الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد : فالحديث عن الأدب مع الضيفان ، حديث عن مكارم الأخلاق ، وهي التي بُعث النبي محمد e ليتممها ؛ فقد كان قري الضيف معروفًا عند العرب ، يتنافس فيه كرامهم ، ويعد من مناقبهم ؛ بل كان عند كرامهم بيت ضيافة ينزل فيه من يمر بهم . فلما جاء الإسلام أقر هذا الخلق الكريم ، وزاده شدة وتوثيقًا ، وبيَّن ما يجب فيه وما يندب ؛ روى الإمام أحمد عَنِ السَّائِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : جِيءَ بِي إِلَى النَّبِيِّ e يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ، جَاءَ بِي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزُهَيْرٌ ، فَجَعَلُوا يَثْنُونَ عَلَيْهِ [ أي يمدحونه ] ؛ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ e : " لَا تُعْلِمُونِي بِهِ ، قَدْ كَانَ صَاحِبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ " قَالَ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَنِعْمَ الصَّاحِبُ كُنْتَ ؛ فَقَالَ : " يَا سَائِبُ ، انْظُرْ أَخْلَاقَكَ الَّتِي كُنْتَ تَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاجْعَلْهَا فِي الْإِسْلَامِ : أَقْرِ الضَّيْفَ ، وَأَكْرِمْ الْيَتِيمَ ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ " ( [1] ) ؛ وعن أنس t قال : إن زكاة الرجل في داره أن يجعل فيها بيتًا للضيافة ( [2] ) . فَالضِّيَافَةُ مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ ، وَهي مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ ، وخلق الصالحين ، وَأَوَّلُ مَنْ ضَيَّفَ الضَّيْفَ إبْرَاهِيمُ e ، ولذا كان يكنى أبا الضيفان؛ قَالَ اللَّهُ U : ] هَلْ أَتَاك حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [ [ الذاريات : 24 ] ، فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أُكْرِمُوا ؛ فقد يكون المراد إكرام الله تعالى لهم ، وقد يكون بما أكرمهم إبراهيم e لأنهم أضياف ، وبكلٍ قال بعض أهل التفسير ، وقد يكون المراد المعنيين جميعًا . وقد جعل النبي e إكرام الضيف من دلائل الإيمان ، فقال e : " وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ " متفق عليه ( [3] ) ؛ مما يدل على مكانة الضيافة في الإسلام . ولما كان لهذه العلاقة أحكام وآداب ، كان لزامًا على المؤمن أن يتعلمها ، حتى يقوم بها مع أضيافه ، لذلك كانت هذه الرسالة : ( الأدب مع الضيفان ) ؛ وقد ضمنتها معنى الضيف ، وحكم الضيافة ، ومدة الضيافة ، والأدب مع الضيف ، وآداب تتعلق بالضيف ، ومن قصص الضيافة . هذا والله الكريم أسأل أن يتقبلها مني وأن يجعل لها القبول في الأرض ، لا ربَّ غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ؛ وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
[1] - أحمد : 3 / 425 ، قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 8 / 190 ) : رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح .
الضيف في الأصل مصدر ضاف يضيف ، إذا أتى إنسانًا لطلب القِرى ، ثم سُمي به ؛ ولذلك يطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى ، كالزور والسُّفْر ، وقد يجمع فيقال : أضياف وضيوف وضيفان ؛ ويقال : استضفت فلانًا فأضافني ، وقد ضفته ضيفًا ، إذا نزلت به في ضيافته ؛ وأضفته إذا أنزلته ، وتضيفته إذا نزلت به ، وتضيفني إذا أنزلني . وأصل الضيف الميل ، يقال ضفت إلى كذا وأضفت كذا إلى كذا ، وضافت الشمس للغروب وتضيفت ؛ والضيف من مال إليك نازلًا بك ، فسمي الضيف ضيفًا لإضافته إليك ونزوله عليك ؛ فهو النازل في منزل أحد نزولاً غير دائم ، لأجل مرور في سفر أو إجابة دعوة ؛ وصارت الضيافة متعارفة في القِرَى ( [1] ) . والقِرَى : ما يقدم للضيف .
[1]- انظر لسان العرب باب الفاء فصل الضاد ، ومفردات غريب القرآن للراغب ( مادة ض ي ف ) ، وتفسير القرطبي : 10 / 35 ، وفتح الباري : 10 / 532 .
فائدة : قال ابن رجب - رحمه الله : وأما في ما هو واجب - وهو اليوم والليلة - فينبني على أنَّه هل تجب الضيافة على من لا يجد شيئًا ، أم لا تجب إلا على من وجد ما يضيف به ؟ فإنْ قيل : إنَّها لا تجب إلا على من يجد ما يضيف به - وهو قولُ طائفةٍ من أهلِ الحديث ، منهم : حُميدُ بنُ زنجويه - لم يحل للضيف أنْ يستضيف من هُوَ عاجز عن ضيافته ؛ وقد رُوِيَ من حديث سلمان قال : نهانا رسولُ اللهِ e أنْ نتكلَّفَ للضيفِ ما ليسَ عندنا ؛ فإذا نهي المضيف أنْ يتكلَّفَ للضيف ما ليس عنده دلَّ على أنَّه لا تَجِبُ عليه المواساةُ للضيف إلا مما عنده ، فإذا لم يكن عنده فَضلٌ لم يلزمه شيءٌ ، وأما إذا آثَرَ على نفسه ، كما فعل الأنصاريُّ الذي نزل فيه : ] وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [ فذلك مقامُ فضلٍ ؛ ولو علم الضيف أنَّهم لا يُضيفونه إلا بقوتِهم وقوت صبيانهم ، وأنَّ الصبية يتأذَّوْنَ بذلك ، لم يجز له استضافتُهم حينئذ عملاً بقوله e : " ولا يَحِلُّ له أنْ يُقيمَ عندَه حتَّى يُحرجه " ؛ وأيضًا فالضيافة نفقة واجبة ، فلا تجب إلا على مَنْ عنده فضلٌ عن قوته وقوتِ عياله ، كنفقة الأقارب ، وزكاةِ الفطر ( [1] ) .ا.هـ .
[2]- أحمد : 3 / 37 ، وتمام في فوائده ( 165 ) عن عبد الرزاق ، وهو في مصنفه ( 20528 ) بلفظ : " حق الضيافة " .
[3]- أخرجه أحمد : 2 / 510 ، 534 ، والبُخاري في ( الأدب المفرد ) رقم 742 ، وأبو داود ( 3749 ) .
[4] - انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ( مادة : ج و ز ) ، ونق نحوه ابن حجر في ( فتح الباري : 10 / 533 ) عن أبي عبيد .
[5] - ابن أبي شيبة ( 33477 ) ، والطبراني في الكبير : 12 / 268 ( 13075 ) ، وأبو نعيم في الحلية : 1 / 165 ؛ وذكره ابن رجب في ( جامع العلوم ) عند شرح الحديث الخامس عشر بنحوه .
هذا من الأدب الذي قرره القرآن ، ذلك لأن إيذاء الضيف إيذاء لمضيفه ، فالضيافة كالجوار ، والضيف كالمستجير ، وقد قال الله تعالى على لسان لوط e : ] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [ [ هود : 78 ] ؛ أي : ولا تهينوني ولا تفضحوني ، من الخزي ؛ أو : ولا تخجلوني ، من الخزاية وهي الحياء ] فِي ضَيْفِي [ أي : في حق ضيوفي ، فإنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزي الرجل ، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة ؛ ولذا قَالَ : ] إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي فَلا تَفْضَحُونِ [ [ الحجر : 68 ] ؛ أي : لا تجعلوني مفضوحًا مخزيًا عند ضيفي ، إذ يلحقهم أذى في ضيافتي ، لأنَّ الضيافة جوار عند ربِّ المنزل ، فإذا لحقت الضيف إهانة كانت عارًا على ربِّ المنزل .
لم يجعل الإسلام فيما أمر به أهله مشقة أو حرجًا للقيام به ، ومن ذلك أنه لا يجب على المضيف التكلف لضيفه بما لا يملك ، بل إن كرامة الضيف تعجيل التقديم ، وكرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول ، وإنما مكارم الأخلاق قد تدفع البعض للتكلف للضيف ، فلا ينبغي أن يكون ذلك خارجًا عن نطاق الوسع والطاقة ؛ وإنما نهى النبي e عن التكلف للضيف حتى يتمكن كل مسلم من القيام بحق الضيف بقدر طاقته ، ولا يتأذى أحد بنزول ضيف به ؛ وهذا من الأدب العظيم الذي يؤدبنا به النبي e ؛ روى أحمد والطبراني أَنَّ سَلْمَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَدَعَا لَهُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ ، وَقَالَ : لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e نَهَانَا - أَوْ : لَوْلَا أَنَّا نُهِينَا - أَنْ يَتَكَلَّفَ أَحَدُنَا لِصَاحِبِهِ ، لَتَكَلَّفْنَا لَكَ ؛ وفي رواية للطبراني : نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ e أَنَّ نَتَكَلَّفَ لِلضَّيْفِ ( [1] ) ؛ وروى الطبراني والحاكم وصححه عَنْ شَقِيقِ بن سَلَمَةَ قَالَ : ذَهَبْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ ، فَقَالَ سَلْمَانُ : لَوْلا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e نَهَانَا عَنِ التَّكَلُّفِ لَتَكَلَّفْتُ لَكَ ؛ ثُمَّ جَاءَ بِخُبْزٍ وَمِلْحٍ ، فَقَالَ صَاحِبِي : لَوْ كَانَ فِي مِلْحِنَا صَعْتَرٌ ! فَبَعَثَ سَلْمَانُ بِمَطْهَرَتِهِ فَرَهَنَهَا ، ثُمَّ جَاءَ بِصَعْتَرٍ ، فَلَمَّا أَكَلْنَاهُ ، قَالَ صَاحِبِي : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَنَّعَنَا بِمَا رَزَقَنَا ، فَقَالَ سَلْمَانُ t : لَوْ قَنَعْتَ بِمَا رَزَقَكَ اللَّهُ لَمْ تَكُنْ مَطْهَرَتِي مَرْهُونَةً ( [2] ) . وفي ذلك أن من أخلاق المؤمن الاهتمام إذا نزل به ضيف ، حتى لو لم يكن عنده ما يكرمه به ، لأن الضيافة من أخلاق الكرام ؛ ولم يمنعه ذلك من أن ينصحه بقوله : ( لَوْ قَنَعْتَ بِمَا رَزَقَكَ اللَّهُ لَمْ تَكُنْ مَطْهَرَتِي مَرْهُونَةً ) ، حتى إذا نزل بغيره لا يكلفه فوق طاقته . وقد قام بذلك النبي e عمليًّا ، حتى لا يستنكف أحد من فعله ، ولا يستحيي أحد من تقديم ما عنده ؛ فقد روى أحمد ومسلم عن جَابِرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ t قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا فِي دَارِي فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ e فَأَشَارَ إِلَيَّ ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَى بَعْضَ حُجَرِ نِسَائِهِ ، فَدَخَلَ ثُمَّ أَذِنَ لِي ، فَدَخَلْتُ الْحِجَابَ عَلَيْهَا - وفي رواية أحمد : فَدَخَلْتُ وَعَلَيْهَا الْحِجَابُ - فَقَالَ : " هَلْ مِنْ غَدَاءٍ ؟ " فَقَالُوا : " نَعَمْ " فَأُتِيَ بِثَلَاثَةِ أَقْرِصَةٍ ، فَوُضِعْنَ عَلَى نَبِيٍّ ( [3] ) ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ e قُرْصًا فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَأَخَذَ قُرْصًا آخَرَ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيَّ ، ثُمَّ أَخَذَ الثَّالِثَ فَكَسَرَهُ بِاثْنَيْنِ ، فَجَعَلَ نِصْفَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَنِصْفَهُ بَيْنَ يَدَيَّ ، ثُمَّ قَالَ : " هَلْ مِنْ أُدُمٍ " قَالُوا : لَا ، إِلَّا شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ ؛ قَالَ : " هَاتُوهُ ، فَنِعْمَ الْأُدُمُ هُوَ " ( [4] ) ، وفي رواية " نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ " ([5] ) ؛ وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ : " نِعْمَ الْأُدُمُ - أَوْ الْإِدَامُ - الْخَلُّ " ( [6] ) ؛ وظاهر من حديث جابر عدم التكلف ، وعدم الاستحياء من تقديم ما هو موجود ، وإن كان مما يحتقره البعض ، وفي قول النبي e : " نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ " ، الْإِدَام مَا يُؤْتَدَم بِهِ ، أي : يؤكل مع الخبز أو الأرز ؛ قال النووي - رحمه الله : فِي الْحَدِيث فَضِيلَة الْخَلّ ، وَأَنَّهُ يُسَمَّى أُدُمًا ، وَأَنَّهُ أُدُم فَاضِل جَيِّد ( [7] ) ؛ وفيه بمفهومه عدم احتقار نعمة الله Y . قال ابن بطال في ( شرح البخاري ) بعد أن أورد حديث سلمان المتقدم : فدل هذا الحديث أن المرء إذا أضافه ضيف أن الحق عليه أن يأتيه من الطعام بما حضره ، وأن لا يتكلف له بما ليس عنده ، وإن كان ما حضره من ذلك دون ما يراه للضيف أهلا ؛ لأن في تكلفة ما ليس عنده معان مكروهة : منها : حبس الضيف عن القرى ، ولعله أن يكون جائعًا فيضر به . ومنها : أن يكون مستعجلاً في سفره فيقطعه عنه بحبسه إياه عن إحضاره ما حضره من الطعام إلى إصلاح ما لم يحضر . ومنها : احتقاره ما عظم الله قدره من الطعام . ومنها : خلافه أمر رسول الله e وإتيانه ما قد نهى عنه من التكلف .ا.هـ . وروى أبو نعيم في (حلية الأولياء ) عن أيوب قال : كان محمد بن سيرين يقول : لَا تُكْرِمْ أَخَاكَ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ ؛ ورواه البيهقي في ( الشعب ) بلفظ : لا تكرم أخاك بما يكره ( [8] ) ؛ وفسِّر ذلك بأن تأتيه بحاضر ما عندك ، ولا تحبسه ، فعسى أن يشق ذلك عليه فيكرهه ؛ وروى البيهقي عن ميمون بن مهران : إذا نزل بك ضيف فلا تكلف له ما لا تطيق ، وأطعمه من طعام أهلك ، والقه بوجه طلق ، فإنك إن تكلفت له ما لا تطيق أوشك أن تلقاه بوجه يكرهه ( [9] ) . فمن الأدب مع الضيف أن يُعجَّل قراه ، فيُقَدم الموجود الميسر في الحال ، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة ، ولا يتكلف ما يضر به ؛ ويعذر من لا سعة له في ما لا يملكه ، وقد قيل : الكرم شيء هين : وجه باش وكلام لين ؛ وقيل : الجود بذل الموجود ؛ وقال بكر بن عبد الله المزني : إذا أتاك ضيف فلا تنتظر به ما ليس عندك ، وتمنعه ما عندك ، قدم إليه ما حضر ، وانتظر به ما بعد ذلك ما تريد من إكرامه ( [10] ) . وروى البيهقي عن محمد بن عباد قال : نزل ضيف بأعرابية ، فقدمت إليه خبزًا يابسًا ولبنًا حامضًا ، ولم تكن تملك غيرهما ، فلامها ، فقالت :
وما كان مِنْ بُخْلٍ ولا مِن ضراعَةٍ ... ولكِنْ كما يَزْمُرُ له الدَّهْرُ يَزْفِنُ ( [11] )
[1]- رواه أحمد : 5 / 441 ، والطبراني في الكبير : 6 / 235 ( 6083 ، 6084 ) ؛ وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد:8/179): رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط بأسانيد ، وأحد أسانيد الكبير رجاله رجال الصحيح .ا.هـ .
[2]- رواه الطبراني في الكبير : 6 / 235 ( 6085 ) ، والحاكم ( 7146 ) وصححه ، وقال الهيثميفي(مجمعالزوائد:8/179): رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح ، غير محمد بن منصور الطوسي ، وهو ثقة .
[3]- قوله : ( فَوُضِعْنَ عَلَى نَبِيٍّ ) أي : على شيء مرتفِع عن الأرض ، من النَّباوةِ والنَّبْوة : الشَّرَفِ المُرتَفع من الأرض .
يقرر النبي e أن الضيافة حق للضيف ليس على سبيل المكافأة والمجازاة ، بمعنى أن من ضيفني أضيفه ، ومن أكرمني أكرمه ، وإنما من نزل ضيفًا ، فلابد أن يؤدى إليه حق الضيافة ؛ بصرف النظر عن كون الضيف يؤدي ذلك للمضيف إن نزل به ضيفًا أو لا يؤديه ؛ ففي حديث مالك بن نضلة t قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا نَزَلْتُ بِهِ فَلَمْ يُكْرِمْنِي وَلَمْ يَقْرِنِي ، ثُمَّ نَزَلَ بِي أَجْزِيهِ بِمَا صَنَعَ ، أَمْ أَقْرِيهِ ؟ قَالَ : " اقْرِهِ " ( [1] ) ؛ ومعنى كلام ابن نضلة t : أُعَامِلُهُ إذَا مَرَّ بِي بِمِثْلِ مَاعَامَلَنِي بِهِ، أم أقرب له ما أقري به الضيف ؟ فقال له النبي e : " أَقْرِهِ " .
[1] - أحمد : 3 / 473 ، والطبراني في الكبير : 19 / 276 ، 277 ، وابن حبان ( 3410 ، 5416 ) ؛ والحاكم ( 7364 ) وصححه .
أبو الضيفان هو خليل الرحمن إبراهيم u ، فهو أول من ضيف الضيف ، وقد أثنى الله - سبحانه وتعالى - على إبراهيم e في إكرام ضيفه من الملائكة حيث فقال : ] هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ . فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [ [ الذاريات : 24 ، 27 ] ؛ وهؤلاء الأضياف هم الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى ببشارة إبراهيم ، وإهلاك قوم لوط ؛ فمروا بإبراهيم e أولا ، وجاءوه في صورة بشر ، فأسرع بإكرامهم ، وأدى إليهم حق الضيافة على أكمله ؛ ويستفاد من قصة إبراهيم e مع ضيفه هؤلاء أشياء من آداب الضيافة : منها : تعجيل القرى ، لقوله : ] فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [ . ومنها : كون القرى من أحسن ما عنده ] بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [ ، لأنهم ذكروا أن الذي كان عنده البقر ، وأطيبه لحمًا الفتى السمين المنضج . ومنها : تقريب الطعام إلى الضيف . ومنها : خدمة الضيف بنفسه . ومنها : ملاطفتهم بالكلام بغاية الرفق ، ] أَلا تَأْكُلُونَ [ . ومنها : أن للمضيف أن ينظر في ضيفه هل يأكل أم لا ؟ وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة نظر لا بتحديده ، حتى لا يحرج ضيفه ؛ وفي ( العقد الفريد ) لابن عبد ربه - رحمه الله : حضر أعرابيُّ سُفرةَ هشام بن عبد الملك ، فبَينا هو يأكل معه إذ تعلَّقتَ شَعرةٌ في لُقمة الأعرابيّ ، فقال له هشام : عندك شعرة في لُقمتك يا أعرابيّ ؟ فقال : وإنك لتُلاحظني مُلاحظة من يَرى الشَّعرة في لُقمتي ، واللّه لا أكلت عندك أبدًا ؛ ثم خرج وهو يقول :
وللَموتُ خيرٌ من زيارة باخل ... يُلاحظ أطرافَ الأكِيل على عَمْدِ
وقد أثنى الله U على إبراهيم e في هذه الآيات ثناء يظهرمنوجوهمتعددة: أحدها أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون ، وهذا على أحد القولين : إنه إكرام إبراهيم لهم ، والثاني : إنهم المكرمون عند الله ، ولا تنافي بين القولين فالآية تدل على المعنيين . الثاني : قوله تعالى : ] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ [ فلم يذكر استئذانهم ، ففي هذا دليل على أنه e كان قد عُرِفَ بإكرام الضيفان واعتياد قراهم ، فبقي منزله مضيفة مطروقًا لمن ورده ، لا يحتاج إلى الاستئذان ، بل استئذان الداخل دُخُولُهُ ، وهذا غاية ما يكون من الكرم . الثالث : قوله لهم : ] سَلامٌ [ بالرفع ، وهم سلموا عليه بالنصب ، والسلام بالرفع أكمل ، فإنه يدل على الجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام ؛ والمنصوب يدل على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد ، فإبراهيم حياهم أحسن من تحيتهم ؛ فإن قولهم : ] سَلامًا [ يدل على : سلمنا سلاما ؛ وقوله : ] سَلامٌ [ أي : سلام عليكم . الرابع : أنه حذف ( أنتم ) من قوله : ] قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [ ؛ فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفِّر الضيف لو قال : أنتم قوم منكرون ، فحَذْفُ المبتدأ هنا من ألطف الكلام . الخامس : أنه بنى الفعل للمفعول ، وحذف فاعله ، فقال : ] مُنْكَرُونَ [ ، ولم يقل : ( إني أنكركم ) وهو أحسن في هذا المقام ، وأبعد من التنفير والمواجهة بالخشونة . السادس : أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بنزلهم ؛ والروغان هو الذهاب في اختفاء ، لا يكاد يشعر به الضيف ؛ وهذا من كرم رب المنزل المضيف أن يذهب في اختفاء لا يشعر به الضيف فيشق عليه ويستحي ؛ فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام ، بخلاف من يقول لضيفه : مكانكم حتى آتيكم بالطعام ، ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه . السابع : أنه ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة ؛ فدل على أن ذلك كان معدًّا عندهم مهيئًا للضيفان ، ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه أو غيرهم فيشتريه أو يستقرضه . الثامن : قوله تعالى : ] فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [ دل على خدمته للضيف بنفسه ولم يقل : ( فأمر لهم ) ، بل هو الذي ذهب وجاء به بنفسه ، ولم يبعثه مع خادمه ؛ وهذا أبلغ في إكرام الضيف . التاسع : أنه جاء بعجل كامل ، ولم يأت ببضعة منه ، وهذا من تمام كرمه e . العاشر : أنه سمين لا هزيل ، ومعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم ، ومثله يتخذ للاقتناء والتربية فآثر به ضيفانه . الحادي عشر : أنه قربه إليهم بنفسه ، ولم يأمر خادمه بذلك . الثاني عشر : أنه قربه ، ولم يقربهم إليه ، وهذا أبلغ في الكرامة ، أن يجلس الضيف ثم يقرب الطعام إليه ، ويحمل إلى حضرته ، ولا يضع الطعام في ناحية ثم يأمر الضيف بأن يتقرب إليه . الثالث عشر : أنه قال : ] أَلا تَأْكُلُونَ [ ، وهذا عرض وتلطف في القول ، وهو أحسن من قوله : كلوا ، أو مدوا أيديكم ؛ وهذا مما يعلم الناس بعقولهم حسنه ولطفه ، ولهذا يقولون : بسم الله ، أو : ألا تتصدق ، أو : ألا تجبر ، ونحو ذلك . الرابع عشر : أنه إنما عرض عليهم الأكل لأنه رآهم لا يأكلون ، ولم يكن ضيوفه يحتاجون معه إلى الإذن في الأكل ، بل كان إذا قدم إليهم الطعام أكلوا ، وهؤلاء الضيوف لما امتنعوا من الأكل ، قال لهم : ] أَلا تَأْكُلُونَ [ ، ولهذا أوجس منهم خيفة ، أي : أحسها وأضمرها في نفسه ، ولم يبدها لهم ؛ وهو الوجه .
الخامس عشر : فإنهم لما امتنعوا من أكل طعامه خافم نهم ، ولم يظهر لهم ذلك ، فلما علمت الملائكة منه ذلك ، قالوا : لا تخف ، وبشروه بالغلام . فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب ، وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم ، وكفى بهذه الآداب شرفًا وفخرًا ، فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين .ا.هـ ( [1] ) .
_____________ [1] - انظر ( جلاء الأفهام ) لابن القيم ص 272 : 274 بشيء من الاختصار .
روى أبن أبي الدنيا في ( قرى الضيف ) عن بديح مولى عبد الله بن جعفر قال : خرجت مع عبد الله بن جعفر في بعض أسفاره ، فنزلنا إلى جانب خباء من شعر ، وإذا صاحب الخباء رجل من بني عذرة ، قال : فبينا نحن كذلك ، إذا نحن بأعرابي قد أقبل يسوق ناقة حتى وقف علينا ، ثم قال : أي قوم ، ابغوني شفرة [ أي : سكينا ] ، فناولناه الشفرة ، فوجأ في لبتها [ موضع الذبح فوق الصدر ] ، وقال : شأنكم بها ؛ قال : وأقمنا اليوم الثاني ، وإذا نحن بالشيخ العذري يسوق ناقة أخرى فقال : أي قوم ، ابغوني شفرة ، قال : فقلنا : إن عندنا من اللحم ما ترى ، قال : فقال : أبحضرتي تأكلون الغاب ؟ ، ناولوني شفرة ، فناولناه الشفرة فوجأ في لبتها ، ثم قال : شأنكم بها ، وبقينا اليوم الثالث ، فإذا نحن بالعذري يسوق ناقة أخرى حتى وقف علينا ، فقال : أي قوم ، ابغوني شفرة ، قال : قلنا : إن معنا من اللحم ما ترى ، فقال : أبحضرتي تأكلون الغاب ؟ إني لأحسبكم قوما لئامًا ، ناولوني الشفرة ، فناولناه الشفرة فوجأ في لبتها ، ثم قال : شأنكم بها . قال : وأخذنا في الرحيل ، فقال ابن جعفر لخازنه : ما معك ؟ قال : رزمة ثياب ، وأربع مائة دينار ، قال : اذهب بها إلى الشيخ العذري ، قال : فذهب بها فإذا جارية في الخباء ، فقال : يا هذه خذي هدية ابن جعفر ، قالت : إنا قوم لا نقبل على قرى أجرًا ، قال : فجاء إلى ابن جعفر فأخبره ، فقال : عد إليها ، فإن هي قبلت ، وإلا فارم بها على باب الخيمة ، فعاودها ؛ فقالت : اذهب عنا بارك الله فيك ، فإنا قوم لا نقبل على قرانا أجرًا ، فوالله لئن جاء شيخي فرآك هاهنا ، لتلقين منه أذى ، قال : فرمى بالرزمة والصرة على باب الخباء ، ثم ارتحلنا فما سرنا إلا قليلا إذا نحن بشيء يرفعه السراب مرة ويضعه أخرى ، فلما دنا منا إذا نحن بالشيخ العذري ومعه الصرة والرزمة ، فرمى بذلك إلينا ثم ولى مدبرًا ، فجعلنا ننظر في قفاه هل يلتفت ؟ فهيهات ، قال : فكان ابن جعفر يقول : ما غلبنا بالسخاء إلا الشيخ العذري ( [1] ) .
خاتمة : هذا ما يسره الله الكريم في كتابة هذه الرسالة ؛ والذي يتبين منه عظيم اهتمام منهج الإسلام بالضيف ؛ وأن هذه الآداب الراقية مع الضيف ، هي قربات إلى الله تعالى ، لها جزاؤها الحسن في الدنيا والآخرة ؛ مما يحدو بالمحسن أن يزداد إحسانًا ، وبالمسيء أن يبادر بالتوبة ويتدارك تقصيره . والحمد لله أولا وأخيرا كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله وعظيم سلطانه ، كما يحب ربنا ويرضى ؛ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا .