الأدب مع الضيفان

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فالحديث عن الأدب مع الضيفان ، حديث عن مكارم الأخلاق ، وهي التي بُعث النبي محمد e ليتممها ؛ فقد كان قري الضيف معروفًا عند العرب ، يتنافس فيه كرامهم ، ويعد من مناقبهم ؛ بل كان عند كرامهم بيت ضيافة ينزل فيه من يمر بهم .
فلما جاء الإسلام أقر هذا الخلق الكريم ، وزاده شدة وتوثيقًا ، وبيَّن ما يجب فيه وما يندب ؛ روى الإمام أحمد عَنِ السَّائِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : جِيءَ بِي إِلَى النَّبِيِّ e يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ، جَاءَ بِي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزُهَيْرٌ ، فَجَعَلُوا يَثْنُونَ عَلَيْهِ [ أي يمدحونه ] ؛ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ e : " لَا تُعْلِمُونِي بِهِ ، قَدْ كَانَ صَاحِبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ " قَالَ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَنِعْمَ الصَّاحِبُ كُنْتَ ؛ فَقَالَ : " يَا سَائِبُ ، انْظُرْ أَخْلَاقَكَ الَّتِي كُنْتَ تَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاجْعَلْهَا فِي الْإِسْلَامِ : أَقْرِ الضَّيْفَ ، وَأَكْرِمْ الْيَتِيمَ ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ " ( [1] ) ؛ وعن أنس t قال : إن زكاة الرجل في داره أن يجعل فيها بيتًا للضيافة ( [2] ) .
فَالضِّيَافَةُ مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ ، وَهي مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ ، وخلق الصالحين ، وَأَوَّلُ مَنْ ضَيَّفَ الضَّيْفَ إبْرَاهِيمُ e ، ولذا كان يكنى أبا الضيفان ؛ قَالَ اللَّهُ U : ] هَلْ أَتَاك حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [ [ الذاريات : 24 ] ، فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أُكْرِمُوا ؛ فقد يكون المراد إكرام الله تعالى لهم ، وقد يكون بما أكرمهم إبراهيم e لأنهم أضياف ، وبكلٍ قال بعض أهل التفسير ، وقد يكون المراد المعنيين جميعًا .
وقد جعل النبي e إكرام الضيف من دلائل الإيمان ، فقال e : " وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ " متفق عليه ( [3] ) ؛ مما يدل على مكانة الضيافة في الإسلام .
ولما كان لهذه العلاقة أحكام وآداب ، كان لزامًا على المؤمن أن يتعلمها ، حتى يقوم بها مع أضيافه ، لذلك كانت هذه الرسالة : ( الأدب مع الضيفان ) ؛ وقد ضمنتها معنى الضيف ، وحكم الضيافة ، ومدة الضيافة ، والأدب مع الضيف ، وآداب تتعلق بالضيف ، ومن قصص الضيافة .
هذا والله الكريم أسأل أن يتقبلها مني وأن يجعل لها القبول في الأرض ، لا ربَّ غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ؛ وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .


[1] - أحمد : 3 / 425 ، قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 8 / 190 ) : رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح .

[2] - رواه البيهقي في شعب الإيمان ( 9627 ) .

[3] - البخاري ( 6018 ) ومسلم ( 47 ) ، وغيرهما عن أبي هريرة t .
 
معنى الضيف
الضيف في الأصل مصدر ضاف يضيف ، إذا أتى إنسانًا لطلب القِرى ، ثم سُمي به ؛ ولذلك يطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى ، كالزور والسُّفْر ، وقد يجمع فيقال : أضياف وضيوف وضيفان ؛ ويقال : استضفت فلانًا فأضافني ، وقد ضفته ضيفًا ، إذا نزلت به في ضيافته ؛ وأضفته إذا أنزلته ، وتضيفته إذا نزلت به ، وتضيفني إذا أنزلني .
وأصل الضيف الميل ، يقال ضفت إلى كذا وأضفت كذا إلى كذا ، وضافت الشمس للغروب وتضيفت ؛ والضيف من مال إليك نازلًا بك ، فسمي الضيف ضيفًا لإضافته إليك ونزوله عليك ؛ فهو النازل في منزل أحد نزولاً غير دائم ، لأجل مرور في سفر أو إجابة دعوة ؛ وصارت الضيافة متعارفة في القِرَى ( [1] ) .
والقِرَى : ما يقدم للضيف .

[1] - انظر لسان العرب باب الفاء فصل الضاد ، ومفردات غريب القرآن للراغب ( مادة ض ي ف ) ، وتفسير القرطبي : 10 / 35 ، وفتح الباري : 10 / 532 .
 
حكم الضيافة
أجمع العلماء على مدح مُكْرِمِ الضيف والثناء عليه بذلك وحمده ، وأن الضيافة من سنن المرسلين ؛ واختلفوا في وجوب الضيافة ؛ فكان الليث بن سعد يوجبها لَيْلَةً وَاحِدَة ؛ لحديث الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبٍ t أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " لَيْلَةُ الضَّيْفِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، فَإِنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ مَحْرُومًا كَانَ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ ، إِنْ شَاءَ اقْتَضَاهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ " ، وفي رواية : " فَإِنَّ نَصْرَهُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، حَتَّى يَأْخُذَ بِقِرَى لَيْلَةٍ مِنْ زَرْعِهِ وَمَالِهِ " ( [1] ) ، وقوله : " فَإِنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ مَحْرُومًا " أي : أصبح الضيف ولم يقدم له حق الضيافة ؛ وَفي الصحيحين عن عُقْبَة t : قُلْنَا لِلنَّبِيِّ e إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لَا يَقْرُونَا ، فَمَا تَرَى فِيهِ ؟ فَقَالَ لَنَا : " إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأُمِرَ لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ ، فَاقْبَلُوا ؛ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ " ( [2] ) ؛ فظاهر الحديث وجوب قري الضيف ، وأن المنْزول عليه لو امتنع من الضيافة أخذت منه كرهًا .
وَذهب الإمام أَحْمَدُ إلى أن الضيافةَ وَاجِبَةٌ يَوْمًا وَلَيْلَةً عَلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَأَهْلِ الْقُرَى دُونَ أَهْلِ الْمُدُنِ ؛ وإِنَّمَا كان ذَلِكَ عَلَى أَهْل الْبَوَادِي لِأَنَّ الْمُسَافِر يَجِد فِي الْحَضَر الْمَنَازِل فِي الْفَنَادِق وَمَوَاضِع النُّزُول ، وَمَا يَشْتَرِي مِنْ الْمَأْكَل فِي الْأَسْوَاق .
وقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْجُمْهُورُ : هِيَ سُنَّةٌ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ ؛ وَحُجَّتهمْ قَوْله e : " فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَته " وَالْجَائِزَة الْعَطِيَّة وَالْمِنْحَة وَالصِّلَة وَذَلِكَ لَا يَكُون إِلَّا مَعَ الِاخْتِيَار ؛ وَقَوْله e : " فَلْيُكْرِمْ " يَدُلُّ عَلَى هَذَا - أَيْضًا - إِذْ لَيْسَ يُسْتَعْمَل مِثْله فِي الْوَاجِب ؛ وَتَأَوَّلُوا الْأَحَادِيثَ الواردة عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ، وَتَأَكُّدِ حَقِّ الضَّيْفِ كَحَدِيثِ : " غُسْلِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " أَيْ : مُتَأَكِّدُ الِاسْتِحْبَابِ ، وَتَأَوَّلَهَا الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُ عَلَى الْمُضْطَرِّ .ا.هـ ( [3] ) ؛ أي : قَدْ تَتَعَيَّن الضِّيَافَة لِمَنْ اِجْتَازَ مُحْتَاجًا وَخِيفَ عَلَيْهِ ؛ قال ابن العربي في ( أحكام القرآن ) : وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّيْفَ كَرِيمٌ ، وَالضِّيَافَةَ كَرَامَةٌ ، فَإِنْ كَانَ عَدِيمًا فَهِيَ فَرِيضَةٌ .ا.هـ . وقال ابن حجر - رحمه الله : ثُمَّ الْأَمْر بِالْإِكْرَامِ يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاص وَالْأَحْوَال ، فَقَدْ يَكُون فَرْض عَيْن ، وَقَدْ يَكُون فَرْض كِفَايَة ، وَقَدْ يَكُون مُسْتَحَبًّا ، وَيَجْمَع الْجَمِيعُ أَنَّهُ مِنْ مَكَارِم الْأَخْلَاق ( [4] ) .
قال الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : وَالْحَقُّ وُجُوبُ الضِّيَافَةِ لِأُمُورٍ :
الْأَوَّلُ : إبَاحَةُ الْعُقُوبَةِ بِأَخْذِ الْمَالِ لِمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي غَيْرِ وَاجِبٍ .
وَالثَّانِي : التَّأْكِيدُ الْبَالِغُ بِجْعَلِ ذَلِكَ فَرْعَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَيُفِيدُ أَنَّ فِعْلَ خِلَافِهِ فِعْلُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ فُرُوعَ الْإِيمَانِ مَأْمُورٌ بِهَا ، ثُمَّ تَعْلِيقُ ذَلِكَ بِالْإِكْرَامِ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الضِّيَافَةِ ، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى لُزُومِهَا بِالْأَوْلَى .
وَالثَّالِثُ : قَوْلُهُ : " فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ " فَإِنَّهُ صَرِيحٌ أَنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ غَيْرُ صَدَقَةٍ ، بَلْ وَاجِبٌ شَرْعًا .
وَالرَّابِعُ : قَوْلُهُ e : " لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ وَاجِبٌ " فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالْوُجُوبِ لَمْ يَأْتِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَأْوِيلِهِ .
وَالْخَامِسُ : قَوْلُهُ e فِي حَدِيثِ الْمِقْدَامِ : " فَإِنَّ نَصْرَهُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذَا وُجُوبُ النُّصْرَةِ ، وَذَلِكَ فَرْعُ وُجُوبِ الضِّيَافَةِ ( [5] ) .ا.هـ .
قلت : والذي تؤيده ظواهر الأدلة ما رجحه الشوكاني - رحمه الله ، والمراد بقوله e : " فَإِنَّ نَصْرَهُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " أي : يجب على كل مسلم - علم بذلك - أن ينصر الضيف بأن يسعى في الإتيان بحق ليلة الضيف ممن لم يقم بحق الضيافة ؛ والعلم عند الله تعالى .


[1] - أحمد : 4 / 130 ، وأبو داود ( 3750 ) ، وابن ماجة ( 3677 ) .

[2] - البخاري ( 2461 ، 6137 ) ، ومسلم ( 1727 ) .

[3] - انظر ( الاستذكار ) : 8 : 366 ، 367 ؛ وشرح مسلم للنووي : 2 / 18 ، 12 / 30 ، 31 .

[4] - انظر فتح الباري : 10 / 446 .

[5] - انظر نيل الأوطار : 9 / 38 ( دار الجيل – بيروت ) ، باختصار .
 
فائدة :
قال ابن رجب - رحمه الله : وأما في ما هو واجب - وهو اليوم والليلة - فينبني على أنَّه هل تجب الضيافة على من لا يجد شيئًا ، أم لا تجب إلا على من وجد ما يضيف به ؟ فإنْ قيل : إنَّها لا تجب إلا على من يجد ما يضيف به - وهو قولُ طائفةٍ من أهلِ الحديث ، منهم : حُميدُ بنُ زنجويه - لم يحل للضيف أنْ يستضيف من هُوَ عاجز عن ضيافته ؛ وقد رُوِيَ من حديث سلمان قال : نهانا رسولُ اللهِ e أنْ نتكلَّفَ للضيفِ ما ليسَ عندنا ؛ فإذا نهي المضيف أنْ يتكلَّفَ للضيف ما ليس عنده دلَّ على أنَّه لا تَجِبُ عليه المواساةُ للضيف إلا مما عنده ، فإذا لم يكن عنده فَضلٌ لم يلزمه شيءٌ ، وأما إذا آثَرَ على نفسه ، كما فعل الأنصاريُّ الذي نزل فيه : ] وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [ فذلك مقامُ فضلٍ ؛ ولو علم الضيف أنَّهم لا يُضيفونه إلا بقوتِهم وقوت صبيانهم ، وأنَّ الصبية يتأذَّوْنَ بذلك ، لم يجز له استضافتُهم حينئذ عملاً بقوله e : " ولا يَحِلُّ له أنْ يُقيمَ عندَه حتَّى يُحرجه " ؛ وأيضًا فالضيافة نفقة واجبة ، فلا تجب إلا على مَنْ عنده فضلٌ عن قوته وقوتِ عياله ، كنفقة الأقارب ، وزكاةِ الفطر ( [1] ) .ا.هـ .

[1] - انظر جامع العلوم والحكم ، حديث رقم ( 15 ) .
 
مدة الضيافة

في الصحيحين عن أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ t قَالَ : سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ e فَقَالَ : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ " قَالَ : وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ ؛ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ " ( [1] ) ؛ وروى أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " الضِّيَافَةُ ثَلَاثٌ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ " ( [2] ) ؛ وروى أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ : " حَقُّ الضِّيَافَةِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ ، فَمَا أَصَابَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ " ( [3] ) .
فقوله e : " فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ" أي : بالبشر في وجهه ، وطيب الحديث معه ، وإحضار المتيسر ، وَتَعْجِيلِ قِرَاهُ ، وَالْقِيَامِ بِنَفْسِهِ فِي خِدْمَته ؛ وغير ذلك مما سيأتي بيانه إن شاء الله ؛ وقوله : " جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَة " أَيْ : يُكْرَم جَائِزَته يَوْمًا وَلَيْلَة ،
وَالضِّيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام ، فِمَا بَعْد ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَة " قَالَ ابن الأثير فِي ( النِّهَايَة ) : أَيْ : يُضَاف ثَلَاثَة أَيَّام ، فَيَتَكَلَّف لَهُ فِي الْيَوْم الْأَوَّل مَا اِتَّسَعَ لَهُ مِنْ بِرٍّ وَإِلْطَاف ، وَيُقَدِّم لَهُ فِي الْيَوْم الثَّانِي وَالثَّالِث مَا حَضَرَ ، وَلَا يَزِيد عَلَى عَادَته ؛ ثُمَّ يُعْطِيه مَا يَجُوز بِهِ مَسَافَة يَوْم وَلَيْلَة ، وَتُسَمَّى الْجِيزَة ، وَهُوَ قَدْر مَا يَجُوز بِهِ الْمُسَافِر مِنْ مَنْهَل إِلَى مَنْهَل ؛ فما كان بعد ذلك صَدَقةٌ ومعروف , إن شاء فَعَل وإن شاء ترَك ( [4] ) ؛وروى ابن أبي شيبة والطبراني عَنْ نَافِعٍ قَالَ : نَزَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى قَوْمٍ فَلَمَّا مَضَتْ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ , قَالَ : يَا نَافِعُ , أَنْفِقْ عَلَيْنَا مِنْ مَالِنَا ، فَلا حَاجَةَ لَنَا أَنْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْنَا ( [5] ) .


[1] - رواه أحمد : 4 / 31 ، والبخاري ( 6019 ) ، ومسلم ( 48 ) ، والترمذي ( 1967 ) .

[2]- أحمد : 3 / 37 ، وتمام في فوائده ( 165 ) عن عبد الرزاق ، وهو في مصنفه ( 20528 ) بلفظ : " حق الضيافة " .

[3]- أخرجه أحمد : 2 / 510 ، 534 ، والبُخاري في ( الأدب المفرد ) رقم 742 ، وأبو داود ( 3749 ) .

[4] - انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ( مادة : ج و ز ) ، ونق نحوه ابن حجر في ( فتح الباري : 10 / 533 ) عن أبي عبيد .

[5] - ابن أبي شيبة ( 33477 ) ، والطبراني في الكبير : 12 / 268 ( 13075 ) ، وأبو نعيم في الحلية : 1 / 165 ؛ وذكره ابن رجب في ( جامع العلوم ) عند شرح الحديث الخامس عشر بنحوه .
 
أدبٌ للضيف
وكما أن للمضيف آدابًا تتعلق به ، فللضيف أدب يتعلق به ، ولابد أن يتحلى به ، إذ هو واجبٌ عليه ، وهو في قوله e : " وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ " الثواء : الإقامة بالمكان ؛ وأصل الحرج الضيق ، وإنما كره له المقام عنده بعد الثلاثة لئلا يضيق صدره بمقامه ، فتكون الصدقة منه على وجه المنِّ والأذى ، فيبطل أجره ، قال الله تعالى : ] لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [ [ البقرة : 264 ] ؛ وفِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ : " حَتَّى يُؤَثِّمهُ " أَيْ : يُوقِعهُ فِي الْإِثْم ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَغْتَابهُ لِطُولِ مَقَامه ، أَوْ يَعْرِض لَهُ بِمَا يُؤْذِيه ، أَوْ يَظُنّ بِهِ ظَنًّا سَيِّئًا ؛ وَهَذَا كُلّه مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ تَكُنْ الْإِقَامَة بِاخْتِيَارِ صَاحِب الْمَنْزِل بِأَنْ يَطْلُب مِنْهُ الزِّيَادَة فِي الْإِقَامَة ، أَوْ يَغْلِب عَلَى ظَنّه أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ ، وَهُوَ مُسْتَفَاد مِنْ قَوْله : " حَتَّى يُحْرِجهُ " لِأَنَّ مَفْهُومه إِذَا اِرْتَفَعَ الْحَرَج أَنَّ ذَلِكَ يَجُوز ؛ وفِي رِوَايَة عِنْدَ أَحْمَد ومسلم عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ : قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَيْفَ يُؤْثِمُهُ ؟ قَالَ : " يُقِيمُ عِنْدَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ بِهِ " ( [1] ) .
وهذا أدب عظيم يجب على الضيف أن يتأدب به مع من نزل عنده ، حتى لا يحرجه أو يوقعه في الإثم .


[1] - انظر شرح مسلم للنووي : 12 / 31 ، وفتح الباري : 10 / 533 ، 534.
 
الأدب مع الضيفان

روى أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ t عَنْ النَّبِيِّ e أَنَّهُ قَالَ : " لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُضِيفُ " ( [1] ) ، أي : فيمن لا يستقبل ضيوفًا ، ويقوم على ضيافتهم ؛ وفي ذلك بيان لفضل الضيافة ، وذم من لا يكرم ضيفه .
وفي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ t أنَّ رَسُولُ اللَّهِ e قَالَ : " .. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ "( [2] ) ؛ قِيلَ : إِكْرَامُ الضَّيْفِ بِحُسْنِ الْبِشْرِ ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ ، وَطِيبِ الْكَلَامِ ، وَإِظْهَارِ السُّرُورِ ، وَالْكَوْنِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ، وَرُؤْيَةِ فَضْلِهِ ، وَاعْتِقَادِ الْمِنَّةِ لَهُ حَيْثُ أَكْرَمَهُ بِدُخُولِ مَنْزِلِهِ ، وَتَنَاوُلِ طَعَامِهِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ :

مَنْ دَعَانَا فَأَبَيْنَا ... فَلَهُ الْفَضْلُ عَلَيْنَا


فَإِذَا نَحْنُ أَتَيْنَا ... رَجَعَ الْفَضْلُ إلَيْنَا

وَالْإِطْعَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؛ فِي الْأَوَّلِ بِمَقْدُورِهِ وَمَيْسُورِهِ ، وَالْبَاقِي بِمَا حَضَرَهُ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ ، وَلِئَلَّا يَثْقُلَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَفْسِهِ ، وَبَعْدَ الثَّلَاثَةِ يُعَدُّ مِنْ الصَّدَقَاتِ إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِلَّا فَلَا .


[1] - رواه أحمد : 4 / 155 ، والبيهقي في ( الشعب ) رقم ( 9588 ) ، وصححه الألباني في الصحيحة ( 2434 ) .

[2] - البخاري ( 6018 ) ، ومسلم ( 47 ) .
 
حفظ الضيف من أن يؤذيه أحد
هذا من الأدب الذي قرره القرآن ، ذلك لأن إيذاء الضيف إيذاء لمضيفه ، فالضيافة كالجوار ، والضيف كالمستجير ، وقد قال الله تعالى على لسان لوط e : ] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [ [ هود : 78 ] ؛ أي : ولا تهينوني ولا تفضحوني ، من الخزي ؛ أو : ولا تخجلوني ، من الخزاية وهي الحياء ] فِي ضَيْفِي [ أي : في حق ضيوفي ، فإنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزي الرجل ، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة ؛ ولذا قَالَ : ] إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي فَلا تَفْضَحُونِ [ [ الحجر : 68 ] ؛ أي : لا تجعلوني مفضوحًا مخزيًا عند ضيفي ، إذ يلحقهم أذى في ضيافتي ، لأنَّ الضيافة جوار عند ربِّ المنزل ، فإذا لحقت الضيف إهانة كانت عارًا على ربِّ المنزل .
 
عدم التكلف

لم يجعل الإسلام فيما أمر به أهله مشقة أو حرجًا للقيام به ، ومن ذلك أنه لا يجب على المضيف التكلف لضيفه بما لا يملك ، بل إن كرامة الضيف تعجيل التقديم ، وكرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول ، وإنما مكارم الأخلاق قد تدفع البعض للتكلف للضيف ، فلا ينبغي أن يكون ذلك خارجًا عن نطاق الوسع والطاقة ؛ وإنما نهى النبي e عن التكلف للضيف حتى يتمكن كل مسلم من القيام بحق الضيف بقدر طاقته ، ولا يتأذى أحد بنزول ضيف به ؛ وهذا من الأدب العظيم الذي يؤدبنا به النبي e ؛ روى أحمد والطبراني أَنَّ سَلْمَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَدَعَا لَهُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ ، وَقَالَ : لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e نَهَانَا - أَوْ : لَوْلَا أَنَّا نُهِينَا - أَنْ يَتَكَلَّفَ أَحَدُنَا لِصَاحِبِهِ ، لَتَكَلَّفْنَا لَكَ ؛ وفي رواية للطبراني : نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ e أَنَّ نَتَكَلَّفَ لِلضَّيْفِ ( [1] ) ؛ وروى الطبراني والحاكم وصححه عَنْ شَقِيقِ بن سَلَمَةَ قَالَ : ذَهَبْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ ، فَقَالَ سَلْمَانُ : لَوْلا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e نَهَانَا عَنِ التَّكَلُّفِ لَتَكَلَّفْتُ لَكَ ؛ ثُمَّ جَاءَ بِخُبْزٍ وَمِلْحٍ ، فَقَالَ صَاحِبِي : لَوْ كَانَ فِي مِلْحِنَا صَعْتَرٌ ! فَبَعَثَ سَلْمَانُ بِمَطْهَرَتِهِ فَرَهَنَهَا ، ثُمَّ جَاءَ بِصَعْتَرٍ ، فَلَمَّا أَكَلْنَاهُ ، قَالَ صَاحِبِي : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَنَّعَنَا بِمَا رَزَقَنَا ، فَقَالَ سَلْمَانُ t : لَوْ قَنَعْتَ بِمَا رَزَقَكَ اللَّهُ لَمْ تَكُنْ مَطْهَرَتِي مَرْهُونَةً ( [2] ) .
وفي ذلك أن من أخلاق المؤمن الاهتمام إذا نزل به ضيف ، حتى لو لم يكن عنده ما يكرمه به ، لأن الضيافة من أخلاق الكرام ؛ ولم يمنعه ذلك من أن ينصحه بقوله : ( لَوْ قَنَعْتَ بِمَا رَزَقَكَ اللَّهُ لَمْ تَكُنْ مَطْهَرَتِي مَرْهُونَةً ) ، حتى إذا نزل بغيره لا يكلفه فوق طاقته .
وقد قام بذلك النبي e عمليًّا ، حتى لا يستنكف أحد من فعله ، ولا يستحيي أحد من تقديم ما عنده ؛ فقد روى أحمد ومسلم عن جَابِرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ t قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا فِي دَارِي فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ e فَأَشَارَ إِلَيَّ ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَى بَعْضَ حُجَرِ نِسَائِهِ ، فَدَخَلَ ثُمَّ أَذِنَ لِي ، فَدَخَلْتُ الْحِجَابَ عَلَيْهَا - وفي رواية أحمد : فَدَخَلْتُ وَعَلَيْهَا الْحِجَابُ - فَقَالَ : " هَلْ مِنْ غَدَاءٍ ؟ " فَقَالُوا : " نَعَمْ " فَأُتِيَ بِثَلَاثَةِ أَقْرِصَةٍ ، فَوُضِعْنَ عَلَى نَبِيٍّ ( [3] ) ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ e قُرْصًا فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَأَخَذَ قُرْصًا آخَرَ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيَّ ، ثُمَّ أَخَذَ الثَّالِثَ فَكَسَرَهُ بِاثْنَيْنِ ، فَجَعَلَ نِصْفَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَنِصْفَهُ بَيْنَ يَدَيَّ ، ثُمَّ قَالَ : " هَلْ مِنْ أُدُمٍ " قَالُوا : لَا ، إِلَّا شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ ؛ قَالَ : " هَاتُوهُ ، فَنِعْمَ الْأُدُمُ هُوَ " ( [4] ) ، وفي رواية " نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ " ([5] ) ؛ وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ : " نِعْمَ الْأُدُمُ - أَوْ الْإِدَامُ - الْخَلُّ " ( [6] ) ؛ وظاهر من حديث جابر عدم التكلف ، وعدم الاستحياء من تقديم ما هو موجود ، وإن كان مما يحتقره البعض ، وفي قول النبي e : " نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ " ، الْإِدَام مَا يُؤْتَدَم بِهِ ، أي : يؤكل مع الخبز أو الأرز ؛ قال النووي - رحمه الله : فِي الْحَدِيث فَضِيلَة الْخَلّ ، وَأَنَّهُ يُسَمَّى أُدُمًا ، وَأَنَّهُ أُدُم فَاضِل جَيِّد ( [7] ) ؛ وفيه بمفهومه عدم احتقار نعمة الله Y .
قال ابن بطال في ( شرح البخاري ) بعد أن أورد حديث سلمان المتقدم : فدل هذا الحديث أن المرء إذا أضافه ضيف أن الحق عليه أن يأتيه من الطعام بما حضره ، وأن لا يتكلف له بما ليس عنده ، وإن كان ما حضره من ذلك دون ما يراه للضيف أهلا ؛ لأن في تكلفة ما ليس عنده معان مكروهة :
منها : حبس الضيف عن القرى ، ولعله أن يكون جائعًا فيضر به .
ومنها : أن يكون مستعجلاً في سفره فيقطعه عنه بحبسه إياه عن إحضاره ما حضره من الطعام إلى إصلاح ما لم يحضر .
ومنها : احتقاره ما عظم الله قدره من الطعام .
ومنها : خلافه أمر رسول الله e وإتيانه ما قد نهى عنه من التكلف .ا.هـ .
وروى أبو نعيم في (حلية الأولياء ) عن أيوب قال : كان محمد بن سيرين يقول : لَا تُكْرِمْ أَخَاكَ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ ؛ ورواه البيهقي في ( الشعب ) بلفظ : لا تكرم أخاك بما يكره ( [8] ) ؛ وفسِّر ذلك بأن تأتيه بحاضر ما عندك ، ولا تحبسه ، فعسى أن يشق ذلك عليه فيكرهه ؛ وروى البيهقي عن ميمون بن مهران : إذا نزل بك ضيف فلا تكلف له ما لا تطيق ، وأطعمه من طعام أهلك ، والقه بوجه طلق ، فإنك إن تكلفت له ما لا تطيق أوشك أن تلقاه بوجه يكرهه ( [9] ) .
فمن الأدب مع الضيف أن يُعجَّل قراه ، فيُقَدم الموجود الميسر في الحال ، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة ، ولا يتكلف ما يضر به ؛ ويعذر من لا سعة له في ما لا يملكه ، وقد قيل : الكرم شيء هين : وجه باش وكلام لين ؛ وقيل : الجود بذل الموجود ؛ وقال بكر بن عبد الله المزني : إذا أتاك ضيف فلا تنتظر به ما ليس عندك ، وتمنعه ما عندك ، قدم إليه ما حضر ، وانتظر به ما بعد ذلك ما تريد من إكرامه ( [10] ) .
وروى البيهقي عن محمد بن عباد قال : نزل ضيف بأعرابية ، فقدمت إليه خبزًا يابسًا ولبنًا حامضًا ، ولم تكن تملك غيرهما ، فلامها ، فقالت :

ألَمْ تَرَ أَنَّ المَرْءَ مِن ضِيقِ عَيْشِهِ ... يُلامُ على مَعْرُوفِهِ وهُوَ مُحْسْنُ

وما كان مِنْ بُخْلٍ ولا مِن ضراعَةٍ ... ولكِنْ كما يَزْمُرُ له الدَّهْرُ يَزْفِنُ ( [11] )

[1]- رواه أحمد : 5 / 441 ، والطبراني في الكبير : 6 / 235 ( 6083 ، 6084 ) ؛ وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد:8/179): رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط بأسانيد ، وأحد أسانيد الكبير رجاله رجال الصحيح .ا.هـ .

[2]- رواه الطبراني في الكبير : 6 / 235 ( 6085 ) ، والحاكم ( 7146 ) وصححه ، وقال الهيثميفي(مجمعالزوائد:8/179): رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح ، غير محمد بن منصور الطوسي ، وهو ثقة .

[3]- قوله : ( فَوُضِعْنَ عَلَى نَبِيٍّ ) أي : على شيء مرتفِع عن الأرض ، من النَّباوةِ والنَّبْوة : الشَّرَفِ المُرتَفع من الأرض .

[4]- أحمد : 3 / 379 ، ومسلم ( 2052 ) .

[5]- رواه وأبو داود ( 3820 ) ، والترمذي ( 1842 ) ، وابن ماجة ( 3317 ) .

[6]- رواه مسلم ( 2051 ) ، والترمذي ( 1840 ) ، وابن ماجة ( 3316 ) .

[7]- انظر شرح مسلم 14 / 6 .

[8]- حلية الأولياء : 2 / 264 ، وشعب الإيمان ( 8526 ) .

[9]- شعب الإيمان للبيهقي ( 9610 ) .

[10] - رواه ابن أبي الدنيا في ( قرى الضيف ) رقم ( 61 ) ، ,البيهقي في الشعب ( 9605 ) .

[11]- شعب الإيمان للبيهقي ( 9612 ) ؛ الزفن : الرقص واللعب ، والمراد إن وسع عليه عمل بذلك .
 
الجيزة
الجيزة هي ما يعطى للضيف ليعان به على سفره ؛ وهذا من الأدب الراقي مع الضيف ، وقد صح عن النبي e : " وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ " متفق عليه ( [1] ) ، قال النووي : قَالَ الْعُلَمَاء : هَذَا أَمْر مِنْهُ e بِإِجَازَةِ الْوُفُود وَضِيَافَتهمْ وَإِكْرَامهمْ تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ , وَتَرْغِيبًا لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ وَنَحْوهمْ ، وَإِعَانَة عَلَى سَفَرهمْ ؛ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : قَالَ الْعُلَمَاء : سَوَاء كَانَ الْوَفْد مُسْلِمِينَ أَوْ كُفَّارًا ; لِأَنَّ الْكَافِر إِنَّمَا يَفِد غَالِبًا فِيمَا يَتَعَلَّق بِمَصَالِحِنَا وَمَصَالِحهمْ ( [2] ) ؛ قَالَ أَبُو عُبَيْد : يَتَكَلَّف لَهُ فِي الْيَوْم الْأَوَّل بِالْبِرِّ وَالْإِلْطَاف , وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِث : يُقَدِّم لَهُ مَا حَضَرَهُ وَلَا يَزِيدهُ عَلَى عَادَته , ثُمَّ يُعْطِيه مَا يَجُوز بِهِ مَسَافَة يَوْمٍ وَلَيْلَة وَتُسَمَّى الْجِيزَة , وَهِيَ قَدْر مَا يَجُوز بِهِ الْمُسَافِر مِنْ مَنْهَل إِلَى مَنْهَل , وَمِنْهُ الْحَدِيث الْآخَر " أَجِيزُوا الْوَفْد بِنَحْوِ مَا كُنْت أُجِيزهُمْ " ( [3] ) ؛ قال ابن حجر - رحمه الله : وَقَوْله : " أَجِيزُوا الْوَفْد " أَيْ : أَعْطَوْهُمْ ، وَالْجَائِزَة الْعَطِيَّة ، وَقِيلَ أَصْله أَنَّ نَاسًا وَفَدُوا عَلَى بَعْض الْمُلُوك وَهُوَ قَائِم عَلَى قَنْطَرَة ، فَقَالَ : أَجِيزُوهُمْ ، فَصَارُوا يُعْطُونَ الرَّجُل وَيُطْلِقُونَهُ فَيَجُوز عَلَى الْقَنْطَرَة مُتَوَجِّهًا ، فَسُمِّيَتْ عَطِيَّة مَنْ يَقْدَم عَلَى الْكَبِير جَائِزَة ؛ وَقَوْله e : " بِنَحْوِ مَا كُنْت أُجِيزهُمْ " أَيْ بِقَرِيبٍ مِنْهُ ، وَكَانَتْ جَائِزَة الْوَاحِد عَلَى عَهْده e : وُقِيَّة مِنْ فِضَّة ، وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ( [4] ) ؛ وهذه الجائزة إنما هي حسب قدرة المضيف وسعته ، وهي مستحبة على كل حال ، إذ هي من مكارم الأخلاق .

[1] - البخاري ( 3053 ) ، ومسلم ( 1637 ) عن ابن عباس .

[2] - انظر شرح مسلم للنووي : 11 / 94 .

[3] - نقلا عن فتح الباري : 10 / 533 .

[4] - انظر فتح الباري : 8 / 134 ، 135 ؛ والأربعون درهما تساوي تقريبًا مائة وعشرين جرامًا .
 
كراهة الغضب عند الضيف
وهذا من الأدب الراقي الذي يُراعى فيه الضيف ومشاعره ، فلربما يظن الضيف عند غضب مضيفه أنه يقصد أن يفعل ذلك ليضجره فينصرف ، أو أن الضيف يغضب لغضب المضيف فيتابعه على ما غضب عليه ، وبالتالي لا يقام بحق الضيافة ؛ وقد بوب البخاري - رحمه الله - ( بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْغَضَبِ وَالْجَزَعِ عِنْدَ الضَّيْفِ ) ؛ ثم روى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَضَيَّفَ رَهْطًا ، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ : دُونَكَ أَضْيَافَكَ ! فَإِنِّي مُنْطَلِقٌ إِلَى النَّبِيِّ e ، فَافْرُغْ مِنْ قِرَاهُمْ قَبْلَ أَنْ أَجِيءَ ؛ فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَتَاهُمْ بِمَا عِنْدَهُ ، فَقَالَ : اطْعَمُوا ، فَقَالُوا : أَيْنَ رَبُّ مَنْزِلِنَا ؟ قَالَ : اطْعَمُوا ، قَالُوا : مَا نَحْنُ بِآكِلِينَ حَتَّى يَجِيءَ رَبُّ مَنْزِلِنَا ! قَالَ : اقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ ، فَإِنَّهُ إِنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا لَنَلْقَيَنَّ مِنْهُ [ أَيْ : شَرًّا ] ، فَأَبَوْا ؛ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَجِدُ [ أَيْ : يَغْضَب ] عَلَيَّ ، فَلَمَّا جَاءَ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ ، فَقَالَ : مَا صَنَعْتُمْ ؟ فَأَخْبَرُوهُ ، فَقَالَ : يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ ! فَسَكَتُّ ، ثُمَّ قَالَ : يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ ! فَسَكَتُّ ، فَقَالَ : يَا غُنْثَرُ ( [1] ) ، أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوْتِي لَمَّا جِئْتَ ؛ فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ : سَلْ أَضْيَافَكَ ، فَقَالُوا : صَدَقَ أَتَانَا بِهِ ، قَالَ : فَإِنَّمَا انْتَظَرْتُمُونِي ! وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ ! فَقَالَ الْآخَرُونَ : وَاللَّهِ لَا نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ ! قَالَ : لَمْ أَرَ فِي الشَّرِّ كَاللَّيْلَةِ ؛ وَيْلَكُمْ ، مَا أَنْتُمْ ، لِمَ لَا تَقْبَلُونَ عَنَّا قِرَاكُمْ ؟! هَاتِ طَعَامَكَ ، فَجَاءَهُ فَوَضَعَ يَدَهُ فَقَالَ : بِاسْمِ اللَّهِ ؛ الْأُولَى لِلشَّيْطَانِ ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا ( [2] ) ، وَقَوْله : ( الْأُولَى لِلشَّيْطَانِ ) ، أَيْ : الْحَالَة الَّتِي غَضِبَ فِيهِا وَحَلَفَ . قال ابن بطال في (شرح البخاري ) : فقه هذا الحديث أنه ينبغي استعمال أحسن الأخلاق للضيف وترك الضجر لكي تنبسط نفسه ، ولا تنقبض وتسقط المؤنة والرقبة خشية أن يظن أن الضجر والغضب من أجله ، فذلك من أدب الإسلام وما يثبت المودة ، ألا ترى أن الصديق لما رأى إباءة أضيافه من الأكل حتى يأكل معهم آثر الأكل معهم وحنَّثَ نفسه ، وإنما حمله على الحلف - والله أعلم - أنه استنقص ابنه وأهله في القيام ببر أضيافه ، واشتد عليه تأخير عشائهم إلى ذلك الوقت من الليل ، فلحقه ما يلحق البشر من الغضب ، ثم لم يسعه مخالفة أضيافه لما أبوا من الأكل دونه ، فرأى أن من تمام برهم إسعاف رغبتهم وترك التمادي في الغضب ، وأخذ في ذلك بقوله u : " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " .ا.هـ .
وفي هذا الحديث مما يتعلق بالأدب مع الضيفان غير العنوان :
1 - جَوَاز ذَهَاب مَنْ عِنْده ضِيفَان إِلَى أَشْغَاله وَمَصَالِحه إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِأُمُورِهِمْ , وَيَسُدُّ مَسَدَّه كَمَا كَانَ لِأَبِي بَكْر هُنَا عَبْد الرَّحْمَن رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا .
2 - قَوْله فِي الْأَضْيَاف أَنَّهُمْ اِمْتَنَعُوا مِنْ الْأَكْل حَتَّى يَحْضُر أَبُو بَكْر t ؛ هَذَا فَعَلُوهُ أَدَبًا وَرِفْقًا بِأَبِي بَكْر فِيمَا ظَنُّوهُ ; لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ لَا يَحْصُل لَهُ عَشَاء مِنْ عَشَائِهِمْ ؛ قَالَ الْعُلَمَاء : وَالصَّوَاب لِلضَّيْفِ أَنْ لَا يَمْتَنِع مِمَّا أَرَادَهُ الْمُضِيف مِنْ تَعْجِيل طَعَام وَتَكْثِيره وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أُمُوره , إِلَّا أَنْ يَعْلَم أَنَّهُ يَتَكَلَّف مَا يَشُقّ عَلَيْهِ حَيَاء مِنْهُ فَيَمْنَعهُ بِرِفْقٍ , وَمَتَى شَكَّ لَمْ يَعْتَرِض عَلَيْهِ , وَلَمْ يَمْتَنِع , فَقَدْ يَكُون لِلْمُضِيفِ عُذْر أَوْ غَرَض فِي ذَلِكَ لَا يُمْكِنهُ إِظْهَاره , فَتَلْحَقهُ الْمَشَقَّة بِمُخَالَفَةِ الْأَضْيَاف كَمَا جَرَى فِي قِصَّة أَبِي بَكْر t .
3 - وَفِيهِ حَمْل الْمُضِيفِ الْمَشَقَّة عَلَى نَفْسه فِي إِكْرَام ضِيفَانه , وَإِذَا تَعَارَضَ حِنْثه وَحِنْثهمْ حَنَّثَ نَفْسه لِأَنَّ حَقّهمْ عَلَيْهِ آكَد ؛ فَاسْتَعْمَلَ الصِّدِّيق مَكَارِم الْأَخْلَاق فَحَنَّثَ نَفْسه زِيَادَة فِي إِكْرَام ضِيفَانه لِيَحْصُل مَقْصُوده مِنْ أَكْلهمْ , وَلِكَوْنِهِ أَكْثَرَ قُدْرَة مِنْهُمْ عَلَى الْكَفَّارَة .

[1] - قِيلَ : هُوَ الثَّقِيل الْوَخِم , وَقِيلَ : هُوَ الْجَاهِل مَأْخُوذ مِنْ الْغَثَارَة بِفَتْحِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة ، وَهِيَ الْجَهْل ؛ وَالنُّون فِيهِ زَائِدَة , وَقِيلَ : هُوَ السَّفِيه , وَقِيلَ : هُوَ اللَّئِيم مَأْخُوذ مِنْ الْغَثَر , وَهُوَ اللُّؤْم .

[2] - البخاري ( 6140 ) ورواه بألفاظ أخر ( 602 ، 3581 ، 6141 ) ، ورواه مسلم ( 2057 ) .
 
الضيافة والمكافأة

يقرر النبي e أن الضيافة حق للضيف ليس على سبيل المكافأة والمجازاة ، بمعنى أن من ضيفني أضيفه ، ومن أكرمني أكرمه ، وإنما من نزل ضيفًا ، فلابد أن يؤدى إليه حق الضيافة ؛ بصرف النظر عن كون الضيف يؤدي ذلك للمضيف إن نزل به ضيفًا أو لا يؤديه ؛ ففي حديث مالك بن نضلة t قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا نَزَلْتُ بِهِ فَلَمْ يُكْرِمْنِي وَلَمْ يَقْرِنِي ، ثُمَّ نَزَلَ بِي أَجْزِيهِ بِمَا صَنَعَ ، أَمْ أَقْرِيهِ ؟ قَالَ : " اقْرِهِ " ( [1] ) ؛ ومعنى كلام ابن نضلة t : أُعَامِلُهُ إذَا مَرَّ بِي بِمِثْلِ مَاعَامَلَنِي بِهِ، أم أقرب له ما أقري به الضيف ؟ فقال له النبي e : " أَقْرِهِ " .


[1] - أحمد : 3 / 473 ، والطبراني في الكبير : 19 / 276 ، 277 ، وابن حبان ( 3410 ، 5416 ) ؛ والحاكم ( 7364 ) وصححه .
 
مع أبي الضيفان

أبو الضيفان هو خليل الرحمن إبراهيم u ، فهو أول من ضيف الضيف ، وقد أثنى الله - سبحانه وتعالى - على إبراهيم e في إكرام ضيفه من الملائكة حيث فقال : ] هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ . فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [ [ الذاريات : 24 ، 27 ] ؛ وهؤلاء الأضياف هم الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى ببشارة إبراهيم ، وإهلاك قوم لوط ؛ فمروا بإبراهيم e أولا ، وجاءوه في صورة بشر ، فأسرع بإكرامهم ، وأدى إليهم حق الضيافة على أكمله ؛ ويستفاد من قصة إبراهيم e مع ضيفه هؤلاء أشياء من آداب الضيافة :
منها : تعجيل القرى ، لقوله : ] فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [ .
ومنها : كون القرى من أحسن ما عنده ] بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [ ، لأنهم ذكروا أن الذي كان عنده البقر ، وأطيبه لحمًا الفتى السمين المنضج .
ومنها : تقريب الطعام إلى الضيف .
ومنها : خدمة الضيف بنفسه .
ومنها : ملاطفتهم بالكلام بغاية الرفق ، ] أَلا تَأْكُلُونَ [ .
ومنها : أن للمضيف أن ينظر في ضيفه هل يأكل أم لا ؟ وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة نظر لا بتحديده ، حتى لا يحرج ضيفه ؛ وفي ( العقد الفريد ) لابن عبد ربه - رحمه الله : حضر أعرابيُّ سُفرةَ هشام بن عبد الملك ، فبَينا هو يأكل معه إذ تعلَّقتَ شَعرةٌ في لُقمة الأعرابيّ ، فقال له هشام : عندك شعرة في لُقمتك يا أعرابيّ ؟ فقال : وإنك لتُلاحظني مُلاحظة من يَرى الشَّعرة في لُقمتي ، واللّه لا أكلت عندك أبدًا ؛ ثم خرج وهو يقول :

وللَموتُ خيرٌ من زيارة باخل ... يُلاحظ أطرافَ الأكِيل على عَمْدِ

وقد أثنى الله U على إبراهيم e في هذه الآيات ثناء يظهرمنوجوهمتعددة:
أحدها أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون ، وهذا على أحد القولين : إنه إكرام إبراهيم لهم ، والثاني : إنهم المكرمون عند الله ، ولا تنافي بين القولين فالآية تدل على المعنيين .
الثاني : قوله تعالى : ] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ [ فلم يذكر استئذانهم ، ففي هذا دليل على أنه e كان قد عُرِفَ بإكرام الضيفان واعتياد قراهم ، فبقي منزله مضيفة مطروقًا لمن ورده ، لا يحتاج إلى الاستئذان ، بل استئذان الداخل دُخُولُهُ ، وهذا غاية ما يكون من الكرم .
الثالث : قوله لهم : ] سَلامٌ [ بالرفع ، وهم سلموا عليه بالنصب ، والسلام بالرفع أكمل ، فإنه يدل على الجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام ؛ والمنصوب يدل على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد ، فإبراهيم حياهم أحسن من تحيتهم ؛ فإن قولهم : ] سَلامًا [ يدل على : سلمنا سلاما ؛ وقوله : ] سَلامٌ [ أي : سلام عليكم .
الرابع : أنه حذف ( أنتم ) من قوله : ] قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [ ؛ فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفِّر الضيف لو قال : أنتم قوم منكرون ، فحَذْفُ المبتدأ هنا من ألطف الكلام .
الخامس : أنه بنى الفعل للمفعول ، وحذف فاعله ، فقال : ] مُنْكَرُونَ [ ، ولم يقل : ( إني أنكركم ) وهو أحسن في هذا المقام ، وأبعد من التنفير والمواجهة بالخشونة .
السادس : أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بنزلهم ؛ والروغان هو الذهاب في اختفاء ، لا يكاد يشعر به الضيف ؛ وهذا من كرم رب المنزل المضيف أن يذهب في اختفاء لا يشعر به الضيف فيشق عليه ويستحي ؛ فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام ، بخلاف من يقول لضيفه : مكانكم حتى آتيكم بالطعام ، ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه .
السابع : أنه ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة ؛ فدل على أن ذلك كان معدًّا عندهم مهيئًا للضيفان ، ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه أو غيرهم فيشتريه أو يستقرضه .
الثامن : قوله تعالى : ] فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [ دل على خدمته للضيف بنفسه ولم يقل : ( فأمر لهم ) ، بل هو الذي ذهب وجاء به بنفسه ، ولم يبعثه مع خادمه ؛ وهذا أبلغ في إكرام الضيف .
التاسع : أنه جاء بعجل كامل ، ولم يأت ببضعة منه ، وهذا من تمام كرمه e .
العاشر : أنه سمين لا هزيل ، ومعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم ، ومثله يتخذ للاقتناء والتربية فآثر به ضيفانه .
الحادي عشر : أنه قربه إليهم بنفسه ، ولم يأمر خادمه بذلك .
الثاني عشر : أنه قربه ، ولم يقربهم إليه ، وهذا أبلغ في الكرامة ، أن يجلس الضيف ثم يقرب الطعام إليه ، ويحمل إلى حضرته ، ولا يضع الطعام في ناحية ثم يأمر الضيف بأن يتقرب إليه .
الثالث عشر : أنه قال : ] أَلا تَأْكُلُونَ [ ، وهذا عرض وتلطف في القول ، وهو أحسن من قوله : كلوا ، أو مدوا أيديكم ؛ وهذا مما يعلم الناس بعقولهم حسنه ولطفه ، ولهذا يقولون : بسم الله ، أو : ألا تتصدق ، أو : ألا تجبر ، ونحو ذلك .
الرابع عشر : أنه إنما عرض عليهم الأكل لأنه رآهم لا يأكلون ، ولم يكن ضيوفه يحتاجون معه إلى الإذن في الأكل ، بل كان إذا قدم إليهم الطعام أكلوا ، وهؤلاء الضيوف لما امتنعوا من الأكل ، قال لهم : ] أَلا تَأْكُلُونَ [ ، ولهذا أوجس منهم خيفة ، أي : أحسها وأضمرها في نفسه ، ولم يبدها لهم ؛ وهو الوجه .
الخامس عشر : فإنهم لما امتنعوا من أكل طعامه خافم نهم ، ولم يظهر لهم ذلك ، فلما علمت الملائكة منه ذلك ، قالوا : لا تخف ، وبشروه بالغلام .
فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب ، وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم ، وكفى بهذه الآداب شرفًا وفخرًا ، فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين .ا.هـ ( [1] ) .
_____________
[1] - انظر ( جلاء الأفهام ) لابن القيم ص 272 : 274 بشيء من الاختصار .
 
الهمة إلى المعالي

تأبى بعض النفوس إلا أن تكون في القمة ، فهمتها عالية ، وطموحها دائمًا في الأسمى ، وإن كانت لا تملك من المال إلا الكفاف ، وقديمًا قال الشاعر :

وإذا كانت النفوس كبارًا ... تعبت في مرادها الأجسام

في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ t فَقَالَ : إِنِّي مَجْهُودٌ ( [1] ) ، فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ ، فَقَالَتْ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ ؛ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى ، فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ ، حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ : لَا ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَاعِنْدِي إِلَّا مَاءٌ ! فَقَالَ : " مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ " فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ [ أي : منزله ] ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ ؟ قَالَتْ : لَا ، إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي ؛ قَالَ : فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ ، فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فأَطْفِئِي السِّرَاجَ ، وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ ، فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ ؛ قَالَ : فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ e فَقَالَ : " قَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ " ، وفي رواية : أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ e ، فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ ، فَقُلْنَ : مَا مَعَنَا إِلَّا الْمَاءُ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا " فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : أَنَا ؛ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ : أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ e ، فَقَالَتْ : مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي ! فَقَالَ : هَيِّئِي طَعَامَكِ،وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً ؛ فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا ، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا ، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا ؛ ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ ، فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e ، فَقَالَ : " ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ أَوْ عَجِبَ مِنْ فَعَالِكُمَا " فَأَنْزَلَ اللَّهُ : ] وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [ ( [2] ) ؛ فَآثَرَ هُوَ وَامْرَأَته عَلَى أَنْفُسهمَا بِرِضَاهُمَا مَعَ حَاجَتهمَا وَخَصَاصَتهمَا , فَمَدَحَهُمَا اللَّه تَعَالَى , وَأَنْزَلَ فِيهِمَا : ] وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسهمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [ ؛ فَفِيهِ فَضِيلَة الْإِيثَار وَالْحَثّ عَلَيْهِ ؛ قال الطبري - رحمه الله : يقول تعالى ذكره : من وقاه الله شحَّ نفسه ] فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ المخلَّدون في الجنة ؛ والشحّ في كلام العرب : البخل ، ومنع الفضل من المال([3]) ؛ قال النووي - رحمه الله : هَذَا الْحَدِيث مُشْتَمِل عَلَى فَوَائِد كَثِيرَة , مِنْهَا مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيّ e وَأَهْل بَيْته مِنْ الزُّهْد فِي الدُّنْيَا ، وَالصَّبْر عَلَى الْجُوع ، وَضِيق حَال الدُّنْيَا .
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكَبِيرِ الْقَوْم أَنْ يَبْدَأ فِي مُوَاسَاة الضَّيْف وَمَنْ يَطْرُقهُمْ بِنَفْسِهِ ، فَيُوَاسِيه مِنْ مَاله أَوَّلًا بِمَا يَتَيَسَّر إِنْ أَمْكَنَهُ , ثُمَّ يَطْلُب لَهُ عَلَى سَبِيل التَّعَاوُن عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى مِنْ أَصْحَابه .
وَمِنْهَا الْمُوَاسَاة فِي حَال الشَّدَائِد .
وَمِنْهَا فَضِيلَة إِكْرَام الضَّيْف وَإِيثَاره .
وَمِنْهَا مَنْقَبَة لِهَذَا الْأَنْصَارِيّ وَامْرَأَته رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا .
وَمِنْهَا الِاحْتِيَال فِي إِكْرَام الضَّيْف إِذَا كَانَ يَمْتَنِع مِنْهُ رِفْقًا بِأَهْلِ الْمَنْزِل ، لِقَوْلِهِ : ( أَطْفِئِي السِّرَاج , وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُل ) , فَإِنَّهُ لَوْ رَأَى قِلَّة الطَّعَام , وَأَنَّهُمَا لَا يَأْكُلَانِ مَعَهُ لَامْتَنَعَ مِنْ الْأَكْل ( [4] ) .

[1] - قَوْله : ( إِنِّي مَجْهُود ) أَيْ : أَصَابَنِي الْجَهْد , وَهُوَ الْمَشَقَّة وَالْحَاجَة وَسُوء الْعَيْش وَالْجُوع .

[2] - البخاري ( 3798 ، 4889 ) ، ومسلم ( 2054 ) ، والترمذي ( 3304 ) ، والنسائي في الكبرى ( 11582 ) .

[3]- انظر تفسير الطبري عند الآية ( 9 ) من سورة الحشر .

[4] - انظر شرح مسلم للنووي : 14 / 12 .
 
من قصص قِرى الضيف
نذكر هنا قصتين من قصص قِرى الضيف ما يؤكد المعاني السابقة ، ويكون فيهما - أيضًا - التطبيق العملي الذي يستفيد منه القارئ .
ضيافة الأنصاري لرسول الله e وصاحبيه
في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ e ذَاتَ يَوْمٍ - أَوْ لَيْلَةٍ - فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَقَالَ : " مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ " قَالَا : الْجُوعُ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ قَالَ : " وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا ، قُومُوا " فَقَامُوا مَعَهُ ، فَأَتَى رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ ، قَالَتْ : مَرْحَبًا وَأَهْلًا ؛ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ e : " أَيْنَ فُلَانٌ ؟ " قَالَتْ : ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنْ الْمَاءِ ؛ إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e وَصَاحِبَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي ؛ قَالَ : فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ ، فَقَالَ : كُلُوا مِنْ هَذِهِ ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ [ السكين ] ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ [ ذَات اللَّبَن ] " فَذَبَحَ لَهُمْ ، فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ ، وَشَرِبُوا ؛ فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ ( [1] ) .
في الحديث من آداب الضيف : إِظْهَار الْبِشْر وَالْفَرَح بِالضَّيْفِ فِي وَجْهه ، ويظهر ذلك من قول امرأة الأنصاري : ( مَرْحَبًا وَأَهْلًا ) ، وهما كَلِمَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ لِلْعَرَبِ , وَمَعْنَاهُما : صَادَفْت رَحْبًا وَسَعَة وَأَهْلًا تَأْنَس بِهِمْ , كما يظهر - أيضًا - من قول الأنصاري : ( الْحَمْد لِلَّهِ مَا أَحَد الْيَوْم أَكْرَم ضَيْفًا مِنِّي ) ؛ فَفِيه اِسْتِحْبَاب إِكْرَام الضَّيْف وَإِظْهَار السُّرُور بِقُدُومِهِ , وَجَعْله أَهْلًا لِذَلِكَ , وَحَمْد اللَّه تَعَالَى , وَهُوَ يَسْمَع عَلَى حُصُول هَذِهِ النِّعْمَة , وَالثَّنَاء عَلَى الضَيْف إِنْ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ فِتْنَة , فَإِنْ خَافَ لَمْ يُثْنِ عَلَيْهِ فِي وَجْهه , وَهَذَا طَرِيق الْجَمْع بَيْن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة بِجَوَازِ ذَلِكَ وَمَنْعه .
2 - وَإِنَّمَا أَتَى بِهَذَا الْعِذْق الْمُلَوَّن لِيَكُونَ أَطْرَف , وَلْيَجْمَعُوا بَيْن أَكْل الْأَنْوَاع فَقَدْ يَطِيب لِبَعْضِهِمْ هَذَا وَلِبَعْضِهِمْ هَذَا .
3 - وَفِيهِ : دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب تَقْدِيم الْفَاكِهَة عَلَى الْخُبْز وَاللَّحْم وَغَيْرهمَا .
4 - وَفِيهِ اِسْتِحْبَاب الْمُبَادَرَة إِلَى الضَّيْف بِمَا تَيَسَّرَ , وَإِكْرَامه بَعْده بِطَعَامٍ يَصْنَعهُ لَهُ ، لَا سِيَّمَا إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنّه حَاجَته فِي الْحَال إِلَى الطَّعَام , وَقَدْ يَكُون شَدِيد الْحَاجَة إِلَى التَّعْجِيل وَقَدْ يَشُقّ عَلَيْهِ اِنْتِظَار مَا يَصْنَع لَهُ لِاسْتِعْجَالِهِ لِلِانْصِرَافِ .
5 - وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَة مِنْ السَّلَف التَّكَلُّف لِلضَّيْفِ , وَهُوَ مَحْمُول عَلَى مَا يَشُقّ عَلَى صَاحِب الْبَيْت مَشَقَّة ظَاهِرَة ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعهُ مِنْ الْإِخْلَاص وَكَمَال السُّرُور بِالضَّيْفِ , وَرُبَّمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ شَيْء مِنْ ذَلِكَ فَيَتَأَذَّى بِهِ الضَّيْف , وَقَدْ يُحْضِر شَيْئًا يَعْرِف الضَّيْف مِنْ حَاله أَنَّهُ يَشُقّ عَلَيْهِ , وَأَنَّهُ يَتَكَلَّفهُ لَهُ فَيَتَأَذَّى لِشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ , وَكُلّ هَذَا مُخَالِف لِقَوْلِهِ e : " مَنْ كَانَ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ " لِأَنَّ أَكْمَلَ إِكْرَامه : إِرَاحَة خَاطِره , وَإِظْهَار السُّرُور بِهِ , وَأَمَّا فِعْل الْأَنْصَارِيّ , وَذَبْحه الشَّاة فَلَيْسَ مِمَّا يَشُقّ عَلَيْهِ , بَلْ لَوْ ذَبَحَ أَغْنَامًا بَلْ جِمَالًا وَأَنْفَقَ أَمْوَالًا فِي ضِيَافَة رَسُول اللَّه e وَصَاحِبَيْهِ - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا - كَانَ مَسْرُورًا بِذَلِكَ , مَغْبُوطًا فِيهِ . وَاللَّهُ أَعْلَم .

[1] - مسلم ( 2038 ) ، ورواه الترمذي ( 2369 ) ، وابن ماجة ( 3180 ) .
 
إنا قوم لا نقبل على قرى أجرًا
روى أبن أبي الدنيا في ( قرى الضيف ) عن بديح مولى عبد الله بن جعفر قال : خرجت مع عبد الله بن جعفر في بعض أسفاره ، فنزلنا إلى جانب خباء من شعر ، وإذا صاحب الخباء رجل من بني عذرة ، قال : فبينا نحن كذلك ، إذا نحن بأعرابي قد أقبل يسوق ناقة حتى وقف علينا ، ثم قال : أي قوم ، ابغوني شفرة [ أي : سكينا ] ، فناولناه الشفرة ، فوجأ في لبتها [ موضع الذبح فوق الصدر ] ، وقال : شأنكم بها ؛ قال : وأقمنا اليوم الثاني ، وإذا نحن بالشيخ العذري يسوق ناقة أخرى فقال : أي قوم ، ابغوني شفرة ، قال : فقلنا : إن عندنا من اللحم ما ترى ، قال : فقال : أبحضرتي تأكلون الغاب ؟ ، ناولوني شفرة ، فناولناه الشفرة فوجأ في لبتها ، ثم قال : شأنكم بها ، وبقينا اليوم الثالث ، فإذا نحن بالعذري يسوق ناقة أخرى حتى وقف علينا ، فقال : أي قوم ، ابغوني شفرة ، قال : قلنا : إن معنا من اللحم ما ترى ، فقال : أبحضرتي تأكلون الغاب ؟ إني لأحسبكم قوما لئامًا ، ناولوني الشفرة ، فناولناه الشفرة فوجأ في لبتها ، ثم قال : شأنكم بها .
قال : وأخذنا في الرحيل ، فقال ابن جعفر لخازنه : ما معك ؟ قال : رزمة ثياب ، وأربع مائة دينار ، قال : اذهب بها إلى الشيخ العذري ، قال : فذهب بها فإذا جارية في الخباء ، فقال : يا هذه خذي هدية ابن جعفر ، قالت : إنا قوم لا نقبل على قرى أجرًا ، قال : فجاء إلى ابن جعفر فأخبره ، فقال : عد إليها ، فإن هي قبلت ، وإلا فارم بها على باب الخيمة ، فعاودها ؛ فقالت : اذهب عنا بارك الله فيك ، فإنا قوم لا نقبل على قرانا أجرًا ، فوالله لئن جاء شيخي فرآك هاهنا ، لتلقين منه أذى ، قال : فرمى بالرزمة والصرة على باب الخباء ، ثم ارتحلنا فما سرنا إلا قليلا إذا نحن بشيء يرفعه السراب مرة ويضعه أخرى ، فلما دنا منا إذا نحن بالشيخ العذري ومعه الصرة والرزمة ، فرمى بذلك إلينا ثم ولى مدبرًا ، فجعلنا ننظر في قفاه هل يلتفت ؟ فهيهات ، قال : فكان ابن جعفر يقول : ما غلبنا بالسخاء إلا الشيخ العذري ( [1] ) .

[1] - قرى الضيف ( 15 ) .
 
خاتمة :
هذا ما يسره الله الكريم في كتابة هذه الرسالة ؛ والذي يتبين منه عظيم اهتمام منهج الإسلام بالضيف ؛ وأن هذه الآداب الراقية مع الضيف ، هي قربات إلى الله تعالى ، لها جزاؤها الحسن في الدنيا والآخرة ؛ مما يحدو بالمحسن أن يزداد إحسانًا ، وبالمسيء أن يبادر بالتوبة ويتدارك تقصيره .
والحمد لله أولا وأخيرا كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله وعظيم سلطانه ، كما يحب ربنا ويرضى ؛ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
 
عودة
أعلى