الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد : فقد منَّ الله على البشرية إذ فتح لها من أبواب الاكتشافات ما تُرجم إلى مقتنيات ساعدت على تقريب البعيد ، واختصار الوقت مع راحة البدن . من ذلك السيارات والطائرات والبواخر التي تسير بالميكنة ، وغير ذلك من آلات النقل والحرث المتقدمة ، التي اختصرت الطريق ، ووفرت الوقت ، وقلصت مشقة السفر ، ومشقة الحرث والزرع . ومن ذلك المذياع والرائي ( التلفاز ) وملحقات ذلك من المصور الرائي ( الفيديو ) وما شابهه ، ثم الحاسوب ( الكومبيوتر ) وما تبعه من الشبكة العنكبوتية ( النت ) . ثم الهواتف بأنواعها ( الأرضي والجوال ) ، واستخدام التكنولوجيا الحديثة مع تلك الهواتف : الهاتف الرائي ، ونت الجوال وغير ذلك . وهذه المقتنيات الحديثة في أصلها من المباحات ، لكن لابد أن يعلم أن المباح إنما يكون مباحًا إذا لم يستخدم في معصية الله تعالى .. وقد ينسحب حكم الحرام على بعض هذه المقتنيات بحسب مستخدمها ، فإن استخدمها في معصية الله تعالى أثم ، وفعله هذا يكون حرامًا ، وإن كانت الآلة مباحة ؛ فقد ذكر أهل العلم أنه يحرم بيع العنب لمن عُلِم أنه يعصره خمرًا ، ويحرم بيع السكين لمن علم أنه سيقتل بها .... وهكذا ، ولا شك في حل العنب ، وحل بيعه ، ولا شك أن السكين مباح اقتناؤها فهي تستخدم في كثير من أعمال الناس .. ولكن لما علم أنه سيعصي بها الله تعالى حرم عليه أن يبيعها له . وهكذا هذه المخترعات تنسحب عليها قاعدة المباحات إذا استخدمت في معصية الله تعالى . ولما كان الإسلام قد علمنا لكل شيء آدابًا ، فما يستحدث من هذه المخترعات سنجد له في آداب الإسلام أصل أصيل . من هنا كانت هذه الرسالة في بيان ( الأدب مع المخترعات الحديثة ) ، وسأتناول فيها : آداب وسائل النقل . آداب المذياع والرائي ( التلفاز والفيديو ) والهاتف والحاسوب . والله الكريم رب العرش العظيم أسأل أن ينفع بها كاتبها وقارئها وناشرها والدال عليها ، إنه أكرم مسؤول ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
كانت وسائل النقل المعروفة - قبل اختراع وسائل النقل الحديثة بأنواعها المختلفة – هي تلك الدواب التي خلقها الله تعالى وسخرها للإنسان ، قال الله العظيم : ] وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ . وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ . وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ . وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [ [ النحل : 5 – 8 ] . وفي قوله تعالى : ] وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [ ، إشارة لما اكتشف حديثًا من أمور سهلت صناعة وسائل النقل الحديثة من الدراجات الهوائية منها والبخارية ، والسيارات ، والقطارات ، والطائرات ، والسفن البخارية ... وغير ذلك ؛ مما حلَّ – غالبا – مكان تلكم الأنعام والدواب عند كثير من الناس ؛ وتبقى للأنعام والدواب خصوصيتها في الاستخدام في بعض الأماكن التي لم تدخلها تلك المخترعات ، أو لا يناسب المكان دخولها أصلا . وينسحب ما جاء في الأدب مع وسائل النقل المخلوقة على وسائل النقل المصنوعة ، إذ الثانية من نعم الله تعالى على عباده - أيضًا - كما كانت الأولى ؛ ولولا أن الله يسر اكتشاف أسبابها وتصنيعها ما كان لها وجود .
فأول الآداب شكر نعمة الوهاب
النعم واجبها الشكر ، وقد قال الله تعالى : ] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [ [ إبراهيم : 7 ] . والشُّكْرُ : هو الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف ، فهو عِرْفانُ الإِحسان ونَشْرُه ، ولا يكون إِلا عن يَدٍ ، أي : نعمة ، وقال ابن الأثير في ( النهاية ) : الشكرُ مُقابَلةُ النِّعمَة بالقَول والفِعل والنيَّة ؛ فيُثْنِي على المُنْعم بلِسانه ، ويُذِيب نفْسِه في طاعتِه ، ويَعْتَقِد أنه مُولِيها ( [1] ) . فالشكر يعم القلب واللسان والجوارح ؛ ومن هنا قال الله تعالى : ] اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [ [ سـبأ : 13 ] ، وقال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
فاليد للطاعة ، وهي كناية عن عمل الجوارح ، واللسان للثناء ، والضمير،أي: القلب ، للحب والتعظيم والإقرار بالنعم . فشكر نعمة وسائل النقل الحديثة ؛ بالإقرار بنعمة الله على مَنْ اقتناها أو انتفع بها ، واستخدامها في طاعة الله تعالى ، وعدم معصية الله تعالى بها أو فيها ، وكثرة شكر الله وحمده باللسان على ما أولى من النعم .
[1] - انظر لسان العرب باب الراء فصل الشين ؛ والنهاية في غريب الحديث والأثر ( مادة ش ك ر ) .
وهذا الأدب يجري على كل ما يُركب من دابة ووسيلة نقل حديثة ؛ سواء أكانت سيارة أم طائرة أم باخرة أم أي وسيلة نقل أخرى . والأصل في ذلك قوله تعالى : ] لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ . وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [ [ الزخرف : 14 ، 15 ] . وقد علمنا النبي e أذكارًا وأدعية عند ركوب الدابة ، منها : 1 – ما رواه أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجة عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ : شَهِدْتُ عَلِيًّا t وَأُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ : " بِسْمِ اللهِ " ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ : " الْحَمْدُ للهِ " ، ثُمَّ قَالَ : ] سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [ ثُمَّ قَالَ : " الْحَمْدُ للهِ " ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ : " اللهُ أَكْبَرُ " ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ قَالَ : " سُبْحَانَكَ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ " ثُمَّ ضَحِكَ ، فَقِيلَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ ؟! قَالَ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ e فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ ثُمَّ ضَحِكَ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ ؟! قَالَ : " إِنَّ رَبَّكَ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ : اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي " ( [1] ) . 2 – وروى مسلم عن ابْنَ عُمَرَ t أَنَّ رَسُولَ اللهِ e كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ : " ] سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [ ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى ، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى ، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا ، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالأَهْلِ " ، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ : " آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ " ( [2] ) .
[1] - أحمد : 1 / 115 ، وأبو داود ( 2602 ) ، والترمذي ( 3446 ) وصححه ، والنسائي في عمل اليوم والليلة ( 5096 ) .
[2] - رواه مسلم ( 1342 ) و " وعثاء السفر " : شدته ومشقته ؛ و " كآبة المنظر " : سوءه وقبحه المسبب لكآبة الناظر وحزنه ؛ و " سوء المنقلب " أي : أن يعود من سفره منكوبًا في ماله ، أو تصبه مصيبة في سفره ، أو أن يرد إلى أهله فيجدهم مرضى ، أو فقد بعضهم ، ونحو ذلك .
وهذا أدب مهم جدًّا في استخدام النعم ، فالنعمة من شكرها ألا تستخدم في معصية الله تعالى ، وإلا انقلبت على صاحبها نقمة ، ومن ذلك : 1 - ألا يسرف في شرائها أو تزيينها ، قال الله تعالى : ] وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [ [ الأنعام : 141 ] . 2 - ألا يفتخر بها على عباد اللهتعالى،] إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [ [ لقمان : 18 ] . 3 – ألا يستخدم آلاتها من مذياع ومسجل وتلفاز ونحوها في ما لا يحل للمسلم أن يسمعه أو يراه ، من موسيقى وغناء ونساء ونحو ذلك . 4 – إن كانت وسيلة نقل ، فلا ينقل بها الحرام من الأشياء .. كالخمر ونحوها .
وهذا مما تميز به الإسلام أن جعل حقًّا للطريق ، يلتزمه من جلس عليه أو وقف أو سار به على قدميه أو على وسيلة ركوب أيًّا كانت . فعلى السائق أن يغض البصر عن المحرمات ، ويرد السلام ، ولا يؤذي أحدًا بعلو مذياع ، ولا بقول ولا بفعل ، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قدر طاقته ، والأصل في ذلك ما في الصحيحين من حديث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ : " إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ " ؛ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ " ؛ قَالُوا : وَمَا حَقُّهُ ؟ قَالَ : " غَضُّ الْبَصَرِ ، وَكَفُّ الأَذَى ، وَرَدُّ السَّلاَمِ ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ " ( [1] ) .
هذا من الآداب المهمة ، إذ هو أحد الكليات التي جاء بها الشرع المطهر ( حفظ النفس ) ، ويكون ذلك ها هنا بالتزام قواعد السلامة والمرور ، ولا يتهور في سياقته ، ويحرص على غيره حرصه على نفسه ، والأصل في ذلك ، قول الله تعالى : ] وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [ [ الاسراء : 70 ] ، وهذا يقتضي الحرص على أرواح من كرمه الله تعالى . كما أن في عموم قوله Y : ] وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [ [ البقرة : 195 ] ، إشارة إلى أنَّ السرعة الزائدة التي يمكن أن يكون بسببها الحوادث والقتل تدخل في ذلك ، وحديث رسول الله e : " لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ " ( [1] ) ، يدخل فيه المنع من كل أسباب الضرر ، وهو قاعدة عامة في ذلك .. والعلم عند الله تعالى . فهذا إجمال لآداب وسائل النقل الحديثة ، سواء استخدمت في الركوب خاصة ، أو في نقل البضائع ، أو في حرث الأرض وحصاد الزرع .. أو في غير ذلك .
[1] - رواه ابن ماجة ( 2340 ) عن عبادة بن الصامت ؛ ورواه أحمد : 1 / 313 ، وابن ماجة ( 2341 ) ، وأبو يعلى ( 2520 ) ، والطبراني في الكبير : 11 / 228 ( 11576 ) عن ابن عباس ؛ ورواه الطبراني في الأوسط ( 1033 ) ، والدارقطني : 4 / 227 عن عائشة ، ورواه - أيضًا - عن أبي سعيد الخدري : 3 / 77 ؛ ورواه الطبراني في الكبير : 2 / 86 ( 1387 ) عن ثعلبة بن أبي مالك ؛ ورواه مالك : 2 / 745 ( 1429 ) عن المازني مرسلا ... وهذه الطرق يقوي بعضها بعضًا.
هذه المقتنيات تتعلق بقلب وجوارح وحواس الإنسان ؛ فالتلفاز والفيديو والحاسوب لها تعلق بحاستي السمع والبصر ، والمذياع والمسجل والحاسوب والهاتف لها تعلق بحاسة السمع ، والهاتف والحاسوب لهما تعلق باللسان . وهذه المقتنيات كلها تتعلق بأركان الإنسان من يد ورجل وجسم ، إذ لابد من حركة لتشغيلها ، وكل ذلك له تعلق بالقلب ابتداء ، ويُؤَثِر عليه انتهاء . من هنا وجب الحديث عن القلب والحواس والأركان وعمل كلٍّ ، ليقف المسلم على ما يجب وما يحرم وما يستحب وما يكره وما يباح لهذه الحواس والأركان .
القلب
سُمِّيَ الْقَلْب قَلْبًا لِتَقَلُّبِهِ فِي الْأُمُور ، أَوْ لِأَنَّهُ خَالِص مَا فِي الْبَدَن ، وَخَالِص كُلِّ شَيْء قَلْبه ؛ والقلب إذا صلَح صلح الجسد ، والعكس بالعكس ، ففي حديث النعمان t مرفوعًا : " أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" متفق عليه ( [1] ) ؛ فَبَيَّنَ e أَنَّ بِصَلَاحِ الْقَلْب يَصْلُح بَاقِي الْجَسَد ، وَبِفَسَادِهِ يَفْسُد بَاقِيه . فما الذي يحرك الإنسان لاستخدام هذه الأشياء ، إنه ما يعزم عليه في قلبه من طاعة ، أو مباح ، أومعصية . فمن قصد الطاعة ؛ كاتصال لصلة رحم ، أو مشاهدة درس علم عبر التلفاز أو الفيديو أو الحاسوب ... فهذا لا شك أنه مأجور إن أخلص نيته لله تعالى . ومن قصد الاتصال بهاتفه ليجري لنفسه بعض المنافع من معرفة واستفسار عن شيء من أمور دنياه ؛ أو قصد مشاهدة برنامجًا ثقافيًّا خالٍ عن المحرمات ، أو اتصل عبر النت ببعض أصدقائه أو من يتعامل معهم في أمور حيايتة مباحة شرعًا .. فهذا لا يأثم بما يقوله من المباح ، ويأثم إن تخلل كلامه شيء من المحرمات . وأما من قصد باتصاله تتبع عورات المسلمين ، والاتصال بما لا يحل له من النساء والفتيات ، أو تكلم عبر الهاتف بما هو محرم ، أو نقل صورًا محرمة إلى غيره أو من غيره ؛ وكذلك من قصد المحرمات من المشاهدات عبر الهاتف والفيديو والفضائيات والنت وغيرها ؛ فهذا آثم .. ويلزمه أن يتوب من ذلك ، ويستغفر الله تعالى ، ويندم على فعله ، ولا يعود لمثله . وأما تأثر القلب بذلك بعد الوقوع فيه ، فقد روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e قَالَ : " إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ ، فَإِنْ تَابَ مِنْهَا صُقِلَ قَلْبُهُ ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهُ تَعِالَى : ] كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ " ، ولفظ النسائي : " إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ ، فَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعِالَى : ] كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ " ولفظ أحمد : " إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِه .. " بنحو لفظ النسائي ( [2] ) ؛ وقال الحسن البصري - رحمه الله - في تفسير الآية : هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت ؛ وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد وغيرهم ( [3] ) . فانظر كيف يتأثر القلب بالمعصية ؛ وكم من قلوب ماتت بدوام صاحبها على فعل المعصية عبر هذه المخترعات ؛ فليتق الله تعالى من رُزق من هذه المخترعات شيئا ، ولا يستخدمها إلا في طاعة الله تعالى .
[1] - البخاري ( 52 ) ، ومسلم ( 1599 ) ، ورواه بقية الجماعة .
[2] - أحمد : 2 / 297 ، والترمذي ( 3334 ) وصححه ، والنسائي في الكبرى ( 10251 ، 11658 ) ، وابن ماجة ( 4244 ) . ورواه ابن حبان ( 930 ، 2787 ) ، والحاكم : 2 / 517 وصححه ووافقه الذهبي ، وإسناده حسن .
[3] - انظر ابن جرير : 30 / 63 ، والدر المنثور : 8 / 447 .
من المعلوم أن الحواس خمسٌ ، وهي : حاسة السمع ، وحاسة البصر ، وحاسة الشم ، وحاسة الذوق ، وحاسة اللمس ؛ وهذه الحواس نعم عظيمة من نعم الله تعالى ؛ وهبها الله Y الإنسان ليتمكن بها من إدراك ما حوله ، وليستعين بها على فهم الحق والعمل به . وقد جعل الله - جلت قدرته - لهذه الحواس آلات مختلفة تعمل بكيفية لم يستطع العلم أن يصل إلى معرفة كنهها - على الحقيقة - إلى اليوم ، إنما هي نظريات تتوالى في محاولة لفهم سرِّ عمل أجهزة هذه الحواس ، وإذا كُشف للعاملين في حقل البحث عن هذه الأسرار عن سرٍّ منها ، وضعوا نظرية تهدم سابقتها أو تصحح بعض ما فيها ؛ فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . وآلة السمع هي الأذن ، وبها يدرك الإنسان الأصوات ويميز بينها ؛ وآلة البصر هي العين ، وبها يرى الإنسان ما حولهويميزبينالمرئيات؛وآلةالشمهيالأنف، وبها يميز الإنسان بين المشمومات ؛ وآلة الذوق : اللسان ، وبه يميز الإنسان بين المطعومات والمشروبات ؛ وآلة اللمس هي الجلد ؛ وغالبًا ما تكون اليد ، وبها يميز الإنسان الليونة والخشونة والحرارة والبرودة ، والصلابة والرخاوة .. الخ ؛ وحقيقة هذه الحواس أنها أجهزة متكاملة داخل آلتها المعدة لها . ومن قدرة الله سبحانه وتعالى أن جعل لكل حاسة من هذه الحواس آلية عمل تختلف عن غيرها ، فلكل عضو من هذه الآلات خلايا وأعصاب ومستقبلات خاصة به ، تتمايز فيما بينها ؛ كما أن لكل منها موقعارتباط خاص بالدماغ ، لا يشارك الحاسة شيء فيه ، ولا تتأثر الحواس الأخرى في حالةإصابة موقع إحداها في الدماغ ، مع وجود ارتباط بين هذه الحواس ؛ فسبحان من خلق فسوى ، وقدر فهدى . ولما كانت هذه الحواس جزء من الإنسان الذي هو عبد لله تعالى ، كان لكل حاسة من هذه الحواس حظها من العبودية ؛ ولما كان موضوعنا يتعلق بحاسة السمع والبصر ، فسنخص الحديث عن ذلك إن شاء الله تعالى ، ومنه العون والتوفيق .
السمع نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على الإنسان ؛ فبها يدرك الأصوات من حوله ويميز بينها ؛ وهذا أمر مهم جدًّا في حياة الناس ؛ إذ الناس إنما يتعاملون مع بعضهم البعض على أساس التفاهم بالمخاطبة ، وهذا يعتمد على نعمة السمع ، كما يعتمد على نعمة الكلام ؛ كما أن في الكون أصوات أخرى يدركها الإنسان بحاسة السمع ، لها دلالات تنذر الإنسان أو تبشره ؛ فصوت الرعد وصوت الانفجار ، وصوت السقوط القوي ، وصوت الحيوان الضاري ؛ هذه أصوات منذرة ؛ وهناك أصوات أخرى مبشرة ومطمئنة ؛ كصوت المطر ، وصوت خرير الماء ، وصوت الطيور ، وصوت الحيوانات الأليفة ... الخ ؛ ومن آيات الله تعالى في الإنسان أنه يميز بين هذه الأصوات وغيرها ، بل قد يسمع أصواتًا مختلطة فيميزها أيضًا ؛ فلله الحمد والمنة . واعلم - علمني الله وإياك الخير - أن عملية السمع عملية معقدة ؛ فكل شيء يتحرك يحدث صوتًا ، ويتكون الصوت من اهتزازات لجزيئات الهواء التي تنتقل في موجات ، ثم تدخل هذه الموجات إلى الأذن التي هي آلة السمع ، حيث تتحول إلى إشارات عصبية ترسل إلى الدماغ ، الذي يقوم بدوره بترجمة هذه الموجات إلى أصوات يميز صاحبها بعضها عن بعض ؛ فهذا صوت عصفور ، وهذا صوت ماء ، وهذا صوت حركة ، وهذا صوت تلاصق ، وهذا صوت إنسان ، وهذا صوت حيوان ... الخ .. وأما كيف يتم تحويل هذه الموجات إلى أصوات مميزة عند كل شخص ؛ فهذا مما حار فيه العلماء ؛ فسبحان الذي خلق كل شيء بحكمة ولحكمة ، وتبارك الذي وسع علمه كل شيء . وهذه النعمة العظيمة ( حاسة السمع ) لها عبادات خاصة بها - فكما يقول ابن القيم : على السمع وجوب الإنصات والاستماع لما أوجبه الله ورسوله عليه ؛ من استماع الإسلام والإيمان وفروضهما ، وكذلك استماع القراءة في الصلاة الجهرية ، واستماع الخطبة يوم الجمعة ، في أصح قولي العلماء .ا.هـ . فهذه واجبات السمع . ويحرم عليه : استماع الكفر والبدع ، إلا حيث يكون استماعه مصلحة راجحة من رده أو الشهادة على قائله ؛ وكاستماع أسرار من يهرب عنك بسرِّه ولا يحب أن يطلعك عليه ، ما لم يكن متضمنًا لحق لله يجب القيام به ، أو لأذى مسلم يتعين نصحه وتحذيره منه ؛ وكذلك استماع أصوات النساء الأجانب التي تخشى الفتنة بأصواتهن ، إذا لم تدع إليه حاجة من شهادة ، أو معاملة ، أو استفتاء ، أو محاكمة ، أو مداواة .. أو نحوها ؛ وكذلك استماع المعازف وآلات الطرب واللهو ، ولا يجب سد أذنه إذا سمع الصوت وهو لا يريد استماعه ، إلا إذا خاف السكون والإنصات ، فحينئذٍ يجب ، لتجنب سماعها ، وجوبَ سد الذرائع . وأما السمع المستحب : فكاستماع المستحب من العلم ، وقراءة القرآن ، وذكر الله ، واستماع كل ما يحبه الله ، وليس بفرض . والمكروه : عكسه ، وهو : استماع كل ما يُكره ولا يعاقب عليه . والمباح : ظاهر .ا.هـ . قال مقيده - عفا الله عنه : كمباح الكلام - وهو الذي خلا من الواجب والمحرم والمستحب والمكروه - فهذا يباح استماعه ؛ كما يباح استماع أصوات المخلوقات الأخرى غير الإنسان .
تطبيق ذلك على ما له تعلق بالسمع
قدمنا أن هذه الأجهزة – المذياع والرائي والهاتف والحاسوب – لها تعلق بحاسة السمع ، وعلى ما تبين من عبودية هذه الحاسة ، يحرم على مستخدم هذه الأجهزة أن يستمع أو يُسمع ما حرم عليه استماعه من الكفر والبدع والمعصية ، وأصوات النساء المحرمة ، والموسيقى ونحو ذلك مما لا يجوز له أن يسمعه . وعليه أن يقصر سماعه على الواجب ، والمباح المفيد الذي يمكن أن ينتفع به ، ولا إثم فيه .
تنبيهات مهمة
هاهنا تنبيهات مهمة لابد من ذكرها . 1 – يغفل كثير من مستخدمي الهواتف عن أن الكلام بالهاتف يكون مقابل مال ، وأنه مسؤول أمام ربه غدًا عن هذا المال : " مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ " ( [1] ) ، فإذا كان الكلام في لغو ، وهو ما لا فائدة فيه ... فماذا يقول لربه غدًا ؟ وأما إن كان مكروهًا أو حرامًا ... فالأمر أشدُّ . 2 – بعض مستخدمي الهواتف يتتبعون عورات المسلمين ، ويغازلون النساء ويعتدون على الأعراض ، وهذا من المحرمات .. وليحذر هؤلاء العقاب في الدنيا قبل الآخرة ، فقد روى أبو داود عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : " يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ " ؛ ورواه أبو يعلى عَنِ الْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ t قال : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ e حَتَّى أَسْمَعَ الْعَوَاتِقَ فِي بُيُوتِها - أَوْ قَالَ فِي خُدُورِهَا - فَقَالَ : " يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ ؛ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحَهُ فِي جَوفِ بَيْتِهِ " ؛ ورواه الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَبَّعَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ يَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ يَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ " قَالَ : وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ : مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ ( [2] ) . 3 – يتباهى البعض ويفتخر بنوع الهاتف الذي يحمله ، أو بتعدد الهواتف التي يحملها ، وكذا بما يقتنيه من الأجهزة الأخرى ؛ وهذا - أيضًا - من المحرمات المرتبطة بكبر في قلب صاحبه ، والذي يظهر في افتخاره وخيلائه على من هو أقل منه مالا ، وفي ذلك مفاسد كثيرة على الفرد والمجتمع ، قال الله تعالى : ] وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [ [ الحديد : 23 ] . 4 – كثير من مستخدمي هذه الأجهزة يغفل عن قيمة الوقت ، وأنه حياته ، فيقضي غالب وقته مع الكلام في الهواتف أو الحاسوب ، أو السماع والمشاهدة للتلفاز والحاسوب ، وغالب ذلك مما لا فائدة منه ، أو محرم .. وينسيه الشيطان حساب الله له على عمره فيما أفناه وشبابه فيما أبلاه .... فكيف يكون حاله يوم القيامة ؟!
[1] - جزء من حديث رواه الترمذي (2417) ، والدارمي (537) عن أبي برزة . ورواه البرزار (2640) ، والطبراني في الكبير: 20 / 60 (111) عن معاذ . ورواه الترمذي (2416) ، و البزار (1435) ، والطبراني في الأوسط (7576) ، والبغدادي في تاريخه: 12 / 440 عن ابن مسعود .
[2] - حديث أبي برزة رواه أبو داود ( 4880 ) ، ورواه - أيضًا - أحمد : 4 / 420 ، وأبو يعلى ( 7423 ) ، والبيهقي في الشعب ( 6704 ) وإسناده حسن . وحديث البراء رواه أبو يعلى ( 1675 ) ، والبيهقي في الشعب ( 9660 ، 11196 ) ؛ وحديث ابن عمر رواه الترمذي ( 2032 ) وحسنه ، وابن حبان ( 5763 ) . والحديث رواه أحمد : 5 / 279 عن ثوبان . ورواه الطبراني في الكبير : 2 / 20 ( 1155 ) ، والأوسط ( 2936 ) عن بريدة ؛ ورواه الطبراني في الكبير : 11 / 186 ( 11444 ) ، والأوسط ( 3778 ) عن ابن عباس ، فالحديث صحيح .
نعمة البصر من أعظم النعم المادية على الإنسان ، فبها يرى ما حوله ، فيحذر المحذور ، وينجو من الصدمات ، ويسلم من الحفر ؛ ويرى المحب والمبغض ، والصديق والعدو ، ويشاهد أمور حياته التي بها يعيش ؛ ويتأمل في مخلوقات ربه ؛ ويميز بين الجميل والقبيح ، والحسن والسيئ ، والنافع والضار ، والنازل والصاعد ، .. الخ . وتعتبر حاسة البصر أكثر الحواس الخمس تعقيدًا في عملها ، فهي تجمع بين الاستقبال الحسِّي والتمييز الدقيق ؛ فإن أشعة الضوء التي تعبر حدقتي العينين إلى الشبكتين - في مؤخر العينين - تكوِّن صورتين مسطحتين ثنائيتي الأبعاد ، ثم يتم تحويلهاتينالصورتينإلىدفعاتكهربائية،تنتقلعبرالعصبالبصريلكلعينٍ إلى أجزاء من الدماغ ، حيث يتم تفسيرها على صورتها الواقعية ؛ فالمعلومات التي استقبلتها مستقبلات الرؤية تنتقل إلى الدماغ ، ثم تترجم في الدماغ إلى الصورة التي يراها صاحبها ؛ وكل ذلك لا يستغرق وقتًا زمنيًا ملموسًا أو محسوسًا ؛ وهي عملية تجري بكيفية حار فيها العلماء ، ولم يصلوا بعد إلى حقيقتها ، وإنما هي نظريات بعضها أقرب من بعض ، تتغير كلما كُشف لهم عن سرٍّ من أسرار هذه الحاسة ؛ فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . وهذه الحاسة أيضًا لها أعمال خاصة بها تشكل عبوديتها لربها ؛ وهي تجري عليها الأحكام الشرعية الخمسة : الواجب والمحرم والمستحب والمكروه والحرام .
فأما النظر الواجب - كما يقول ابن القيم : فالنظر في المصحف ، وكتب العلم عند تعيَّن تعلم الواجب منها ، والنظر إذا تعيَّن لتمييز الحلال من الحرام في الأعيان التي يأكلها أو ينفقها أو يستمتع بها ، والأمانات التي يؤديها إلى أربابها ليميز بينها .. ونحو ذلك . والنظر الحرام : النظر إلى الأجنبيات بشهوة مطلقًا ، وبغيرها إلا لحاجة : كنظر الخاطب والمستام والمعاملوالشاهدوالحاكموالطبيبوذيالمحرم؛وكذلك النظر إلى العورات وهي قسمان : عورة وراء الثياب ، وعورة وراء الأبواب . ولو نظر في العورة التي وراء الأبواب فرماه صاحب العورة ففقأ عينه لم يكن عليه شيء ، وذهبت هدرًا بنص رسول الله e في الحديث المتفق عليه : " مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ " ( [1] ) ؛ وهذا إذا لم يكن للناظر سبب يباح النظر لأجله ، كعورة له هناك ينظرها ، أو ريبة هو مأمور أو مأذون له في الإطلاع عليها . والمستحب : النظر في كتب العلم والدين التي يزداد بها الرجل إيمانًا وعلمًا ، والنظر في المصحف ، والنظر في آيات الله المشهودة ، ليستدل بها على توحيده ومعرفته وحكمته . والمكروه : فضول النظر الذي لا مصلحة فيه ، فإن له فضولاً كما للسان فضولاً ، وكم قاد فضولهما إلى فضول أعيا دواؤها ، وقال بعض السلف : كانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام . والمباح : النظر الذي لا مضرة فيه في العاجل والآجل ، ولا منفعة .
تطبيق ذلك على ما له تعلق بالبصر
الرائي والهاتف والحاسوب أجهزة لها تعلق بحاسة البصر ، وعلى ما تبين من عبودية هذه الحاسة ، يحرم على مستخدم هذه الأجهزة النظر إلى ما يعرض فيها من المحرمات .... وكثير تلك المحرمات التي تعرض في هذه الأجهزة من نساء كاسيات عاريات ، وعلاقات محرمة بين الجنسين ، وأكاذيب وافتراءات ... وغير ذلك . ويجب عليه استخدام هذه الأجهزة فيما فيه فائدة ، أو فيما يكون مباحًا من غير تضييع للوقت في هذا المباح .
تنبيه مهم بعض العابثين يستخدمون هذه الأجهزة في نقل الصور والبرامج المحرمة ، وهؤلاء عليهم إثمهم ومثل إثم من ينقلون إليهم ومن يُنقل إليه ممن نُقل إليهم ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا ؛ فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا " ( [2] ) .
[1] - البخاري ( 6902 ) ، ومسلم ( 2158 ) عن أبي هريرة t .
[2] - رواه أحمد : 2 / 397 ، ومسلم ( 2674 ) ، وأبو داود ( 4609 ) ، والترمذي ( 2674 ) و صححه ، وابن ماجة ( 206 ) ، والدارمي ( 516 ) من حديث أبي هريرة ، ورواه مالك بلاغا : 1 / 218 . ورواه ابن ماجة ( 205 ) بنحوه عن أنس .
للِّسان دور مهم في نجاة الإنسان ، وقد قال النبي e لمعاذ t : " وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ قَالَ : عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ " ( [1] ) . وحركة اللسان بالكلام – كما يقول ابن القيم رحمه الله - أعظم حركات الجوارح وأشدها تأثيرًا في الخير والشر ، والصلاح والفساد ، بل عامة ما يترتب في الوجود من الأفعال إنما ينشأ بعد حركة اللسان .ا.هـ ( [2] ) . ولذلك قال رسول الله e : " إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ أَعْضَاءَهُ تُكَفِّرُ لِلِّسَانِ ، تَقُولُ : اتَّقِ اللَّهَ فِينَا ، فَإِنَّكَ إِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا ، وَأَنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا " ( [3] ) . والواجب على اللسان أن يشهد شهادة الحق ( أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ) ، وأن يقول الحق ، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وأن يتلو القرآن الواجب في الصلاة ، ويذكر الله تعالى الذكر الواجب في الصلاة ، وأن يكف عن المحرمات من القول . ويستحب له تلاوة القرآن ، وذكر الله تعالى ، والكلام الطيب ، وأن يبتعد عن لغو الكلام . ويحرم عليه كلمة الكفر ، والقول على الله تعالى بغير علم ، وفحش الكلام ، والقذف والسباب ، والكذب والبهتان ، وشهادة الزور ، وإيذاء المسلمين ، والتطاول على الناس . ويكره له لغو الكلام ، وهو ما لا فائدة فيه ؛ والتدخل فيما لا يعنيه ، وفضول الكلام المباح الذي يمكن أن يدخله في المكروه . ويباح له من الكلام ما انتفى عنه الحرمة والكراهة مما لا يجب ولا يستحب .
تطبيق ذلك على ما له تعلق باللسان
يتعلق باللسان استعمال الهاتف ، والكلام عبر النت عن طريق ( الماسينجر ) أو الشات . فلا يجوز لمن يستعمل هذه الأجهزة أن يتكلم فيها بالحرام ، ولا بالمكروه ، وليعلم أن كل كلامه يسجل له أو عليه ، قال الله تعالى : ] مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ [ ق : 18 ] ؛ وكثير من الناس يغفل عن المعنى العظيم لهذه الآية ، فيطلق للسانه العنان ، ويقع فيما لا تحمد عقباه . فاحذروا من تبعات استخدام هذه الأجهزة ، فقد كثر كلام الناس بعد اختراعها ، والكلام إما للمتكلم أو عليه ، والمباح لا له ولا عليه ، غير أن الإكثار منه قد يوقع في المكروه ؛ ولله در عمر بن الخطاب t قال للأحنف : يا أحنف ! مَنْ كَثُرَ ضحكه قلت هيبته ، ومن مزح استخف به ، ومن أكثر من شيء عرف به ، ومن كثر كلامه كثر سقطه ، ومن كثر سقطه قل حياؤه ، ومن قل حياؤه قل ورعه ، ومن قل ورعه مات قلبه ( [4] ) .ا.هـ. فتدبر - رحمك الله - هذه الموعظة البليغة ، وانظر في ترتيب منطقها ، وأجهد نفسك للعمل بها ، فإن فيها الفوز بإذن الله ، والله المستعان .
[1] - رواه أحمد : 5 / 231 ، والترمذي ( 2616 ) وصححه ، والنسائي في الكبرى ( 11394 ) ، وابن ماجة ( 3973 ) ، والحاكم : 2 / 412 ، 413 وصححه على شرطيهما ، ووافقه الذهبي .
اليدان والرجلان من جوارح الإنسان وأركانه التي يعتمد عليها في أداء الغالب من أعماله وحركته وسعيه . وهذه الجوارح هي من نعم الله تعالى العظيمة على الإنسان ؛ فلو فقد إنسان أحد هذه الأطراف لتأثرت بذلك حياته كلها ، وأصبح به نسبة من العجز العملي والكسبي . ومن الحكمة في خلق هذه الأعضاء ، تيسير حركة الإنسان لأداء ما كلفه الله به من أعمال في هذه الدنيا ، وليقوم بعبادة ربه Y شكرًا لبعض نعمه عليه . ولهذه الجوارح كغيرها من أعضاء الإنسان أعمال خاصة بها تكتمل بها عبوديته لله تعالى . فالتكسب المقدور - كما يقول ابن القيم - للنفقة على نفسه وأهله وعياله واجب ، وكذلك لأداء دين على الصحيح ؛ ومنه إعانة المضطر ، ورمي الجمار ومباشرة الوضوء والتيمم ، وغير ذلك من العبادات . والحرام : كقتل النفس التي حرم الله قتلها ، ونهب المال المعصوم ، وضرب من لا يحل ضربه ، ونحو ذلك ، وكأنواع اللعب المحرم بالنص ؛ كالنرد ؛ ونحو كتابة البدع المخالفة للسنة تصنيفًا أو نسخًا ، إلا مقرونًا بردِّها ونقضها ؛ وكتابة الزور والظلم ، والحكم الجائر ، والقذف والتشبيب بالنساء الأجانب ؛ وكتابة ما فيه مضرة على المسلمين في دينهم أو دنياهم ، ولاسيما إن كسبت عليه مالاً : ] فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [ [ البقرة : 79 ] ؛ وكذلك كتابة المفتي على الفتوى ما يخالف حكم الله ورسوله ، إلا أن يكون مجتهدًا مخطئًا فالإثم موضوع عنه . وأما المكروه : فكالعبث واللعب الذي ليس بحرام ، وكتابة ما لا فائدة في كتابته ولا منفعة في الدنيا والآخرة . والمستحب : كتابة كل ما فيه منفعة في الدين ، أو مصلحة لمسلم ، والإحسان بيده بأن يعين صانعًا ، أو يصنع لأخرق ، أو يفرغ من دلوه في دلو المستقي ، أو يحمل له على دابته ، أو يمسكها حتى يحمل عليها ، أو فيما يحتاج إليه ، ونحو ذلك ؛ ومنه لمس الركن بيده في الطواف . والمباح : ما لا مضرة فيه ولا ثواب . وأما المشي الواجب : فالمشي إلى الجمعات والجماعات ، في أصح القولين ؛ والمشي حول البيت للطواف الواجب ، والمشي بين الصفا والمروة بنفسه أو بمركوبه ، والمشي إلى حكم الله ورسوله إذا دعي إليه ، والمشي إلى صلة رحمه وبر والديه ، والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه ، والمشي إلى الحج إذا قربت المسافة ولم يكن عليه فيه ضرر . والحرام : المشي إلى معصية الله ، وهو من رَجْل الشيطان ، قال تعالى : ] وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [ [ الإسراء : 64 ] ، قال مقاتل : استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم ؛ فكل راكب وماش في معصية الله فهو من جند إبليس .ا.هـ . ولم يذكر الشيخ - رحمه الله - المكروه والمستحب والمباح . والمشي المستحب : ما كان في طاعة غير واجبة ، كالمشي لحضور مجالس الذكر والوعظ ، أو لزيارة غير واجبة .. ونحو ذلك . وأما المشي المكروه : فالمشي في نعل واحدة أو خف واحد لغير عذر ؛ لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ - في الصحيحين - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا " ( [1] ) . وأما المشي المباح : فإلى ما فيه منفعة دنيوية مباحة مستوية الطرفين ، فيكون حكمه حكم ذلك الفعل .
تطبيق ذلك على ما له تعلق باليد والرجل
الحركة إلى الطاعة أو في الطاعة ، لها أجرها ؛ والحركة إلى المعصية أو في المعصية على صاحبها وزرها ، فالرجل تمشي إلى الجهاز الثابت ، واليد تحمل الجهاز المتحرك ، وتمسه ، وتتحرك عليه وعلى الجهاز الثابت ، بفتحه ، والكتابة عليه ، والإرسال والاستقبال .. وغير ذلك ؛ وكل هذه الحركات بحسب نية صاحبها وقصده ، له الأجر عليها ، أو عليه الإثم فيها . فليحذر من اقتنى شيئًا من هذه الأجهزة أن تكون حركته إليها أو عليها في معصية الله تعالى . فحركة اليد على هذه الأجهزة إن كانت في عمل مباح من كتابة أو كلام أو مشاهدة ، فلا حرج فيه ، وأما إن كانت هذه الحركة لكتابة أو عمل أو مشاهدة حرام ، فصاحبها أثم ، ويشهد عليه جلده يوم القيامة بما كان من ذلك ... إلا أن يتوب إلى الله تعالى ، ويحسن فيما يستقبل من عمره . قال الله تعالى : ] حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ [ فصلت : 20 ، 21 ]. فعلى من يقتني شيئًا من هذه الأجهزة أن يتأدب في استخدامها ، فلا يستخدمها في معصية الله تعالى الذي أنعم عليه بها .
هذا ما يسره الله الكريم في كتابة هذا الموضوع ؛ وما كان فيه من صواب فمن الله وحده وله الحمد والمنة ، وما كان فيه بخلاف ذلك فمني ومن الشيطان ، وأستغفر الله العظيم منه ؛ وحسبي أن الحق أردت .
وإني لأرجو أخًا استفاد منه أن يدعو الله لي ولوالدي ولمشايخي، وإن وجد فيه خطأ أو غلطا أن ينبهني إليه ويدلني عليه :
لكن قدرة مثلي غير خافية ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
والحمد لله أولا وأخيرا، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله.
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
هذا ما يسره الله الكريم في كتابة هذا الموضوع ؛ وما كان فيه من صواب فمن الله وحده وله الحمد والمنة ، وما كان فيه بخلاف ذلك فمني ومن الشيطان ، وأستغفر الله العظيم منه ؛ وحسبي أن الحق أردت .
وإني لأرجو أخًا استفاد منه أن يدعو الله لي ولوالدي ولمشايخي، وإن وجد فيه خطأ أو غلطا أن ينبهني إليه ويدلني عليه :
لكن قدرة مثلي غير خافية ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
والحمد لله أولا وأخيرا، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله.
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية