَدُّ واصلا ، لأن الذي يفعله إنما هو مقابل لما فُعِل معه ؛ أما الواصل على الحقيقة فذاك الذي يزور وإن لم يُزر ، ويَهدي وإن لم يُهدى إليه ، ويصل وإن قُطع ؛ وهذا أرقى ما يكون من الأدب مع ذوي القرابة ، وَعِنْدَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ عُمَر t قال : لَيْسَ الْوَصْل أَنْ تَصِل مَنْ وَصَلَك ، ذَلِكَ الْقَصَاص ، وَلَكِنَّ الْوَصْلَ أَنْ تَصِل مَنْ قَطَعَك ( [1] ) .
وروى البخاري وأبو داود والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ ، وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا " ( [2] ) ؛ قال الحافظ في ( فتح الباري ) : قَالَ الطِّيبِيُّ : الْمَعْنَى : لَيْسَتْ حَقِيقَة الْوَاصِل وَمَنْ يُعْتَدّ بِصِلَتِهِ مَنْ يُكَافِئ صَاحِبه بِمِثْلِ فِعْله ، وَلَكِنَّهُ مَنْ يَتَفَضَّل عَلَى صَاحِبه .ا.هـ . وَقَالَ شَيْخنَا فِي ( شَرْح التِّرْمِذِيّ ) : الْمُرَاد بِالْوَاصِلِ فِي هَذَا الْحَدِيث : الْكَامِل [ أي الكامل الصلة ] ، فَإِنَّ فِي الْمُكَافَأَة نَوْع صِلَة ، بِخِلَافِ مَنْ إِذَا وَصَلَهُ قَرِيبه لَمْ يُكَافِئهُ ، فَإِنَّ فِيهِ قَطْعًا بِإِعْرَاضِهِ عَنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ مِنْ قَبِيل : " لَيْسَ الشَّدِيد بِالصُّرْعَةِ " ، وَ " لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَة الْعَرَض " انْتَهَى ؛ وَأَقُول : لَا يَلْزَم مِنْ نَفْي الْوَصْل ثُبُوت الْقَطْع ؛ فَهُمْ ثَلَاث دَرَجَات : وَاصِل وَمُكَافِئ وَقَاطِع ، فَالْوَاصِل : مَنْ يَتَفَضَّل وَلَا يُتَفَضَّل عَلَيْهِ ، وَالْمُكَافِئ : الَّذِي لَا يَزِيد فِي الْإِعْطَاء عَلَى مَا يَأْخُذ ، وَالْقَاطِع : الَّذِي يُتَفَضَّل عَلَيْهِ وَلَا يَتَفَضَّل ؛ وَكَمَا تَقَع الْمُكَافَأَة بِالصِّلَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَذَلِكَ يَقَع بِالْمُقَاطَعَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، فَمَنْ بَدَأَ حِينَئِذٍ فَهُوَ الْوَاصِل ، فَإِنْ جُوزِيَ سُمِّيَ مَنْ جَازَاهُ مُكَافِئًا ، وَاَللَّه أَعْلَم ( [3] ) ؛ وهو توجيه حسن ، إذ غالبًا ما يكون مع الصلة هدايا مكافئة .

[1] - مصنف عبد الرزاق ( 19629 ، 20232 ) ، ومن طريقه رواه البيهقي في الشعب ( 7586 ) .

[2] - أحمد : 2 / 163 ، 193 ، والبخاري ( 5991 ) وأبو داود ( 1697 ) ، والترمذي ( 1908 ) ، وغيرهم .

[3] - انظر فتح الباري : 10 / 424 .
 
صلة الرحم وإن كانت كافرة
من رقي الأدب مع ذي القرابة في الإسلام ، أن يصل المسلم رحمه وإن كانت كافرة ؛ ففي الصحيحين عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَتْ : قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ e [ صلح الحديبية ] فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ e قُلْتُ : وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُ أُمِّي ؟ قَالَ : " نَعَمْ ؛ صِلِي أُمَّكِ " ( [1] ) ؛ وقـد أورده البخاري تحت ( بَاب صِلَة الْوَالِد الْمُشْرِك ) ؛ قال النووي - رحمه الله : وَفِيهِ : جَوَاز صِلَة الْقَرِيب الْمُشْرِك ( [2] ) .ا.هـ . ونقل ابن حجر في ( الفتح ) عن الخطابي قوله : فِيهِ أَنَّ اَلرَّحِمَ اَلْكَافِرَةَ تُوصَلُ مِنْ اَلْمَالِ وَنَحْوِهِ كَمَا تُوصَلُ اَلْمُسْلِمَة ( [3] ) ؛ لكن يكون ذلك من باب صدقات التطوع ، لا الزكاة المفروضة ، إذ لا حق فيها لغير المسلمين . والعلم عند الله تعالى .

[1] - البخاري ( 2620 ) ، ومسلم ( 1003 ) .

[2] - انظر شرح مسلم : 7 / 89 .

[3] - انظر فتح الباري : 5 / 234 .
 
أصلهم ويقطعوني
الوصل في اللغة ؛ من وَصَلَ إليه يصل وُصُولا ، أي : بلغ ؛ واتصل الشيء بالشيء لم ينقطع ؛ والوَصْل ضد الهجران ؛ ويقال : وصل رحمه يصلُها وصلًا وصِلةً ؛ فكأنه بالإحسان إليهم قد وصل ما بينه وبينهم من علاقة القرابة والصهر ؛ فصِلَة الرَّحم كنايَة عن الإحْسَان إلى الأقْرَبين من ذَوِي النَّسَب والأصْهار ، والتَّعَطُّفِ عليهم ؛ والرِفْقِ بِهِم ، والرِّعاية لأحوالهم ، وكذلك إن بَعُدوا أو أسَاءُوا ؛ وقطع الرحم ضد ذلك كله ( [1] ) .
وأما صلة الرحم اصطلاحا ؛ فقال النووي - رحمه الله : صِلَة الرَّحِم هِيَ الْإِحْسَان إِلَى الْأَقَارِب عَلَى حَسَب حَال الْوَاصِل وَالْمَوْصُول ؛ فَتَارَة تَكُون بِالْمَالِ ، وَتَارَة بِالْخِدْمَةِ ، وَتَارَة بِالزِّيَارَةِ وَالسَّلَام .. وَغَيْر ذَلِكَ ( [2] ) .
وفي حديث أَبِي ذَرٍّ t - المتقدم : " وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ " ؛ وهي وصية لكُلِّ اِمْرِئٍ أَنْ يَبَرَّ قَرِيبه الَّذِي يَلِيه مِنْ أُخْته وَأَخِيهِ وَغَيْرهمَا من ذوي القربى ، الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَرْء مِنْ الْقَرِيب أَذًى يُؤْذِيه ، أو مجافاة لا ترضيه ؛ وَعِنْد مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة t أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُول اللَّه إِنَّ لِي قَرَابَة أَصِلهُمْ وَيَقْطَعُونِي ، وَأُحْسِن إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ ، وَأَحْلُم عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ ؛ فَقَالَ : " لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْت فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ ؛ وَلَا يَزَال مَعَك مِنْ اللَّه ظَهِير عَلَيْهِمْ مَا دُمْت عَلَى ذَلِكَ " ( [3] ) ؛ وَقَوْله : " أَحْلُم عَنْهُمْ " أي : أتحمل أذاهم ؛ " وَيَجْهَلُونَ " أَيْ : يُسِيئُونَ , وَالْجَهْل هُنَا الْقَبِيح مِنْ الْقَوْل ؛ وقَوْله e : " لَئِنْ كُنْت كَمَا قُلْت فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ " الْمَلُّ : الرَّمَادُ الْحَارُّ ؛ وَالمَعْنَى : كَأَنَّمَا تُطْعِمهُمْ الرَّمَاد الْحَارُّ , وَهُوَ تَشْبِيه لِمَا يَلْحَقهُمْ مِنْ الْأَلَم بِمَا يَلْحَق آكِل الرَّمَاد الْحَارِّ مِنْ الْأَلَم , وَلَا شَيْء عَلَى هَذَا الْمُحْسِن , بَلْ يَنَالهُمْ الْإِثْم الْعَظِيم فِي قَطِيعَته , وَإِدْخَالهمْ الْأَذَى عَلَيْهِ ؛ وَقِيلَ : مَعْنَاهُ إِنَّك بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ تُخْزِيهِمْ وَتُحَقِّرهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ لِكَثْرَةِ إِحْسَانك وَقَبِيح فِعْلهمْ مِنْ الْخِزْي وَالْحَقَارَة عِنْد أَنْفُسهمْ كَمَنْ يُسَفَّ الْمَلَّ ؛ وَقِيلَ : ذَلِكَ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ مِنْ إِحْسَانك كَالْمَلِّ يُحَرِّق أَحْشَاءَهُمْ ، وَاَللَّه أَعْلَم ؛ وقَوْله e : " وَلَا يَزَال مَعَك مِنْ اللَّه تَعَالَى ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْت عَلَى ذَلِكَ " الظَّهِير : الْمُعِين , وَالدَّافِع لِأَذَاهُمْ ( [4] ) .
وفي هذا السياق ما رواه أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي ذَوِي أَرْحَامٍ أَصِلُ وَيَقْطَعُونِي ، وَأَعْفُو وَيَظْلِمُونَ ، وَأُحْسِنُ وَيُسِيئُونَ ؛ أَفَأُكَافِئُهُمْ ؟! قَالَ : " لَا ؛ إِذًا تُتْرَكُونَ جَمِيعًا ، وَلَكِنْ خُذْ بِالْفَضْلِ وَصِلْهُمْ ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ ظَهِيرٌ مِنْ اللَّهِ U مَا كُنْتَ عَلَى ذَلِكَ " ( [5] ) . وقوله : (أَفَأُكَافِئُهُمْ ؟! ) أي : أفأعاملهم بمثل ما يعاملوني به ؟! وقوله e : " إِذًا تُتْرَكُونَ جَمِيعًا " أي : يترككم الله جميعًا ، ولا يعبأ بكم ؛ لأنك - إذا كافأته - ستكون مثله قاطعًا للرحم ، مؤذيا لها ؛ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ :
وَحَسْبُك مِنْ ذُلٍّ وَسُوءِ صَنِيعَةٍ ... مُنَاوَاةُ ذِي الْقُرْبَى وَإِنْ قِيلَ قَاطِعُ
وَلَكِـنْ أُوَاسِيهِ وَأَنْسَى ذُنُوبَهُ ... لِتُرْجِـعَهُ يَـوْمًا إلَيَّ الرَّوَاجِـعُ
وَلَا يَسْتَوِي فِي الْحُكْمِ عَبْدَانِ ... وَاصِلٌ وَعَبْدٌ لِأَرْحَامِ الْقَرَابَةِ قَاطِعُ

[1] - انظر مختار الصحاح ، والنهاية في غريب الحديث والأثر ( مادة : و ص ل ) ؛ ولسان العرب باب اللام فصل الواو .

[2] - شرح مسلم : 2 / 201 .

[3] - مسلم ( 2558 ) ، وابن حبان ( 450 ، 451 ) .

[4] - انظر شرح مسلم : 16 / 115 .

[5] - رواه أحمد : 2 / 181 ، 208 ؛ وقال الهيثمى : 8 / 154 : فيه حجاج بن أرطاة وهو مدلس ، وبقية رجاله ثقات .ا.هـ . ويشهد له حديث أبي هريرة السابق .
 
موقف ذو عبرة
روى البيهقي في ( شعب الإيمان ) عن الفضل بن محمد قال : سمعت أبي يقول : وقع بين الحسين بن علي ، وبين محمد ابن الحنفية كلام ، حبس [ أي : منع ] كل واحد منهما عن صاحبه ، فكتب إليه محمد ابن الحنفية : أبي وأبوك علي بن أبي طالب ، وأمي امرأة من بني حنيفة لا ينكر شرفها في قومها ، ولكن أمك فاطمة بنت رسول الله e ، وأنت أحق بالفضل مني ، فسِرْ إلي حتى تُرَضِّني ؛ فلبس الحسين رداءه ونعله وسار إليه فترضاه ( [1] ) .
لقد استقر في عقول السلف - رحمهم الله تعالى - أن الفضل للواصل ، ولم يشأ محمد بن علي بن أبي طالب أن يكون له - في هذا المقام - فضلٌ على أخيه الحسين بن علي y ؛ فلم يسع الحسين t عندما وصلته رسالة أخيه إلا أن يسارع إليه ليرضيه ، فيحوز الفضل ، وتوصل الرحم ، ويتم الإحسان ، ويضرب الاثنان المثل في رقي الأدب الذي ينبغي أن يكون بين الأرحام .


[1] - شعب الإيمان ( 7963 ) ، ومن طريقه رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق : 54 / 333 .
 
جريمة قطع الرحم
قطع الرحم جريمة في الإسلام ، وكبيرة من الكبائر ، توعد الله تعالى صاحبها في الدنيا والآخرة ، وذم أهل القطيعة بما لا مزيد عليه ، لينفر من قَطْعِ الرحم ذوو العقول ؛ فقطع الرحم ليس من صفات الصادقين من المؤمنين ؛ ولم يذكرها القرآن إلا في صفات المنافقين والذين في قلوبهم مرض ؛ قال الله تعالى : ] الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [ [ البقرة : 27 ] ، وقال Y : ] وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [ [ الرعد : 25 ] ، وقال U : ] فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [ [ محمد : 22 ، 23 ] ؛ وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتْ الرَّحِمُ فَقَالَتْ : هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنْ الْقَطِيعَةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ؟ قَالَتْ : بَلَى ؛ قَالَ : فَذَاكِ لَكِ " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : ] فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [ ( [1] ) ؛ قال النووي : وَالْعَائِذ : الْمُسْتَعِيذ ، وَهُوَ الْمُعْتَصِم بِالشَّيْءِ الْمُلْتَجِئ إِلَيْهِ الْمُسْتَجِير بِهِ ؛ قَالَ الْعُلَمَاء : وَحَقِيقَة الصِّلَة الْعَطْف وَالرَّحْمَة ؛ فَصِلَة اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ لُطْفه بِهِمْ ، وَرَحْمَته إِيَّاهُمْ ، وَعَطْفه بِإِحْسَانِهِ وَنِعَمه ؛ أَوْ صِلَتهمْ بِأَهْلِ مَلَكُوته الْأَعْلَى ، وَشَرْح صُدُورهمْ لِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَته ( [2] ) .
وبالمقابل القاطع مقطوع من هذا الخير العظيم ، والفضل الجزيل .
فَمَقْصُود هَذَا الْكَلَام - كما نقل ابن حجر عن القرطبي - الْإِخْبَار بِتَأَكُّدِ أَمْر صِلَة الرَّحِم ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهَا مَنْزِلَة مَنْ اسْتَجَارَ بِهِ فَأَجَارَهُ فَأَدْخَلَهُ فِي حِمَايَته ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَجَارُ الله غَيْر مَخْذُول ، وَقَدْ قَالَ e : " مَنْ صَلَّى الصُّبْح فَهُوَ فِي ذِمَّة اللَّه ، وَإِنَّ مَنْ يَطْلُبهُ اللَّه بِشَيْءٍ مِنْ ذِمَّته يُدْرِكهُ ثُمَّ يَكُبّهُ عَلَى وَجْهه فِي النَّار " أَخْرَجَهُ مُسْلِم ( [3] ) .


[1] - البخاري ( 4832 ، 5987 ، 7502 ) ، ومسلم ( 2554 ) .

[2] - انظر شرح مسلم : 16 / 112 ، 113 .

[3] - انظر فتح الباري : 10 / 418 ، والحديث رواه مسلم ( 657 ) .
 
عقوبة قاطع الرحم
يقرر العلماء أن عظم العقوبة يدل على عظم الجرم ؛ وقد جاءت الأحاديث النبوية ببيان عقوبة قاطع الرحم في الدنيا والآخرة ؛ مما يدل على عظم جرم قطيعة الرحم .
عقوبة قاطع الرحم في الدنيا
روى أحمد وأهل السنن إلا النسائي عَنْ أَبِي بَكْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ " ( [1] ) ؛ قوله e : " مَا مِنْ ذَنْب أَجْدَر " أَيْ : أَحَقّ وَأَوْلَى ؛ " لِصَاحِبِهِ " أَيْ : لِمُرْتَكِبِ الذَّنْب ، وقوله : " يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ " أصل التعجيل إيقاع الشيء قبل أوانه ؛ وقوله : " مَعَ مَا يَدَّخِر " أَيْ : مَعَ مَا يُؤَجَّل مِنْ الْعُقُوبَة ؛ وقوله : " مِنَ الْبَغْي " أَيْ : بَغْي الْبَاغِي ، وَهُوَ الظُّلْم ، أَوْ الْخُرُوج عَلَى السُّلْطَان ، أَوْ الْكِبْر ؛ " وَقَطِيعَة الرَّحِم " أَيْ : وَمَنْ قَطَعَ صِلَة ذَوِي الْأَرْحَام .
وفي الحديث بيان أن لقاطع الرحم عقوبة في الدنيا ، وإن كانت لم تحدد فلأنها تختلف من شخص لآخر ؛ وفي الحديث : " مَنْ قَطَعَ رَحِمًا أَوْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ رَأَى وَبَالَهُ قَبَلَ أَنْ يَمُوتَ " ( [2] ) .

لا تقبل أعمال قاطع الرحم عند العرض الأسبوعي
يتعلق بقبول العمل شروط ثلاثة : الإيمان والإخلاص والاتباع ؛ فالعمل الذي فيه هذه الثلاثة يرجى له القبول ؛ لكن ورد أن من عقوبة قاطع الرحم ألا تقبل أعماله ليلة عرض الأعمال من كل أسبوع ، فقد روى أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ، فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ " ( [3] ) ؛ وهو يدل على أن عمل قاطع الرحم لا يقبل عند العرض ليلة الجمعة ؛ وهذا وعيد شديد يفيد أن قطع الرحم كبيرة ؛ ومعنى عدم قبوله هنا تعليق القبول حتى يتوب من قطع الرحم ؛ بدليل ما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ ، فَيَغْفِرُ اللَّهُ U فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا ، إِلَّا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ ، فَيُقَالُ : ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ، ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا " ( [4] ) ؛ وارْكُوا ، أَيْ : أَخِّرُوا ؛ فالحديث يدل على أن هناك علاقة بين عرض الأعمال والمغفرة في ذلك اليوم ؛ فتأخير المغفرة عن من كانت بينه وبين أخيه شحناء ، يدل على تعليق قبول عملهما حتى يصطلحا ؛ ويدخل في ذلك عمل القاطع ؛ والعلم عند الله تعالى .
وروى البيهقي في ( شعب الإيمان ) عن ابن دينار ، أن كعب الأحبار ، جلس يومًا يقص بدمشق ، حتى إذا فرغ ، قال : إنا نريد أن ندعو ، فمن كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ، وكان قاطعًا إلا قام عنا ؛ فقام فتى من القوم فولى إلى عمة له كان بينه وبينها هجرة ، فدخل عليها فصالحها ، فقالت : ما بدا لك ؟ قال : سمعت كعبًا يقول : كذا وكذا ؛ وقال كعب : إن الأعمال تعرض كل يوم خميس واثنين ، إلا عمل قاطع يجلجل بين السماء والأرض ( [5] ) .
وروى عبد الرزاق ومن طريقه الطبراني عَنِ الأَعْمَشِ قَالَ : كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ جَالِسًا بَعْدَ الصُّبْحِ فِي حَلْقَةٍ فَقَالَ : أَنْشُدُ اللَّهَ قَاطَعَ رَحِمٍ لَمَا قَدِمَ عَنَّا ، فَإِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَدْعُوَ رَبَّنَا، وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ مُرْتَجَةٌ [ أي : مغلقة ] دُونَ قَاطَعِ رَحِمٍ ( [6] ) .
وللحديث صلة .
[1] - أحمد : 5 / 36 ، 38 ، وأبو داود ( 4902 ) ، والترمذي ( 2511 ) ، وابن ماجة ( 4211 ) ؛ وصححه ابن حبان ( 455 ) ، والحاكم ( 3301 ) .

[2] - رواه البخاري في التاريخ مرسلا عن القاسم بن عبد الرحمن مولى يزيد ؛ وصححه الألباني بطرقه في الصحيحة ( 1121 ) .

[3] - أحمد : 2 / 483 ؛ والبيهقي في الشعب ( 7595 - الدار السلفية ) ؛ وقال المنذري في الترغيب : 3 / 233 : رواته ثقات .ا.هـ . وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ( 2538 ) .

[4] - مسلم ( 2565 ) .

[5] - شعب الإيمان ( 7591 )

[6] - عبد الرزاق ( 20242 ) ، والطبراني في الكبير : ؛ وإسناده صحيح إلا أن الأعمش لم يدرك ابن مسعود .
 
عقوبة قاطع الرحم في الآخرة
روى أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " الرَّحِمُ شِجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ U ، تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَقُولُ : يَا رَبِّ قُطِعْتُ ، يَا رَبِّ ظُلِمْتُ ، يَا رَبِّ أُسِيءَ إِلَيَّ " وفي رواية : " إِنَّ الرَّحِمَ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ ، تَقُولُ : يَا رَبِّ إِنِّي قُطِعْتُ ، يَا رَبِّ إِنِّي أُسِيءَ إِلَيَّ ، يَا رَبِّ إِنِّي ظُلِمْتُ ، يَا رَبِّ يَا رَبِّ " قَالَ : " فَيُجِيبُهَا : أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ " ( [1] ) . وقد مر بك لفظ الصحيحين : " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتْ الرَّحِمُ فَقَالَتْ : هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنْ الْقَطِيعَةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ " ؛ وهو لفظ عام للدنيا والآخرة .
وتقدم حديث جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ t أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ e يَقُولُ : " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ " أي : قاطع الرحم ؛ قال النووي - رحمه الله : هَذَا الْحَدِيث يُتَأَوَّل تَأْوِيلَيْنِ ؛ أَحَدهمَا : حَمْله عَلَى مَنْ يَسْتَحِلّ الْقَطِيعَة بِلَا سَبَب وَلَا شُبْهَة مَعَ عِلْمه بِتَحْرِيمِهَا ، فَهَذَا كَافِر يُخَلَّد فِي النَّار ، وَلَا يَدْخُل الْجَنَّة أَبَدًا ؛ وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ : لَا يَدْخُلهَا فِي أَوَّل الْأَمْر مَعَ السَّابِقِينَ ، بَلْ يُعَاقَب بِتَأَخُّرِهِ الْقَدْر الَّذِي يُرِيدهُ اللَّهُ تَعَالَى ( [2] ) .
فعلى قاطع رحمه أن يبادر بتوبة ، ويسارع بصلة الرحم والإحسان إليها ؛ ليسلم من هذه العقوبات التي تنتظر القاطع في الدنيا والآخرة .

[1] - رواه أحمد : 2 / 295 ، 383 ، 406 ، 455 ؛ وإسناده صحيح ، ورواه ابن أبي شيبة ( 25394 ) ، وابن حبان ( 444 ، 445 ) ، والشجنة : الشعبة والجزء من الشيء ؛ والمراد صلة وقرابة متصلة ومتشابكة .

[2] - انظر شرح مسلم : 16 / 113 .
 
خاتمة
من هذا العرض الموجز يتبين لنا عظيم اهتمام منهج الإسلام بصلة الأرحام ؛ وأن هذا الأدب الراقي مع ذوي الأرحام له جزاؤه الحسن في الدنيا والآخرة ؛ وأن قاطع الرحم له جزاؤه السيئ في الدنيا والآخرة ؛ مما يحدو بالمحسن أن يزداد إحسانًا ، وبالمسيء أن يبادر بالتوبة ، ويسارع بصلة رحمه ، ويتدارك تقصيره .
هذا ؛ والله أسأل أن يجعلنا والمسلمين من الواصلين لأرحامهم ابتغاء وجه الله تعالى ؛ وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
وكتب
أفقر العباد لعفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
 
كتب الله لكم أجر ما سطرت أيديكم ، ومثل هذه النفائس تظل أثرا باقيا ، أطال الله العمر في الطاعة ، ولا حرمكم الله الأجر .
ويستحق النجوم .
 
عودة
أعلى