الأدب مع الصحابة رضي الله عنهم

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فالحديث عن الأدب مع صحابة النبي e حديث عن إيمان وعقيدة ، حديث عن أخوة متتابعة حتى نلقى الله تعالى ، حديث عن عرفان بالجميل ومعرفة لحق السابقين ، حديث عن أفضل أصحاب الأنبياء ، وأفضل الناس بعد الأنبياء .
إنهم أناس اختارهم الله U لصحبة نبيه e ؛ ولما كان محمد e هو خير الأنبياء ، كان أصحابه هم خير أصحاب الأنبياء ؛ فحبهم دين وقربة وطريق إلى الجنة ، وبغضهم نفاق ومعصية وطريق إلى النار .
وصحابة النبي e هم المهاجرون والأنصار ، الذين نالوا شرف الصحبة ، وقاموا بها على أكمل وجه ؛ والذين حملوا هذا الدين وبلغوه لمن بعدهم ؛ وجميعهم عدول بتعديل الله تعالى لهم ، فهم أفضل الناس بعد الأنبياء ، وحبهم دين وقربة إلى رب العالمين ، والاقتداء بهم إقامة للدين الذي جاء به سيد المرسلين ، والدفاع عنهم دفاع عن الدين الذي نقلوه إلى العالمين .
من هنا كان الأدب مع هؤلاء الكرام من الدين ؛ ولبيان ذلك كانت هذه الرسالة التي سأتناول الحديث فيها عن الأدب مع أصحاب النبي e في المحاور التالية :
تعريف الصحابي
فضل الصحابة
ما جاء في السنة ببيان قدرهم
ما جاء عن السلف في فضل الصحابة ومعرفة أقدارهم
من أقوال أهل العلم في الصحابة
الإجماع على عدالتهم
التفضيل بين الصحابة
الأدب مع صحابة النبي e
خاتمة
هذا ؛ والله الكريم أسأل أن يتقبلها مني ، وأن يجعل لها القبول في الأرض ، لا ربَّ غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ؛ وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
 
تعريف الصحابي

الصاحب في اللغة : اسم فاعل من صحب يصحب فهو صاحب ، ويقال في الجمع : أصحاب ، وأصاحيب ، وصحب ، وصحبة ، وصُحبان ( بالضم ) ، وصَحابة ( بالفتح ) وصِحابة ( بالكسر ) ( [1] ) ؛ وأصل الصحبة في اللغة يطلق على مجرد المصاحبة ، من غير اشتراط استمرارها طويلا ، وعلى ذلك درج جماهير المحدثين ؛ قالَ الإمام أحمدُ - رحمه الله : مَنْ صحبَهُ سنةً ، أو شهرًا ، أو يومًا ، أو ساعةً ، أو رآهُ ؛ فهو من الصحابةِ ( [2] ) . وقال ابن حجر - رحمه الله : اسم صحبة النبي e مستحق لمن صحبه أقل ما يطلق عليه اسم صحبة لغة ، وإن كان العرف يخص ذلك ببعض الملازمة ( [3] ) .
والصحابي اصطلاحًا : هو من لقي النبي e بعد نبوته مؤمنًا به ، ومات على الإسلام .
فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته أو قصرت ، ومن روى عنه أو لم يرو عنه ، ومن غزا معه أو لم يغز ، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ، ومن لم يراه لعارض كالعمى .
ويشمل الصحابي الأحرار والموالي ، الذكور والإناث ؛ لأن المراد به الجنس .
ويخرج من لقيه قبل نبوته ولم يؤمن به بعد النبوة فلا يكون صحابيا ؛ وكذلك يخرجَ مَنِ ارتدَّ وماتَ كافرًا ، كابنِ خَطَلٍ ، وربيعةَ بنِ أميةَ ، ومِقْيَسِ بنِ صُبَابَةَ ، ونحوهم ؛ أما مَنْ رَجَعَ إلى الإسلامِ في حياتِهِ ، كعبدِ اللهِ بنِ أبي سَرْحٍ ، فلا مانعَ من دخولِهِ في الصُّحبةِ بدخولهِ الثاني في الإسلامِ ؛ وأما من ارتدَّ ، ثمَّ أسلمَ بعدَ وفاةِ النبيِّ e ، فقيل : لا يدخل في شرف الصحبة ، لأنَّ الرِّدَّةَ مُحبِطةٌ للعملِ ؛ فالظاهرُ أنَّها محبطةٌ للصُّحْبَةِ المتقدمةِ ، كقُرَّةَ بنِ هُبَيْرةَ ، وكالأشعثِ بنِ قيسٍ ؛ وصحح ابن حجر في (شرح النخبة ) دخوله في الصحبة ([4])؛ والعلم عند الله تعالى .
ويتفاوت الصحابة في مراتبهم بحسب مدة صحبتهم للنبي e وقتالهم معه ، قال ابن حجر - رحمه الله : لا خفاء برجحان مرتبة من لازمه e وقاتل معه أو قتل تحت رايته ، على من لم يلازمه أو لم يحضر معه مشهدًا ، وعلى من كلمه يسيرًا ، أو ماشاه قليلا ، أو رآه على بعد ، أو في حال الطفولة ، وإن كان شرف الصحبة حاصلا للجميع ( [5] ) .

[1] - انظر (لسان العرب ) باب الباء فصل الصاد .
[2] - انظر ( الكفاية في علم الرواية ) للخطيب البغدادي ص 109 .
[3] - انظر ( فتح الباري ) : 7 / 3 .
[4] - انظر ( نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر ) لابن حجر - تحقيق عبد الله بن ضيف الله الرحيلي ، ص 141 - مطبعة سفير بالرياض - الطبعة الأولى عام (1422هـ ) .
[5] - انظر ( نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر ) لابن حجر - تحقيق عبد الله بن ضيف الله الرحيلي ، ص 142 - مطبعة سفير بالرياض - الطبعة الأولى عام (1422هـ ) .
 
فضل الصحابة

لأصحاب النبي e فضل كبير ومرتبة عظيمة ، نالوها بصحبتهم لأفضل أنبياء الله تعالى؛ ثم بحملهم الرسالة الإسلامية إلى العالم ، فبهم انتشر الإسلام في سائر أنحاء الأرض ، وقد بذلوا أنفسهم ونفيسهم ، فجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله تعالى ، مع النبي e وبعده ؛ فلهم فضل على كل من دخل الإسلاممنالأمم ،ونحننُقِرُّبفضلهمونعترفبه. فبهم أخرج الله العباد من عبادة العباد إلى عبادته وحده ، ومن جور السلطان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة .
ولذلك اتفقت كلمة أهل السنَّة والجماعة على أن الصحابة كلهم عدول ، ولم يخالفهم في ذلك إلا مبتدعة الفرق .
قال الخطيب البغدادي : عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم ، وإخباره عن طهارتهم ، واختياره لهم في نص القرآن - ثم ذكر كثيرًا من الآيات التي تدل على ذلك ، وأسند أحاديث في هذا المعنى - ثم قال : والأخبار في هذا المعنى تتسع ، وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن ، وجميع ذلك يقتضى طهارة الصحابة ، والقطع على تعديلهم ونزاهتهم ، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق له ، فهو [ أي الصحابي ] على هذه الصفة ، إلا أن يثبت على أحد ارتكاب ما لا يحتمل إلا قصد المعصية والخروج من باب التأويل ، فيحكم بسقوط العدالة ، وقد برأهم الله من ذلك ورفع أقدارهم عنه . على أنه لو لم يرد من الله U ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه ، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة ، وبذل المهج والأموال ، وقتل الآباء والأولاد ، والمناصحة في الدين ، وقوة الإيمان واليقين ، القطع على عدالتهم ، والاعتقاد لنزاهتهم ، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين ؛ هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء ( [1] ) .
ولا عبرة بقول أهل البدع والأهواء .
فهم أَولياءُ الله وأصفياؤه ، وخيرته من خلقه ، وهم أَفضل هذه الأُمة بعد نبيها e ، قال الله تعالى : ] وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ [ التوبة : 100 ] .
ويفصِّل القرآن الكريم سبب المكانة العالية للمهاجرين والأنصار بقوله : ] لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [ [ الحشر : 8 – 10 ] .
هذه آيات ثلاث : الأولى منها في المهاجرين ، والثانية في الأنصار ، والثالثة في الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار يستغفرون لهم ، ويسألون الله تعالى أن لا يجعل في قلوبهم غِلًّا لهم ولا للمؤمنين ، فهذه أقسام المؤمنين الذين أثنى الله عليهم ؛ وروىابنأبيشيبةعنمجمعقال:دخلعبدالرحمنبن أبي ليلى علىالحجاج،فقال[أيالحجاج]لجلسائه:إذاأردتمأنتنظرواإلىرجليسب أمير المؤمنين عثمان ، فهذا عندكم - يعني عبد الرحمن بن أبي ليلى ؛ فقال عبد الرحمن : معاذ الله - أيها الأمير - أن أكون أسب عثمان ، إنه ليحجزني عن ذلك آيات في كتاب الله ؛ قال الله : ] لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [ قال : فكان عثمان منهم ؛ ثم قال : ] وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [ فكان أبي منهم ؛ ] وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [ فكنتُ منهم ؛ قال : صدقت ( [2] ) . وروى أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) عن علي بن الحسين قال : أتاني نفر من أهل العراق فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان y ، فلما فرغوا قال لهم علي بن الحسين : ألا تخبرونني ؟ أنتم المهاجرون الأولون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ؟! قالوا : لا ، قال : فأنتم الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ؟! قالوا : لا ؛ قال : أما أنتم فقد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين ؛ ثم قال : أشهد أنكم لستم من الذين قال الله U : ] وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [ ؛ اخرجوا فعل الله بكم ( [3] ) ؛ وفي مثل هؤلاء روى مسلم عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَتْ لِي عَائِشَةُ : يَا ابْنَ أُخْتِي أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لأَصْحَابِ النَّبِيِّ e ، فَسَبُّوهُمْ ( [4] ) .
عجبا لهؤلاء الذين يتجرؤون على أصحاب رسول الله e !! إن الله تعالى أثنى على من جاء من بعد الصحابة مقرًّا لهم بالفضل والسبق ، داعيًا لهم ومستغفرًا بأنهم على الخير ؛ ولكن أهل البدع والأهواء يسبونهم وينتقصونهم ، فعليهم من الله ما يستحقون .

[1] - انظر ( الكفاية في علم الرواية ) ص 46 - 49 ، باختصار .

[2]- ابن أبي شيبة ( 30539 ) .

[3] - حلية الأولياء : 3 / 137 ، وانظر صفة الصفوة : 2 / 98 .

[4] - مسلم ( 3022 ) .
 
ما جاء في السنة ببيان قدرهم

أفاضت سنة النبي e بفضل أصحابه ، واذكر ها هنا بعضا من ذلك .
1 - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا ، حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ " ( [1] ) .
2 - وعَنْ ابن مسعودٍ t عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ : " خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ " ( [2] ).
3 - وعَنْ عمران ابن حُصَيْنٍt قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ " الحديث ( [3] ) .
4 – وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ e : أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ ؟ قَالَ : " الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ ، ثُمَّ الثَّانِي ، ثُمَّ الثَّالِثُ " ( [4] ) .
5 - وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ ، فَيَقُولُونَ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ رَسُولَ اللَّهِ e ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ . ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ ، فَيُقَالُ : هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ e ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ ؛ فَيُفْتَحُ لَهُمْ . ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ ، فَيُقَالُ : هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ e ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ " ( [5] ) .
6 - وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي ، اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي ، لاَ تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِى ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي ، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ " ( [6] ) .
7 - وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ t قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ e : " لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ " ( [7] ) .
8 - وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي ، لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ، وَلاَ نَصِيفَهُ " ( [8] ) .
9 - وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ , وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " ( [9] ) .
10 - وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى t قَالَ : شَكَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى رَسُولِ اللهِ e ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ e : " يَا خَالِدُ ، لِمَ تُؤْذِي رَجُلاً مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ ؟ لَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا لَمْ تُدْرِكْ عَمَلَهُ " فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، يَقَعُونَ فِيَّ ، فَأَرُدُّ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ e : " لاَ تُؤْذُوا خَالِدًا ، فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ ، صَبَّهُ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ " ( [10] ) .
11 - وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ t قَالَ : كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَيْءٌ ، فَسَبَّهُ خَالِدٌ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " لاَ تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ، وَلاَ نَصِيفَهُ " ( [11] ) .
فإذا كان سيف الله خالد بن الوليد وغيره ممن أسلم بعد الحديبية لا يساوي العمل الكثير منهم القليل من عبد الرحمن بن عوف وغيره ممن تقدم إسلامه ، مع أن الكل تشرف بصحبته e ؛ فكيف بمن لم يحصل له شرف الصحبة بالنسبة إلى أولئك الأخيار .
إن البون لشاسع ، فأين الثرى من الثريا ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
12 -عَنْ أَبِى مُوسَى t قَالَ : صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ e ثُمَّ قُلْنَا : لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّىَ مَعَهُ الْعِشَاءَ ؛ قَالَ : فَجَلَسْنَا ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ : " مَا زِلْتُمْ هَا هُنَا ؟"، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ ثُمَّ قُلْنَا : نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّىَ مَعَكَ الْعِشَاءَ ؛ قَالَ : " أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَصَبْتُمْ " ؛ قَالَ : فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ - وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ - فَقَالَ : " النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ ؛ وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي ، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ ؛ وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي ، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ " ( [12] ) ؛ وقوله e : " فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ " أي : من ظهور البدع والحوادث في الدين ، والفتن فيه، وطلوع قرن الشيطان ، وظهور الروم وغيرهم عليهم ... وغير ذلك ، وهذه كلها من معجزاته e ؛ وفي الحديث بيان فضل الصحابة y .
13 - وعن رِيَاحَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ : كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ فُلاَنٍ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ وَعِنْدَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ ، فَجَاءَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَرَحَّبَ بِهِ وَحَيَّاهُ ، وَأَقْعَدَهُ عِنْدَ رِجْلِهِ عَلَى السَّرِيرِ ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يُقَالُ لَهُ : قَيْسُ بْنُ عَلْقَمَةَ ، فَاسْتَقْبَلَهُ ، فَسَبَّ وَسَبَّ ، فَقَالَ سَعِيدٌ : مَنْ يَسُبُّ هَذَا الرَّجُلُ ؟ قَالَ : يَسُبُّ عَلِيًّا . قَالَ : أَلاَ أَرَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ e يُسَبُّونَ عِنْدَكَ ثُمَّ لاَ تُنْكِرُ وَلاَ تُغَيِّرُ ؟ أَنَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ وَإِنِّي لَغَنِىٌّ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ فَيَسْأَلُنِي عَنْهُ غَدًا إِذَا لَقِيتُهُ : " أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ " ؛ وَسَاقَ مَعْنَاهُ ، ثُمَّ قَالَ : لَمَشْهَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ e يَغْبَرُّ فِيهِ وَجْهُهُ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ عُمْرَهُ ، وَلَوْ عُمِّرَ عُمْرَ نُوحٍ ( [13] ) .
وصدق رضي الله عنه .
[1] - البخاري ( 3557 ) واللفظ له ، ومسلم ( 2534 ) .

[2] - البخاري ( 2509 ، 3451 ، 6065 ، 6282 ) ومسلم ( 2533 ) .

[3] - رواه البخاري ( 3450 ) واللفظ له ، ومسلم ( 2535 .

[4] - مسلم ( 2536 ) .

[5] - البخاري ( 2740 ، 3449 ) ، ومسلم ( 2532 ) ، الفئام : الجماعة الكثيرة .

[6] - رواه أحمد : 5 / 54 ، 57 ، والترمذي ( 3862 ) ، وقال : غريب ، وضعفه الألباني .

[7] - مسلم ( 2540 ) ، ورواه البخاري (3673 ) ، ومسلم ( 2541 ) عن أبي سعيد t ؛ النَّصيف : النصف .

[8] - صحيح مسلم (6651 ) .

[9] - المعجم الكبير للطبراني : 10 / 289 (12541 ) ، وحسنه الألباني في الصحيحة ( 2340 ) .

[10] - ابن حبان ( 7091 ) .

[11] - صحيح مسلم ( 2541 ) ، ورواه بنحوه أحمد : 3 / 266 ، عن أنس t .

[12]- رواه مسلم ( 2531 ) .

[13] - رواه أبو داود (4650 ) ، وصححه الألباني .
 
ما جاء عن السلف في فضل الصحابة ومعرفة أقدارهم
1 - روى ابن ماجة عنْ نُسَيْرِ بْنِ ذُعْلُوقٍ قَالَ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ e ، فَلَمَقَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ عُمْرَهُ ( [1] ) .
2 – روى مسلم عن الْحَسَنُ أَنَّ عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ e - دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ : أَيْ بُنَيَّ ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ " ؛ فَقَالَ لَهُ : اجْلِسْ ، فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ e . فَقَالَ : وَهَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ ؟! إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ وَفِى غَيْرِهِمْ ( [2] ) . والنخالة هنا استعارة من نخالة الدقيق وهي قشوره ، يعني : لست من فضلائهم وعلمائهم وأهل المراتب منهم ، بل من سقطهم ؛ وقوله t : ( وهل كانت لهم نخالة ؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم ) هذا من جزل الكلام وفصيحه وصدقه الذي ينقاد له كل مسلم ، فإن الصحابة y هم صفوة الناس وسادات الأمة ، وأفضل ممن بعدهم ، وكلهم عدول ، قدوة ، لا نخالة فيهم ، وإنما جاء التخليط ممن بعدهم ، وفيمن بعدهم كانت النخالة ( [3] ) . هذا من جزل الكلام وفصيحه وصدقه الذي ينقاد له كل مسلم ، فإن الصحابة y هم صفوة الناس ، وسادات الأمة ، وأفضل ممن بعدهم ، وفيمن بعدهم كانت النخالة .
3 - عن أبي أراكة قال : صلى عليٌّ t الغداة ، ثم لبث في مجلسه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح ، كأن عليه كآبة ؛ ثم قال : لقد رأيت أثرًا من أصحاب رسول الله e ، فما أرى أحدًا يشبههم ، والله إن كانوا ليصبحون شعثًا غبرًا صفرًا ، بين أعينهم مثل ركب المعزى ، قد باتوا يتلون كتاب الله ، يراوحون بين أقدامهم وجباههم ، إذا ذُكر الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم ريح ، فانهملت أعينهم حتى تبل والله ثيابهم ؛ والله لكأن القوم باتوا غافلين ( [4] ) .
4 - عن أيوب السختياني قال : من أحب أبا بكر فقد أقام الدين ، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل ، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله ، ومن أحب عليًّا فقد استمسك بالعروة الوثقى ؛ ومن قال الحسنى في أصحاب رسول الله e فقد برئ من النفاق ( [5] ) .
ولإسحاق بن خلف الشاعر :
إني رضيت عليًّا قدوة علَمًا ... كما رضيت عتيقًا صاحب الغار
وقد رضيت أبا حفص وشيعته ... وما رضيت بقتل الشيخ في الدار
كل الصحابة ساداتي ومعتقدي ... فهل عليَّ بهذا القول من عار


[1] - رواه أبن أبي شيبة ( 32415 ) ، وابن ماجه ( 162 ) ، وحسنه الألباني .

[2] - مسلم ( 1830 ) .

[3] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 12 / 316 .

[4] - حلية الأولياء : 1 / 76 ، و( مقتل علي ) لابن أبي الدنيا ( 6 ) .

[5] - انظر ( تاريخ مدينة دمشق ) لابن عساكر : 42 / 530 .
 
من أقوال أهل العلم في الصحابة

أفاض العلماء في بيان مكانة الصحابة وعدالتهم ، وإليك بعض هذه الأقوال :
قال أبو نعيم الأصبهاني - رحمه الله - في مقدمة كتاب ( تَثْبِيتُ الْإِمَامَةِ وَتَرْتِيبُ الْخِلَافَةِ ) عن الصحابة : سَمَحَتْ نُفُوسُهُمْ y بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْأَهْلِ وَالدَّارِ ، فَفَارَقُوا الْأَوْطَانَ ، وَهَاجَرُوا الإخوان ، وَقَتَلُوا الْآبَاءَ وَالْإِخْوَانَ ، وَبَذَلُوا النُّفُوسَ صَابِرِينَ ، وَأَنْفَقُوا الْأَمْوَالَ مُحْتَسِبِينَ ، وَنَاصَبُوا مَنْ نَاوَأَهُمْ مُتَوَكِّلِينَ ، فَآثَرُوا رِضَاء الله عَلَى الْغِنَاء ، وَالذُّلَ عَلَى الْعِزِّ ، وَالْغُرْبَةَ عَلَى الْوَطَنِ . هُمُ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، أولئك هُمُ الصَّادِقُونَ حقاً ، ثُمَّ إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ ، أَهْلِ الْمُوَاسَاةِ والإيثار ، أَعَزُّ قَبَائِلِ الْعَرَبِ جَارًا ، وَاتَّخَذَ الرَّسُولُ u دَارَهُمْ أَمْنًا وَقَرَارًا ، الْأَعِفَّاءُ الصُّبْرُ وَالْأَصْدِقَاءُ الزُّهْرُ والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ؛ فَمَنِ انْطَوَتْ سَرِيرَتُهُ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ وَدَانَ اللَّهَ تَعَالَى بتِفَضْيلِهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ ، وَتَبَرَّأَ مِمَّنْ أَضْمَرَ بغضهم ، فَهُوَ الْفَائِزُ بِالْمَدْحِ الَّذِي مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَقَالَ : ] وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [ الْآيَةَ .
فَالصَّحَابَةُ y هُمُ الَّذِينَ تَوَلَّى اللَّهُ شَرْحَ صُدُورِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، وَبَشَّرَهُمْ بِرِضْوَانِهِ وَرَحْمَتِهِ ، فَقَالَ : ] يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ [ ، جَعَلَهُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَجَعَلَهُمْ مَثَلًا لِلْكِتَابِيِّينَ ، لِأَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، خَيْرُ الْأُمَمِ أمته وخير الْقُرُونِ قَرْنه ، يَرْفَعُ اللَّهُ مِنْ أَقْدَارِهِمْ ، إِذْ أُمِرَ الرَّسُولُ u بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِمَا عَلِمَ مِنْ صِدْقِهِمْ وَصِحَّةِ إِيمَانِهِمْ وَخَالِصِ مودَتِهِمْ ، وَوُفُورِ عَقْلِهِمْ ، وَنَبَالَةِ رَأْيِهِمْ ، وَكَمَالِ نَصِيحَتِهِمْ ، وَتبِين ِ أَمَانَتِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أَجْمَعِينَ .ا.هـ .
وقال الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله: ومن الحجة الواضحة الثابتة البينة المعروفة : ذكر محاسن أصحاب رسول الله e كلهم أجمعين ، والكف عن الذي جرى بينهم ؛ فمن سب أصحاب رسول الله e ، أو واحدًا منهم ، أو تنقص أو طعن عليهم ، أو عرض بعيبهم ، أو عاب واحدًا منهم ، فهو مبتدع رافضي خبيث ، مخالف ، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلا ؛ بل حبهم سنة ، والدعاء لهم قربة ، والإقتداء بهم وسيلة ، والأخذ بآثارهم فضيلة .
وخير الأمة بعد النبي e : أبو بكر ، وعمر بعد أبي بكر ، وعثمان بعد عمر ، وعلي بعد عثمان ، ووقف قوم على عثمان ؛ وهم خلفاء راشدون مهديون .
ثم أصحاب رسول الله e بعد هؤلاء الأربعة خير الناس ، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئًا من مساويهم ، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا بنقص ، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ، ليس له أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ويستتيبه ، فإن تاب قبل منه ، وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس ، حتى يموت أو يراجع ( [1] ) .
وقال الطحاوي - رحمه الله : وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رسُولِ الله e ، وَلاَ نُفْرِطُ في حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُم ؛ وَلاَ نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُم ، وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُم ، وَبِغَيْرِ الخَيْرِ يَذْكُرُهُم،ولانُذْكُرُهُمإِلاَّبِخَيْرٍ, وَحُبُّهُم دِينٌ وإيمَانٌ وإحسان ، وَبُغْضُهُم كُفْرٌ ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ ( [2] ) .
وقال الإمام أبو عثمان الصابوني في كتاب ( عقيدة السلف وأصحاب الحديث ) : ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله e ، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيبًا لهم ونقصًا فيهم ، ويرون الترحم على جميعهم ، والموالاة لكافتهم ، وكذلك يرون تعظيم قدر أزواجه - رضي الله عنهن - والدعاء لهن ، ومعرفة فضلهن ، والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين ( [3] ) .
وقال النووي في ( التقريب ) الذي شرحه السيوطي في ( تدريب الراوي ) : الصَّحَابةُ كلُّهم عُدولٌ , من لابسَ الفِتنَ وغيرهُم , بإجْمَاعِ من يُعتدُّ بهِ ( [4] ) . قال إمام الحرمين : والسَّبب في عدم الفحص عن عدالتهم , أنَّهم حملةُ الشَّريعة , فلو ثبت توقف في روايتهم, لانحصرت الشَّريعة على عصره e , ولما استرسلت على سائر الأعصار ( [5] ) .
وقال ابن أبي زيد القيرواني المالكي في مقدمة رسالته المشهورة : وَأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ : أَبُو بَكْرٍ ، ثُمَّ عُمَرُ ، ثُمَّ عثمان ثُمَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ؛ وَأَنْ لَا يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْ صَحَابَةِ الرَّسُولِ e إلَّا بِأَحْسَنِ ذِكْرٍ ، وَالْإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ أَنْ يُلْتَمَسَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْمَخَارِجِ ، وَيُظَنَّ بِهِمْ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ ( [6] ) .
وقال ابن تيمية في كتابه ( العقيدة الواسطية ) : وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ سَلَامَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ e ، كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ] وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [ ، وَطَاعَةُ النَّبِيِّ e فِي قَوْلِهِ : " لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ " .
وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ ؛ فَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ - وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ - وَقَاتَلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِهِ وَقَاتَلَ ، وَيُقَدِّمُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْأَنْصَارِ ، وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ قَالَ لِأَهْلِ بَدْرٍ - وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ - : " اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ " ، وَبِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ e ؛ بَلْ قَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ .
وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ e بِالْجَنَّةِ ، كَالْعَشَرَةِ وَكَثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ .
وَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ t وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا : أَبُو بَكْرٍ ، ثُمَّ عُمَرُ ، وَيُثَلِّثُونَ بِعثمان ، وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيِّ y ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ ، وَكَمَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ t عَلَى تَقْدِيمِ عثمان فِي الْبَيْعَةِ ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي عثمان وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - أَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؛ فَقَدَّمَ قَوْمٌ عثمان وَسَكَتُوا ، أَوْ رَبَّعُوا بِعَلِيِّ ؛ وَقَدَّمَ قَوْمٌ عَلِيًّا ، وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا ؛ لَكِنْ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عثمان ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ - مَسْأَلَةُ عثمان وَعَلِيٍّ - لَيْسَتْ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّة ، لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا هِيَ ( مَسْأَلَةُ الْخِلَافَةِ ) ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ e أَبُو بَكْرٍ ، ثُمَّ عُمَرُ ، ثُمَّ عثمان ، ثُمَّ عَلِيٌّ ؛ وَمَنْ طَعَنَ فِي خِلَافَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ .
وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ e ويتولونهم ، وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللَّهِ e ، حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ : " أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ، أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي " وَقَالَ أَيْضًا لِلْعَبَّاسِ عَمِّهِ - وَقَدْ اشْتَكَى إلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ - فَقَالَ : " وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ لِلَّهِ وَلِقَرَابَتِي " ، وَقَالَ : " إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى بَنِي إسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ " .
وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ e أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الْآخِرَةِ ، خُصُوصًا خَدِيجَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أُمُّ أَكْثَرِ أَوْلَادِهِ ، وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاضَدَهُ عَلَى أَمْرِهِ ، وَكَانَ لَهَا مِنْهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ ؛ وَالصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ e : " فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ".
وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ ؛ وَمِنْ طَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلِ أَوْ عَمَلٍ ؛ وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ( [7] ) .
وقال أبو زُرْعَةَ : إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ e فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ e عِنْدَنَا حَقٌّ , وَالْقُرْآنَ حَقٌّ , وَإِنَّمَا أَدَّى إِلَيْنَا هَذَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ e , وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يُجَرِّحُوا شُهُودَنَا لِيُبْطِلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ , وَالْجَرْحُ بِهِمْ أَوْلَى وَهُمْ زَنَادِقَةٌ ( [8] ) .
وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة: اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة .ا.هـ ( [9] ) .
هذه نماذج من أقوال علماء الأمة فيما يجب اعتقاده في حق خيار الخلق بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه ، ورضي الله عن الصحابة أجمعين .

[1] - انظر ( العقيدة - رواية الخلال ) للإمام أحمد : 1 / 80 ، 81 ، و( السنة ) ص 419 .

[2] - انظر ( شرح العقيدة الطحاوية ) : 3 / 128 ؛ وانظر ( قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر ) : 1 / 74 .

[3] - اعتقاد أهل السنة شرح أصحاب الحديث (ج 1 / ص 124) وعقيدة السلف أصحاب الحديث (ج 1 / ص 32) .

[4] - ( التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث ) ص 21 ، وانظر ( تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ) للسيوطي : 2 / 109 .

[5] - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي : 2 / 109 .

[6] - انظر ( رسالة ابن أي زيد القيرواني ) ص 23 .

[7] - شرح العقيدة الواسطية (ج 1 / ص 323) ومجموع الفتاوى (ج 3 / ص 152) .

[8] - الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 104 ) .

[9] - توضيح الأفكار : 2 / 434 .
 
الإجماع على عدالتهم
الصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم وثنائه عليهم ، وثناء رسول الله e ، فليسوا بحاجة إلى تعديل أحد من الخلق ؛ وقد تقدمت الأدلة من الكتاب والسنة .
وقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن الصحابة جميعهم عدول بلا استثناء ، لا يفرقون بينهم ؛ ذلك لما أكرمهم الله به من شرف الصحبة لنبيه e ، ولما تقدم من ذكر مآثرهم الجليلة من مناصرتهم للرسول e ، والهجرة إليه ، والجهاد بين يديه ، والمحافظة على أمر الدين ، والقيام بحدوده ، فشهاداتهم ورواياتهم مقبولة دون تكلف البحث عن أسباب عدالتهم ؛ وذلك بإجماع من يعتد بقوله ؛ وقد نقل الإجماع على عدالتهم جم غفير من أهل العلم ، و من تلك النقول :
1 - قال الخطيب البغدادي في كتابه ( الكفاية ) بعد أن ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على عدالة الصحابة : هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء .ا.هـ .
2 - قال ابن عبد البر في ( الاستيعاب ) : ونحن وإن كان الصحابة y قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين - وهم أهل السنة والجماعة - على أنهم كلهم عدول ، فواجب الوقوف على أسمائهم .ا.هـ .
3 - وتقدم قول الحافظ ابن حجر : اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ولم يخالف ذلك إلا شذوذ من المبتدعة .ا.هـ .
 
التفضيل بين الصحابة
قرر جمهور العلماء تفاوت الصحابة في الفضيلة إجمالا ثم تفصيلا ؛ فالأول : باعتبار سبقهم إلى الإسلام أو الهجرة أو شهود المشاهد الفاضلة طبقات ، عدَّها الحاكم في ( علوم الحديث ) اثنتا عشرة طبقة :
فالأولى من تقدم إسلامه بمكة ، كالخلفاء الأربعة .
الثانية : أصحاب دار الندوة .
الثالثة : المهاجرة إلى الحبشة .
الرابعة : مبايعة العقبة الأولى .
الخامسة : أصحاب العقبة الثانية .
السادسة : أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء قبل أن يدخل المدينة ويبني المسجد .
السابعة : أهل بدر .
الثامنة : المهاجرة بين بدر والحديبية .
التاسعة : أهل بيعة الرضوان .
العاشرة : المهاجرة بين الحديبية وفتح مكة .
الحادية عشر : مسلمة الفتح .
الثانية عشر : صبيان وأطفال رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ، وفي حجة الوداع وغيرهما ، يعني : من عقل منهم ومن لم يعقل .
هذا هو المشهور عن أكثر العلماء ، وقيل غير ذلك في طبقاتهم .

وأما الثاني ، وهو التفصيل في تفضيلهم ، فالأفضل منهم مطلقًا بإجماع أهل السنة : أبو بكر الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل هو أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقيل له : الصديق ، لمبادرته إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الناس كلهم .
ثم يلي أبا بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإجماع أهل السنة أيضًا ، وأسند البيهقي في ( مناقب الشافعي ) عن الشافعي أنه قال : ما اختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر ، وتقديمهما على جميع الصحابة .ا.هـ ( 1 ) . وكذا جاء عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال : من أدركت من الصحابة والتابعين لم يختلفوا في أبي بكر وعمر وفضلهما .
ويلي عمر - في قول أكثر أهل السنة - عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ففي صحيح البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ : كُنَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا نَعْدِلُ بِأَبِي بَكْرٍ أَحَدًا ، ثُمَّ عُمَرَ ، ثُمَّ عُثْمَانَ ؛ ثُمَّ نَتْرُكُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ ؛ وفي رواية : قَالَ : كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ثُمَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنهم ( 2 ) . وقيل : بعد عمر على بن أبي طالب ؛ والأول أرجح ؛ قال ابن تيمية - رحمه الله : فلهذا قال أيوب وأحمد بن حنبل والدارقطني : من قدم عليًّا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار .ا.هـ . فإنه وإن لم يكن عثمان أحق بالتقديم وقد قدموه كانوا إما جاهلين بفضله وإما ظالمين بتقديم المفضول من غير ترجيح ديني ؛ ومن نسبهم إلى الجهل والظلم فقد أزرى بهم . ولو زعم زاعم أنهم قدموا عثمان لضغن كان في نفس بعضهم على علي وأن أهل الضغن كانوا ذوي شوكة ، ونحو ذلك مما يقوله أهل الأهواء ؛ فقد نسبهم إلى العجز عن القيام بالحق ، وظهور أهل الباطل منهم على أهل الحق . هذا وهم في أعز ما كانوا وأقوى ما كانوا . فإنه حين مات عمر كان الإسلام من القوة والعز والظهور والاجتماع والائتلاف فيما لم يصيروا في مثله قط . وكان عمر أعز أهل الإيمان وأذل أهل الكفر والنفاق إلى حد بلغ في القوة والظهور مبلغًا لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأمور ؛ فمن جعلهم في مثل هذه الحال جاهلين أو ظالمين أو عاجزين عن الحق فقد أزرى بهم ؛ وجعل خير أمة أخرجت للناس على خلاف ما شهد الله به لهم ( 3 ) .
ويلي الخلفاءَ الأربعةَ الستةُ الباقون من العشرة ، الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ، وهم : طلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد بن نفيل ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو عبيدة عامر بن الجراح ، رضي الله عنهم أجمعين .
خيار عباد الله بعد نبيهــم ... هم العشر طُرًّا بُشروا بجنان
زبير وطلح وابن عوف وعامر ... وسعدان والصهران والختنان
وقوله : ( وسعدان ) أي : سعد وسعيد ، و ( الصهران ) أبو بكر وعمر ، ( والختنان ) عثمان وعلي رضي الله عنهم .
قال الإمام أبو منصور البغدادي : أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة ، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة ، فيليهم الطائفة البدرية ، أي : الذين شهدوا بدرًا ، وهم ثلاثمائة وبضعة عشر - المهاجرون نيف على ستين ، والأنصار نيف وأربعون ومائتان - فقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر في بعض من شهدها : " إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ ، فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " ( 4 ) .
فيليهم أهل أحد الذين شهدوها ؛ فيليهم أهل بيعة الرضوان بالحديبية ، التي نزل فيهم :  لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيبًا  [ الفتح : 18 ] ( 5 ) .
قال ابن الصلاح - رحمه الله : وفي نص القرآن تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، وهم الذين صلوا إلى القبلتين في قول سعيد بن المسيب وطائفة ؛ وفي قول الشعبي : هم الذين شهدوا بيعة الرضوان ؛ وعن محمد بن كعب القرظي وعطاء بن يسار أنهما قالا : هم أهل بدر ؛ روى ذلك عنهما ابن عبد البر فيما وجدناه عنه ؛ والله أعلم ( 6 ) .
قلت : فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قد ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى :  وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ  [ التوبة : 100 ] ؛ والنص الصريح في تفضيل من أنفق من قبل الفتح وقاتل ؛ قال الله تعالى :  لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ  [ الحديد : 10 ] .
والحاصل أن من قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم أو في زمانه بأمره ، وأنفق شيئًا من ماله بسببه ، لا يعدله في الفضل أحد بعده كائنًا مَنْ مكان .
_______________
1 - ( مناقب الشافعي ) للبيهقي - تحقيق أحمد صقر : 1 / 434 .
2 - البخاري ( 3494 ) ، والرواية الأخرى ( 3455 ) .
3 - انظر ( مجموع الفتاوى ) : 4 / 428 .
4 - رواه أحمد : 79 ، 80 ، والبخاري ( 3007 ) ، ومسلم ( 2494 ) ، وأبو داود ( 2650 ) ، والترمذي ( 3305 ) ، والنسائي في الكبرى ( 11585 ) عن عليٍّ  .
5 - نقلا عن شرح النووي على مسلم : 8 / 118 ، بختصار وتصرف .
6 - انظر ( مقدمة ابن الصلاح ) ص 171 .
 
الأدب مع صحابة النبي e
بعد ذكر ما تقدم من فضلهم وأقوال السلف وأهل العلم عنهم ، يتبين لكل ذي بصيرة أن من الواجب على المؤمنين حبهم ، ونصرتهم والدفاع عنهم ، ومعاقبة من يتطاول عليهم .
ويتضح بالنقل والعقل مجموعة من الآداب نذكرها على النحو التالي : أولا : حبهم ، ثانيًا : الدعاء لهم والترضي عليهم ، ثالثًا : عدم اتخاذهم غرضًا ، رابعًا : الاقتداء بهم ، خامسًا : السكوت عما لا تقع ضرورة إلى الخوض فيه مما كان بينهم ، سادسًا : الذب عنهم ، وإليك بيان ذلك :

أولًا : حب الصحابة من الإيمان
أول الأدب مع الصحابة - رضوان الله عليهم - حبهم ، وقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة ببيان أن حبهم دين ، يتقرب إلى الله تعالى به ويرجى فضله وأجره ؛ كما يدخل في جملة حب النبي e حب أصحابه ؛ ولأن الله Y أثنى عليهم ومدحهم ، فقال : ] مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [ [ الفتح : 29 ] ، وقال : ] لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [ [ الفتح : 18 ] ، وقال : ] وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [ [ التوبة : 100 ] ، وقال : ] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [ [ الأنفال : 74 ] .
فإذا أنزلوا هذه المنزلة ، استحقوا على جماعة المسلمين أن يحبوهم ، ويتقربوا إلى الله U بمحبتهم ، لأن الله تعالى إذا رضي عن أحد أحبه ، وواجب على العبد أن يحب من يحبه مولاه ( [1] ) .
وإليك بعض أحاديث النبي e التي تنص على ذلك :
1 - في الصحيحين عن الْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ t عَنِ النَّبِىِّ e أَنَّهُ قَالَ فِي الأَنْصَارِ : " لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ ، وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ ؛ فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ " ( [2] ) .

2 – وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " لاَ يُبْغِضُ الأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " ( [3] ) .

3 – وفي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ " هذا لفظ البخاري ، ولفظ مسلم : " آيَةُ الْمُنَافِقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ ، وَآيَةُ الْمُؤْمِنِ حُبُّ الأَنْصَارِ " ، وفي رواية : " حُبُّ الأَنْصَارِ آيَةُ الإِيمَانِ ، وَبُغْضُهُمْ آيَةُ النِّفَاقِ " ( [4] ) ؛ الآية : العلامة ، والمعنى أن من عرف مرتبة الأنصار ، وما كان منهم في نصرة دين الإسلام ، والسعي في إظهاره ، وإيواء المسلمين ، وقيامهم في مهمات دين الإسلام حق القيام ، وحبهم النبي e وحبه إياهم ، وبذلهم أموالهم وأنفسهم بين يديه ، وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثارًا للإسلام ؛ ثم أحب الأنصار لهذا - كان ذلك من دلائل صحة إيمانه ، وصدقه في إسلامه ؛ لسروره بظهور الإسلام ، والقيام بما يرضي الله سبحانه وتعالى ورسوله e ؛ ومن أبغضهم كان بضد ذلك ، واستدل به على نفاقه وفساد سريرته ( [5] ) ؛ وقال شيخ الإسلام – رحمه الله : وإنما خص الأنصار - و الله أعلم - لأنهم هم الذين تبوؤوا الدار و الإيمان من قبل المهاجرين ، وآووا رسول الله e ، ونصروه ومنعوه ، وبذلوا في إقامة الدين النفوس والأموال ، و عادوا الأحمر و الأسود من أجله ، وآووا المهاجرين ، وواسوهم في الأموال ، وكان المهاجرين إذ ذاك قليلا غرباء فقراء مستضعفين ، ومن عرف السيرة و أيام رسول الله e وما قاموا به من الأمر ، ثم كان مؤمنا يحب الله ورسوله ، لم يملك أن لا يحبهم ، كما أن المنافق لا يملك أن لا يبغضهم ؛ وأراد بذلك - و الله أعلم - أن يعرف الناس قدر الأنصار ، لعلمه بأن الناس يكثرون والأنصار يقلون ، وأن الأمر سيكون في المهاجرين ، فمن شارك الأنصار في نصر الله ورسوله بما أمكنه فهو شريكهم في الحقيقة ، كما قال تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ [ [ الصف : 14 ] ، فبغض من نصر الله ورسوله من أصحابه نفاق ( [6] ) .
4 – وفي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ t أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ e عَنْ السَّاعَةِ ، فَقَالَ : مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : " وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا " قَالَ : لَا شَيْءَ ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ؛ فَقَالَ : " أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ " قَالَ : أَنَسٌ فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ e : " " أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ " ، قَالَ أَنَسٌ : فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ e وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ ( [7] ) ؛ قال مقيده - عفا الله عنه : وأنا أقول : وَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ e وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وأنس وصحابة النبي أجمعين ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ .
قال البيهقي - رحمه الله : وإذا ظهر أن حب الصحابة من الإيمان ، فحبهم أن يعتقد فضائلهم ويعترف لهم بها ، ويعرف لكل ذي حق منهم حقه ، ولكل ذي غناء في الإسلام منهم غناؤه ، ولكل ذي منزله عند رسول الله e منزلته ، وينشر محاسنهم ، ويدعو بالخير لهم ، ويقتدي بما جاء في أبواب الدين عنهم ، ولا يتبع زلاتهم وهفواتهم ، ولا يتعمد تهجين أحد منهم ببث ما لا يحسن عنه ، ويسكت عما لا تقع ضرورة إلى الخوض فيه مما كان بينهم ؛ وبالله التوفيق ( [8] ) .


[1] - انظر ( شعب الإيمان ) : 4 / 137 ، 138 - الدار السلفية - الهند .

[2] - البخاري ( 3572 ) ، ومسلم ( 75 ) واللفظ له .

[3] - مسلم ( 76 ) ، ورواه أيضا ( 77 ) عن أبي سعيد t .

[4] - البخاري ( 17 ، 3537 ) ، ومسلم ( 74 ) .

[5] - باختصار من شرح النووي على مسلم : 1 / 196 .

[6] - انظر ( الصارم المسلول ) ص 581 .

[7] - البخاري ( 3485 ، 5815 ، 5819 ، 6734 ) ، مسلم ( 2639 ) .

[8] - انظر ( شعب الإيمان ) للبيهقي : 4 / 146 - الدار السلفية - بومباي - الهند .
 
ثانيًا : الدعاء لهم والترضي عليهم
قال الله U : ] وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [ [ الحشر : 10 ] . فهذه الآية دليل على أن من الأدب مع هؤلاء الكرام الدعاء لهم ، ومر بنا قول عائشة - رضي الله عنها - في المبتدعة : أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لأَصْحَابِ النَّبِيِّ e ، فَسَبُّوهُمْ ؛ وروى الحاكم عن سعد بن أبي وقاص t قال : الناس على ثلاث منازل ، فمضت منهم اثنتان ، وبقيت واحدة ، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ، ثم قرأ : ] لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [ الآية [ الحشر : 8 ] ، ثم قال : هؤلاء المهاجرون ، وهذه منزلة ، وقد مضت ، ثم قرأ : ] وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [ الآية [ الحشر : 9 ] ، ثم قال : هؤلاء الأنصار ، وهذه منزلة ، وقد مضت ؛ ثم قرأ : ] وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [ الآية ، قال : فقد مضت هاتان المنزلتان ، وبقيت هذه المنزلة ؛ فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ( [1] ) . قال ابن تيمية - رحمه الله : فجعل سبحانه ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى للمهاجرين والأنصار والذين جاؤوا من بعدهم مستغفرين للسابقين وداعين الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم ، فعلم أن الاستغفار لهم ، وطهارة القلب من الغل لهم ، أمر يحبه الله ويرضاه ، ويثنى على فاعله ، كما أنه قد أمر بذلك رسوله في قوله تعالى : ] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [ [ محمد : 19 ] ، وقال تعالى : ] فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [ [ آل عمران : 159 ] ، ومحبة الشيء كراهته لضده ، فيكون الله يكره السب لهم الذي هو ضد الاستغفار ؛ والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة ، وهذا معنى قول عائشة - رضي الله عنها : أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد فسبوهم ؛ وعن مجاهد عن ابن عباس قال : لا تسبوا أصحاب محمد ، إن الله قد أمر بالاستغفار لهم ، وقد علم أنهم سيقتتلون ( [2] ) .
فالأدب مع هؤلاء الكرام أن يدعى لهم ، ويستغفر لهم ، ويترضى عليهم ؛ قال الله Y : ] وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [ ، وكيف لا يترضى المؤمن على من رضي الله عنهم ؟!


[1] - الحاكم في المستدرك ( 3800 ) ، وصححه .

[2] - انظر ( الصارم المسلول ) : 1 / 574 - دار ابن حزم - بيروت .
 
ثالثًا : عدم اتخاذهم غرضًا

من الأدب مع الصحابة y ألا يتخذ أحد منهم غرضًا ، أي : هدفًا يُرمى بقبيح الكلام كما يُرمى الهدف بالسهام ؛ وقد تقدم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما - مرفوعًا : " لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ " ، ومن حديث ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ , وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " .
فمن أصول عقيدة المسلم الكف عن ذكر أصحاب رسول الله إلا بخير ما يذكرون به ، وأنهم أحق أن ننشر محاسنهم ، ونلتمس لهم أفضل مخارجهم ، ونظن بهم أحسن المذاهب ؛ للأحاديث السابقة ، ولقوله e : " إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا "([1])، قال أهل العلم : لا يذكرون إلا بأحسن ذكر ( [2] ) ، وتقدم أقول السلف وأهل العلم في ذلك .
وروى أحمد وغيره عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : خَطَبَ عُمَرُ النَّاسَ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَامَ فِي مِثْلِ مَقَامِي هَذَا فَقَالَ : " أَحْسِنُوا إِلَى أَصْحَابِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ " ([3] ) ؛ وفي مصنف ابن أبي شيبة عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِبَابِ الْجَابِيَةِ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَامَ فِينَا كَقِيَامِي فِيكُمْ فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، اتَّقُوا اللَّهَ فِي أَصْحَابِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ " ( [4] ) ؛ وروى أحمد والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي ، اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي ، لاَ تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِى ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي ، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ " ( [5] ) .

[1] - الطبراني في الكبير : 10 / 198 ( 10448 ) ، وأبو نعيم في ( الحلية ) : 4 / 108 عن ابن مسعود ، ورواه الطبراني في الكبير : 2 / 96 ( 1427 ) عن ثوبان ، ورواه ابن عدى : 6 / 162 عن ابن عمر ؛ وصححه الألباني في الصحيحة بمجموع طرقه ( 34 ) .

[2]- انظر ( اجتماع الجيوش الإسلامية ) ص 86 – الكتب العلمية .

[3]- رواه أحمد 1/26 ، وابن ماجة ( 2363 ) ، والنَّسائي في الكبرى ( 9175 ، 9176 ، 9177 ) ، وابن حبان ( 4576 ) ، وصححه الألباني في الصحيحة ( 430 ) .

[4] - ابن أبي شيبة ( 32412 ) ، ورواه ابن أبي عاصم في ( السنة ) رقم ( 1490 ) .

[5] - رواه أحمد : 5 / 54 ، 57 ، والترمذي ( 3862 ) ، وقال : غريب ، وضعفه الألباني .
 
حكم من سب صحابة النبيe

دلت الأحاديث المتقدمة على تحريم سب الصحابة والتعرض لهم بما فيه نقص ، وقد عدَّ بعض أهل العلم سبهم من كبائر المعاصي ، وهو قول حسن ، فإن ما تُوعِّد عليه اللعن من الأعمال فهو من الكبائر ، وتقدم حديث ابنِ عباس y ، وروى الطبراني عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله e :" لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي " ( [1] ) . وقال إبراهيم النخعي : كان يقال : شتم أبيبكروعمرمنالكبائر([2])، وكذلك قال أبو إسحاق السبيعي : شتم أبي بكر وعمر من الكبائر التي قال تعالى : ] إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [ [ النساء : 31 ] ( [3] ) .
قال ابن تيمية - رحمه الله : فسب أصحاب رسول الله e حرام بالكتاب والسنة ؛ أما الأول فلأن الله سبحانه يقول : ] وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [ [ الحجرات : 12 ] ، وأدنى أحوال السابِّ لهم أن يكون مغتابًا ؛ وقال تعالى : ] وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ[ [الهمزة:1]، وقال تعالى: ] وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا[ [ الأحزاب : 58 ] ، وهم صدور المؤمنين فإنهم هم المواجهون بالخطاب في قوله تعالى:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا[ حيث ذُكرت ، ولم يكتسبوا ما يوجب أذاهم ،لأن الله سبحانه رضي عنهم رضًا مطلقًا ، بقوله تعالى : ] وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ[ [التوبة:100] ، فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان ، ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان،وقالتعالى:] لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ[[الفتح :18] ، والرضا من الله صفة قديمة ، فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضا ، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبدًا ... إلى أن قال : وأما السنة ففي الصحيحين عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد t قال :قالرسولاللهe:" لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ" ([4]) ، وذكر أحاديث وآثار في هذا المعنى .
هذا على سبيل العموم ، وأما من سب أحدًا من أصحاب رسول الله e خاصة أو انتقصه ؛ فقد اختلف أهل العلم في الحكم والعقوبة التي يستحقها : هل يكفر بذلك وتكون عقوبته القتل ، أو يفسق ويعزر ؟ وذلك بعد اتفاقهم على إثمه وضرورة عقوبته .
فذهب جمع من أهل العلم إلى القول بتكفير من سب الصحابة y أو طعن في عدالتهم وصرح ببغضهم ، وأنه بذلك قد أباح دم نفسه ، وحلَّ قتله ، إلا أن يتوب من ذلك ويترحم عليهم ؛ ففي كتاب ( السنة ) للخلال - رحمه الله - قال : سألت أبا عبد الله عن من يشتم أبا بكر وعمر وعائشة ؛ قال : ما رآه على الإسلام ؛ قال : وسمعت أبا عبد الله يقول : قال مالك : الذي يشتم أصحاب النبي e ليس لهم سهم ، أو قال : نصيب في الإسلام ([5]) ؛ قال : وأخبرني عبد الملك بن عبد الحميد قال : سمعت أبا عبد الله قال : من شتم أخاف عليه الكفر ، مثل الروافض ؛ ثم قال : من شتم أصحاب النبي e لا نأمن أن يكون قد مرق عن الدين ([6]) ؛ وقال : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سألت أبي عن رجل شتم رجلا من أصحاب النبي e ؟ فقال : ما أراه على الإسلام ([7]) .
وممن ذهب إلى هذا القول من السلف : الصحابي عبد الرحمن بن أبزى ، والأوزاعي ، وأبو بكر بن عياش ، وغيرهم ([8]) . فهؤلاء الأئمة صرحوا بكفر من سب الصحابة ، وبعضهم صرح مع ذلك أنه يعاقب بالقتل ، وإلى هذا القول ذهب بعض العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية .
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن سابَّ الصحابة لا يكفر بسبهم ، بل يفسق ويضلل ، ولا يعاقب بالقتل ، بل يكفي تأديبه وتعزيره تعزيرًا شديدًا يردعه ويزجره حتى يرجع ، وإن لم يرجع تكرر عليه العقوبة حتى يُظهر التوبة ؛ و ممن رأىذلك:عمربنعبدالعزيز، وعاصم الأحول ، وإسحاق بن راهوية ، وغيرهم ([9]) .
وذهب آخرون إلى التفصيل في ذلك ؛ فأما من سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، فقال شيخ الإسلام - رحمه الله : قال القاضي أبو يعلى : من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف ؛ وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد ، وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم ، فروي عن مالك : من سب أبا بكر جلد ؛ ومن سب عائشة قتل ؛ قيل له :لم ؟ قال :من رماها فقد خالف القرآن ، لأن الله تعالى قال : ] يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ [ النور : 17 ] .
قال أبو السائب القاضي : كنت يومًا بحضرة الحسن بن زيد الداعي [ بطبرستان ] ، وكان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوجه في كل سنة بعشرين ألف دينار إلى مدينة السلام يفرق على سائر ولد الصحابة وكان بحضرته رجل فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة ؛ فقال : يا غلام اضرب عنقه ، فقال له العلويون : هذا رجل من شيعتنا ! فقال : معاذ الله ! هذا رجل طعن على النبي e ، قال الله تعالى : ] الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [ [ النور : 26 ] ؛ فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي e خبيث ، فهو كافر ؛ فاضربوا عنقه ، فضربوا عنقه وأنا حاضر ؛ رواه اللالكائي ( [10] ) .
وأما من سب غير عائشة من أزواجه e ففيه قولان : أحدهما : أنه كسابِّ غيرهن من الصحابة ؛ والثاني - وهو الأصح - أنه من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة - رضي الله عنها - قاله ابن عباس وغيره ؛ وذلك لأن هذا فيه عار وغضاضة على رسول الله e ، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن بعده ، وقد قال اللهتعالى:] إِنَّالَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [ [ الأحزاب : 57 ] والأمر فيه ظاهر . انتهى باختصار ([11]) .

[1] - قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 9 / 748 ) : رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير علي بن سهل وهو ثقة.

[2] - ذكره ابن تيمية في ( الصارم المسلول ) : 1 / 577 - دار ابن حزم - بيروت .

[3] - ذكره ابن تيمية في ( الصارم المسلول ) : 1 / 577 ، وعزاه الحافظ في ( الفتح : 12 / 183 ) لإسماعيل القاضي .

[4] - انظر ( الصارم المسلول ) : 1 / 574 - دار ابن حزم - بيروت .

[5] - ( السنة ) للخلال : 3 / 493 ( 779 ) .

[6] - ( السنة ) للخلال : 3 / 493 ( 780 ) .

[7] - ( السنة ) للخلال : 3 / 493 ( 782 ) .

[8] - انظر ( شرح الإبانة ) لابن بطة ص 160 - 162 .

[9] - انظر ( الصارم المسلول ) ص 568 ، 569 - تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد - الناشر : الحرس الوطني السعودي .

[10] - انظر ( شرح أصول اعتقاد أهل السنة ) للالكائي ) : 7 / 1269 .

[11] - انظر ( الصارم المسلول ) ص 566 ، 567 - تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد - الناشر : الحرس الوطني السعودي .
 
رابعًا : الاقتداء بهم
إن من أراد الحق والعمل به فلن يجد طريقًا يوصله إلى ذلك إلا عن طريق الصحابة y ، لما روى الترمذي والحاكم أن رسول الله e بعد ذكره للفرق الهالكة ، سئل عن الفرقة الناجية منهم ؟ فقال : " مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي " ( [1] ) ؛ وفيه دلالة واضحة على الاقتداء بهم y ؛ ولذلك فإن ضلال الناس - قديمًا وحديثًا - عن الصراط المستقيم سببه الأعظم : ترك ما كان عليه الصحابة y ، وعدم الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم .
وقد روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة عَنْ أَبِي نَجِيحٍ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ t قَالَ : وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ e مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا ؛ قَالَ : " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ؛ وإنْ تَأَمَّرَ عَليكُم عَبْدٌ ، فَإنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُم فَسَيرى اخْتِلافًا كَثِيرًا ، فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشدينَ المهديِّينَ ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ ، وإيَّاكُم ومُحْدَثاتِ الأمُورِ ، فإنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالةٌ " ( [2] ) . قال ابن القيم - رحمه الله : فقرن سنة خلفائه بسنته ، وأمر باتباعها كما أمر باتباع سنته ، وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن يعض عليها بالنواجذ ؛ وهذا يتناول ما أفتوا به وسنوه للأمة وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شيء ، وإلا كان ذلك سنته ؛ ويتناول ما أفتى به جميعهم أو أكثرهم أو بعضهم ؛ لأنه علق ذلك بما سنه الخلفاء الراشدون ، ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد ، فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته فهو من سنة الخلفاء الراشدين ( [3] ) .
فالاقتداء بصحابة النبي e من الدين ، إذ هم من نقلوا الدين إلى غيرهم ، وهم كانوا أحرص الناس بعد رسول الله e على الالتزام بالإسلام ، فما كان عندهم دين فهو الدين ، ومن هنا كان المسلمون حريصين على نقل الدين عن الصحابة أو من نقل عنهم ، بل روى ابن بطة في ( الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ) عن إِبْرَاهِيم النخعي - رحمه الله - قال : لَوْ بَلَغَنِي عَنْهُمْ - يَعْنِى اَلصَّحَابَةَ - أَنَّهُمْ لَمْ يُجَاوِزُوا بِالْوُضُوءِ ظُفْرًا مَا جَاوَزْتُه ؛ وَكَفَى عَلَى قَوْمٍ إزْرَاءٌ أَنْ تُخَالِفَ أَعْمَالَهُمْ .ا.هـ . ثم قال ابن بطة - رحمه الله - بعد نقله لآثار أخرى : ثُمَّ اَلتَّرَحُّم عَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اَللَّهِ e صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ وَأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ، وَذِكْرُ مَحَاسِنِهِمْ وَنَشَرُ فَضَائِلِهِمْ ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهَدْيهِمْ ، وَالِاقْتِفَاءُ لِآثَارِهِمْ ؛ وَأَنَّ اَلْحَقَّ فِي كُلِّ مَا قَالُوهُ ، وَالصَّوَابَ فِيمَا فَعَلُوهُ .ا.هـ .

[1] - رواه الترمذي ( 2641 ) ، الحاكم 1 / 129 عن عبد الله بن عمرو . ورواه الطبراني في الأوسط ( 7840 ) من حديث أنس ، وقال الهيثمي في المجمع : 1 / 156 : رجاله ثقات أثبات ا.هـ . والحديث ورد من طرق كثيرة تقوم بها الحجة كما قال الحاكم ، وقد صححه كثير من أهل العلم ، وعده الكتاني من المتواتر ( 18 ) .

[2] - رواه أحمد : 4 / 126 ، وأبو داود ( 4607 ) ، والترمذي ( 2676 ) وقال : حسن صحيح ؛ وابن ماجة ( 42 ، 44 ) .

[3] - انظر ( إعلام الموقعين ) لابن القيم – تحقيق : طه عبد الرؤوف سعد - مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة .
 
خامسًا : السكوت عما لا تقع ضرورة إلى الخوض فيه مما كان بينهم
وهذا أمر مقرر في عقيدة أهل السنة ؛ فالصحابة y سبقوا الناس بالفضل ، وشهدوا المشاهد مع رسول الله e ؛ وأمر الله بالاستغفار لهم ، والتقرب إليه بمحبتهم ، وفرض ذلك على لسان نبيه ، وتقدمت الأحاديث في ذلك ؛ والله تعالى يعلم ما سيكون منهم ، وأنهم سيقتتلون ، وأن ما شجر بينهم مغفور لهم ، فضلا من الله تعالى .
وروى البيهقي في ( شعب الإيمان ) عن أبي بكر بن عياش - في أوصاف أهل السنة والجماعة - قال : ومن كف عن أصحاب النبي e فيما اختلفوا فيه ، فلم يذكر أحدًا منهم إلا بخير ( [1] ) ؛ وتقدم أيضا أقوال أهل العلم في هذه المسألة ؛ وللقحطاني في نونيته :
قـل خـير قـول في صحابة أحمد ... وامدح جميع الآل والنسوان
دع ما جرى بين الصحابة في الوغى ... بسيوفهم يوم التقى الجمعان
فقتيلهم مـنهم وقـاتلهم لـهم ... وكلاهما في الحشر مرحومان
والله يـوم الحشر ينزع كل مـا ... تحوي صدورهم من الأضغان

[1] - انظر ( شعب الإيمان ) رقم ( 1513 ) .
 
سادسًا : الذب عنهم
الدفاع عن صحابة النبي e والذب عنهم إنما هو دفاع عن الدين وذبٌّ عنه ، إذ الذي يقصدهم بالتنقص إنما يقصد الطعن في الدين ، لأنهم هم الذين نقلوا الإسلام إلى الناس في ربوع الأرض ؛ رَوَى الخطيب البغدادي في ( الكفاية ) عن أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيَّ قَال : إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُل يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ e فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسُول e حَقٌّ ، وَالْقُرْآنَ حَقٌّ ، وَمَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ ، وَإِنَّمَا أَدَّى إِلَيْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ الصَّحَابَةُ ، وَهَؤُلاَءِ يُرِيدُونَ أَنْ يُجَرِّحُوا شُهُودَنَا ، لِيُبْطِلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ، وَالْجَرْحُ بِهِمْ أَوْلَى ، وَهُمْ زَنَادِقَةٌ ( [1] ) .
فهذا وجه من وجوه الذب عنهم ، ولما كان الذب عن الدين واجب ، كان الذب عنهم كذلك .
وروى عبد الرزاق عن عمر t قال : قال رسول الله e : " أكْرمُوا أَصْحَابِي ، فَإِنَّهُمْ خِيَارُكُمْ " الحديث ( [2] ) ؛ والذب عنهم من إكرامهم ... والعلم عند الله تعالى .

[1] - انظر (الكفاية في علم الرواية ) للخطيب البغدادي ص 49 ، والإصابة 1 / 17 و 18 .

[2] - رواه عبد الرزاق ( 20710 ) وعنه عبد بن حميد ( 23 ) ، وصححه الألباني في ( مشكاة المصابيح ) رقم ( 6003 ) .
 
خاتمة :
هذا ما خطه القلم موجزًا في هذا الموضوع المهم ، وأرجو الله تعالى أن يتقبله مني وأن يعفو عن تقصيري ، وأن يجمعني بأحبتي : النبي e وصحابته y في أعلى عليين .. إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه ... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
 
عودة
أعلى