الأدب مع الوالدين

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فللوالدين حق غير منكور، وفضل غير مجحود لدى من عنده أدنى مسكة من عقل ، وما أصبحنا في زمن يُجحد فيه حق الوالدين ، وينكر فيه فضلهما ، إلا بسبب ضعف العقول عن فهم الحقائق ، وضعف الوازع الإيماني عن درك العواقب ، فعصى من عصى ، وعق من عق ، ولله تعالى يوم يجمع فيه الأولين والآخرين ، ويجازي كلا بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر .
وواقع الناس يدفعنا إلى أن نبين فضل الوالدين وحقهما وبرهما والإحسان إليهما ، إظهارًا للحق وإعذاراً عند الله تعالى ، ولعل الذين وقعوا في العقوق يتقون ويتداركون أمرهم ، فيتوبون ويُرجعون الحق إلى أهله ، ويندمون على ما قصروا في حق آبائهم ، ولا يعودون إلى مثله .
والحديث عن الأدب مع الوالدين حديث عن طاعة لله تعالى.. عن دين يتبع.. عن شكر واجب.. عن حق يؤدى.. عن أصل وفرع.. عن وفاء ودين.. عن جميل يرد.. عن رحمة موصولة.
هذا هو الإسلام ، ووالله ما رأيت ذلك في غير الإسلام .
إن غير المسلمين ممن يدعي الإنسانية ويتشدق بحقوق الإنسان لما أراد أن يكرم الأم جعل لها يوما في السنة !! ولم يتحدث عن حق الأب ولا إكرام الأب !!
أما في الإسلام فإن الله تعالى قد أعطى كل شيء حقه ، وبين حقوق كل أحد ، ولم أجد بعد حق الله وحق رسوله حقًّا هو أعظم من حق الوالدين ؛ ذلك لأن أعظم الناس منة على الإنسان والديه : كانا سبب وجوده في الحياة ، وأولياه الرعاية والعناية منذ كان جنينًا وإلى أن اشتد عوده وصار محتملا للكسب والاستقلال .
ويدلك على أن حق الوالدين من أوكد الحقوق بعد حق الله U وحق رسوله e أن الله تعالى ذكر الإحسان إليهما بعد توحيده ، فقرن بين حقه تعالى وحق الوالدين ؛ فقال سبحانه: ]وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[ (سورة الإسراء: 23) ، كما ذكر شكرهما بعد شكره ليؤكد على حقهما ، فقال Y: ]أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[ (سورة لقمان: 14).
ولما سئل النبي e: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: « أُمُّكَ » قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: « ثُمَّ أُمُّكَ » قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: « ثُمَّ أُمُّكَ » قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: « ثُمَّ أَبُوكَ » متفق عليه من حديث أبي هريرة([1]).
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على فضل الوالدين وبرهما ، والتي تجعل المسلم يسعى إلى الإحسان إليهما وإكرامهما في كل لحظة لا في يوم واحد من العام.
بل وأكثر من ذلك فقد جعل الإسلام الإساءة إلى الوالدين بأدنى أنواع الإساءة جريمة ، قال الله تعالى: ]فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا[ (الإسراء: 23) ، فنهى عن أقل ما يكون من سوء القول ]فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ[، وعن أقل ما يكون من سوء الفعل ]وَلا تَنْهَرْهُمَا[ .
وحرَّم الله الرحيم على عاق والديه دخول الجنة ، فروى أحمد والنسائي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ: « لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ وَلا عَاقٌّ وَلا مُدْمِنُ خَمْرٍ » ([2]). إلى غير ذلك من الأحاديث التي سنذكر منها طائفة إن شاء الله تعالى .
ولما أصبحنا في زمن كثر فيه عقوق الوالدين ، وقل فيه الإحسان إليهما ، فزاد فيه اللؤم وقل فيه الكرم ... وهل هناك لؤم أبشع من أن يقابل الإنسان الإحسان بالإساءة ؛ أو أن يعض اليد التي طالما مُدت إليه عونًا وشفقة ؛ أو يكون سببًا في نكد من يريد له السعادة.. هذا حال العاق مع والديه.
لما كان ذلك كذلك كان لابد من بيان الأدب الذي أمر به الله تعالى وأمر به رسوله مع الوالدين إعذارًا إلى الله تعالى ... ولعهم يتقون .
والله أسأل أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره والدال عليه ، هو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله أجمعين .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية


[1] - البخاري (5971)، ومسلم (2548).

[2] - أحمد: 2 /، والنسائي (5672).
 
جزاكم الله خيرا وأثابكم ، في انتظار الفوائد والآداب ، رزقنا الله وإياكم بر والدينا والإحسان إليهما .
 
الأدب مع الوالدين في القرآن الكريم
قدمنا أن الأدب مع الوالدين طاعة لله ودين يتبع، ويعني هذا أن التقصير في هذا الأدب إثم بحسبه، فبعضه صغير وبعضه كبير وبعضه من أكبر الكبائر كما أخبر النبي e.
وقد جاءت الوصية بالوالدين وبيان الآداب التي تجب لهما في سبع مواضع من القرآن الكريم:
1) قال تعالى: ]وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[ (البقرة: 83). وهذا يدل على أن الوصية بالوالدين فريضة أيضا في الأديان السماوية السابقة؛ ودخول ذلك في الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل يؤكد ذلك. كما يدل على ذلك أيضا ما ذكره الله تعالى على لسان يحيى u: ]وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً[ (مريم: 14)، وعلى لسان عيسى u:]وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً[ (مريم: 32)؛ وإنما ذكر هنا الوالدة فقط لأن عيسى u ليس له أب، وهذه آية من آيات الله تعالى في خلقه.
2) وقال تعالى: ]وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[(النساء: 36).
في هذه الآية بيان واضح لحق الوالدين إذ قرن الله تعالى الإحسان إليهما بتوحيده.
3) وقال تعالى: ]قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[ (الأنعام: 151). وفي هذا بيان واضح أيضا، فالمعنى حرم عليكم أن تعبدوا معه غيره من الأنداد والأصنام، وأوصى بالوالدين إحسانا، وإنما حذف أوصى لدلالة الكلام عليه.
4) وقال تعالى: ]وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً! وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً[ (الإسراء: 23، 24).
وهاتان الآيتان مع ما فيهما من بيان فريضة الإحسان بالوالدين يوضحان بعض الآداب معهما سيأتي تفصيلها.
5) وقال تعالى: ]وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[ (العنكبوت: 8).
6) وقال تعالى: ]وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[ (لقمان: 14).
7) وقال تعالى: ]وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً[ (الأحقاف: 15).
والآيات الثلاث الأخيرة تبين مع الوصية بالوالدين فضل الأم مع بعض الآداب الأخرى التي سيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.
 
بر الوالدين وفضله في السنة المطهرة
فضل بر الوالدين أمر مقرر في دين الإسلام وقد جاءت أحاديث كثيرة عن النبي e تبين ذلك، وتدل على كثير من أوجه الفضل لبر الوالدين؛ فمن ذلك:
1 – بر الوالدين من أفضل الأعمال وأحبها عند الله: فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ t قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ e: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ وفي رواية: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: « الصَّلاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا » قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: « ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ » قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: « الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »([1]).
2 – بر الوالدين من أسباب رضا الله تعالى عن العبد؛ تقدم أن بر الوالدين قربة وعمل صالح فيقتضي ذلك أن يكون من أسباب رضا الله تعالى عن العبد، وقد جاءت الأحاديث مصرحة بذلك، فَأَخْرَجَ الترمذي وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَمْرٍو t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ: « رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ » ([2]). وروى ابن أبي شيبة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ لَهُ أَبَوَانِ فَيُصْبِحُ وَهُوَ مُحْسِنٌ إلَيْهِمَا إلا فَتَحَ اللَّهُ لَهُ بَابَيْنِ مِنْ الْجَنَّةِ , وَلا يُمْسِي وَهُوَ مُسِيءٌ إلَيْهِمَا إلا فَتَحَ اللَّهُ لَهُ بَابَيْنِ مِنْ النَّارِ , وَلا سَخِطَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَيَرْضَى اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ , قَالَ: قُلْت: وَإِنْ كَانَا ظَالِمَيْنِ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَا ظَالِمَيْنِ ([3]).
3 - بر الوالدين يقدم على تطوع الجهاد؛ ففِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو t قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ e فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنْ اللَّهِ؛ قَالَ: « فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ » قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلاهُمَا؛ قَالَ: « فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنْ اللَّهِ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: « فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا » لفظ مسلم ولفظ البخاري: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ e فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: « أَحَيٌّ وَالِدَاكَ » قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: « فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»([4]). وفي الحديث دليل لعظم فضيلة برهما وأنه آكد من جهاد التطوع؛ ولذا ذهب جمهور العلماء أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلمين أو بإذن المسلم منهما. وهذا في جهاد التطوع فإن كان الجهاد فرضاً متعيناً فلا حاجة إلى إذنهما وإن منعاه عصاهما وخرج ([5]) . وعن عروة بن الزبير قال : هاجر كلاب بن أمية بن الأسكر إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب فأقام بها مدة ، ثم لقي ذات يوم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام فسألهما : أي الأعمال أفضل في الإسلام ؟ فقالا : الجهاد ؛ فسأل عمر فأغزاه في جيش ، وكان أبوه قد كبر وضعف ، فلما طالت غيبة كلاب عنه قال :
لمن شيخان قد نشدا كلابا ... كتاب الله إن قبل الكتابا
أناديه فيعرض في إباء ... فلا وأبي كلاب ما أصابا
إذا سجعت حمامة بطن واد ... إلى بيضاتها دعوا كلابا
أتاه مهاجران تكنفاه ... ففارق شيخه خطئا وخابا
تركت أباك مرعشة يداه ... وأمك ما تسيغ لها شرابا
تمسح مهره شفقا عليه ... وتجنبه أباعرها الصعابا
فإنك قد تركت أباك شيخًا ... يطارق أينقًا شزبًا طرابا
فإنك والتماس الأجر بعدي ... كباغي الماء يتبع السرابا
فبلغت أبياته عمر فلم يردد كلابا ، وطال مقامه فأهتر أمية وخلط جزعًا عليه ، ثم أتاه يوما وهو في مسجد رسول الله e وحوله المهاجرون والأنصار فوقف عليه ثم أنشأ يقول :
أعاذل قد عذلت بغير قدر ... ولا تدرين عاذل ما ألاقي
فإما كنت عاذلتي فردي ... كلابًا إذ توجه للعراق
ولم أقض اللبانة من كلاب ... غداة غَدَا وآذن بالفراق
فتى الفتيان في عسر ويسر ... شديد الركن في يوم التلاقي
فلا والله ما باليت وجدي ... ولا شفقي عليك ولا اشتياقي
وإبقائي عليك إذا شتونا ... وضمك تحت نحري واعتناقي
فلو فلق الفؤاد شديد وجدٍ ... لهمَّ سوادُ قلبي بانفلاق
سأستعدي على الفاروق ربًّا ... له دفع الحجيج إلى بساق
وأدعو الله مجتهدًا عليه ... ببطن الأخشبين إلى دفاق
إنِ الفاروق لم يردد كلابًا ... إلى شيخين هامهما زواق
قال فبكى عمر بكاء شديدا وكتب برد كلاب إلى المدينة ، فلما قدم دخل إليه فقال : ما بلغ من برك بأبيك ؟ قال: كنت أوثره وأكفيه أمره ، وكنت أعتمد إذا أردت أن أحلب له لبنا أغزر ناقة في إبله وأسمنها فأريحها وأتركها حتى تستقر ، ثم أغسل أخلافها حتى تبرد ، ثم أحتلب له فأسقيه ؛ فبعث عمر إلى أمية من جاء به إليه ، فأدخله يتهادى وقد ضعف بصره وانحنى ، فقال له : كيف أنت يا أبا كلاب ، قال : كما تراني يا أمير المؤمنين ، قال : فهل لك من حاجة ؟ قال : نعم أشتهي أن أرى كلابا فأشمه شمة وأضمه ضمة قبل أن أموت ! فبكى عمر ثم قال : ستبلغ من هذا ما تحب إن شاء الله تعالى ؛ ثم أمر كلابا أن يحتلب لأبيه ناقة كما كان يفعل ويبعث إليه بلبنها ففعل ، فناوله عمر الإناء وقال دونك هذا : يا أبا كلاب ، فلما أخذه وأدناه إلى فمه قال لعمر : والله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة يدي كلاب من هذا الإناء ؛ فبكى عمر وقال : هذا كلاب عندك حاضرا قد جئناك به فوثب إلى ابنه وضمه إليه وقبله ، وجعل عمر يبكي ومن حضره ، وقال لكلاب : الزم أبويك فجاهد فيهما ما بقيا ثم شأنك بنفسك بعدهما ؛ وأمر له بعطائه وصرفه مع أبيه ، فلم يزل معه مقيما حتى مات أبوه ( [6] ) .


[1] - البخاري (527، 2782)، ومسلم (85).

[2] - الترمذي (1899)، والحاكم (7249) وصححه على شرط مسلم.

[3] - ابن أبي شيبة (25407).

[4] - البخاري (3004)، ومسلم (2549).

[5] - انظر شرح مسلم للنووي: 16 / 104، وشرح السنة للبغوي.

[6] - الأغاني : 10 / 15 : 17 ، وذكرها أبو يكر القرشي في مكارم الأخلاق ( 242 ) مختصرة .
 
وعن عروة بن الزبير قال : هاجر كلاب بن أمية بن الأسكر إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب فأقام بها مدة ، ثم لقي ذات يوم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام فسألهما : أي الأعمال أفضل في الإسلام ؟ فقالا : الجهاد ؛ فسأل عمر فأغزاه في جيش ، وكان أبوه قد كبر وضعف ، فلما طالت غيبة كلاب عنه قال :
لمن شيخان قد نشدا كلابا ... كتاب الله إن قبل الكتابا
أناديه فيعرض في إباء ... فلا وأبي كلاب ما أصابا
إذا سجعت حمامة بطن واد ... إلى بيضاتها دعوا كلابا
أتاه مهاجران تكنفاه ... ففارق شيخه خطئا وخابا
تركت أباك مرعشة يداه ... وأمك ما تسيغ لها شرابا
تمسح مهره شفقا عليه ... وتجنبه أباعرها الصعابا
فإنك قد تركت أباك شيخًا ... يطارق أينقًا شزبًا طرابا
فإنك والتماس الأجر بعدي ... كباغي الماء يتبع السرابا
فبلغت أبياته عمر فلم يردد كلابا ، وطال مقامه فأهتر أمية وخلط جزعًا عليه ، ثم أتاه يوما وهو في مسجد رسول الله e وحوله المهاجرون والأنصار فوقف عليه ثم أنشأ يقول :
أعاذل قد عذلت بغير قدر ... ولا تدرين عاذل ما ألاقي
فإما كنت عاذلتي فردي ... كلابًا إذ توجه للعراق
ولم أقض اللبانة من كلاب ... غداة غَدَا وآذن بالفراق
فتى الفتيان في عسر ويسر ... شديد الركن في يوم التلاقي
فلا والله ما باليت وجدي ... ولا شفقي عليك ولا اشتياقي
وإبقائي عليك إذا شتونا ... وضمك تحت نحري واعتناقي
فلو فلق الفؤاد شديد وجدٍ ... لهمَّ سوادُ قلبي بانفلاق
سأستعدي على الفاروق ربًّا ... له دفع الحجيج إلى بساق
وأدعو الله مجتهدًا عليه ... ببطن الأخشبين إلى دفاق
إنِ الفاروق لم يردد كلابًا ... إلى شيخين هامهما زواق
قال فبكى عمر بكاء شديدا وكتب برد كلاب إلى المدينة ، فلما قدم دخل إليه فقال : ما بلغ من برك بأبيك ؟ قال: كنت أوثره وأكفيه أمره ، وكنت أعتمد إذا أردت أن أحلب له لبنا أغزر ناقة في إبله وأسمنها فأريحها وأتركها حتى تستقر ، ثم أغسل أخلافها حتى تبرد ، ثم أحتلب له فأسقيه ؛ فبعث عمر إلى أمية من جاء به إليه ، فأدخله يتهادى وقد ضعف بصره وانحنى ، فقال له : كيف أنت يا أبا كلاب ، قال : كما تراني يا أمير المؤمنين ، قال : فهل لك من حاجة ؟ قال : نعم أشتهي أن أرى كلابا فأشمه شمة وأضمه ضمة قبل أن أموت ! فبكى عمر ثم قال : ستبلغ من هذا ما تحب إن شاء الله تعالى ؛ ثم أمر كلابا أن يحتلب لأبيه ناقة كما كان يفعل ويبعث إليه بلبنها ففعل ، فناوله عمر الإناء وقال دونك هذا : يا أبا كلاب ، فلما أخذه وأدناه إلى فمه قال لعمر : والله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة يدي كلاب من هذا الإناء ؛ فبكى عمر وقال : هذا كلاب عندك حاضرا قد جئناك به فوثب إلى ابنه وضمه إليه وقبله ، وجعل عمر يبكي ومن حضره ، وقال لكلاب : الزم أبويك فجاهد فيهما ما بقيا ثم شأنك بنفسك بعدهما ؛ وأمر له بعطائه وصرفه مع أبيه ، فلم يزل معه مقيما حتى مات أبوه ( [6] ) .

[6]- الأغاني : 10 / 15 : 17 ، وذكرها أبو يكر القرشي في مكارم الأخلاق ( 242 ) مختصرة .
هذه القصة أبكتني ، فأين نحن من بر والدينا هذا البر المتزج بالحب والرحمة والإحسان ؟؟ فقد شغلتنا الحياة واكتفينا بزيارة أسبوعية تتخلل أيامها مكالمات هاتفية وحسب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
اللهم اعف عنا وبارك في آبائنا وأمهاتنا ووفقنا لبرهما ، واجز كاتب هذه السطور خير الجزاء .
 
جزاكم الله خيرا ... رزقنا الله وإياكم طاعة الوالدين والإحسان إليهما .. و حفظهما الله لنا في الدنيا من كل سوء .. وغفر لهما ورحمهما وجعل الفردوس الأعلى مثواهما ...
 
الأخت الكريمة / شذى الأترج
شكر الله لك هذا الشعور المختلج باللوم على ما تظنينه تقصيرًا ؛ وأسأله سبحانه أن يتجاوز عن تقصيرنا ، ويرزقنا برَّ الوالدين على الوجه الذي يرضيه عنا ؛ ومهما بلغ الولد من البر تجاه والديه .. هل يوفيهما حقهما ؟ إنما هي معاملة ممتدة بين الآباء والأبناء ، أمر الله بها عباده ، وجعلها دينًا يتداينون به ، فمن برَّ بُرَّ به وجوزي الأجر العظيم ، ومن عقَّ عُق ، وجزاؤه العقاب ؛ وجميل أن يشعر الإنسان بتقصيره مع برِّه .. وجزاك الله خيرًا لدعائك ، ولك بمثل ... آمييييين
 
بر الوالدين وفضله في السنة المطهرة
4 - بر الوالدين طريق الجنة ؛ روى أحمد وابن حبان عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ e: « دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيهَا قِرَاءَةً قُلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ؛ كَذَاكُمْ الْبِرُّ، كَذَاكُمْ الْبِرُّ » ([1]) .
والمعنى : كذاكم جزاء البر .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : « رَغِمَ أَنْفُ ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ » قِيلَ : مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : « مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ » .
وَمَعْنَى : " رَغِمَ أَنْفُهُ " أَيْ : لَصِقَ بِالرَّغَامِ ، وَهُوَ التُّرَابُ؛ والمعنى أنه إذا قام ببرهما في هذه السن كان ذلك سبب لدخوله الجنة ، وإذا قصر في ذلك فقد رغم أنفه ، وهي كناية عن الخسران والذل .
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَححهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السَّلَمِيِّ أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ e فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ ؛ فَقَالَ : « هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ ؟ » قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : « فَالْزَمْهَا ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا » ؛ وعند ابن ماجة: « الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ » ([2])؛ وروى أحمد والتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ t أَنَّ رَجُلا أَتَاهُ فَقَالَ : إِنَّ لِيَ امْرَأَةً ، وَإِنَّ أُمِّي تَأْمُرُنِي بِطَلاقِهَا ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ " ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ احْفَظْهُ ([3]) .
وفي الحديث دليل على أن طاعة الوالدين باب من أبواب الجنة .
وروى البخاري في ( الأدب المفرد ) أن ابن عمر قال لطيسلة بن مياس : أتفرق من النار ، وتحب أن تدخل الجنة؟ قال : إى والله، قال: أحيٌّ والداك ؟ قال: عندي أمي ، قال : فوالله لو ألنت لها الكلام ، وأطعمتها الطعام ، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر ([4]) .
[1] - أحمد: 6 / 36، وابن حبان (7014).

[2] - النسائي (3104)، وابن ماجة (2781)، والحاكم (2502).

[3] - أحمد: 5 / 196، الترمذي (1900)، وابن ماجة (3663)، وسيأتي الحديث عن هذه المسألة إن شاء الله.

[4] - الأدب المفرد (8).
 
بر الوالدين وفضله في السنة المطهرة
5 - بر الوالدين يزيد في العمر والرزق : أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ عن أَنَسٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ ، وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ؛ فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " ([1]) . وأصله في الصحيحين بلفظ : " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " ([2]) .
و " يُنْسَأ " أَيْ : يُؤَخَّر . وَالأَثَر : الأَجَل , لأَنَّهُ تَابِع لِلْحَيَاةِ فِي أَثَرهَا ؛ وَبَسْط الرِّزْق : تَوْسِيعه وَكَثْرَته , وَقِيلَ : الْبَرَكَة فِيهِ .
وأما زيادة العمر ، فقيل : زيادة حقيقة ، وقيل : البركة فيه ؛ وقيل : حسن الذكر بعد الموت ([3]) .
وروى أحمد والنسائي وابن ماجة عن ثوبان t قال : قال رسول الله e : " إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ، ولا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر " ورواه النسائي وابن ماجة ([4]).
وعن سلمان الفارسي t قال : قال رسول الله e : " لا يرد القضاء إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر " ([5]) .
6 - بر الوالدين موصول بالأبناء : أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " عِفُّوا عَنْ نِسَاءِ النَّاسِ تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ , وَبَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ .. " الحديث ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ : " بِرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ ، وَعِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ " ([6]) . فالحديث يدل على أن البر موصول بالأبناء جزاء ما بروا آباءهم .
7 - بر الوالدين يكفر الخطايا ؛ روى أحمد والتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ e فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا ، فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ ؟ قَالَ : " هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ " ، وَعند أحمد وابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ : " هَلْ لَك وَالِدَانِ ؟ " قَالَ : لا ؛ قَالَ : " فَهَلْ لَك مِنْ خَالَةٍ ؟ " قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : " فَبِرَّهَا " ([7]) .
وفي الحديث دليل على أن بر الوالدين يكفر الذنوب ؛ وفيه - أيضًا - دليل على أن بر الخالة يدخل في ذلك ، وقد قال النبي e : " الخالة بمنزلة الأم " ([8]) .
ولذلك قال الإِمَامُ أَحْمَدُ - رحمه الله : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ كَفَّارَةُ الْكَبَائِرِ .
وَرواه الحارث بن أبي أسامة وأبو نعيم عَنْ مَكْحُولٍ ([9]). وروى أَحْمَدُ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَمْرٍو الْقُشَيْرِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: " مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً فَهِيَ فِدَاؤُهُ مِنْ النَّارِ ؛ وَمَنْ أَدْرَكَ أَحَدَ وَالِدَيْهِ ثُمَّ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ " ([10]) .
وعند ابن أبي شيبة عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ : يُرْجَى لِلْمُرْهَقِ بِالْبِرِّ الْجَنَّةُ , وَيُخَافُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِالْعُقُوقِ النَّارُ ( [11] ) . يقال : في فلان رهق ، أي : غشيان للمحارم .


[1] - أحمد : 3 / 229، 266 ، وإسناده صحيح .

[2] - البخاري (2067) ، ومسلم (2557) .

[3] - انظر شرح مسلم : 16 / 114، وفتح الباري : 3 / 435 .

[4] - رواه أحمد : 5 / 277 ، 280 ، 282 ، والنسائي في الكبرى مختصرًا كما في التحفة (2093) ، وابن ماجة (90، 4022) . ورواه الطبراني في الكبير : 2 / 100 (1442) ، وابن حبان (872) ، والحاكم : 1 / 493 ، وصححه ووافقه الذهبي . ورواه البغوي في شرح السنة (3418) ، وحسنه الحافظ العراقي كما نقله عنه البوصيري في ( الزوائد ) .

[5] - رواه الترمذي (2144) وقال : حسن غريب ، والطحاوي في شرح المشكل (3068) .

[6] - حديث أبي هريرة رواه الحاكم (7258) ، وحديث ابن عمر رواه الطبراني في الأوسط (1002) ، وحسنه المنذري في الترغيب : 3 / 218 ؛ ورواه الحاكم - أيضًا - عن جابر (7259) .

[7] - أحمد: 2 / 13 ، والترمذي (3975) ، وابن حبان (435)، والحاكم (7261) .

[8] - البخاري (2700) ، ومسلم (1783) .

[9] - انظر جامع العلوم والحكم ص 173 ، وزوائد الحارث للهيثمي (898) ، والحلية لأبي نعيم : 5 / 183.

[10] - أحمد: 4 / 344، وحسنه المنذري في الترغيب: 3 / 219.

[11] - ابن أبي شيبة (25405).
 
بر الوالدين وفضله في السنة المطهرة
8 - بر الوالدين من أسباب نجاة العبد في الشدائد؛ يدل على ذلك ما في الصحيحين عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " انْطَلَقَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمْ الْمَبِيتُ إلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ , فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ الْغَارَ , فَقَالُوا إنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ؛ قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَكُنْت لا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلا وَلا مَالا , فَنَأَى بِي طَلَبُ شَيْءٍ يَوْمًا فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا , فَحَلَبْت لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتهمَا نَائِمَيْنِ فَكَرِهْت أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلا أَوْ مَالا فَلَبِثْت وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ انْتَظَرْت اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا. اللَّهُمَّ إنْ كُنْت فَعَلْت ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِك فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ , فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ .. " الحديث ( [1] ) .
والْغَبوقُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ هُوَ الَّذِي يُشْرَبُ بِالْعَشِيِّ ، وَالمعنى : كُنْت لا أُقَدِّمُ عَلَيْهِمَا فِي شُرْبِ اللَّبَنِ أَهْلًا وَلا غَيْرَهُمْ .
وَمعنى قَوْلُهُ : يَتَضَاغَوْنَ ، أَيْ : يَضِجُّونَ مِنْ الْجُوعِ .
والحديث واضح الدلالة على أن بر الوالدين كان سببًا في نجاة صاحبه مع صاحبيه ، عندما توسلوا بصالح الأعمال ، فقد سأل كل واحد منهم بعمل عظيم أخلص فيه لله ، لأن ذلك العمل مما يحبه الله ويرضاه ، محبة تقتضي إجابة صاحبه : فهذا سأل ببره لوالديه ، والآخر سأل بعفته التامة ، والثالث بأمانته وإحسانه .


[1] - البخاري (2272)، ومسلم (2743).
 
شكر واجب
الأدب مع الوالدين شكر واجب، فأولى أنواع الشكر بعد شكر الله تعالى هو شكر الوالدين، قال الله Y: ]أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[ (سورة لقمان: 14)، والشكر يكون على المعروف الخاص، وكم خص الوالدان أبناءهما بالكثير الكثير ، فوجب على الأبناء أن يردوا ذلك بالشكر، والشكر هو الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف ؛ وهل يعرف الإنسان أحدًا - بعد رسول الله e - من الخلق هو أعظم معروفًا لديه من والديه ؟! والشكر يكون بالقلب واليد واللسان كما قيل :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا

فتبين أن أداء شكر المعروف يتضمن شكر القلب بالمحبة وإضمار الخير والإحسان، وشكر اللسان بالثناء الجميل، وشكر الجوارح بإسداء ما يمكن أداؤه من خير عملي ومنع كل أذى. ولذا جاءت النصوص: ]وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[؛ والإحسان يتضمن أمرين: إيصال كل خير، ومنع كل شر، وهذا يتضمن القلب واللسان والجوارح؛ فمن أوصل الخير ولم يمنع الشر فما أحسن، ومن منع الشر ولم يوصل الخير فما أحسن، وإذا لم يحسن فقد أساء، وإذا أساء فقد ارتكب معصية، فيحتاج إلى أن يتوب ويرجع ويرضي أبويه ويعزم على دوام الإحسان إليهما.
 
الأدب مع الوالدين حق يؤدى
ليس هناك حق بعد حق الله تعالى وحق رسوله e هو أعظم من حق الوالدين، ولا يختلف في ذلك أحد عنده أدنى فهم؛ فإن هذا مما جاءت به الشرائع وتواتر عبر الأجيال، وتقدم ما جاء في القرآن الكريم ؛ والسنة النبوية حافلة بنصوص كثيرة تثبت ذلك ؛ منها ما رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَالَ : " أُمُّكَ " قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : " ثُمَّ أُمُّكَ " قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: " ثُمَّ أُمُّكَ " قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : " ثُمَّ أَبُوكَ " ([1]) .
فلا يخفى ما في هذا الحديث من عظم حق الوالدين ، وبيان فضل الأم .


[1] - البخاري (5971)، ومسلم (2548).
 
حكم بر الوالدين
اتفقت كلمة الفقهاء على أن بر الوالدين فرض عين؛ قال ابن حزم في (مراتب الإجماع): واتفقوا أن بر الوالدين فرض([1]). والبر اسم جامع لكل خير قولا وفعلا.
أصل وفرع
لا يشك عاقل في أن الأبوين هما أصل وجود الأبناء، وأن حياة الفرع من حياة الأصل؛ وكما أن الأصل يريد أن يكون فرعه قويا صالحا فعلى الفرع أن يراعي بقاء الأصل كذلك لأنه منه يستمد استمرار حياته النافعة بإذن الله تعالى؛ وإن كان الله تعالى قضى أن الأصل في عالم النبات سبب في بقاء الفرع، بحيث لو أزيل الأصل لم يبق للفرع وجود ولا حياة؛ فقد قضى سبحانه في عالم الإنسان باتصال نفع الأصل بالفرع والفرع بالأصل إن كانا على منهجه وطاعته؛ ففي قصة موسى مع الخضر عليهما السلام؛ قال الله تعالى: ]وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً[ (الكهف: 82). فلصلاح الأصل ]وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً[ حفظ الكنز، فانتفع الغلامان (الفرع) بذلك. ولله در القائل:
رأيت صلاح المرء يصلح أهله ... ويعديهم داء الفساد إذا فسد
يعظم في الدنيا بقدر صلاحه ... ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
وقال الله تعالى: ]وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً[ (النساء: 9).
وأما انتفاع الأصل بالفرع ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله e: « إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ » ([2]). عن أبي هريرة t أن رسول الله e قال: « إِنَّ اللهَ U ليرفعُ الدرجةَ للعبدِ الصالحِ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: يا ربِّ أَنَّى لي هَذَه؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ "، رواه أحمد والبخاري في (الأدب المفرد) وابن ماجة وابن عبد البر في (التمهيد)، وهو حديث حسن، ورواه البزار والبغوي في (شرح السنة) وفيه: " يَقُولُ: بِدُعَاءِ وَلَدِكَ لَكَ " ([3]).
إنها حياة موصولة بين الأصل والفرع حتى يرفع فيها الأبناء إلى مقام الآباء في الجنة ليسعد كلاهما بالآخر؛ قال الله تعالى: ]وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ[ (الطور:21).
فاللهم اجعلنا من هؤلاء بفضلك ومنك يا جواد يا كريم.


[1] - مراتب الإجماع ص 157؛ وانظر المغني: 9 / 170، المهذب: 2 / 229، وبدائع الصنائع: 7 / 98، والكافي لابن عبد البر ص 613.

[2] - مسلم (1631).

[3] - أحمد: 2 / 509، والبخاري في الأدب المفرد (36) وابن ماجة (3660)، والتمهيد: 23 / 142، 143. ورواه البزار كما في مجمع الزوائد: 10 / 153، وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح غير عاصم ابن بهدلة، وهو حسن الحديث. ا.هـ. ورواه البغوي في شرح السنة (1396).
 
وفاء ودين
إن الفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده عقود ومواثيق يجب الوفاء بها ، أي إتمام أدائها على الكمال ؛ وليس أحق من أن يكون الابن وفيًّا مع والديه بأداء ما فرضه الله تعالى عليه من الإحسان إليهما وبرهما .
ثم قد قضى الله تعالى أن الجزاء من جنس العمل : قال الله تعالى : ] هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ [ (الرحمن: 60) ؛ فمن أَحسن أُحسن إليه ، ومعناها هنا مَنْ بر أبويه رزقه الله تعالى أبناءً يسارعون في بره ، وقد روى الطبراني والحاكم عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله e : " عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم؛ وبروا آبائكم تبركم أبناؤكم.. " الحديث ([1]) . وفيه بيان أن البر دين يؤدى إلى من بر ، أي : أن من بر والديه رزقه الله أبناء بارين ؛ وفي الحديث - أيضًا - أن العقوق دين يؤدى إلى من عق ، أي : أن من عق أبويه رزقه الله أولادًا عاقين .


[1] - الحاكم (72580) وصححه عن أبي هريرة ، ورواه الطبراني في الأوسط (1200) عن ابن عمر ، وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب : 3 / 218، ورواه الحاكم (7259) عن جابر .
 
جميل يرد
كم من جميل أسداه الوالدين للأبناء مع الحب والدعاء ، فإن لم يفرض الله تعالى على الأبناء برَّ الآباء كان من الواجب على الأبناء أن يردُّوا جميل الآباء بجميل الأقوال والأفعال .
ذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ - رحمه الله - فِي كِتَابِهِ (تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حُرْمَةَ الْوَالِدَيْنِ وَلَمْ يُوصِ بِهِمَا لَكَانَ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ أَنَّ حُرْمَتَهُمَا وَاجِبَةٌ , وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ حُرْمَتَهُمَا وَيَقْضِيَ حَقَّهُمَا ؛ فَكَيْفَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ , وَقَدْ أَمَرَ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ وَأَوْحَى إلَى جَمِيعِ رُسُلِهِ وَأَوْصَاهُمْ بِحُرْمَةِ الْوَالِدَيْنِ وَمَعْرِفَةِ حَقِّهِمَا , وَجَعَلَ رِضَاهُ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسَخَطَهُ فِي سَخَطِهِمَا ( [1] ) .
ولذلك كان عقوق الوالدين مذموم بكل لسان ، وكانت العرب قبل الإسلام تمدح من برَّ والديه ، وتذم من عقهما ، ولأمية بن أبي الصلت :
غَذَوتُكَ مولوداً وعُلْتُكَ يافعاً ... تَعُلُّ بما أُجني عليك وتَنْهَلُ
إذا ليلةٌ ضافَتْكَ بالسُقْمِ لَمْ أبتْ ... لسُقْمِكَ إلا ساهراً أتَمَلْمَلُ
كأني أنا المطروقُ دُونكَ بالذي ... طُرقتَ بِهِ دُوني فَعَيْنِي تَهْمَلُ
تخافُ الردَى نفسي عليكَ وإنها ... لَتَعَلْمُ أنْ الموتَ وَقْتٌ مُؤجلُ
فَلمَّا بَلَغَتَ السنَّ والغايةَ التي ... إليها مَدَى ما كنت فِيكَ أُأَملُ
جعلتَ جَزَائي غِلظةً، وفَظَاظةً ... كأنكَ أنتَ الْمُنعمُ المتفضلُ
فليتكَ إذْ لَمْ تَرْعَ حق أبوتي ... فَعَلْتَ كما الجارُ المجاورُ يفعلُ
فأوليتني حقَّ الجوارِ فلمْ تكنْ ... عليَّ بمالٍ دون مالِكَ تبخلُ
وما أجمل ما قيل :
تحمَّلْ عَنْ أبيكَ الثُقْلَ يومًا ... فإنَّ الشيخَ قد ضَعُفَتْ قُوَاهُ
أتى بكَ عَنْ قَضاءٍ لَمْ تُرِدْهُ ... وآثَرْ أنْ تفوزَ بما حَوَاهُ
إن رد الجميل من شيم الكرام ، وأما التمرد ونكران الجميل فمن صفات اللئام ..

[1] - انظر تنبيه الغافلين ص 63 ( المكتبة العصرية ) .
 
رحمة موصولة
قذف الله تعالى في قلوب الآباء الرحمة بأبنائهم ، تلكم الرحمة التي هي أعظم رحمة في قلب مخلوق ؛ خاصة إن كان صغيرًا وهذا من الأمور التي لا يختلف عليها أحد ؛ بل إن البهائم لترحم أبناءها، ففي الصحيحين أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ t قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا ، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا ، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ ، حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ " .
وفيهما عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t قَالَ : قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ e بِسَبْيٍ ؛ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ e : " أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟ " قُلْنَا : لا وَاللهِ ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ e : " لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا " .
فهذه الرحمة يجب أن توصل برحمة من الأبناء تجاه الآباء ، لا سيما عند كبر الآباء ، فإن الإنسان عند كبره يحتاج إلى الرحمة ومن هنا قال ربنا جل وعلا : ] وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [ (الإسراء: 24) .
روى البخاري في (الأدب المفرد) عن عروة بن الزبير t : ] واخفض لهما جناح الذل من الرحمة [ قال : لا تمتنع من شيء أحباه .
ولأبي بكر الطرشوشي :
لَو كانَ يدري الابنُ أيةَ غُصْةٍ … يَتَجَرَّعُ الأبوانِ عندَ فِرَاقِهِ
أمٌّ تَهِيجُ بِوَجْدِهِ حَيْرَانةً … وأبٌ يَسُحُ الدمعَ من آماقِهِ
يتجرعانِ لبِينِهِ غُصَصَ الردَى … ويبوحُ ما كتماه مِنْ أشواقِهِ
لَرَثَى لأمٍ سُلَّ من أَحْشَائِها … وبَكَى لشيخٍ هامَ في آفاقِهِ
ولبدَّلَ الخُلُقَ الأبيَّ بعَطْفِهِ … وجزاهما بالعطفِ من أخلاقِهِ

ولذلك أمر الله تعالى أن تكون رحمة الولد موصولة برحمة الوالد فقال تعالى : ] وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [ [الإسراء : 24].
رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ... آمييييين .
 
بعض مظاهر الأدب مع الوالدين
الأدب مع الوالدين هو الإحسان إليهما قولا وفعلا ، وقد جاءت الأدلة من القرآن والسنة على أن بر الوالدين واجب ، وهذا محل اتفاق بين المسلمين ، قال ابن عبد البر – رحمه الله - في ( الكافي ) : وبر الوالدين فرض لازم ، وهو أمر يسير على من يسره الله له ؛ وبرهما خفض الجناح ، ولين الكلام ، وألا ينظر إليهما إلا بعين المحبة والإجلال ، ولا يعلو عليهما في مقال إلا أن يريد إسماعهما ، ويبسط أيديهما في نعمته ، ولا يستأثر عليهما في مطعمه ولا مشربه ، ولا يتقدم أحد أباه إذا مشى معه ، ولا يتقدمه في القول في مجلسه فيما يعلم أنه أولى به منه ، ويتوقى سخطهما بجهده ، ويسعى في مسرتهما بمبلغ طاقته ؛ وإدخال الفرح عليهما من أفضل أعمال البر ، وعليه أن يسرع إجابتهما إذا دعواه أو أحدهما ، فإن كان في الصلاة النافلة خففها وتجاوز فيها ، ولا يقل لهما إلا قولا كريما ؛ وحق عليهما أن يعيناه على برهما بلين جانبهما وإرفاقه بذات أيديهما ( [1] ) .
هذه كلمات جامعة في بر الوالدين أردت أن أصدر بها الحديث عن مظاهر برهما ، ولنبدأ الحديث بما جاء في القرآن من مظاهر الإحسان إليهما :
أولا : الأدب القولي : قال الله تعالى : ] فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [ ، ففي هذه الآية الكريمة حرَّم الله تعالى على الأبناء أن يواجهوا الآباء بأقل ما يكون من سوء الكلام ساعة الغضب ، وكذا الحدة في الكلام وهي النهر ؛ روى ابن أبي شيبة عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : إذَا بَلَغَا مِنْ الْكِبَرِ مَا كَانَ يَلِيَانِ مِنْهُ فِي الصِّغَرِ فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ( [2] ) . وكأن الوالدان في الكبر يحتاجان من الولد أن يقوم بخدمتهما في أمور كانا يقومان بها معه في صغره من إزالة نجاسة أو تنظيف ثوب ومكان ونحو ذلك ، وكذا من حسن رعاية وإحضار طعام وشراب ومراعاة حال إلى غير ذلك ، فيجب عليه أن يقوم بهذا كله دون تأفف وتضجر ؛ ومن هنا قال عُرْوَةَ : ] فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [ لَا تَمْنَعْهُمَا شَيْئًا أَرَادَاهُ - أَوْ قَالَ : أَحَبَّاهُ ([3]) . أي : لا تضجر من طلباتهما ولا تتأفف من ذلك ، ]وَلا تَنْهَرْهُمَا[ أي : لا تزجرهما .
قال ابن العربي - رحمه الله : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ فِي الْمَفْرُوضَاتِ , وَبِرُّهُمَا يَكُونُ فِي الأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ ; فَأَمَّا فِي الأَقْوَالِ فَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ] فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [ فَإِنَّ لَهَما حَقَّ الرَّحِمِ الْمُطْلَقَةِ , وَحَقَّ الْقَرَابَةِ الْخَاصَّةِ ; إذْ أَنْتَ جُزْءٌ مِنْهُ , وَهُوَ أَصْلُكَ الَّذِي أَوْجَدَكَ , وَهُوَ الْقَائِمُ بِكَ حَالَ ضَعْفِكَ وَعَجْزِكَ عَنْ نَفْسِكَ ( [4] ) .
ثم يبين الله تعالى أن الولد ليس مطالبًا بمنع سيء الكلام - وإن كان بسيطًا - وفقط ، وإنما هو مطالب - أيضًا - بأن يقول لهما القول الكريم ، أي : الحسن في ذاته ومعناه ؛ فحتى إن لم يكن له قدرة على قضاء حاجاتهما فيجب عليه أن يترضاهما بحسن قول يطيب به الخاطر ويزيل به أثر عدم قضاء ما طلبا .
قال الهيتمي في ( الزواجر ) : ] وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [ أَيْ : اللَّيِّنُ اللَّطِيفُ ، الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْعَطْفِ وَالِاسْتِمَالَةِ وَمُوَافَقَةِ مُرَادِهِمَا وَمَيْلِهِمَا وَمَطْلُوبِهِمَا مَا أَمْكَنَ ، سِيَّمَا عِنْدَ الْكِبَرِ , فَإِنَّ الْكَبِيرَ يَصِيرُ كَحَالِ الطِّفْلِ وَأَرْذَلَ ; لِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَرَفِ وَفَسَادِ التَّصَوُّرِ , فَيَرَى الْقَبِيحَ حَسَنًا وَالْحَسَنَ قَبِيحًا , فَإِذَا طَلَبْت رِعَايَتَهُ وَغَايَةَ التَّلَطُّفِ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَأَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيْهِ بِمَا يُنَاسِبُ عَقْلَهُ إلَى أَنْ يَرْضَى ، فَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْلَى .ا.هـ .
ومن الأدب القولي مع الوالدين ألا يدعوهما باسمهما وإنما يقول : يا أمي.. يا أماه .. ونحو ذلك ؛ ويا أبي .. يا أبتاه ، ونحو ذلك ؛ روى عبد الرزاق والبيهقي عن طاوس قال : إن من السنة أن يوقر أربعة - فذكرهم - وزاد : ويقال : إن من الجفاء أن يدعو الرجل والده باسمه ([5]) .


[1] - الكافي ص 613.

[2] - ابن أبي شيبة (25410).

[3] - رواه ابن أبي شيبة (254012) .

[4] - انظر أحكام القرآن عند الآية (23) من سورة الإسراء .

[5] - عبد الرزاق: 11 / 137، وعنه البيهقي في شعب الإيمان (7894).
 
ثانيًا : الأدب العملي
قال الله تعالى: ]وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ[، هذه الآية تجمع كل فعل حسن ، قال الهيتمي – رحمه الله - في (الزواجر) : ثُمَّ أَمَرَ - تَعَالَى - بَعْدَ الْقَوْلِ الْكَرِيمِ بِأَنْ يَخْفِضَ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الْقَوْلِ ، بِأَنْ لا يُكَلِّمَهُمَا إلا مَعَ الاسْتِكَانَةِ وَالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَإِظْهَارِ ذَلِكَ لَهُمَا , وَاحْتِمَالِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمَا , وَيُرِيهِمَا أَنَّهُ فِي غَايَةِ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِمَا وَبِرِّهِمَا , وَأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ , وَلَا يَزَالُ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُثْلِجَ خَاطِرَهُمَا , وَيُبَرِّدَ قَلْبَهُمَا عَلَيْهِ , فَيَنْعَطِفَا عَلَيْهِ بِالرِّضَا وَالدُّعَاءِ .ا.هـ .
قال القرطبي - رحمه الله : هذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما ، تذلل الرعية للأمير ، والعبيد للسادة ، كما أشار إليه سعيد بن المسيب ، وضرب خفض الجناح ونصبه مثلا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه لولده ، والذل هو اللين .. من قولهم : دابة ذلول بينة الذل ، والذلول في الدواب المنقاد السهل دون الصعب ؛ فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله وسكناته ونظره ، ولا يحد إليهما بصره ؛ فإن تلك هي نظرة الغاضب .. قال : و( من ) في قوله : ] منَ الرَّحْمَةِ [ لبيان الجنس ، أي : إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس ، لا بأن يكون ذلك استعمالاً ( [1] ) .
ولذا قال عروة بن الزبير - رحمه الله - في هذه الآية : الذلول لهما أن لا تمتنع من شيء أحباه ( [2] ) .
وروى ابن أبي شيبة عَنْ عُرْوَةَ - أيضًا - قَالَ: مَا بَرَّ وَالِدَهُ مَنْ شَدَّ الطَّرْفَ إلَيْهِ ( [3] ) . أي : من حد نظره إليه .
وروى عبد الرزاق عن الحسن - ر حمه الله - وسئل ما برُّ الوالدين ؟ قال : أن تبذل لهما ما ملكت ، وأن تطيعهما في ما أمراك به ، إلا أن تكون معصية ( [4] ) .
وروى - أيضًا - عن أبي هريرة t أنه رأى رجلا يمشي بين يدي رجل فقال : ما هذا منك ؟ قال : أبي ، قال : فلا تمش بين يديه ، ولا تجلس حتى يجلس ، ولا تدعه باسمه ، ولا تستسب له ( [5] ) ؛ ومعنى ( ولا تستسب له ) أي : لا تجلب عليه السباب ، وفي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَمْرٍو t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ " قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : " يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ " ( [6] ) .
وصفوة القول : أن بر الوالدين والإحسان إليهما فرض على الأبناء ، وهو يجمع مع حسن القول حسن الفعل ، كما يجمع دفع الأذى قولا وفعلا ، ومن ذلك طاعتهما في كل ما أمرا به إلا أن يكون معصية ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ؛ ويدخل في ذلك : حسن صحبتهما وإن كانا كافرين ، لقوله تعالى : ] وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [ ( لقمان : 15 ) . فَأَمَرَ تَعَالَى بِمُصَاحَبَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ فِي الْحَالِ الَّتِي يُجَاهِدَانِهِ فِيهَا عَلَى الْكُفْرِ ، وإن لم يطعهما على ما يجاهدانه عليه ؛ فَإِذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمُصَاحَبَةِ هَذَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ هَذَا الْقُبْحِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَأْمُرَانِ وَلَدَهُمَا بِهِ - وَهُوَ الإِشْـرَاكُ بِاَللَّهِ تَعَالَى - فَمَا الظَّنُّ بِالْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ ، سِيَّمَا إنْ كَانَا صَالِحَيْنِ ؟! تَاللَّهِ إنَّ حَقَّهُمَا لَمِنْ أَشَدِّ الْحُقُوقِ وَآكَدِهَا ، وَإِنَّ الْقِيَامَ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ أَصْعَبُ الأُمُورِ وَأَعْظَمُهَا , فَالْمُوَفَّقُ مَنْ هُدِيَ إلَيْهَا وَالْمَحْرُومُ كُلُّ الْمَحْرُومِ مَنْ صُرِفَ عَنْهَا .
وفي الصحيحين عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَتْ : قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ ، فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ e [ صلح الحديبية ] ، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ e قُلْتُ : وَهِيَ رَاغِبَةٌ ، أَفَأَصِلُ أُمِّي ؟ قَالَ : " نَعَمْ ؛ صِلِي أُمَّكِ " ([7]) . فأمرها e بصلة أمها مع كونها مشركة ؛ فكيف بالمسلمة ؟
إن حق الوالدين عظيم ، ومراعاة هذا الحق وإن اختلف الدين مطلب شرعي ، ولعل الحكمة من ذلك تأليف قلب الأبوين إن كانا كافرين ، فإنهما إن وجدا من ابنهما برًّا - مع أنهما يخالفان دينه - فلعلهما يراجعا أنفسهما ، ويعملا فكرهما في أمر هذا الدين الذي يأمر ببر الوالدين وإن خالفاه ، مع أنهما بعكس ذلك من عدم برِّ من خالفهما في دينهما .. والعلم عند الله تعالى .
فائدة :
قال ابن حزم - رحمه الله : وإنما افترض الله تعالى الإحسان إلى الأبوين وأن لا ينهرا ، وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة فيما ليس فيه معصية الله تعالى فقط ؛ وهكذا نقول : إنه لا يحل لمسلم له أب كافر أو أم كافرة أن يهديهما إلى طريق الكنيسة ، ولا أن يحملهما إليها ، ولا أن يأخذ لهما قربانًا ، ولا أن يسعى لهما في خمر لشريعتهما الفاسدة ؛ ولا أن يعينهما على شيء من معاصي الله تعالى من زني أو سرقة ؛ ذلك وأن لا يدعه يفعل شيئًا من ذلك وهو قادر على منعه ، قال الله تعالى : ] وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [ ( المائدة : 2 ) .. وهذه وصية جامعة لكل خير في العالم ( [8] ) .
وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ : لا طَاعَةَ لِلْوَالِدَيْنِ فِي تَرْكِ الْفَرَائِضِ , وَالْجُمَعِ , وَالْحَجِّ , وَالْقِتَالِ [ أي: الذي تعين ] ; لأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ الأَبَوَيْنِ فِيهَا كَالصَّلاةِ ( [9] ) .


[1] - انظر تفسير القرطبي: 10 / 243، 244.

[2] - رواه هناد في الزهد (967)، وابن جرير في التفسير: 15 / 66.

[3] - ابن أبي شيبة (25409).

[4] - عبد الرزاق في مصنفه (9288).

[5] - عبد الرزاق: 11 / 138.

[6] - البخاري (5973) ومسلم (90).

[7] - البخاري (2620)، ومسلم (1003).

[8] - انظر المحلى: 11 / 109، 110 .

[9] - نقلا عن المغني لابن قدامة: 9 / 171 .
 
ثالثا : إدخال السرور عليهما
ومن الأدب مع الوالدين إدخال السرور عليهما ، ومحاولة إزالة همهما وحزنهما بالقول والفعل ، فعند أبي داود والنسائي وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رضي الله عنهما - أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ e فَقَالَ : إِنِّي جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَقَدْ تَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ ؛ وعند ابن ماجة : إِنِّي جِئْتُ أُرِيدُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ وَلَقَدْ أَتَيْتُ وَإِنَّ وَالِدَيَّ لَيَبْكِيَانِ ، قَالَ : " فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا » ( [1] ) .
إن الوالدين يفرحان بصلاح أبنائهما واجتهادهما ، كما يسران ببر الأبناء .. فليجتهد الأولاد في طاعة والديهما وبرهما إدخالا للسرور عليهما ، وليعلموا أن ذلك من القربات العظيمة ... إذ رضا الوالد من رضا الرب سبحانه ، كما أخبر بذلك النبي e .
رابعًا : الدعاء لهما
قال الله تعالى: ] وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [ (الإسراء : 24) ، قال القرطبي - رحمه الله : أمر تعالى عباده بالترحم على آبائهم والدعاء لهم ؛ وأن ترحمهما كما رحماك ، وترفق بهما كما رفقا بك ، إذ ولياك صغيرًا جاهلا محتاجًا ، فآثراك على أنفسهما ، وأسهرا ليلهما ، وجاعا وأشبعاك ، وتعريا وكسواك ، فلا تجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر الحد الذي كنت فيه من الصغر ، فتلي منهما ما وليا منك ، ويكون لهما حينئذ فضل التقدم ؛ وخص التربية ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتعبهما في التربية ، فيزيده ذلك إشفاقًا لهما ، وحنانا عليهما ( [2] ) .
وهذا الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما ؛ روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي أن عروة بن الزبير كان يقول في سجوده : اللهم اغفر للزبير بن العوام ولأسماء بنت أبي بكر ( [3] ) .
وقد قيل: إِنَّ مَنْ دَعَا لِأَبَوَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَقَدْ أَدَّى حَقَّهُمَا لقوله تعالى : ] أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك إلَيَّ الْمَصِيرُ [ ، فَشُكْرُ اللَّهِ أَنْ تُصَلِّيَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ , وَكَذَا شُكْرُ الْوَالِدَيْنِ أَنْ تَدْعُوَ لَهُمَا فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

[1] - أحمد: 2 / 160، وأبو داود (2528) والنسائي (4163) ، وابن ماجة (2782) .

[2] - انظر ( تفسير القرطبي ) : 10 / 244 باختصار.

[3] - روا ه عبد الرزاق (4042)، وابن أبي شيبة (8104)، والبيهقي في الشعب (7899).
 
خامسًا : برهما بعد موتهما
ويبقى البر موصولا حتى بعد موت الأبوين ؛ إنها الرحمة الموصولة التي سبق الإشارة إليها ، ففي سنن أبي داود وابن ماجة عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ e إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ : " نَعَمْ ، الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا ، وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمَا ، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا تُوصَلُ إِلا بِهِمَا ، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا " ( [1] ) ؛ ورَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ الرَّجُلُ : مَا أَكْثَرَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَطْيَبَهُ ! قَالَ: " فَاعْمَلْ بِهِ " ( [2] ) ؛ وَللْبَيْهَقِيِّ في ( السنن الكبرى ) : " .. وَصِلَة رَحِمهمَا الَّتِي لا رَحِم لَك إِلا مِنْ قِبَلهمَا " ، فَقَالَ : مَا أَكْثَر هَذَا وَأَطْيَبه يَا رَسُول اللَّه ! قَالَ : " فَاعْمَلْ بِهِ ، فَإِنَّهُ يَصِل إِلَيْهِمَا " ( [3] ) .
وقَوْله e : " الصَّلاة عَلَيْهِمَا " أَيْ : الدُّعَاء لَهُمَا ويدخل فيه صلاة الجنازة .
وقَوْله e : " وَالاسْتِغْفَار لَهُمَا " أَيْ : طَلَب الْمَغْفِرَة لَهُمَا ، وَهُوَ من باب الخاص بعد العام ؛ إذ الدعاء لهما يدخل فيه الاستغفار ، ولكن لأهمية الاستغفار خاصة بعد موتهما نبه عليه e .
وقَوْله e : " وَإِنْفَاذ عَهْدهمَا " أَيْ : إِمْضَاء وَصِيَّتهمَا ، وما كان لهما من عهد غيرها سواء أكان نذرًا أو غير ذلك .
وقَوْله e : " وَصِلَةُ الرَّحِمِ " أَيْ : الإِحْسَان إلى الأَقَارِب ؛ وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الَّذِي قَالَ لَهُ النَّبِيُّ e : " هَلْ لَك مِنْ خَالَةٍ " .
وقَوْله e : " وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا " : يكون ذلك بِالْمَوَدَّةِ ، وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ ، وَلِينِ الْجَانِبِ ، وَإِطْلاقِ الْوَجْهِ ، وَحُسْنِ الْبَشَاشَةِ ، فَهَذَا من بَقَايَا كَمَالُ بِرِّهِما .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلا مِنْ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ ، وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ ، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ : فَقُلْنَا لَهُ : أَصْلَحَكَ اللَّهُ ! إِنَّهُمْ الأَعْرَابُ ، وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ ! فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ " ( [4] ) .
وَأَخْرَجَ أبو يعلى وابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَأَتَانِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ : أَتَدْرِي لِمَ أَتَيْتُك ؟ قَالَ : قُلْت : لا ؛ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ فَلْيَصِلْ إخْوَانَ أَبِيهِ " وَأَنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَبِي عُمَرَ وَبَيْنَ أَبِيكَ إخَاءٌ وَوُدٌّ ، فَأَحْبَبْت أَنْ أَصِلَ ذَاكَ ( [5] ) .
ومما يصل إليهما ثوابه بعد موتهما : الصدقة عنهما ، ففي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِيِّ e : إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا ، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا ، قَالَ : " نَعَمْ " ( [6] ) .
وروى أحمد وأبو داود والترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ ، أَفَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ، قَالَ : فَإِنَّ لِي مَخْرَفًا ، فَأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا ( [7] ) ؛ وَقَوْلِهِ : إِنَّ لِي مَخْرَفًا ، يَعْنِي : بُسْتَانًا .
وروى الطبراني والضياء في المختارة عن أنس أن سعدًا أتى النبي e فقال : يا رسول الله إن أمي توفيت ولم توص ، أفينفعها أن أتصدق عليها ؟ قال : " نعم ، وعليك بالماء " ( [8] ) . وروى أبو داود والنسائي وابن ماجة أنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : " الْمَاءُ " فَحَفَرَ بِئْرًا ، وَقَالَ : هَذِهِ لأُمِّ سَعْدٍ ( [9] ) .
وكذا الحج والعمرة عنهما ، ففي صحيح البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ e فَقَالَتْ : إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا ؟ قَالَ : " نَعَمْ ، حُجِّي عَنْهَا ؛ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ ، أَكُنْتِ قَاضِيَةً ؟ اقْضُوا اللَّهَ ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ » ( [10] ) .
وكذا أداء نذرهما ؛ ففي الصحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ t اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ e فَقَالَ : إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ ، فَقَالَ : " اقْضِهِ عَنْهَا " ( [11] ) ، وفيهما عَنْه t قَالَ : جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا ؟ قَالَ : " أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكِ عَنْهَا ؟ " قَالَتْ : نَعَمْ ، قَالَ : " فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ " ( [12] ) .


[1] - أبو داود (5142) ، وابن ماجة (3664) .

[2] - ابن حبان (418) .

[3] - السنن الكبرى : 4 / 28 .

[4] - مسلم (2552) .

[5] - أبو يعلى (5669) ، و ابن حبان (432) .

[6] - البخاري (1388) ، ومسلم (1004) .

[7] - أحمد: 1 / 370، وأبو داود (2882) ، والترمذي (669) ، والنسائي (3655) .

[8] - الطبراني في الأوسط (8061) ، والمختارة (2056) ، وقال الهيثمي في المجمع: 3 / 138: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح .

[9] - أبو داود (1681) ، والنسائي (3664) ، وابن ماجة (3684) ، واللفظ لأبي داود .

[10] - البخاري (1852) .

[11] - البخاري (2761)، ومسلم (1638) .

[12] - البخاري (1953)، ومسلم (1148) .
 
صور من البر
مر بك حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار ؛ وهذه صور أخرى من بر الأبناء بآبائهم نسوقها للذكرى .
1 - روى أبو بكر القرشي في (مكارم الأخلاق) عن عائشة - رضي الله عنها – قالت : رجلان من أصحاب النبي e كانا أبر من كان في هذه الأمة بأمهما ؛ قيل لها : من هما ؟ قالت : عثمان بن عفان ، وحارثة بن النعمان ؛ فأما عثمان فإنه قال : ما قدرت أن أتأمل أمي منذ أسلمت ؛ وأما حارثة فإنه كان يفلي رأس أمه ، ويطعمها بيده ، ولم يستفهمها كلامًا قط تأمر به ، حتى يسأل من عندها بعد أن تخرج : ما قالت أمي ؟ ([1]) .
2 - عمد أسامة بن زيد t إلى نخلة فقطعها من أجل جمارها ، فقيل له في ذلك ، فقال : إن أمي اشتهته علي ، وليس شيء من الدنيا تطلبه أمي أقدر عليه إلا فعلته ؛ وكانت النخلة تبلغ بالمدينة ألفًا ( [2] ) .
3 - كان أبو هريرة t إذا غدا من منزله ، لبس ثيابه ثم وقف على باب أمه ، فيقول : السلام عليك يا أمه ورحمة الله وبركاته ، فترد عليه مثل ذلك ، فيقول : جزاك الله عني خيرًا كما ربيتني صغيرًا ، فتقول : وأنت يا ابني فجزاك الله عني خيرًا كما بررتني كبيرة ؛ ثم يخرج ، فإذا رجع قال مثل ذلك ([3]) .
4 - روى البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ e : " لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الصَّالِحِ أَجْرَانِ " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْحَجُّ ، وَبِرُّ أُمِّي ، لأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ . ورواه مسلم وزاد : وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ يَحُجُّ حَتَّى مَاتَتْ أُمُّهُ لِصُحْبَتِهَا ( [4] ) .
5 - كان محمد بن سيرين – رحمه الله - إذا كان عند أمه خفض من صوته وتكلم رويدا ( [5] ) . وروى البيهقي أن محمد بن سيرين كان لا يكون فِطر ولا أضحى إلا صنع لأمه بيده المعصفرات ( [6] ) .
6 - عن الأشجعي قال : طلبت أم مسعر ليلة من مسعر ماء ، فقام فجاء بالكوز فصادفها وقد نامت ، فقام على رجليها بيده الكوز إلى أن أصبحت فسقاها ([7]) .
7 - وقيل لعلي ابن الحسين t : إنك من أبرِّ الناس ، ولا تأكل مع أمك في صحفة ؟ فقال : أخاف أن تسبق يدي يدها ما تسبق عيناها إليه ، فأكون قد عققتها ( [8] ) .
وللحديث صلة .

[1] - مكارم الأخلاق ( 224 ) .

[2] - مكارم الأخلاق ( 225 ) .

[3] - مكارم الأخلاق ( 228 ) .

[4] - البخاري ( 2548 ) .

[5] - مكارم الأخلاق ( 229 ) .

[6] - شعب الإيمان ( 7919 ) والمعصفرات أثواب زينة تحبها النساء ، وهي ما أشبعت حمرة بحيث لا تقبل صبغة بعدها .

[7] - شعب الإيمان ( 7921 ) .

[8] - انظر المستطرف من كل فن مستظرف: 2 / 20 .
 
صور من البر ( 2 )
8 - روى ابن سعد والخطيب البغدادي عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، وكان لقي رجال أبيه - علقمة وشريك بن عبد الله بن أبي نمر وكل رجال أبي الزناد - وكان يسأل أن يحدث فيأبى ويقول : أحدث وأبي حي ؟ وكان بارًّا بأبيه ، معظمًا له ، هائبًا له ؛ قال محمد بن عمر : رأيته يومًا وقد أصابته الخاصرة ([1]) ، وإنه على الباب لجالس ينتظر أن يأذن له أبوه فينصرف ، وإنه لمبلغ من الخاصرة ، حتى خرج رسول أبيه فقال : انصرف ، فانصرف ؛ فقلت له : لو ذهبت ؟ قال : سبحان الله ! إذا جاء حد الضرورة ، قال : لو مكثت ما شاء الله ، لا يأذن لي ما ذهبت حتى يأذن لي ([2]) . وروى البغدادي عن محمد بن عمر قال : وكان محمد بن عبد الرحمن من أبر الناس بأبيه ، وكان أبوه يكون في الحلقة وهو متأخر عنها ، فيقول أبوه : يا محمد ، فلا يجيبه حتى يثب فيقوم على رأسه فيلبيه [ أي يقول له : لبيك ] فيأمره بحاجته ([3]) .
9 - وفي مسند عبد بن حميد عن ضرغامة بن علية بن حرملة قال : وكان أبو علية برًّا بأبيه حرملة ، قيل : وما كان بره به ؟ قال : كان إذا قرب الطعام نظر أوفر لحم وأطيبه فأعطاه إياه ، وإذا كان في المسير نظر أعظم بعير وأجله فحمله عليه ، فكان هذا بره به([4]) .
10 - وقال المأمون لم أر أحدًا أبرَّ من الفضل بن يحيى بأبيه ، بلغ على بره له إنه كان لا يتوضأ إلا بماء سخن ، فمنعهم السجان من الوقود في ليلة باردة ، فلما أخذ يحيى مضجعه ، قام الفضل إلى قمقم نحاس فملأه ماء وأدناه من المصباح ، فلم يزل قائمًا وهو في يده إلى المصباح حتى استيقظ يحيى من منامه ( [5] ) .
إنها أمثلة لطريق برٍّ طويل يتصل عبر السنين بين الأبناء والآباء ، وإلى أن يلقى العبد ربه ، فيرى أثر هذا البر في جنات النعيم ، كما قال النبي e في حق حارثة بن النعمان : " فذلكم البر " .

[1] - خَصرَ الرجل إذا آلمه البرد في أطرافه.

[2] - طبقات ابن سعد: 5 / 417، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: 2 / 306.

[3] - طبقات ابن سعد: 5 / 417، وتاريخ بغداد: 2 / 306.

[4] - مسند عبد بن حميد ( المنتخب ) ص 1 / 161 ( 433 ) .

[5] - انظر المستطرف من كل فن مستظرف : 2 / 19.
 
الأم تقدم في البر
بر الوالدين جميعا فرض كما تقدم ، لكن للأم على الإنسان فضل بعد فضل الله تعالى لا يعدله فضل: حمل وولادة ورضاع ورعاية ؛ وَهَنٌ ومشقة ومكابدة في أمل ، وعاطفة وحب وشفقة ورجاء وخوف .. كل ذلك وهي سعيدة بما تقوم به ، تنظر إلى ولدها نظرة الشفقة والرحمة ، تدعو الله تعالى في كل أوقاتها أن يحفظه ويرعاه ويجعله من أفضل الناس ؛ وتتابع زرعها بكل ما أوتيت من قدرة حتى ترى ثمرة سعيها برًّا وشفقة ورحمة وردًّا للجميل ومعرفة لحقها ؛ من أجل ذلك قُدِّم بر الأم ، قال الله تعالى : ] وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [ ( لقمان : 14 ) ، وقال تعالى : ] وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [ (الأحقاف: 15) .
فتأمل كيف أمر الله تعالى بالإحسان إلى الوالدين ، ثم ذكر ما كان من فضل الأم من الحمل والولادة والرضاعة ، وما تعانيه في ذلك من مشقة وتعب وضعف ؛ وفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ e فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ : " أُمُّكَ " ، قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : " أُمُّكَ " ، قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : " أُمُّكَ " ، قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : " أَبُوكَ " .
فَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ الأُمِّ وَالشَّفَقَةَ عَلَيْهَا وحسن معاشرتها والإحسان إليها يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ ثَلاثَةَ أَمْثَالِ الأَبِ ، لِذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ e الأُمَّ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، وَذِكْرِ الأَبِ مَرَّةً وَاحِدَةً ؛ وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ - كَمَا قَالَ العلماء - أَنَّ الأُمَّ تَنْفَرِدُ عَنْ الأَبِ بِثَلاثَةِ أَشْيَاءَ : صُعُوبَةُ الْحَمْلِ , وَصُعُوبَةُ الْوَضْعِ , وَصُعُوبَةُ الرَّضَاعِ , فَهَذِهِ تَنْفَرِدُ بِهَا الأُمُّ ، وَتَشْقَى بِهَا ؛ ثُمَّ تُشَارِكُ الأَبَ فِي التَّرْبِيَةِ .
روى ابن أبي شيبة عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : لِلأُمِّ ثُلُثَا الْبِرِّ وَلِلأَبِ الثُّلُثُ ؛ وعند أحمد والبخاري في الأدب المفرد وابن ماجة عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ ( ثَلاثًا ) ، إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ ، إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ " .
قال الهيتمي في (الزواجر) : وَلِكَوْنِ الأُمِّ أَحْمَلَ لِذَلِكَ ، وَأَصْبَرَ عَلَيْهِ ، مَعَ أَنَّ عَنَاءَهَا أَكْثَرُ ، وَشَفَقَتَهَا أَعْظَمُ ، بِمَا قَاسَتْهُ مِنْ حَمْلٍ وَطَلْقٍ وَوِلادَةٍ وَرَضَاعٍ وَسَهَرِ لَيْلٍ , وَتَلَطُّخٍ بِالْقَذَرِ وَالنَّجَسِ , وَتَجَنُّبٍ لِلنَّظَافَةِ وَالتَّرَفُّهِ حَضَّ e عَلَى بِرِّهَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ , وَعَلَى بِرِّ الأَبِ مَرَّةً وَاحِدَةً .ا.هـ .
وروى النسائي في الكبرى والحاكم من حديث عائشة أنها سألت النبي e : أي الناس أعظم حقًّا على المرأة ؟ قال : " زوجها " ، قلت : فأي الناس أعظم حقا على الرجل ؟ قال : " أمه " .
وللمعري :
العيشُ ماضٍ فأَكْرِمْ والِدَيْك بِهِ ... والأمُ أولى بإكرامٍ وإحسانِ
وحَسْبُها الحملُ والإرضاعُ تُدْمِنُهُ ... أمرانِ بالفضلِ نالا كلَ إنسانِ
ولآخر:
لأُمِّك حَقٌّ لَوْ عَلِمْت كَبِيرُ ... كَثِيرُك يَا هَذَا لَدَيْهِ يَسِيرُ
فَكَمْ لَيْلَةٍ بَاتَتْ بِثِقَلِك تَشْتَكِي ... لَهَا مِنْ جَوَاهَا أَنَّةٌ وَزَفِيرُ
وَفِي الْوَضْعِ لَوْ تَدْرِي عَلَيْهَا مَشَقَّةٌ ... فَمِنْ غُصَصٍ مِنْهَا الْفُؤَادُ يَطِيرُ
وَكَمْ غَسَلَتْ عَنْك الْأَذَى بِيَمِينِهَا ... وَمَا حِجْرُهَا إلَّا لَدَيْك سَرِيرُ
وَتَفْدِيك مِمَّا تَشْتَكِيهِ بِنَفْسِهَا ... وَمِنْ ثَدْيِهَا شُرْبٌ لَدَيْك نَمِيرُ
وَكَمْ مَرَّةٍ جَاعَتْ وَأَعْطَتْك قُوتَهَا ... حُنُوًّا وَإِشْفَاقًا وَأَنْتَ صَغِيرُ
فَآهًا لِذِي عَقْلٍ وَيَتَّبَعُ الْهَوَى ... وَآهًا لِأَعْمَى الْقَلْبِ وَهُوَ بَصِيرُ
فَدُونَك فَارْغَبْ فِي عَمِيمِ دُعَائِهَا ... فَأَنْتَ لِمَا تَدْعُو إلَيْهِ فَقِيرُ
أما عاطفة الأم تجاه ولدها فلا يوجد بين الخلائق عاطفة تعدلها ، وفي الصحيحين عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t قال : قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ e سَبْيٌ ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي ، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ e : " أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟ " قُلْنَا : لا ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ ؛ فَقَالَ : " لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا " .
والعرب تقول في أمثالها : ( تأبى له ذلك بنات ألبـبي ) ؛ قال الميداني في ( مجمع الأمثال ) : قالوا : أصل هذا أن رجلا تزوج امرأة وله أم كبيرة ، فقالت المرأة للزوج : لا أنا ولا أنت حتى تخرج هذه العجوز عنا ! فلما أكثرت عليه احتملها على عنقه ليلا ، ثم أتى بها واديًا كثير السباع ، فرمى بها فيه ؛ ثم تنكر لها فمر بها وهي تبكي ، فقال : ما يبكيك يا عجوز؟ قالت : طرحني ابني ههنا وذهب ، وأنا أخاف أن يفترسه الأُسْد ، فقال لها : تبكين له وقد فعل بك ما فعل ؟ هلا تدعين عليه ؟ قالت : ( تأبى له ذلك بنات ألببي ) ؛ قالوا : بنات ألبب: عروق في القلب تكون منها الرقة ؛ قال الكميت :
إليكم ذوي آل النبي تطلعت ... نوازع من قلبي ظماء وألبب
والقياس ألب , فأظهر التضعيف ضرورة ؛ وهو مَثَل يضرب في الرقة لذوي الرحم .ا.هـ .
قال الشاعر :
أَغْرَى امرُؤٌ يومًا غلامًا جاهلاً ... بنقودِهِ حتى ينالَ به الوَطرْ
قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى ... ولك الدراهمُ والجواهرُ والدررْ
فمضى وأغمدَ خِنجراً في صَدْرِهَا ... والقلبَ أخرجهَ وعادَ على الأثرْ
لكنه من فَرْطِ سرعتَهُ هَوى ... فتَدَحْرَجَ القلبُ المُقطَّعُ إذ عثرْ
ناداه قلبُ الأمِ وهو مُعَفَرٌ ... ولدي حَبيبي هلْ أصابَك مِنْ ضَرَرْ
فكأنَّ هذا الصوتَ رغمَ حُنُوهِ ... غَضَبُ السماءِ على الغلامِ قد انهمرْ
فاستلْ خِنْجَرَهُ ليطعنَ نَفْسَهُ ... طَعْناً فيبقى عِبرةً لِمَنْ اعتبرْ
ناداه قلبُ الأمِ كُفَّ يدًا ولا ... تطعنْ فؤادي مَرتين على الأثرْ
إن الأم هي الجانب الأحن الأعطف الذي لابد أن يكون لها رد الجميل ، والاعتراف بالفضل ، وحسن الصحبة ، والإحسان الأتم ... فهل يوفي الأبناء حق الأمهات مهما بلغ من برهم وإحسانهم ... لا ، ولو بزفرة من زفراتها ... اللهم اعف عن تقصيرنا ... آمييييين .
 
مسألة
إذا أمر أحد الوالدين ابنهما أن يطلق زوجته.. فهل يطلقها ؟
هذه مسألة تتكرر ، ودائمًا ما يستدل فيها بما رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : كَانَتْ تَحْتِي امْرَأَةٌ ، وَكُنْتُ أُحِبُّهَا ، وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُهَا ، فَقَالَ لِي : طَلِّقْهَا ؛ فَأَبَيْتُ ، فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ e فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ e : " طَلِّقْهَا " ، وفي رواية : " أَطِعْ أَبَاكَ " ([1]) .
وروى أحمد والتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ t أَنَّ رَجُلا أَتَاهُ فَقَالَ : إِنَّ لِيَ امْرَأَةً ، وَإِنَّ أُمِّي تَأْمُرُنِي بِطَلاقِهَا ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ " فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ احْفَظْهُ ([2]) .
وقَوْلُهُ : " أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ " أَيْ : خَيْرُ الأَبْوَابِ وَأَعْلاهَا , وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحْسَنَ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ ، وَيُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى وُصُولِ دَرَجَتِهَا الْعَالِيَةِ ، مُطَاوَعَةُ الْوَالِدِ وَمُرَاعَاةُ جَانِبِهِ ؛ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ : أَنَّ رَجُلا أَتَى أَبَا الدَّرْدَاءِ فَقَالَ إنَّ أَبِي لَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى زَوَّجَنِي ، وَإِنَّهُ الآنَ يَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا ! قَالَ : مَا أَنَا بِاَلَّذِي آمُرُك أَنْ تَعُقَّ وَالِدَيْك ، وَلا بِاَلَّذِي آمُرُك أَنْ تُطَلِّقَ امْرَأَتَك , غَيْرَ أَنَّك إنْ شِئْت حَدَّثْتُك مَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ e ، سَمِعْته يَقُولُ : " الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ " فَحَافِظْ عَلَى ذَلِكَ إنْ شِئْت أَوْ دَعْ ؛ وعند البيهقي في (الشعب) عن أبي عبد الرحمن السلمي أن رجلا أمرته أمه أن يتزوج ، ثم أمرته بطلاقها ، فسأل أبا الدرداء فقال : لا آمرك بطلاق امرأتك ، ولا آمرك أن تعق أمك ؛ وقال أبو الدرداء سأحدثك سمعت رسول اللهe: سمعته يقول : " الوالد أوسط أبواب الجنة " فإن شئت فاحفظ وإن شئت فضيع ! قال : لا بل أحفظ ؛ فطلقها ([3]) .
فذهب بعض أهل العلم إلى وجوب طلاقها لحديث ابن عمر، وقيد آخرون ذلك بتقوى الأب ؛ يعني إذا كان الأب تقيًّا ؛ لأنه لا يأمر بطلاقها لهوى كعمر t ؛ وَسَأَلَ رَجُلٌ الإِمَامَ أحمد - رحمه الله - فَقَالَ : إنَّ أَبِي يَأْمُرُنِي أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي ؟ قَالَ : لا تُطَلِّقْهَا . قَالَ : أَلَيْسَ عُمَرُ أَمَرَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ ؟ قَالَ : حَتَّى يَكُونَ أَبُوك مِثْلَ عُمَرَ t ([4]) .
وسئل ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عن رجل متزوج وله أولاد ، ووالدته تكره الزوجه ، وتشير عليه بطلاقها ، هل يجوز له طلاقها ؟
فأجاب : لا يحل له أن يطلقها لقول أمه ، بل عليه أن يبر أمه ، وليس تطليق امرأته من برها ؛ والله أعلم ([5]) .
والذي يظهر عَدَمُ وُجُوبِ طَاعَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الأَبَوَيْنِ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ لمجرد الهوى ، لِقَوْلِهِ e : " لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ " وَطَلاقُ الزَوْجَةِ بِمُجَرَّدِ هَوًى ضَرَرٌ بِهَا وَبِهِ ؛ والعلم عند الله تعالى .

[1] - أحمد : 2 / 20 ، أبو داود ( 5138 ) ، والترمذي ( 1189 ) ، وابن ماجة ( 2088 ) .

[2] - أحمد : 5 / 196 ، الترمذي ( 1900 ) ، وابن ماجة ( 3663 ) .

[3] - شعب الإيمان (7848).

[4] - انظر طبقات الحنابلة لأبي يعلى: 1 / 171.

[5] - مجموع الفتاوى: 33 / 112.
 
هل بر الأبناء يوفي حق الآباء ؟
إنه سؤال يحتاج إلى إجابة ؛ وقد روى أبو بكر القرشي في (مكارم الأخلاق) أن رجلا جاء إلى عمر t فقال : يا أمير المؤمنين أمي عجوز كبيرة ، أنا مطيتها أجعلها على ظهري ، وأنحي عليها بيدي ، وألي منها مثل ما كانت تلي مني ، أوأديت شكرها ؟ قال : لا ؛ قال : لم يا أمير المؤمنين ؟ قال : إنك تفعل ذلك بها وأنت تدعو الله U أن يميتها ، وكانت تفعل ذلك بك وهي تدعو الله U أن يطيل عمرك ([1]) .
وفرق بين من يعمل وهو يتمنى أن تعيش ، ومن يعمل وهو يتمنى أن تموت ؛ وَكَيْفَ تُتَوَهَّمُ الْمُسَاوَاةُ , وَقَدْ كَانَا يَحْمِلانِ أَذَاك وَكَلَّك وَعَظِيمَ الْمَشَقَّةِ فِي تَرْبِيَتِك , وَغَايَةَ الإِحْسَانِ إلَيْك , رَاجِينَ حَيَاتَك , مُؤَمَّلِينَ سَعَادَتَك , وَأَنْتَ إنْ حَمَلْت شَيْئًا مِنْ أَذَاهُمَا رَجَوْت مَوْتَهُمَا , وَسَئِمْت مِنْ مُصَاحَبَتِهِمَا .
وعن هشام بن عروة قال : بينما عمر يطوف بالكعبة إذا رجل يحمل أمه وهو يقول :
أحمل أمي وهي الحمالة ... ترضعني الدرة والعلالة
هل يجزين ولد فعاله
فقال عمر t: لا ، ولا رضعة واحدة .
وعن أبي بردة أن رجلا من أهل اليمن حمل أمه على عنقه فجعل يطوف بها حول البيت وهو يقول :
إني لها بعيرها المذلل ... إن ذعرت ركابها لم أذعر
أحملها وما حملتني أكثر
ثم قال : أتراني جزيتها ؟ قال ابن عمر : لا ، ولا بزفرة ([2]) . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " لا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ " ([3]) .
أي : لا يكافئه بإحسانه وقضاء حقه - والأم مثله بطريق أولى - إلا بأن يجده مملوكًا فيخلصه من الرق ؛ فتسببه في عتقه المخلص له من حيز الرق والاستذلال كأنه أوجده ، كما أن الأب كان سببا في إيجاده الصوري ، فهو تسبب في إيجاد معنوي في مقابلة الإيجاد الصوري .
وقال الطيبي: الحديث من قبيل التعليق بمحال للمبالغة ؛ يعني : لا يجزي ولد والده إلا أن يملكه فيعتقه ، وهو محال ؛ فالمجازاة محال عليه ( [4] ) .
وروى أحمد في ( الورع ) وابن أبي شيبة عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ قَالَ : قِيلَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : مَا حَقُّ الْوَالِدِين عَلَى الْوَلَدِ ؟ قَالَ : لَوْ خَرَجْت مِنْ أَهْلِك وَمَالِك مَا أَدَّيْت حَقَّهُمَا ([5]) .


[1] - مكارم الأخلاق ص 221.

[2] - شعب الإيمان للبيهقي (7926).

[3] - مسلم (1510).

[4] - نقلا عن فيض القدير للمناوي: 6 / 446.

[5] - الورع ص 106، ابن أبي شيبة (254013).
 
عقوق الوالدين وآثاره
قيل : وبضدها تعرف الأشياء ؛ فلمعرفة فضل بر الوالدين والأدب معهما ؛ لابد من الحديث عن العقوق وآثاره الوخيمة؛ وقد تقدم كيف أن الْإِسْلامُ اهْتَمَّ بِالْوَالِدَيْنِ اهْتِمَامًا بَالِغًا ، وَجَعَلَ طَاعَتَهُمَا وَالْبِرَّ بِهِمَا مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ ، وَنَهَى عَنْ عُقُوقِهِمَا وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ غَايَةَ التَّشْدِيدِ .
والعقوق من عَقَّ يعق بالضم عُقُوقًا ، ومَعَقَّة بوزن مشقة ، فهو عَاقٌ وعُقَقُ كعمر ؛ وجمع عاقٍ عَقَقةٌ ، مثل كافر وكفرة ؛ و عَقَّ والدَه يَعُقُّه عَقًّا و عُقُوقًا و مَعَقَّةً : شَقَّ عصا طاعته ، و عَقَّ والديه : قطعهما ولم يَصِلْ رَحِمَه منهما ، وقد يُعَمُّ بلفظ العُقُوق جميع الرَّحِمِ ( [1] ) .
والمراد عدم بر الوالدين بما تقدم من أوجه البر التي افترضت على الولد تجاه والديه ؛ وقيل : هو إيذاء لا يتحمل مثله من الولد عادة ؛ وقيل : عقوقهما مخالفة أمرهما فيما لم يكن معصية ([2]) .
حكم العقوق
الْعُقُوقِ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وضَابِطِ الْعُقُوقِ الَّذِي هُوَ كَبِيرَةٌ - كما يقول الهيتمي - هُوَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ لَهُمَا أَوْ لأَحَدِهِمَا إيذَاءٌ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ عُرْفًا , وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْمُتَأَذِّي , وَلَكِنْ لَوْ كَانَ فِي غَايَةِ الْحُمْقِ أَوْ سَفَاهَةِ الْعَقْلِ فَأَمَرَ أَوْ نَهَى وَلَدَهُ بِمَا لا يُعَدُّ مُخَالَفَتُهُ فِيهِ فِي الْعُرْفِ عُقُوقًا لا يَفْسُقُ وَلَدُهُ بِمُخَالَفَتِهِ حِينَئِذٍ لِعُذْرِهِ ؛ وَعَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ مُتَزَوِّجًا بِمَنْ يُحِبُّهَا فَأَمَرَهُ بِطَلاقِهَا فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ لا إثْمَ عَلَيْهِ ؛ ولَكِنَّ الأَفْضَلَ طَلاقُهَا امْتِثَالا لأَمْرِ وَالِدِهِ , وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ عُمَرَ t أنه أَمَرَ ابْنَهُ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ فَأَبَى فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ e فَأَمَرَهُ بِطَلاقِهَا . وَكَذَا سَائِرُ أَوَامِرِهِ الَّتِي لا حَامِلَ عَلَيْهَا إلا ضَعْفَ عَقْلِهِ وَسَفَاهَةَ رَأْيِهِ , وَلَوْ عُرِضَتْ عَلَى أَرْبَابِ الْعُقُولِ لَعَدُّوهَا أُمُورًا مُتَسَاهَلا فِيهَا , وَلَرَأَوْا أَنَّهُ لا إيذَاءَ لِمُخَالَفَتِهَا , هَذَا هُوَ الَّذِي يُتَّجَهُ إلَيْهِ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ الْحَدِّ ( [3] ) .
وقال ابن حزم - رحمه الله : وصح عن النبي e أن عقوق الوالدين من الكبائر ؛ وليس في العقوق أكثر من أن يكون الابن غنيًّا ذا حال ويترك أباه أو جده يكنس الكنف ، أو يسوس الدواب ويكنس الزبل ، أو يحجم ، أو يغسل الثياب للناس ، أو يوقد في الحمام ؛ ويدع أمه أو جدته تخدم الناس ، وتسقى الماء في الطرق ، فما خفض لهما جناح الذل من الرحمة من فعل ذلك بلا شك ( [4] ) .
وقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على أن العقوق من الكبائر ، نذكر منها :
1 - ما رواه الشيخان عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : سُئِلَ النَّبِيُّ e عَنْ الْكَبَائِرِ ؟ قَالَ : " الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ " ([5]) .
2 - وأَخْرَجَا عَنْ أَبِي بَكْرَةَ t قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ e : " أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ " ثَلاثًا ، قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ " وَجَلَسَ ، وَكَانَ مُتَّكِئًا ؛ فَقَالَ : " أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ " قَالَ : فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا : " لَيْتَهُ سَكَتَ " ([6]) . إشفاقًا عليه e .
3 – وعند البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " الْكَبَائِرُ : الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ " ([7]) .
4 - وفي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَمْرٍو t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: " إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : " يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ " ( [8] ) .
5 – وفيهما عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ t قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ e : " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ ، وَمَنَعَ وَهَاتِ ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ " ( [9] ) .


[1] - انظر لسان العرب باب القاف فصل العين ، ومختار الصحاح مادة (عقق) .

[2] - انظر تحفة الأحوذي : 8 / 295.

[3] - مختصر من ( الزواجر عن الكبائر ) للهيتمي .

[4] - المحلى : 10 / 108.

[5] - البخاري ( 2653 ) ، ومسلم ( 88 ) .

[6] - البخاري (2654)، ومسلم (87).

[7] - البخاري (6675).

[8] - البخاري (5973) ومسلم (90).

[9] - البخاري (2408)، ومسلم (593).
 
أثر العقوق
للعقوق أثر بالغ على العاق في حياته وبعد مماته ، وإليك بعض آثار هذه الكبيرة :
1 – الحرمان من دخول الجنة :
إن أعظم ما يناله العاق من شؤم معصيته بعقوقه أن يحرم من دخول الجنة ؛ فقد روى أحمد والنسائي عَنْ ابْنِ عُمَرَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " ثَلاثَةٌ لا يَنْظُرُ اللَّهُ U إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ ، وَالدَّيُّوثُ ؛ وَثَلاثَةٌ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ ، وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى " ([1]) .
والْمُتَرَجِّلَةُ : أَيْ الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ ، والديوث : الذي يقر الخبث في أهله مع علمه به .
وَروى ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ عن أبي أمامة t قال : قال رسول الله e : " ثَلاثَةٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ U مِنْهُمْ صَرْفًا وَلا عَدْلا : عَاقٌّ ، وَمَنَّانٌ ، وَمُكَذِّبٌ بِقَدْرٍ " ([2]) .
2 – الطرد من رحمة الله :
ومن آثار العقوق أن يلعن الله صاحبه ، واللعن الطرد من رحمة الله تعالى ، ومن طرد من رحمة الله لا ينال خيرًا في الدنيا ولا في الآخرة ، روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ تُخُومَ الأَرْضِ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ كَمَّهَ أَعْمَى عَنْ الطَّرِيقِ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ " قَالَهَا ثَلاثًا ( [3] ) .
3 – ما يناله في الدنيا من عقاب :
روَى الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عن أبي بكرة t : " كُلُّ الذُّنُوبِ يُؤَخِّرُ اللَّهُ مِنْهَا مَا شَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلا عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ ، فَإِنَّ اللَّهَ يُعَجِّلُهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ " ([4]).
قال المناوي - رحمه الله - في (فيض القدير) : أي : يعجل عقوبته لصاحبه في الحياة الدنيا قبل الممات ؛ ولا يغتر العاق بتأخير التأثير حالا ، بل يقع ولو بعد حين ، كما وقع لابن سيرين أنه لما ركبه الدين اغتم فقال : إني لأعرف هذا الغم بذنب أصبته منذ أربعين سنة ( [5] ) .
وللحديث صلة .

[1] - أحمد: 2 / 69، والنسائي (2562).

[2] - ابن أبي عاصم في السنة (323)، وحسنه المنذري في الترغيب: 3 / 224.

[3] - أحمد : 1 / 317 ، وإسناده صحيح .

[4] - الحاكم (7263) .

[5] - فيض القدير : 5 / 10 .
 
أثر العقوق
4 – إصابة دعاء الوالدين عليه :
دعوة الوالدين مستجابة على العموم ، سواء أكانت للولد أو عليه ؛ لما فيها من الإخلاص ، والعادة جارية بدعاء الوالدين لأبنائهما ، لشدة شفقتهما عليهم وخاصة في صغرهم ، وإذا رأى الوالدان من الولد برَّه فإن ذلك يدعوهما لكثرة الدعاء له .
وأما الدعاء منهما عليه فلا يصدر في الغالب إلا عند تكامل عجزهما عنه ، وإياسهما من بره مع وجود أذيته ، فتصدق ضرورتهما فيسرع الحق لأجابتهما . وقد وردت الأدلة بذلك فمنها : ما رواه البخاري في ( الأدب المفرد ) عن أبي هريرة t أن النبي e قال : " ثلاث دعوات مستجابات لهن لا شك فيهن : دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالدين على ولدهما " ؛ ورواه أحمد والطيالسي وأبو داود وابن ماجة بلفظ : " دعوة الوالد لولده " ؛ ولأحمد والترمذي: " ودعوة الوالد على ولده " ( [1] ) ، وفي حديث أنس مرفوعًا بنحوه وفيه : " دعوة الوالد لولده " ( [2] ) .
وروى عبد الرزاق وعنه أحمد عن عقبة بن عامر مرفوعًا : " ثلاث تستجاب دعوتهم : الوالد ، والمسافر ، والمظلوم " ، ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني وابن خزيمة والخطيب البغدادي ( [3] ) .
وفي قصة جريج التي أخرجها أحمد والشيخان لَعبرة ؛ فقد أتته أمه وهو يتعبد في صومعته ، فنادته ثلاثًا في كل مرة يقول : رب أمي وصلاتي ، ويقبل على صلاته ، فدعت عليه فقالت : اللهم إنَّ هذا جريجًا وهو ابني ، وإني كلمته فأبى أن يكلمني ، اللهم لا تمته حتى تريه المومسات . قال e : " ولو دعت عليه أن يفتن لفتن " ( [4] ) ؛ فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته ، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها ، فقالت : إن شئتم لأفتننه لكم . فتعرضت له ، فلم يلتفت إليها ، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها ، فوقع عليها فحملت ، فلما ولدت قالت : هو من جريج ؛ فأتوه فاستنزلوه ، وهدموا صومعته ، وجعلوا يضربونه ويسبونه ، فتوضأ وصلى ، ثم أتى الغلام فقال : من أبوك ؟ قال : الراعي . قالوا : نبني صومعتك من ذهب ؟ قال : لا إلا من طين ( [5] ) .
فقد آثر جريج الصلاة على إجابة أمه ، فدعت عليه ، فاستجاب الله دعاءها ، فهذا وهو في الصلاة ، فكيف إذا كان في حالة عقوق ؟!
قال ابن حجر في الفتح : في الحديث عظم بر الوالدين ، وإجابة دعائهما ولو كان الرجل معذورًا ، لكن يختلف الحال بحسب المقاصد .ا.هـ.
وقد ذكر ابن قدامة - رحمه الله - في (كتاب التوابين) عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما – قال : بينا أنا أطوف مع أبي حول البيت في ليلة ظلماء ، وقد رقدت العيون ، وهدأت الأصوات ، إذ سمع أبي هاتفًا يهتف بصوت حزين شجي ، وهو يقول :
يا من يجيب دعا المضطر في الظُلَمِ ... يا كاشف الضر والبلوى مع السقمِ
قد نام وفدك حـول البيت وانتبهوا ... وأنت عـينك يا قـيوم لـم تنمِ
هب لي بجودك فضل العفو عن جرُمي ... يا من إليه أشـار القـوم في الحرمِ
إن كان عفوك لا يرجـوه ذو سَرَفٍ ... فمن يجود على العاصين بالكـرمِ
قال : فقال أبي : يا بني ، أما تسمع صوت النادب لذنبه ، المستقيل لربه ؟ الحقه فلعل أن تأتيني به ، فخرجت أسعى حول البيت أطلبه ، فلم أجده ، حتى انتهيت إلى المقام وإذا هو قائم يصلي ، فقلت : أجب ابن عم رسول الله e ، فأوجز في صلاته واتبعني . فقال له أبي : ممن الرجل ؟ قال : من العرب . قال : ما اسمك ؟ قال : منازل بن لاحق . قال : وما شأنك ؟ وما قصتك ؟ قال : وما قصة من أسلمته ذنوبه ، وأوبقته ([6]) عيوبه ، فهو مرتطم في بحر الخطايا .
فقال أبي: اشرح لي خبرك .
قال : كنت شابًا على اللهو والطرب ، لا أفيق عنه ، وكان لي والد يعظني كثيرًا ، ويقول : احذر هفوات الشباب وعثراته ، فإن لله سطوات ونقمات ، ما هي من الظالمين ببعيد . وكان إذا ألح علي بالموعظة ألححت عليه بالضرب ، فلما كان يوم من الأيام ألح علي في الموعظة فأوجعته ضربًا ، فحلف بالله مجتهدا ليأتين بيت الله الحرام ، فيتعلق بأستار الكعبة ويدعو علي ، فخرج حتى انتهى إلى البيت فتعلق بأستار الكعبة ، وأنشأ يقول :
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا ... عرض المهامِهِ من قرب ومن بعد
إني أتيتك يا من لا يخيِّبُ مَـنْ ... يدعوه مجتهدا بالواحـد الصمد
هـذا منازل لا يرتد عن عُقُقِي ... فخـذ بحقي يا رحمن من ولدي
وشُـلَّ منه بحـول منك جانبه ... يا من تقدس لم يولـد ولم يلـد
قال : فوالله ما استتم كلامه حتى نزل بي ما ترى ، ثم كشف عن شقه الأيمن فإذا هو يابس . قال : فأُبْتُ ورجعت ، ولم أزل أترضاه وأخضع له ، وأسأله العفو عني ، إلى أن أجابني أن يدعو لي في المكان الذي دعا علي .
قال : فحملته على ناقة عشراء ، وخرجت أقفو أثره ، حتى إذا صرنا بواد الآراك ، طار طائر من شجرة ، فنفرت الناقة فرمت به بين أحجار ، فرضخت رأسه فمات ، فدفنته هناك ، وأقبلت آيسًا ، وأعظم ما بي ما ألقاه من التعيير أني لا أعرف إلا بالمأخوذ بعقوق والديه .
فقال له أبي : أبشر فقد أتاك الغوث ، فصلى ركعتين ، ثم أمره فكشف عن شقه ، ودعا مرات يرددهن ، فعاد صحيحًا كما كان .
وقال أبي : لولا أنه قد كان سبق إليك من أبيك في الدعاء لك بحيث دعا عليك ، لما دعوت لك .
قال الحسن : وكان أبي يقول لنا : احذروا دعاء الوالدين ؛ فإن في دعائهما النماء والانجبار ، والاستئصال والبوار( [7] ) .

5 – العقوق دين يُتوارث كما أن البر دين يتوارث ، فمن عق والديه ابتلي بمن يعقه من أولاده ، والجزاء من جنس العمل ، ومن أعجب ما قرأت في ذلك أن جماعة مسجد خرجوا من صلاة العشاء ذات ليلة ، فوجدوا شاباً يضرب أباه عند صخرة بجوار المسجد ، فهموا به ، فخرج شيخ متأخر من المسجد ، فلما رآهم قال لهم : دعوه ، فإني قد رأيت هذا - وأشار إلى الشيخ - يضرب أباه في نفس المكان .


[1] - أحمد: 2 / 258، 348 ، 434 ، والطيالسي ( 2517 ) ، والبخاري في الأدب المفرد ( 32 ) ، والترمذي ( 1905 ، 3448) وحسنه، وابن ماجة (3862)، وابن حبان (2699).

[2] - الضياء في المختارة : 6 / 74 ( 2057 ) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع ( 3029 ) .

http://vb.tafsir.net/forum13/thread34546-2.html#_ftnref3[ 3 ] – عبد الرزاق ( 1522 ) ، وأحمد : 4 / 154 ، والطبراني في الكبير : 17/ 340 (939) ، وابن خزيمة ( 2478 ) ، والخطيب في تاريخه : 12/ 380.

[4] - رواية لمسلم (7) (2550).

[5] - رواه احمد في مسنده 2 / 307، 308، 385، البخاري في الصحيح (1206، 2428، 3436، 3466)، وفي الأدب المفرد (33) ، ومسلم (2550) عن أبي هريرة .

[6] - أوبقته : أهلكته .

[7] - كتاب التوابين : ص237 .
 
موعظة
مَا أَحْسَنَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ إغْرَاءً عَلَى الْبِرِّ ، وَتَحْذِيرًا عَنْ الْعُقُوقِ وَوَبَالِهِ ، وَإِعْلَامًا بِمَا يُدْحِضُ الْعَاقَّ إلَى حَضِيضِ سَفَالِهِ ، وَيَحُطُّهُ عَنْ كَمَالِهِ : أَيُّهَا الْمُضَيِّعُ لأَوْكَدِ الْحُقُوقِ ، الْمُعْتَاضُ عَنْ الْبِرِّ بِالْعُقُوقِ ، النَّاسِي لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، الْغَافِلُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ ؛ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَيْك دَيْنٌ ، وَأَنْتَ تَتَعَاطَاهُ بِاتِّبَاعِ الشَّيْنِ , تَطْلُبُ الْجَنَّةَ بِزَعْمِك وَهِيَ تَحْتَ أَقْدَامِ أُمِّك , حَمَلَتْك فِي بَطْنِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَأَنَّهَا تِسْعُ حِجَجٍ ، وَكَابَدَتْ عِنْدَ وَضْعِك مَا يُذِيبُ الْمُهَجَ , وَأَرْضَعَتْك مِنْ ثَدْيِهَا لَبَنًا ، وَأَطَارَتْ لأَجْلِك وَسَنًا , وَغَسَلَتْ بِيَمِينِهَا عَنْك الأَذَى ، وَآثَرَتْك عَلَى نَفْسِهَا بِالْغِذَا , وَصَيَّرَتْ حِجْرَهَا لَك مَهْدًا ، وَأَنَالَتْك إحْسَانًا وَرَفْدًا , فَإِنْ أَصَابَك مَرَضٌ أَوْ شِكَايَةٌ أَظْهَرَتْ مِنْ الأَسَفِ فَوْقَ النِّهَايَةِ , وَأَطَالَتْ الْحُزْنَ وَالنَّحِيبَ وَبَذَلَتْ مَالَهَا لِلطَّبِيبِ , وَلَوْ خُيِّرَتْ بَيْنَ حَيَاتِك وَمَوْتِهَا لآثَرَتْ حَيَاتَك بِأَعْلَى صَوْتِهَا , هَذَا وَكَمْ عَامَلْتهَا بِسُوءِ الْخُلُقِ مِرَارًا فَدَعَتْ لَك بِالتَّوْفِيقِ سِرًّا وَجِهَارًا , فَلَمَّا احْتَاجَتْ عِنْدَ الْكِبَرِ إلَيْك جَعَلْتهَا مِنْ أَهْوَنِ الأَشْيَاءِ عَلَيْك , فَشَبِعْت وَهِيَ جَائِعَةٌ ، وَرُوِيت وَهِيَ ضَائِعَةٌ , وَقَدَّمْت عَلَيْهَا أَهْلَك وَأَوْلادَك فِي الإِحْسَانِ ، وَقَابَلْت أَيَادِيهَا بِالنِّسْيَانِ , وَصَعُبَ لَدَيْك أَمْرُهَا وَهُوَ يَسِيرٌ ، وَطَالَ عَلَيْك عُمُرُهَا وَهُوَ قَصِيرٌ , وَهَجَرْتهَا وَمَا لَهَا سِوَاك نَصِيرٌ .
هَذَا , وَمَوْلَاك قَدْ نَهَاك عَنْ التَّأْفِيفِ ، وَعَاتَبَك فِي حَقِّهَا بِعِتَابٍ لَطِيفٍ , سَتُعَاقَبُ فِي دُنْيَاك بِعُقُوقِ الْبَنِينَ ، وَفِي أُخْرَاك بِالْبُعْدِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، يُنَادِيك بِلِسَانِ التَّوْبِيخِ وَالتَّهْدِيدِ : ] ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [ ( [1] ) .

[1] - نقلا عن ( الزواجر عن الكبائر ) للهيتمي رحمه الله .
 
خاتمة

هذا ما يسره الله الكريم المنان في كتابة هذه الرسالة الموجزة ، وأسأل الله تعالى أن ينفع بها ، وأن يجعل أثرها موصولا بالآخرة أجرًا وفضلا .
وحقيقة الأمر أننا جميعا بحاجة إلى مراجعة حساباتنا مع الوالدين، فكم من خطأ يحتاج إلى تصحيح، وكم من غلط يحتاج إلى تصويب ، وكم من زلة تحتاج إلى استغفار وتوبة، والأمر قريب طالما أننا لا نزال في فسحة من الحياة ، فمن كان أبواه أو أحدهما حي فليراجع نفسه في ما بقي من العمر وليحسن إليهما ما استطاع إلى ذلك سبيلا .
وإن كانا قد ماتا أو أحدهما فلينظر فيما ذكرنا من برهما بعد موتهما ؛ فإن ذلك قد يكون مكفرًا لما كان من التقصير معهما في حياتهما ، والله وحده المستعان .

وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
 
عودة
أعلى