الأدب مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الأدب مع رسول الله e من أعلى مراتب الأدب وأولاها حقا على المسلم بعد الأدب مع الله تعالى والأدب مع كلامه ، فرسول الله e أعظم المخلوقين حقًّا على المسلمين .
والأدب مع الرسول e هو أدب مع الله تعالى أولا ، إذ الأدب مع الرسول e أدب مع مرسله U ، كما أن طاعة الرسول e من طاعة الله تعالى ، قال الله تعالى : ]مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً[ (النساء: 80) .
وليس الأدب مع النبي e مجرد كلمات مدائح خالية من الاتباع والعمل ، بل الأدب مع النبي e لا يكون إلا بمحبة صادقة تستوجب اتباعه في كل ما أمر ، واجتناب كل ما عنه زجر ، واتخاذه e قدوة في الظاهر والباطن ، في السمت والعمل ، في الخلق والمعاملة .
وفقنا الله والمسلمين لذلك ، وتقبل منا ... آمييييين .
 
أنواع الأدب مع رسول الله e
لما كان الأدب سلوكًا يتعلق بأعمال الإنسان ، والأعمال إما قلبية أو قولية أو فعلية ؛ كان الأدب مع النبي e لابد وأن يكون أنواعًا ثلاثة :
1 – أدب قلبي : وهو يتعلق بتصديقه والإيمان به e وحبه وتعظيمه وتوقيره .
2 – أدب قولي : وهو يتعلق بالصلاة عليه e ، والذب عن سنته ، ورعاية الأدب معه بالقول .
3 – أدب فعلي : وهو يتعلق بحسن اتباعه e فيما أمر ونهى ، مع اتخاذه قدوة وأسوة .
أولا: الأدب القلبي
وهو رأس جميع الآداب معه e ، وأصله الإيمان به وتصديقه e في كل ما جاء به عن الله تعالى ، ومطابقة ذلك باللسان بأن يشهد أن محمدًا رسول الله e ، قال ابن تيمية - رحمه الله : فلا يكون الرجل مؤمنًا حتى يقر بما جاء به النبي e ، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر به عن الله تعالى ، فإن هذا حقيقة الشهادة بالرسالة .ا.هـ ([1]) .
وقال ابن القيم - رحمه الله : والإيمان حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول e علمًا ، والتصديق به عقدًا ( أي ينعقد عليه القلب ) ، والإقرار به نطقًا ، والانقياد له محبة وخضوعا ، والعمل به باطنًا وظاهرًا ، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان ؛ وكماله في الحب في الله والبغض في الله ، والعطاء لله والمنع لله ، وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده ؛ والطريق إليه تجريد متابعة رسوله ظاهرًا وباطنًا ، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله ورسوله ، وبالله التوفيق ([2]).
مع اعتقاد تفضيله e على كل أحد من الخلق ، فهو كما وصف نفسه e متحدثًا بنعمة ربه قال : " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ"([3]) .
ومما ينتج عن اعتقاد تفضيله استشعار هيبته e وجلالة قدره وعظيم شأنه ، واستحضار محاسنه ومكانته ومنزلته والمعاني الجالبة لحبه وإجلاله ، وكل ما من شأنه أن يجعل القلب ذاكرًا لحقه من التوقير والتعزيز ، ومعترفًا به ومذعنًا له ؛ فالقلب ملك الأعضاء وهي جند له وتبع ، فمتى ما كان تعظيم النبي e مستقرًا في القلب مسطورًا فيه على تعاقب الأحوال ، فإن آثار ذلك ستظهر على الجوارح حتمًا لا محالة ، وحينئذ سترى اللسان يجري بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه e ؛ وترى الجوارح ممتثلة لما جاء به ومتبعة لشرعه وأوامره ومؤدية لما له من الحق والتكريم ([4]) .


[1] - انظر القاعدة المراكشية ص 24، 25.

[2] - انظر الفوائد ص 107.

[3] - مسلم (2278) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[4] - انظر محبة النبي e وتعظيمه لعبد اللطيف بن محمد الحسن، ضمن كتاب المنتدى (حقوق النبي بين الإجلال والإخلال ص 73 ، 74 .
 
ومن الأدب القلبي : محبته e
المحبة أمر قلبي ، وإنما يظهر آثارها بالطاعة والاتباع ، فهذه هي العلامات التي تدل على ما في قلب العبد من محبة . ومحبة النبي e من الإيمان ، بل لا يتم الإيمان حقيقة إلا إذا كان النبي e أحب إلى المرء من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين ، فقد روى أحمد والبخاري عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ t قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ e وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ e : " لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ " ؛ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ e: " الآنَ يَا عُمَرُ " ( [1] ) .
وفي الصحيحين عَنْ أَنَسِ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " ( [2] ) .
قال السيوطي – رحمه الله : قال ابن بطال : معنى الحديث أن من استكمل الإيمان علم أن حقه e عليه آكد من حق أبيه وابنه والناس أجمعين ؛ لأنه e استنقذنا من النار وهدانا من الضلال ([3]) .
وقال ابن حجر - رحمه الله : وفي هذا الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر ؛ فإن الأحبية المذكورة تعرف به ، وذلك أن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها ، أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها سالمة من الآفات ، وهذا هو حقيقة المطلوب . وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالا ومآلا ، فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول e الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان - إما بالمباشرة وإما بالسبب - علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي ، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات ، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره ؛ لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره ، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه ، ولا شك أن حظ الصحابة y من هذا المعنى أتم ، لأن هذا ثمرة المعرفة وهم بها أعلم، والله الموفق ([4]) .
قال ابن رجب - رحمه الله : فلا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يقدم محبة الرسول على محبة جميع الخلق ، ومحبة الرسول تابعة لمحبة مرسله ، والمحبة الصحيحة تقتضي المتابعة والموافقة في حب المحبوبات وبغض المكروهات ، قال تعالى : ] قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [ [ التوبة : 24 ] ، وقال تعالى: ] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ [ آل عمران : 31 ] . قال الحسن - رحمه الله : قال أصحاب النبي e : يا رسول الله إنا نحب ربنا حبًّا شديدًا ، فأحب الله أن يجعل لحبه عَلَمًا فأنزل الله هذه الآية .
وفي الصحيحين عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ : " ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ " ( [5] ) .
فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله ، ويكره ما يكرهه الله ورسوله ، ويرضي ما يرضي الله ورسوله ، ويسخط ما يسخط الله ورسوله ، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض .
والمعاصي إنما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه ، وكذلك حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعًا لما جاء به الرسول e ، فيجب على المؤمن محبة الله ومحبة من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عمومًا ، ولهذا كان من علامات وجوده حلاوة الإيمان أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وتحريم موالاة أعداء الله ومن يكرهه الله عمومًا ، وبهذا يكون الدين كله لله ، ومن أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطي لله ، ومنع لله ، فقد استكمل الإيمان ؛ ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصًا في إيمانه الواجب ، فيجب عليه التوبة من ذلك والرجوع إلى اتباع ما جاء به الرسول e من تقديم محبة الله ورسوله وما فيه رضا الله ورسوله على هوي النفس ومراداتها كلها ( [6] ) .
فهذا محك الاختبار ، وبرهان الإسلام والإيمان ،
يا مسلمًا تدعي الإسلام مجانا ... هلا أقمت على دعواك برهانا

[1] - أحمد / 5 / 293، والبخاري (6632).

[2] - البخاري (15)، ومسلم (44).

[3] - الديباج: 1 / 60، وانظر شرح صحيح مسلم للنووي: 2 / 15.

[4] - فتح الباري: 1 / 59، 60 .

[5] - البخاري (16)، ومسلم (43) عن أنس رضي الله عنه.

[6] - انظر جامع العلوم والحكم ص 389، 390 باختصار.
 
ثانيا: الأدب القولي
الأدب القولي هو ما يتعلق باللسان ، واللسان دليل القلب ، قال الشاعر :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وقديما قيل : غش القلوب يظهر في فلتات اللسان . فالمؤمن يتأدب مع رسول الله e قولا وفعلا لأن هذا أمر الله تعالى للمؤمنين أولا ، ولأنه علامة محبته للنبي e كما تقدم .
قال ابن القيم - رحمه الله : من الأدب مع الرسول e أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرف ، حتى يأمر هو وينهى ويأذن ؛ كما قال تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ [ الحجرات : 1 ] ، وهذا باق إلى يوم القيامة ولم ينسخ ، فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ، ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم ؛ قال مجاهد - رحمه الله : لا تفتاتوا على رسول الله e ( [1] ) .
وقال أبو عبيدة - رحمه الله : تقول العرب : لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب ، أي : لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه ؛ وقال غيره : لا تأمروا حتى يأمر ، ولا تنهوا حتى ينهى .
ومن الأدب معه e أن لا ترفع الأصوات فوق صوته ، فإنه سبب لحبوط الأعمال ، فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به ، أترى ذلك موجبًا لقبول الأعمال ورفع الصوت فوق صوته موجبا لحبوطها ؟!
ومن الأدب معه e أن لا يجعل دعاءه كدعاء غيره ، قال تعالى : ] لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [ [ النور: 63 ] ، وفيه قولان للمفسرين :
أحدهما : أنكم لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا ، بل قولوا : يا رسول الله ، يا نبي الله ؛ فعلى هذا المصدر مضاف إلى المفعول ، أي : دعاءكم الرسول .
الثاني : أن المعنى لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضًا : إن شاء أجاب وإن شاء ترك ، بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد من أجابته ، ولم يسعكم التخلف عنها البتة ؛ فعلى هذا المصدر مضاف إلى الفاعل ، أي دعاؤه إياكم .
ومن الأدب معه e أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو رباط ، لم يذهب أحد منهم مذهبًا في حاجته حتى يستأذنه ، كما قال تعالى : ]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ[ [ النور : 62 ] ، فإذا كان هذا مذهبًا مقيدًا بحاجة عارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه ، فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين : أصوله وفروعه دقيقه وجليله ، هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه ؟! ] فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ [ النحل : 43 ، الأنبياء : 7 ] .
ومن الأدب معه e أن لا يستشكل قوله ، بل تستشكل الآراء لقوله ، ولا يعارض نصه بقياس ، بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه ، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا ؛ نعم ، هو مجهول وعن الصواب معزول ، ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد ، فكل هذا من قلة الأدب معه ، وهو عين الجرأة ( [2] ) . وقد روى أحمد وأهل السنن إلا النسائي عن أَبِي رَافِعٍ t عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ : " لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ : لا نَدْرِي ! مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ " ( [3] ) .
وروى أحمد والترمذي وابن ماجة عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " أَلا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ ، فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلالا اسْتَحْلَلْنَاهُ ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ ؛ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ e كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ " ( [4] ) .
قال السيوطي - رحمه الله - في ( مفتاح الجنة ) : فاعلموا - رحمكم الله - أن من أنكر كون حديث النبي e قولا كان أو فعلا - بشرطه المعروف في الأصول - حجة ، كفر وخرج عن دائرة الإسلام ، وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة ، روى الإمام الشافعي t يومًا حديثًا وقال إنه صحيح ، فقال له قائل : أتقول به يا أبا عبد الله ؟ فاضطرب وقال : يا هذا أرأيتني نصرانيًا ؟! أرأيتني خارجا من كنيسة ؟! أرأيت في وسطي زنارًا ؟! أروي حديثًا عن رسول الله e ولا أقول به ( [5] ) .ا.هـ .
ألا فلينظر من يزعم أنه مسلم أمره على الجلية ، وليحسن الأدب مع النبي محمد e ، وليكن طوَّاعًا لأمره ، مجتنبًا لنهيه ، مقتديًّا به .. ليدلل على صحة إسلامه .
يا مسلمًا تدعي الإسلام مجانا ... هلا اقمت على دعواك برهانا


[1] - ذكره البخاري في ترجمة باب تفسير سورة الحجرات تعليقا، وقال الحافظ في الفتح: 8 / 589 وصله عبد بن حميد .

[2] - انظر مدارج السالكين: 2 / 389، 390.

[3] - أحمد: 6 / 8، وأبو داود (4605)، والترمذي (2663) وصححه، وابن ماجة (13)، والحاكم (368) وصححه على شرط الشيخين.

[4] - أحمد: 4 / 130، 132، والترمذي (2664) وحسنه، وابن ماجة (12)، وصححه ابن حبان (12)، والحاكم (371).

[5] - مفتاح الجنة ص5 .
 
ومن الأدب القولي مع النبي الصلاة عليه e
قال الله تعالى: ] إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ ( الأحزاب : 56 ) ، قال ابن كثير - رحمه الله : المقصود من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى ، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين ، وأن الملائكة تصلي عليه ، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه ، ليجمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي ( [1] ) .
وقال ابن القيم - رحمه الله : والمعنى أنه إذا كان الله وملائكته يصلون على رسوله ، فصلوا أنتم عليه ، فأنتم أحق بأن تصلوا عليه وتسلموا تسليمًا ، لما نالكم ببركة رسالته ويمن سفارته من شرف الدنيا والآخرة ( [2] ) .
وفي معنى الصلاة المراد في هذه الآية ، قال أبو العالية - رحمه الله : صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة ، وصلاة الملائكة الدعاء . وقال ابن عباس : ] يُصَلُّونَ [ يبرِّكون ( [3] ) .
فمعنى الصلاة على النبي e إذًا : التبريك والثناء وإظهار الفضل والشرف ، قال ابن القيم - رحمه الله : والمعروف عند العرب من معناها إنما هو الدعاء والتبريك والثناء ، فالواجب حمل اللفظة على معناها المتعارف في اللغة ( [4] ) .
كيفية الصلاة على النبي e
جاءت الأحاديث المتواترة عن رسول الله e بالأمر بالصلاة عليه ، وكيفية الصلاة عليه ، منها : ما رواه الشيخان عن عبد الرحمن بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ : لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ t فَقَالَ : أَلا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً ؟ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ e فَقُلْنَا : قَدْ عَرَفْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ قَالَ : " قُولُوا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ " ([5]) .
وعند البخاري وغيره من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا التَّسْلِيمُ ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ قَالَ : " قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ" ( [6] ) .
وفي الباب أحاديث أخر ، ولو اقتصر على قول : اللهم صل على محمد وآله وسلم .. ونحوه جاز ، ولكن الأفضل ما جاء عن النبي e .

[1] - انظر تفسير ابن كثير: 3 / 508.

[2] - انظر جلاء الأفهام ص 161، 162.

[3] - انظر البخاري: 8 / 392 مع الفتح، وأثر ابن عباس وصله ابن جرير في تفسيره: 22 / 31.

[4] - باختصار من جلاء الأفهام ص 165، 166.

[5] - البخاري (3370، 6357)، ومسلم (406).

[6] - البخاري (4798).
 
حكم الصلاة على النبي e
ذهب طائفة من العلماء منهم الطحاوي والحليمي إلى وجوب الصلاة على النبي e واستدلوا بظاهر الأمر في الآية المتقدمة فالأمر للوجوب ، واستدلوا - أيضًا - ببعض الأحاديث الواردة منها : ما رواه البخاري في الأدب والترمذي عن أبي هريرة t مرفوعا وفيه : " رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ " ( [1] ) .
ومنها ما رواه الترمذي والنسائي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " الْبَخِيلُ الَّذِي مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ " ( [2] ) .
وروى ابن ماجة والطبراني عَن ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ خَطِئَ طَرِيقَ الْجَنَّةِ " ( [3] ) .
وذهب آخرون إلى أنه تجب الصلاة عليه في المجلس مرة واحدة ، ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس ، بل تستحب ؛ نقله الترمذي عن بعضهم ( [4] ) ، ويتأيد بالحديث الذي رواه أحمد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ ، إِلا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً ؛ فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ " وَمَعْنَى : " تِرَةً " : حَسْرَةً وَنَدَامَةً ([5]) .
وقال البعض : إنه إنما تجب الصلاة عليه e في العمر مرة واحدة امتثالا لأمر الآية ، ثم هي مستحبة في كل حال ، وهو قول الحنفية ، حكاه الجصاص عنهم في أحكام القرآن ( [6] ) ، ونصره القاضي عياض من المالكية بعدما حكى الإجماع على وجوب الصلاة عليه e في الجملة ، قال : وقد حكى الطبري أن محمل الآية على الندب ، وادعى فيه الإجماع .. قال : ولعله فيما زاد على المرة ، والواجب فيه مرة كالشهادة له بالنبوة ، وما زاد على ذلك فمندوب ومرغب فيه من سنن الإسلام وشعار أهله ([7]) . والعلم عند الله تعالى .
فضل الصلاة على النبي e
للصلاة على النبي e فضل عظيم ، وذلك لفضل المصلى عليه e ، ومكانته عند الله تعالى ، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في ( جلاء الأفهام ) تسعًا وثلاثين فائدة ( [8] ) ، ومن ذلك :
1 – أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرًا ، فقد روى مسلم رحمه الله عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا " ( [9] ) .
2 – أن الملائكة يصلون على من يصلي عليه e ، فقد روى أحمد وابن ماجة عن عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَلِّي عَلَيَّ إِلا صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ مَا صَلَّى عَلَيَّ ، فَلْيُقِلَّ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِيُكْثِرْ " ([10]) .
3 – في الصلاة عليه e كفاية الهم ومغفرة الذنب ، روى الترمذي والحاكم عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ t قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ ، جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ " ، قَالَ أُبَيٌّ t : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي ؟ فَقَالَ : " مَا شِئْتَ " ، قَالَ : قُلْتُ : الرُّبُعَ ؟ قَالَ : " مَا شِئْتَ ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ " ، قُلْتُ : النِّصْفَ ؟ قَالَ : " مَا شِئْتَ ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ " ، قَالَ : قُلْتُ : فَالثُّلُثَيْنِ ؟ قَالَ : " مَا شِئْتَ ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ " قُلْتُ : أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا ؟ قَالَ : " إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ " ([11]) .
4 – في الصلاة عليه e رفع الدرجات ومحو الخطيئات ، روى أحمد والبخاري في الأدب والنسائي عن أَنَسُ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ ، وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ ، وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ " ([12]) .
5 – انتفاء صفة البخل عن المصلي على النبي e ، روى الترمذي والنسائي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: " الْبَخِيلُ الَّذِي مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ " ( [13] ) .
6 – من صلى على النبي e لم يخطئ طريق الجنة ، روى ابن ماجة والطبراني عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ خَطِئَ طَرِيقَ الْجَنَّةِ " ([14]) .
هذا ، والعلم عند الله تعالى .

[1] - البخاري في الأدب (646)، والترمذي (3545) وحسنه، قلت: هو حديث صحيح بطرقه وشواهده، فقد جاء من حديث أبي هريرة وأنس وعمار وجابر وكعب بن عجرة ومالك بن الحويرث، وانظر تخريجه في فتح الجواد الكريم: 3 / 27، 28.

[2] - الترمذي (3546) وصححه، والنسائي في الكبرى (9885) عن علي؛ ورواه أحمد: 1 / 201، والنسائي في الكبرى (8100) والحاكم: 1 / 549، عن الحسين بن علي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

[3] - ابن ماجة (908)، والطبراني في الكبير: 12 / 180، وله طرق وشواهد تقويه، انظرها في فتح الجواد الكريم: 3 / 535.

[4] - انظر الترمذي (3545).

[5] - أحمد: 2 / 446، والترمذي (3380) وصححه، والحاكم: 1 / 550، وصححه على شرط البخاري، وقال الذهبي: على شرط مسلم.

[6] - أحكام القرآن عند تفسير الآية 56 من سورة الأحزاب.

[7] - باختصار وتصرف من تفسير ابن كثير : 3 / 513 ، مع إضافات .

[8] - انظر جلاء الأفهام : 445 - 454 .

[9] - مسلم (408) .

[10] - أحمد : 3 / 445 ، وابن ماجة ( 907 ) ؛ وهو حسن لغيره ، وانظر فتح الجواد الكريم في اختصار وتحقيق تفسير القرآن العظيم : 3 / 533 .

[11] - الترمذي (2457) وقال : حسن صحيح ، والحاكم : 2 / 421، 558 ، وصححه ، ووافقه الذهبي .

[12] - أحمد: 3 / 102، والبخاري في الأدب المفرد (643)، والنسائي (1297)؛ وصححه الحاكم: 1 / 550، ووافقه الذهبي.

[13] - الترمذي (3546) وصححه، والنسائي في الكبرى (9885) عن علي؛ ورواه أحمد: 1 / 201، والنسائي في الكبرى (8100) والحاكم: 1 / 549، عن الحسين بن علي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

[14] - ابن ماجة (908)، والطبراني في الكبير: 12 / 180، وله طرق وشواهد تقويه، انظرها في فتح الجواد الكريم: 3 / 535.
 
ثالثا : الأدب العملي
وهو ما يتعلق بعمل الجوارح ، فمن الأدب مع النبي e أن تنطلق الجوارح تبعًا لما جاء به ، فلا يتصور ممن يدعي حب رسول الله e إلا أن تنبعث جوارحه بطاعته واتباعه واتخاذه قدوة وأسوة ، وإلا فما الدليل على هذه المحبة ؟!
واعلم - رحمني الله وإياك - أن طاعة رسول الله e واجبة أوجبها الله تعالى ، قال سبحانه : ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً[ (النساء: 59) .
وجعل الهداية والرحمة في طاعته e فقال: ]قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا[ (النور: 54) ، وقال تعالى: ]وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[ (الأعراف: 158) ، وقال: ]وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[ (النور: 56) .
فطاعة النبي e لا خيار للمسلم فيها ، لأن مخالفة ذلك ضلال واضح ، قال الله تعالى : ] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [ (الأحزاب: 36) .
كما أن الاقتداء به e أمر أوجبه الله تعالى قال U : ] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [ (الأحزاب: 21) .
قال ابن كثير - رحمه الله : هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول اللّه r في أقواله وأفعاله وأحواله ، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي r في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته ، ولهذا قال تعالى للذين تضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب : ] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [ أي : هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله r ، ولهذا قال تعالى : ] لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [.ا.هـ .
ولذا يجب على المسلم أن يقتدي به في أخلاقه r كما يجب عليه أن يطيعه في كل ما أمر به أو نهى عنه .
 
أصناف الناس مع الاتباع
اعلم أنه لا يَخْلُو حَالُ النَّاسِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ , مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي , مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ :
1 - فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَجِيبُ إلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ , وَيَكُفُّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي ؛ وَهَذَا أَكْمَلُ أَحْوَالِ أَهْلِ الدِّينِ , وَأَفْضَلُ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ ؛ فَهَذَا يَسْتَحِقُّ جَزَاءَ الْعَامِلِينَ , وَثَوَابَ الْمُطِيعِينَ.
2 - وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ ، وَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي ؛ وَهِيَ أَخْبَثُ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ ؛ فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللاهِي ([1]) عَنْ فِعْلِ مَا أُمَرَ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ , وَعَذَابَ الْمُجْتَرِئِ عَلَى مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيهِ ؛ وَقَدْ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : عَجِبْت لِمَنْ يَحْتَمِي مِنْ الطَّيِّبَاتِ مَخَافَةَ الدَّاءِ , كَيْفَ لا يَحْتَمِي مِنْ الْمَعَاصِي مَخَافَةَ النَّارِ ( [2] ) .
3 - وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَجِيبُ إلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ ، وَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي ؛ فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ الْمُجْتَرِئِ ، لأَنَّهُ تَوَرَّطَ بِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَى الإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ , وَإِنْ سَلِمَ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ تُفْسِدْ الشَّهْوَةُ دِينَهُ , وَلَمْ تُؤَثِرْ الشُّبْهَةُ في يَقِينِهِ .
4 - وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ , وَيَكُفُّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي ؛ فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللَّاهِي عَنْ دِينِهِ , الْمُنْذَرِ بِقِلَّةِ يَقِينِهِ ( [3] ) .
مظاهر الاتباع
للاتباع مظاهر كثيرة أهمها :
1 – تعظيم النصوص الشرعية وإجلالها وتقديمها على ما سواها ، وعدم هجرها ، وعدم تقديم غيرها عليها ، واعتقاد أن الهدى فيها لا في غيرها ، وتعلمها ، وحفظها ، وفهمها ، وتدبرها ، والعمل بها ، والتحاكم إليها ، وعدم معارضتها ؛ وهذا من أبرز مظاهر الاتباع ، وقد مر بك ما كان يفعله السلف مع حديث رسول الله e .
2 – الاقتداء بالنبي e ظاهرًا وباطنًا : وهو أن يجرد العبد متابعته لرسول الله e ، ويكتفي بالتلقي والأخذ عنه ، والعمل بما جاء به ؛ قال الله تعالى : ] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [ ( الأحزاب : 21 ) ؛ فلا اعتقاد ، ولا عبادة ، ولا معاملة ، ولا خلق ، ولا أدب ، ولا نظام اجتماعي ولا اقتصادي ولا سياسي... إلخ ، إلا عن طريقه ، وعلى وفق ما جاء به من أحكام وتعاليم ، بحيث تكون شريعته هي المهيمنة ( [4] ) .
قال ابن القيم - رحمه الله - في كلام له عن قوله تعالى : ] النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ ( الأحزاب : 6 ) : وهو دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين ، وهذه الأولوية تتضمن أمورًا ، منها :
أن يكون أحب إلى العبد من نفسه ، لأن الأولوية أصلها الحب ، ونفس العبد أحب له من غيره ، ومع هذا يجب أن يكون الرسول أولى به منها ، وأحب إليه منها ، فبذلك يحصل له اسم الإيمان .
ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم ، وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره ، وإيثاره على ما سواه .
ومنها أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلا ، بل الحكم على نفسه للرسول e ، يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده ، أو الوالد على ولده ، فليس له في نفسه تصرف قط ، إلا ما تصرف فيه الرسول e الذي هو أولى به منها ( [5] ) .
3 – تحكيم الشرع والتحاكم له : هذه هي السمة الفارقة بين الحريص على اتباع الحق ، وبين من اتبع هواه بغير هدى من الله ، قال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [ ( النساء : 59 ) . وقال U : ] فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ ( النساء : 65 ) .
ومقتضى ذلك أن يحكم ما جاء به الرسول e في الكتاب والسنة ويتحاكم إليهما ثم يرضى بحكمهما ؛ فيجعل ذلك هو الميزان الذي يزن به الاعتقادات والأقوال والأفعال والتروك ، فما وافقهما قَبِلَه وعمل بما فيه ، وما خالفهما ردَّه وإن جاء به من جاء .
أخي القارئ .. بعد هذا العرض الموجز للأدب مع رسول الله e سل نفسك هذا السؤال :
أين أنت أيها المسلم من التأدب مع النبي e قلبًا وقولا وفعلا ؟
يا مسلما تدعي الإسلام مجانا ... هلا أقمت على دعواك برهانا
جعلني الله وإياك ممن يقتدي برسوله e ظاهرًا وباطنًا ، وممن يحشر معه e في جنات النعيم ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله وصحبه .

[1] - اللاهي أي: المنشغل.

[2] - انظر سير أعلام النبلاء: 6 / 348.

[3] - انظر ( أدب الدنيا والدين ) للماوردي ، ص 103 - 105 .

[4] - انظر اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في ضوء الوحيين ضمن كتاب المنتدى (حقوق النبي بين الإجلال والإخلال) ص 117.

[5] - انظر ( زاد المهاجر إلى ربه ) ص 29، 30 .
 
عودة
أعلى