الأدب مع الجيران

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فالحديث عن الأدب مع الجيران متشابك الأغصان ، ملتف الأفنان ؛ يتصل بما كان وما بات يفعله أهل الزمان .
وقد كان للجوار قبل الإسلام حق يعرفه ذوو العقول والمروءة والنخوة من العرب ؛ وشاع ذلك بينهم ، حتى كان رمزًا للحماية والصيانة أن فلانًا في جوار فلان ، وحتى صار من أراد دفع شرور البعض دخل في جوار بعض أسياد العرب ، فلا يقربه أحد بسوء .
وظهر في العرب أخلاقيات لحفظ الجوار ؛ حتى قال عنترة :
إني امـرؤٌ سَمْحُ الخليقةِ مَاجـدُ ... لا أُتْبِعُ النفسَ اللجوجَ هَوَاها
وأَغُضُّ طَرفي إنْ بَدَتْ لي جَارتي ... حتى يواري جَـارتي مَأْوَاها
فلما جاء الإسلام أقر ما كان يفعله أهل المروءة والنخوة ، وزاد عليه حقًّا وفضلا وأدبًا في معاملة الجار .
فجعل الإسلام من علامات كمال الإيمان الإحسان إلى الجار ، وكف الأذى عنه ، والصبر عليه وتحمل أذاه ؛ فالجار له من الحرمة والحق ما جعله الله له في كتابه ، ووصى به جبريل رسول الله e غاية الوصية ، وعلق النبي e الإيمان بالله واليوم الآخر بإكرامه والإحسان إليه وعدم أذيته .
ولما أصبح الناس في زمان نسيت فيه كثير من تلكم الآداب التي عاش بها الجيران يرعى بعضهم حرمات بعض ، ويستر بعضهم عورات بعض ، ويسعى بعضهم في حاجات بعض ؛ يطلبون بذلك مرضات الله تعالى ، ويحتسبون الأجر عنده سبحانه ؛ أردنا في هذه الرسالة ( الأدب مع الجيران ) بيان ما يتعلق بهذا الموضوع بدءًا من تعريف الجار ، وأقسام الجيران وأصنافهم ، وانتهاء بالتحذير من إيذاء الجار لما يترتب عليه من سوء العاقبة ، نعوذ بالله تعالى منها .
والله تعالى أسأل أن يرد المسلمين إلى دينهم ردًا جميلا ، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ؛ إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه ؛ وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
 
تعريف الجار

الجارُ لغة : المجاور الذي يُجاوِرُك؛ وَالجِوارُ : المُجاوَرَةُ ؛تقول:جاوَرَهُ مُجاوَرةً وجِوَارًا وجُوَارًا ( بكسرالجيم وضمها والكسر أفصح ) ؛ وجارُكَ : الذي يُجاوِرُك بَيْتَ بَيْت ، والجمع أَجْوارٌ و جِيرَةٌ وجِيرانٌ ؛ فالجار من يقرب مسكنه منك ؛ وهو من الأسماء المتضايفة ، فإن الجار لا يكون جارًا لغيره إلا وذلك الغير جار له ، كالأخ والصديق ؛ وامرأة الرجل جَارَتُهُ وهوجارُها ؛ فالمرأَةُ جارَةُ زوجها لأَنه مُؤْتَمَرٌ عليها ، وأُمر أَن يحسن إِليها ، وأَن لا يعتدي عليها ؛ لأَنها تمسكت بعَقْدِ حُرْمَةِ الصِّهْرِ ، وصار زوجها جارها لأَنه يجيرها ويمنعها ؛ والجارة : الضَّرَّةُ ، من المُجاورة بينهما ؛ وفي حديث أُم زَرْع : مِلْءُ كِسائها وغَيظُ جارَتها ؛ أَي أَنها تَرَى حُسْنها فَتَغِيظُها بذلك ؛ ولما استعظم حق الجار عقلا وشرعًا عُبر عن كل من يعظم حقه أو يستعظم حق غيره بالجار .
فاسم ( الجار ) يشمل المسلم ، وغير المسلم ، والعابد والفاسق ، والغريب والبلديَّ ، والنّافعَ والضّارَّ ، والقريب والأجنبيَّ ، والأقرب دارًا والأبعد ، وله مراتب بعضها أعلى من بعض .

وللجوار معنى آخر ، وهو الأمان والخفارة ، يقال : استَجارَهُ من فلان فأَجارَهُ منه ، وأَجارَ الرجلَ إِجَارَةً : خَفَرَهُ ؛ واسْتَجَارَهُ : سأَله أَن يُجِيرَهُ ، ويقال للذي يستجير بك : جارٌ ، وللذي يُجِيرُ : جَارٌ ؛ والجار : الذي أَجرته من أَن يظلمه ظالم ؛ وجارُك : المستجيرُ بك ؛ وقيل : الجارُ والمُجِيرُ والمُعِيذُ واحدٌ ؛ فالجارُ والمُجِيرُ : هو الذي يمنعك ويُجِيرُك ؛ وفي الحديث : " ويُجِيرُ عليهم أَدْنَاهُمْ " ( [1] ) ؛ أَي : إِذا أَجار واحدٌ من المسلمين - حرٌّ أَو عبد أَو امرأَة - واحدًا أَو جماعة من الكفار وخَفَرَهُمْ وأَمَّنهم ، جاز ذلك على جميع المسلمين ، لا يُنْقَضُ عليه جِوارُه وأَمانُه ( [2] ) .

[1] - رواه بهذا اللفظ ابن خزيمة ( 2280 ) ، ورواه أبو داود ( 2751 ) بلفظ : " ويُجِيرُ عليهم أَقْصَاهُمْ " ، ورواه ابن ماجة ( 2685 ) بلفظ : " وَيُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ " ؛ كلهم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .

[2] - انظر لسان العرب باب الراء فصل الجيم والواو ؛ ومفردات الراغب ، ومختار الصحاح ( مادة ج و ر ) ؛ وللجار معان أخرى ليس لها في رسالتنا مدخل .
 
الجار في القرآن​
ورد لفظ الجار في القرآن على أَربعة أَوجه :
الأَوّل : بمعنى المجير والمعين : { وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ } [ الأنفال : 48 ] ، أَي : معين .
الثَّاني : بمعنى طلب الجِوار والأمان : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } [ التوبة : 6 ] أي : أَمِّنْهُ ؛ والمعنى : إِن طلب منك أَحد من أَهل الحرب أَن تجيره من القتل إِلى أَن يسمع كلام اللَّه فأَجره ، وعرِّفه ما يجب عليه أَن يعرفه من أَمر اللَّه تعالى الذي يتبين به الإِسلام ، { ثم أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } لئلا يصاب بسوء قبل انتهائه إِلى مأْمنه . ا.هـ .
الثالث : بمعنى الإعاذة : { وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } [ المؤمنون : 88 ] ، أَي : يعيذ ؛ ومن عاذ باللَّه ، أَي : استجار به ، أَجاره اللَّه ، ومن أَجاره اللَّه لم يُوصَلْ إِليه ؛ وأجاره الله من العذاب أنقذه ؛ وقال اللَّه تعالى لنبيِّه : { قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ } [ الجن : 22 ] ؛ أَي : لن يمنعني من اللَّه أَحد .
الرّابع : بمعنى القريب الدَّار : { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ } [ النساء : 36 ] ، أَي : القريب الأَجنبيِّ .
 
أقسام الجيران
الجيران أقسام ثلاثة ، ولكل قسم منهم حق بحسبه :
الأول : جار مسلم ذو قرابة ؛ له حق الجوار ، وحق الإسلام ، وحق القرابة .
الثاني : جار مسلم غير ذي قربى ؛ فله حق الجوار ، وحق الإسلام .
الثالث : جار غير مسلم ؛ فله حق الجوار .
وقد جاء في ذلك حَدِيث مَرْفُوع أَخْرَجَهُ البزار والطَّبَرَانِيُّ وغيرهما عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه رَفَعَهُ : " الْجِيرَان ثَلَاثَة : جَار لَهُ حَقّ وَهُوَ الْمُشْرِك ، لَهُ حَقّ الْجِوَار ؛ وَجَار لَهُ حَقَّانِ وَهُوَ الْمُسْلِم ؛ لَهُ حَقّ الْجِوَار ، وَحَقّ الْإِسْلَام ؛ وَجَار لَهُ ثَلَاثَة حُقُوق : مُسْلِم لَهُ رَحِم ؛ لَهُ حَقّ الْجِوَار ، وَالْإِسْلَام ، وَالرَّحِم " لكنه ضعيف ( 1 ) .
وقال الله تعالى :  وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ  قال البيهقي : قيل في التفسير :  ذِي الْقُرْبَى  الجار الملاصق ،  وَالْجَارِ الْجُنُبِ  البعيد غير الملاصق ، ثم روى عن ابن عباس قال :  وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى  الذي بَيْنَك وبيْنَه قَرَابَة ؛  وَالْجَارِ الْجُنُبِ  الذي ليس بينك وبينه قرابة ( 2 ) ؛ قال ابن حجر : وَهَذَا قَوْل الْأَكْثَر ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ اِبْن عَبَّاس ( 3 ) ؛ قال الجصاص - رحمه الله : ذَكَرَ الْجَارَ ذَا الْقُرْبَى ، وَهُوَ قَرِيبُك الْمُؤْمِنُ الَّذِي لَهُ حَقُّ الْقَرَابَةِ ، وَأَوْجَبَ لَهُ الدِّينُ الْمُوَالَاةَ وَالنُّصْرَةَ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْجَارَ الْجُنُبَ ، وَهُوَ الْبَعِيدُ مِنْكَ نَسَبًا إذَا كَانَ مُؤْمِنًا ؛ فَيَجْتَمِعُ حَقُّ الْجِوَارِ وَمَا أَوْجَبَهُ لَهُ الدِّينُ بِعِصْمَةِ الْمِلَّةِ وَذِمَّةِ عَقْدِ النِّحْلَةِ ( 4 ) .
فجمعت الآية اثنين من أقسام الجيران ؛ وثبت في السنة مراعاة الجار غير المسلم ؛ فإنه يدخل في عموم الإحسان إلى الجار في مثل قوله صلى الله عليه وسلم : " وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ " ، وفي لفظ : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( 5 ) ؛ وروى أبو داود والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةً ، فَقَالَ : أَهْدَيْتُمْ لِجَارِي الْيَهُودِيِّ ؟ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ " ( 6 ) ؛ ففهم عبد الله بن عمرو عموم الإحسان إلى الجار من وصية النبي صلى الله عليه وسلم به ؛ قال الهيتمي في ( الزواجر عن اقتراف الكبائر ) : وَيَنْبَغِي الْإِحْسَانُ إلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنْتِجُ خَيْرًا كَثِيرًا ؛ كَمَا فَعَلَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ بِجَارِهِ الْمَجُوسِيِّ فَإِنَّهُ انْفَتَحَ مِنْ خَلَائِهِ مَحَلٌّ لِدَارِ سَهْلٍ يَتَسَاقَطُ مِنْهُ الْقَذَرُ ، فَأَقَامَ سَهْلٌ مُدَّةً يُنَحِّي لَيْلًا مِمَّا يَجْتَمِعُ مِنْهُ فِي بَيْتِهِ نَهَارًا ، فَلَمَّا مَرِضَ أَحْضَرَ الْمَجُوسِيَّ وَأَخْبَرَهُ ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ خَشِيَ مِنْ وَرَثَتِهِ أَنَّهُمْ لَا يَحْتَمِلُونَ ذَلِكَ فَيُخَاصِمُونَهُ ، فَعَجِبَ الْمَجُوسِيُّ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى هَذَا الْإِيذَاءِ الْعَظِيمِ ؛ قَالَ لَهُ : تُعَامِلُنِي بِذَلِكَ مُنْذُ هَذَا الزَّمَانِ الطَّوِيلِ وَأَنَا مُقِيمٌ عَلَى كُفْرِي ؟! مُدَّ يَدَك لِأُسْلِمَ ؛ فَمَدَّ يَدَهُ فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ مَاتَ سَهْلٌ ، رَحِمَهُ اللَّهُ .ا.هـ .
فَتَأَمَّلْ نَتِيجَةَ الصَّبْرِ وَعَاقِبَتَهُ وَفَّقَنَا اللَّهُ لِذَلِكَ وَغَيْرِهِ آمِينَ .
_____________________
- أخرجه البزار : 2 / 380 ، والطبراني في ( الشاميين ) ص476 ، وأبو نعيم في ( الحلية ) : 5 / 207 عن جابر ؛ ورواه البيهقي في الشعب ( 9560 ) من طريق سويد بن عبد العزيز قال : نا عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا ؛ قال البيهقي : سويد بن عبد العزيز ، وعثمان بن عطاء ، وأبوه ضعفاء ، غير أنهم غير متهمين بالوضع ، وقد روي بعض هذه الألفاظ من وجه آخر ضعيف .
2 - انظر شعب الإيمان : 17 / 5 ، 6 .
3 - انظر فتح الباري : 10 / 455 ؛ وتفسير الطبري عند الآية ( 36 ) من سورة النساء .
4 - انظر أحكام القرآن للجصاص عند الآية ( 36 ) من سورة النساء .
5 - البخاري ( 6018 ، 6136 ، 6138 ) ، ومسلم ( 47 ) .
6 - أبو داود ( 5152 ) ، والترمذي ( 1942 ) وقال حسن صحيح .
 
أصناف الجيران( 1 )
للجيران تصنيف حسب صلة الجار ومعاملة الجار لجاره ؛ وهي :
1 ) الجارُ النِّفِّيح : هو الغريب ؛ فالنَّفِيحُ والنِّفِّيحُ والمِنْفَحُ : الداخل على القوم ، أي : الغريب الذي لا ينتسب إليهم .
2 ) الجارُ الصِّنَّارَةُ : السِّيِّئُ الجِوارِ ؛ يقال : رجل صِنَّارَةٌ و صَنَّارَة : سَيِّءُ الخلق ؛ والصِّنَّوْرُ البخيل السيئ الخلق ، والصَّنانِيرُ : السَّيِّئُو الأَدب ، وإِن كانوا ذوي نباهة .
3 ) الجارُ الدَّمِثُ : الحَسَنُ الجِوارِ ؛ الدَّماثَةُ : سُهُولةُ الخُلُق ؛ مأخوذة من دَمِثَ المكان دَمثًا ؛ إذا لان وسهل .
4 ) الجارُ اليَرْبُوعِيُّ : الجارُ المنافق ؛ وهو نسبة إلى اليربوع ، فإنه يجعل لبيته بابان أحدهما القاصعاء ، وهو الذي يستخدمه في خروجه ودخوله ؛ والآخر النافقاء ؛ وهو عبارة عن مخرج ظاهره مغلق ولكن باطنه ممر إليه ؛ وهو الذي يخرج منه إذا شعر بالخطر ؛ ومنه أخذ المنافق ، لأنه ظاهره خلاف باطنه كالنافقاء .
5 ) الجار البَراقِشِيُّ : المُتَلَوِّنُ في أَفعاله ؛ يقال : بَرْقَشَ الشيء نقشه بألوان شتى ؛ وأصله من أبي بَرَاقِش ، وهو طائر يتلون ألوانًا .
6 ) الجارُ الحَسْدَلِيُّ : الذي عينه تراك وقلبه يرعاك ؛ نسبة إلى الحَسْدَل ، وهو القُرادُ ؛ ومنه أُخِذَ : الحَسَدُ يَقْشِرُ القَلْبَ كما يَقْشِرُ القرادُ الجِلْدَ ، فيَمتَصُّ دَمَه ؛ وَروي أن دَاوُد عليه السلام كَانَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ جَارِ سَوْءٍ عَيْنُهُ تَرَانِي وَقَلْبُهُ لَا يَنْسَانِي ؛ إنْ رَأَى حَسَنَةً كَتَمَهَا ، وإنْ رَأَى سَيِّئةً نَشَرَهَا ( 2 ) .
______________
- ذكر هذه الأصناف ابن منظور في ( لسان العرب باب الراء فصل الجيم والواو ) ؛ نقلا عن الأزهري في ( تهذيب اللغة ) من قول ابن الأعرابي ؛ وتناولتها بالشرح .
2 - ذكره أبو عبيد في ( الأمثال ) ، وابن عبد البر في ( بهجة المجالس وأنس المجالس ) ؛ وهو جزء من حديث رواه الطبراني في الأوسط ( 6180 ) عن ابن عباس موقوفًا بلفظ : كان من دعاء داود النبي عليه السلام : اللهم إني أعوذ بك من مال يكون علي فتنة ، ومن ولد يكون علي وبالا ، ومن امرأة السوء ، تقرب الشيب قبل المشيب ، وأعوذ بك من جار سوء ، ترعاني عيناه ، وتسمعني أذناه ، إن رأى حسنة دفنها ، وإن رأى سيئة أذاعها . قال الهيثمي في مجمع الزوائد : 10 / 183 : رواه الطبراني في الأوسط وفيه من لم أعرفهم .
 
حد الجار
اخْتَلَفَ العلماءُ فِي حَدِّ الْجِوَار ؛ فذهب الإمام أبو حنفية إلى أن جِيرَانَ المرء هم مُلَاصِقُوهُ ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ وَهِيَ الْمُلَاصَقَةُ ، وَلِقَوْلُهُ عليه السلام : " الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ " ( 1 ) ، فإنه لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ غَيْرُ الْمُلَاصِقِ بِالْجِوَارِ ؛ وقال صاحباه : هم الملاصقون وغيرهم ممَنْ يَسْكُنُ مَحَلَّتَهُ وَيَجْمَعُهُمْ مَسْجِدُ الْمَحَلَّةِ ( 2 ) .
وعند المالكية : قال الخرشي في ( شرح مختصر خليل ) : وَحَدُّ الْجَارِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ مَا كَانَ يُوَاجِهُهُ وَمَا لَصِقَ بِالْمَنْزِلِ مِنْ وَرَائِهِ وَجَانِبَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ أَوْ سُوقٌ مُتَّسِعٌ لَمْ يَكُنْ جَارًا .ا.هـ ( 3 ) .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وأحمد - رَحِمَهُما اللَّهُ : الْجَارُ إلَى أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ( 4 ) ؛ لحديث : " الْجَارُ أَرْبَعُونَ دَارًا ، هَكَذَا ، وَهَكَذَا ، وَهَكَذَا ، وَهَكَذَا " ( 5 ) ؛ قال ابن قدامة في ( المغني ) : وَهَذَا نَصٌّ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إنْ صَحَّ ؛ وَإِنْ لَمْ يَثْبُت الْخَبَرُ ، فَالْجَارُ هُوَ الْمُقَارِبُ ، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ ( 6 ) .
وأخرج البخاري في الأدب عن الحسن البصري أنه سئل عن الجار فقال : أربعين دارًا أمامه ، وأربعين خلفه ، وأربعين عن يمينه ، وأربعين عن يساره ( 7 ) .
والذي يظهر رجوع ذلك إلى العرف ، فإنه لم يصح في ذلك عن المعصوم صلى الله عليه وسلم شيء ؛ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الاجْتِمَاعَ فِي مَدِينَةٍ جِوَارًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :  لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا  ، وقد اختلفت أنظار الفقهاء في الحد ؛ فيُرجَعُ فيه إلى العرف ، والعلم عند الله تعالى .
_____________
1 - أحمد : 6 / 39 ؛ والبخاري ( 2258 ، 6977 ، 6678 ، 6980 ، 6981 ) عن أبي رافع  .
2 - انظر البناية شرح الهداية للبدر العيني : 13 / 461 ( الكتب العلمية ) ، وتكملة البحر الرائق للطوري : 9 / 281 ، 282 .
3 - انظر شرح مختصر خليل للخرشي ؛ ونحوه في التاج والإكليل شرح مختصر خليل .
4 - انظر روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي : 3 / 45 ( دار المعرفة ) ، والمغني لابن قدامة : 8 / 272 ( دار الحديث ) .
5 - قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 8 / 168 ) : رواه أبو يعلى عن شيخه محمد بن جامع العطار وهو ضعيف ؛ ورواه أبو داود في ( المراسيل رقم 350 ) عن الزهري مرسلا " أَرْبَعُونَ دَارًا جَارٌ " ووصله الطبراني في الكبير : 19/ 143 من طريق الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، بنحوه ؛ لكن إسناده ضعيف جداً ؛ فإنَّ فيه يوسف بن السفر متروك ؛ وروى البيهقي في السنن الكبرى : 6 / 276 عن عائشة مرفوعا بمعناه من طريقين ثم قال : وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ ، وَالْمَعْرُوفُ الْمُرْسَلُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .ا.هـ . فالحديث لم يصح مرفوعًا .
6 - انظر المغني : 8 / 283 .
7 - الأدب المفرد ( 109 ) .
 
الجار قبل الدار​
كانت العرب تقول : لا يَنْفعُك من جَارِ سَوءٍ تَوَقٍّ ( 1 ) ؛ وهو مثل يُضرب في سوء المجاورة ؛ قال أبو عبيد : يعني : إنك لا تقدر على الاحتراس منه ولو حرصت ، لقربه منك .ا.هـ .
والتوقي : الاتقاء والاحتراس .
ومن كلام الحكماء : الجار قبل الدار ، والرفيق قبل الطريق ؛ أخذه الشاعر فقال :
يقولون قبل الدَّار جارٌ مجاورٌ ... وقبل الطَّريق النَّهجِ أُنسُ رفيقِ
ولم يزل العقلاء يتخيَّرون حسن الجوار ؛ كما قال أبو تمام :
مَنْ مُبْلِغُ أفْنَاءَ يعرُب كلَّها ... أني بَنيت الجارَ قبل المنزلِ
وقال آخر :
اطلب لنفسك جيرانًا تجاورهم ... لا تصلح الدَّار حتّى يصلح الجار​
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من سوء الجوار ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْمُقَامِ ، فَإِنَّ جَارَ البَادِي يَتَحَوَّلُ " ( 2 ) .
وروى الطبراني عَنْ عُقْبَةَ بن عَامِرٍرضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ يَوْمِ السُّوءِ ، وَمِنْ لَيْلَةِ السُّوءِ ، وَمِنْ سَاعَةِ السُّوءِ ، وَمِنْ صَاحِبِ السُّوءِ ، وَمِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ " ( 3 ) .
وأمر النبي أمته أن يستعيذوا من جار السوء ؛ فروى أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ  قَالَ : " تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ جَارِ الْمَقَامِ ، فَإِنَّ جَارَ الْمُسَافِرِ إِذَا شَاءَ أَنْ يُزَالَ زَالَ " ؛ ورواه النسائي بلفظ : " تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَارِ السَّوْءِ فِي دَارِ الْمُقَامِ ، فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ عَنْكَ " ( 4 ) . ومر بك دعاء دَاوُد  أنه كَانَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ جَارِ سَوْءٍ عَيْنُهُ تَرَانِي وَقَلْبُهُ لَا يَنْسَانِي ؛ إنْ رَأَى حَسَنَةً كَتَمَهَا ، وإنْ رَأَى سَيِّئةً نَشَرَهَا .
وفي أمثال العرب إذا كان للإنسان دار وله جار سيئ : هذا أحقُ منزلٍ بتَرْكٍ .
وقال الشاعر :
يلومونني أن بعت بالرُّخصِ منزلي ... ولم يعرفوا جارًا هناك ينغِّصُ
فقلت لـهم كفُّوا الملام فإنَّها ... بجيرانها تغلو الدِّيـار وترخصُ
وقال آخر :
ألا من يشتري دارًا برخصٍ ... كراهة بعض جيرتها تباع​
ومنه قولهم : بعتُ جاري ولم أبع داري ؛ يقول : كنتُ راغبا في الدار إلا أني بعتُها بسبب الجار السوء .
ومما يؤمر الكريم باجتنابه ... جار سوء ملاصق لجنابه​
وروى ابن أبي شيبة عن الحسن قال : قال لقمان لابنه : يا بني حملت الجندل والحديد فلم أر شيئًا أثقل من جار سوء ؛ وقد ذكر الفقهاء أن من اشترى دارًا لها جار سوء فعيب ترد به ؛ فنعوذ بالله تعالى من جار السوء .
_______
1 - انظر الأمثال لأبي عبيد ؛ ومجمع الأمثال للميداني ، والأمثال للعسكري .
2 - رواه البخاري في ( الأدب المفرد ) رقم 117 ، وأبو يعلى ( 6536 ) ، وابن حبان ( 1033 ) ، والحاكم ( 1951 ) وصححه على شرط مسلم ؛ ووافقه الذهبي .
3 - الطبراني في الكبير : 17 / 294 ( 810 ) ؛ وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 7 / 220 ) : رواه الطبراني ورجاله ثقات ؛ ثم قال ( 10 / 144 ) : رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح غير بشر بن ثابت البزار و هو ثقة .ا.هـ . فالحديث صحيح .
4 - أحمد : 2 / 346 ؛ والنسائي ( 5502 ) ؛ والحاكم ( 1952 ) وصححه على شرط مسلم ؛ ووافقه الذهبي .
 
حقوق الجوار​
جاءت النصوص الشَّرعية تحضُّ على احترام الجوار ، ورعاية حقِّ الجار ؛ والحق هو الشيء الثابت الذي لا يصح التفريط فيه ؛ وَحُقُوقُ الجَارِ يَجْمَعُهَا الْإِكْرَامُ وَكَفُّ الْأَذَى .
ومن حقوق الجار ما ذكره الغزَّاليُّ - رحمه الله – في ( إحياء علوم الدين ) قال : ليس حقُّ الجوار كفُّ الأذى فقط ، بل احتمال الأذى ؛ فإنَّ الجار - أيضًا - قد كفَّ أذاه ، فليس في ذلك قضاء حقٍّ ؛ ولا يكفي احتمال الأذى بل لابدَّ من الرِّفق وإسداء الخير والمعروف ... إلى أن قال : وجملة حق الجار : أن يبدأه بالسلام ، ولا يطيل معه الكلام ، ولا يكثر عن حاله السؤال ، ويعوده في المرض ، ويعزيه في المصيبة ، ويقوم معه في العزاء ، ويهنئه في الفرح ، ويظهر الشركة في السرور معه ، ويصفح عن زلاته ، ولا يتطلع من السطح إلى عوراته ، ولا يضايقه في وضع الجذع على جداره ، ولا في مصب الماء في ميزابه ، ولا في مطرح التراب في فنائه ، ولا يضيق طرقه إلى الدار ، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره ، ويستر ما ينكشف له من عوراته ، وينعشه من صرعته إذا نابته نائبة ، ولا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته ، ولا يسمع عليه كلامًا ، ويغض بصره عن حرمته ، ولا يديم النظر إلى خادمته ، ويتلطف بولده في كلمته ، ويرشده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه ؛ هذا إلى جملة الحقوق الثابتة لعامة المسلمين .ا.هـ .
ومن الحقوق التي أعطاها الإسلام للجار ؛ ما جاء في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لَا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ " ؛ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ، وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ ( 1 ) ؛ أَيْ : لَأُشِيعَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَة فِيكُمْ وَلَأُقَرِّعَنَّكُمْ بِهَا ، كَمَا يُضْرَبُ الْإِنْسَان بِالشَّيْءِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ لِيَسْتَيْقِظ مِنْ غَفْلَتِهِ ( 2 ) ؛ وفي الحديث بيان أن من حق الجار على جاره إذا أراد أن يغرز خشبة في جداره لمنفعة لا تكون إلا بذلك ، دون أن يضر بجاره ، فليس له منعه ؛ قال ابن تيميّة - رحمه الله : وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْمُجَاوَرَةَ تُوجِبُ لِكُلٍّ مِنْ الْحَقِّ مَا لَا يَجِبُ لِلْأَجْنَبِيِّ ؛ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا لَا يَحْرُمُ لِلْأَجْنَبِيِّ ؛ فَيُبِيحُ الِانْتِفَاعَ بِمِلْكِ الْجَارِ الْخَالِي عَنْ ضَرَرِ الْجَارِ ، وَيَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْمُنْتَفِعِ إذَا كَانَ فِيهِ إضْرَارٌ .ا.هـ ( 3 ) . وقال ابن رجب - رحمه الله : ومذهب أحمدَ ومالكٍ أنَّه يمنع الجار أنْ يتصرَّف في خاصِّ ملكه بما يضرُّ بجاره ، فيجبُ عندهما كفُّ الأذى عن الجار بمنعِ إحداث الانتفاع المضرِّ به ، ولو كان المنتفعُ إنَّما ينتفعُ بخاصِّ ملكه ؛ ويجب عندَ أحمد أنْ يبذُلَ لجاره ما يحتاجُ إليه ، ولا ضررَ عليه في بَذله ، وأعلى مِنْ هذين أنْ يصبر على أذى جاره ، ولا يُقابله بالأذى . ا.هـ ( 4 ) .
ومن ذلك - أيضًا - ما رواه ابن ماجة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَأَرَادَ بَيْعَهَا فَلْيَعْرِضْهَا عَلَى جَارِهِ " ( 5 ) ؛ وفي الصحيحين عن أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ " ( 6 ) ؛ والصقب والسقب : الْقُرْب وَالْمُلَاصَقَة ؛ وروى أحمد وأهل السنن عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ ، يُنْتَظَرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا ؛ إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا ( 7 ) .
فالجار الملاصق لأرض أو عقار هو أحق بشرائه إذا أراد صاحبه بيعه ؛ وذلك حفظًا لجواره ، ومراعاة لما قد يكون من الجار الجديد ما لا يناسبه ، أو يكون منه إيذاء .

ولما كان المراد حفظ حرمة الجار وستر عياله ؛ رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر الدية والقصاص لمن تعدى ؛ فقد روى الدارقطني عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لَوْ أَنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ عَلَى جَارِهِ ، فَخَذَفَ عَيْنَهُ بِحَصَاةٍ ، فَلاَ دِيَةَ وَلاَ قِصَاصَ " ( 8 ) .
________
1 - البخاري ( 2463 ) ، ومسلم ( 1609 ) .
2 - انظر فتح الباري لابن حجر : 5 / 111 ، وشرح مسلم للنووي : 11 / 47 .
3 - انظر مجموع الفتاوى :
4 - انظر جامع العلوم والحكم ص .
5 - ابن ماجة (2493) ، والطبراني : 11 / 293 ( 11780 ) وصححه الألباني في الصحيحة ( 2358 ) .
6 - أحمد : 6 / 39 ؛ والبخاري ( 2258 ، 6977 ، 6678 ، 6980 ، 6981 ) عن أبي رافع  .
7 - أحمد : 3 / 303 ، وأبو داود ( 3518 ) ، والترمذي ( 1369 ) ، والنسائي في الكبرى ( 6264 ) ، وابن ماجة ( 2494 ) .
8 - الدارقطني : 4 / 144 ؛ والحديث رواه أحمد : 2 / 385 ، والنسائي ( 4860 ) ، بلفظ : " مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ " ؛ ورواه مسلم ( 2158 ) بلفظ : " مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ " .
 
حسن الجوار
من الآداب التي راعاها الإسلام حسن الجوار ، وهو القيام العملي بحقوق الجار ، فإن من قام بحق جاره فقد أحسن جواره ، ومن أساء فقد آذى جاره ، وتعرض لعقوبة ربه جل جلاله .
وقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُعَظِّمُ الْجِوَارَ وَتَرْعَى حِفْظَهُ ، وَتُوجِبُ فِيهِ مَا تُوجِبُ فِي الْقَرَابَةِ ، قَالَ زُهَيْرٌ :
وَجَارُ الْبَيْتِ وَالرَّجُلُ الْمُنَادِي ... أَمَامَ الْحَيِّ عَقْدُهُمَا سَوَاءُ​
يُرِيدُ بِالرَّجُلِ الْمُنَادِي مَنْ كَانَ مَعَكَ فِي النَّادِي ، وَهُوَ مَجْلِسُ الْحَيِّ .ا.هـ ( 1 ) .
وقال عنترة :
إني امـرؤٌ سَمْحُ الخليقةِ مَاجـدُ .... لا أُتْبِعُ النفسَ اللجوجَ هَوَاها
وأَغُضُّ طَرفي إنْ بَدَتْ لي جَارتي .... حتى يواري جَـارتي مَأْوَاها
فلما جاء الإسلام أقر ما كان يفعله أهل المروءة والنخوة ، وزاد عليه حقًّا وفضلا وأدبًا في معاملة الجار ؛ قال الله تعالى : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ } الآية [ النساء : 36 ] ؛ فأمر الله تعالى بالإحسان إلى الجار ؛ وَالْإِحْسَانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ : مِنْهَا الْمُوَاسَاةُ لِلْفَقِيرِ مِنْهُمْ إذَا خَافَ عَلَيْهِ الضَّرَرَ الشَّدِيدَ مِنْ جِهَةِ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ ، وَمِنْهَا حُسْنُ الْعِشْرَةِ وَكَفُّ الْأَذَى عَنْهُ ، وَالْمُحَامَاةُ دُونَهُ مِمَّنْ يُحَاوِلُ ظُلْمَهُ ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَجَمِيلِ الْفِعَالِ ؛ وَمِمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَقِّ الْجِوَارِ الشُّفْعَةَ لِمَنْ بِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِهِ ( 2 ) .
قَالَ ابْن أَبِي جَمْرَة - رحمه الله : حِفْظ الْجَار مِنْ كَمَالِ الْإِيمَان ، وَكَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يُحَافِظُونَ عَلَيْهِ ، وَيَحْصُل اِمْتِثَال الْوَصِيَّة بِهِ بِإِيصَالِ ضُرُوب الْإِحْسَان إِلَيْهِ بِحَسَبِ الطَّاقَة كَالْهَدِيَّةِ ، وَالسَّلَام ، وَطَلَاقَة الْوَجْه عِنْدَ لِقَائِهِ ، وَتَفَقُّد حَاله ، وَمُعَاوَنَته فِيمَا يَحْتَاج إِلَيْهِ إِلَى غَيْر ذَلِكَ ؛ وَكَفّ أَسْبَاب الْأَذَى عَنْهُ عَلَى اِخْتِلَاف أَنْوَاعه حِسِّيَّة كَانَتْ أَوْ مَعْنَوِيَّة ؛ وَقَدْ نَفَى صلى الله عليه وسلم الْإِيمَان عَمَّنْ لَمْ يَأْمَن جَاره بَوَائِقه ؛ وَهِيَ مُبَالَغَة تُنْبِئ عَنْ تَعْظِيم حَقّ الْجَار وَأَنَّ إِضْرَاره مِنْ الْكَبَائِر ... قَالَ : وَيَفْتَرِق الْحَال فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْجَارِ الصَّالِح وَغَيْر الصَّالِح ؛ وَاَلَّذِي يَشْمَل الْجَمِيع : إِرَادَة الْخَيْر لَهُ ، وَمَوْعِظَته بِالْحُسْنَى ، وَالدُّعَاء لَهُ بِالْهِدَايَةِ ، وَتَرْك الْإِضْرَار لَهُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْل ؛ وَاَلَّذِي يَخُصُّ الصَّالِح هُوَ جَمِيع مَا تَقَدَّمَ ، وَغَيْر الصَّالِح كَفّه عَنْ الَّذِي يَرْتَكِبهُ بِالْحُسْنَى ، عَلَى حَسَب مَرَاتِب الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر ، وَيَعِظ الْكَافِر بِعَرْضِ الْإِسْلَام عَلَيْهِ ، وَيُبَيِّن مَحَاسِنه وَالتَّرْغِيب فِيهِ بِرِفْقٍ ؛ وَيَعِظ الْفَاسِق بِمَا يُنَاسِبهُ بِالرِّفْقِ - أَيْضًا - وَيَسْتُر عَلَيْهِ زَلَله عَنْ غَيْره ، وَيَنْهَاهُ بِرِفْقٍ ، فَإِنْ أَفَادَ فَبِهِ ، وَإِلَّا فَيَهْجُرهُ قَاصِدًا تَأْدِيبه عَلَى ذَلِكَ ، مَعَ إِعْلَامه بِالسَّبَبِ لِيَكُفَّ .ا.هـ ( 3 ) .
صور من حسن الجوار
من حسن الجوار أن ينصح الجار جاره إن رأى منه منكرًا أو علم عنه مخالفة شرعية ، وأن يكون ذلك فيما بينه وبينه ، مع الدعاء له بأن يصلحه الله ويهديه .
ومن حسن الجوار أن يأمنك جارك في أسبابه : في نفسه ودينه وأهله وماله وولده ؛ وأن يجد منك العون إن احتاجه ؛ وقد قيل : مَنْ أَجَارَ جَارَهُ أَعَانَهُ اللَّهُ وَأَجَارَهُ ؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ " رواه مسلم وغيره ( 4 ) ؛ وأولى الناس بالعون الجار ، لما ثبت له من زيادة الرعاية والحفظ ؛ روى الطبراني عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ " ( 5 ) ؛ والمراد - كما قال المناوي - نفي الإيمان الكامل وذلك لأنه يدل على قسوة قلبه ، وكثرة شحه ، وسقوط مروءته ، وعظيم لؤمه ، وخبث طويته ( 6 ) .
وكيف يُسِيغ المرءُ زادًا وجارُهُ ... خفيفُ المِعَى بادِي الخَصَاصَةِ والجَهْدِ​
ومن هنا كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي ذر أن يكثر مرقة طعامه ويتعاهد جيرانه ، فَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رض الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم " يَا أَبَا ذَرّ ، إِذَا طَبَخْت مَرَقًا فَأَكْثِرْهَا ، وَتَعَاهَدْ جِيرَانك " ( 7 ) ؛ وفي رواية عند الترمذي : " لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَلْقَ أَخَاهُ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ ، وَإِنْ اشْتَرَيْتَ لَحْمًا أَوْ طَبَخْتَ قِدْرًا فَأَكْثِرْ مَرَقَتَهُ وَاغْرِفْ لِجَارِكَ مِنْهُ " ( 8 ) ، وعند أحمد : " وَإِذَا صَنَعْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهُ بِمَعْرُوفٍ " ( 9 ) ، أي : أعطهم منه شيئًا مما هو متعارف عليه .
فحض صلى الله عليه وسلم على مكارم الأخلاق ، لما رتب عليها من المحبة وحسن العشرة ودفع الحاجة والمفسدة ؛ فإن الجار قد يتأذى برائحة قدر جاره ، وربما تكون له ذرية فتهيج من ضعفائهم الشهوة ، ويعظم على القائم عليهم الألم والكلفة ، لا سيما إن كان القائم ضعيفًا أو أرملة ؛ فتعظم المشقة ويشتد منهم الألم والحسرة ؛ وكل هذا يندفع بتشريكهم في شيء من الطبيخ يدفع إليهم ، والله أعلم ؛ قال العلماء : لما قال صلى الله عليه وسلم : " فَأَكْثِرْ مَاءَهَا " نبَّه بذلك على تيسير الأمر على البخيل تنبيهًا لطيفًا ، وجعل الزيادة فيما ليس له ثمن وهو الماء ، ولذلك لم يقل : إذا طبخت مرقة فأكثر لحمها ، إذ لا يسهل ذلك على كل أحد ( 10 ) .
وَفِي الصَحِيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ : كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُول : " يَا نِسَاء الْمُسْلِمَات لَا تَحْقِرَنَّ جَارَة لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِن شَاة " ( 11 ) ؛ هُوَ عَظْمٌ قَلِيل اللَّحْم ، وَهُوَ لِلْبَعِيرِ مَوْضِع الْحَافِر لِلْفَرَسِ ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّاة مَجَازًا ، قال ابن حجر - رحمه الله : وَفِي الْحَدِيث الْحَضّ عَلَى التَّهَادِي وَلَوْ بِالْيَسِيرِ لِأَنَّ الْكَثِير قَدْ لَا يَتَيَسَّر كُلَّ وَقْت ، وَإِذَا تَوَاصَلَ الْيَسِير صَارَ كَثِيرًا . وَفِيهِ اِسْتِحْبَاب الْمَوَدَّة وَإِسْقَاط التَّكَلُّف ( 12 ) ؛ ولا ريب أن في ذلك إحسان للجارة ، وتقرب وتودد لها ؛ وقد تكون في حاجة إلى هذا القليل ، فيقع منها موقعا طيبًا .
وينبئك عن رقي الأدب مع الجار في الإسلام ما رواه البخاري في ( الأدب المفرد ) عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال : لقد أتى علينا زمان - أو قال : حين - وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ، ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم ! سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " كَمْ مِنْ جَارٍ متعلِّقٌ بِجَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُ : يَا ربِّ هَذَا أَغْلَقَ بَابَهُ دُونِي ، فَمَنَعَ مَعْرُوفَهُ " ( 13 ) ؛ قال المناوي - رحمه الله : فيه تأكيد عظيم لرعاية حق الجار ، والحث على مواساته وإن جَارَ [ أي : ظَلَمَ ] ؛ وذلك سبب للائتلاف والاتصال ؛ فإن أهان كل أحد جاره انعكس الحال ( 14 ) . وفي صحيح مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ - أَوْ قَالَ : لِأَخِيهِ - مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ " ( 15 ) ؛ وهذا يقتضي أن يحفظ الجار أسباب جاره جميعا عرضًا ومالا وأهلا ودمًا ؛ فهذا يحبه الإنسان لنفسه ؛ فلا يكتمل إيمانه حتى يحبه لجاره ، وأخيه المسلم ؛ قال مسكين الدارمي :
نَارِي وَنَارُ الْجَارِ وَاحِدَةٌ ... وَإِلَـيْهِ قَبْلِي تَنْزِلُ الْقِـدْرُ
مَا ضَـرَّ جَارًا لِي أُجَاوِرُهُ ... أَنْ لَا يَكُـونَ لِبَابِهِ سِـتْرُ
أَعْمَى إذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ ... حَتَّى يُوَارِي جَارَتِي الْجُدُرُ​
وَقَالَ آخَرُ :
أَقُـول لِجَارِي إذْ أَتَأْنِي مُعَاتِـبًا ... مُـدِلًّا بِحَقٍّ أَوْ مُدِلًّا بِبَاطِلِ
إذَا لَمْ يَصِلْ خَيْرِي وَأَنْتَ مُجَاوِرٌ ... إلَيْكَ فَمَا شَرِّي إلَيْكَ بِوَاصِلِ
ومن جميل ما حكي في ذلك أن بعضهم شكا كثرة الفأر في داره ؛ فقيل له : لو اقتنيت هِرًّا ؟ فقال : أخشى أن يسمع الفأر صوت الهر فيهرب إلى دور الجيران ؛ فأكون قد أحببت لهم ما لا أحب لنفسي .
وينبغي للجار أن يحتمل أذى الجار فهو من جملة الإحسان إليه ، ومن تمام الأدب معه ، وهو يدل على حسن الأصل ؛ فقد قِيلَ : مَنْ أَحْسَنَ إلَى جَارِهِ فَقَدْ دَلَّ عَلَى حُسْنِ نِجَارِهِ ؛ والنَّجْر والنِّجارُ والنُّجارُ : الأَصْلُ والحَسَبُ ؛ قال الأصمعي : ومن أحسن ما قيل في حسن الجوار :
جاورت شَيْبَانَ فاحلولي جوارهم ... إن الكرام خيارُ النَّاسِ للجَارِ​
ودوام احتمال أذى الجار من شأنه أن يحوِّل أذاه إلى إحسان ، وعداوته إلى صداقة ، قال الله تعالى :  وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ  [ فصلت : 34 ] ؛ وقد قيل : حسن الجوار الصبر على أذى الجار ؛ وقال منصور الفقيه يمدح بعض إخوانه من جيرانه :
يا سائلي عن حسينٍ ... وقـد مضى أشكاله
أقل ما في حـسينٍ ... كفُّ الأذى واحتماله
وسيأتي الحديث عن التحذير من إيذاء الجار ، وأنه يمنع صاحبه من دخول الجنة ابتداء ، وينفي عنه كمال الإيمان .
وروى البخاري في الأدب المفرد وأبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَشْكُو جَارَهُ ، فَقَالَ : " اذْهَبْ فَاصْبِرْ " ، فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، فَقَالَ : " اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ " فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ : فَعَلَ اللَّهُ بِهِ ، وَفَعَلَ ، وَفَعَلَ ؛ فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ : ارْجِعْ لَا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ ( 16 ) .
فانظر كيف أمر النبي صلى الله عليه وسلم من شكا جاره ثلاث مرات بالصبر ؛ فلما لم يتحمل الجار إيذاء جاره ؛ قال له : " اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ " ؛ فكان ما كان من رجوع الرجل عن إيذائه مخافة أن يصيبه من لعنة الله تعالى شيئًا مما دعا الناس به عليه .
وأولى الناس بمعروفِ جاره وإحسانه أقربهم منه بابًا ، مع بقاء حق الأبعد عند السعة ، ولهذا المعنى خص  الجار القريب بالهدية ، فقد روى أحمد والبخاري عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي ؟ قَالَ : " إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا " ( 17 ) ؛ ذلك لأنه ينظر إلى ما يدخل دار جاره وما يخرج منها ، فإذا رأى ذلك أحب أن يشارك فيه ؛ وأيضًا فإنه أسرع إجابة لجاره عندما ينوبه من حاجة في أوقات الغفلة والغرة ، فلذلك بدأ به على من بَعُدَ بابه وإن كانت داره أقرب ؛ أفاده القرطبي رحمه الله ( 18 ) .
___________
1 - انظر أحكام القرآن للجصاص عند الآية ( 36 ) من سورة النساء .
2 - انظر أحكام القرآن للجصاص عند الآية ( 36 ) من سورة النساء .
3 - نقلا عن فتح الباري : 10 / 442 .
4 - جزء من حديث رواه مسلم ( 2699 ) .
5 - الطبراني في الكبير : 1 / 259 ( 751 ) ؛ وقال المنذري في ( الترغيب ) : 3 / 243 : رواه الطبراني والبزار وإسناده حسن .ا.هـ . وله شاهد عن ابن عباس رواه عبد بن حميد ( 694 ) ، والبُخَارِي في الأدب المفرد ( 112 ) ، وأبو يعلى ( 2699 ) ، والطبراني في الكبير : 12 / 154 ( 12741 ) ، وقال الهيثمي في المجمع : 8 / 167 : رواه الطبراني وأبو يعلى ورجاله ثقات .ا.هـ . وشاهد آخر عن عائشة عند الحاكم ( 2166 ) ، فالحديث صحيح .
6 - انظر فيض القدير : 5 / 520 .
7 - مسلم ( 2625 ) .
8 - الترمذي ( 1833 ) ، وقال : حسن صحيح .
9 - أحمد : 5 / 161 ، 171 ، والبخاري في الأدب المفرد ( 113 ) ..
10 - انظر تفسير القرطبي عند الآية ( 36 ) من سورة النساء ، بشيء من الاختصار والتصرف .
11 - البخاري ( 2566 ) ، ومسلم ( 1030 ) .
12 - انظر ( فتح الباري ) لابن حجر : 5 / 198 .
13 - البخاري في (الأدب المفرد) رقم 111 ؛ وذكره الألباني في الصحيحة رقم ( 2646 ) وقواه بما رواه ابن أبي الدنيا في ( مكارم الأخلاق ) رقم 345 ، و الأصبهاني في ( الترغيب ) ، وحسنه في ( صحيح الترغيب رقم 2564 ) ، وصحيح الأدب المفرد ( 81 ) .
14 - انظر ( فيض القدير ) : 5 / 64 .
15 - مسلم ( 45 ) ؛ ورواه أبو يعلى ( 2966 ) .
16 - الأدب المفرد ( 124 ) ، وأبو داود ( 5153 ) ، وابن حبان ( 520 ) ، والحاكم ( 7302 ) وصححه على شرط مسلم .
17 - أحمد : 6 / 175 ، 239 ، والبخاري ( 2259 ) . ورواه عبد الرزاق في مصنفه ( 14401 ) ، والطيالسي ( 1529) .
18 - انظر تفسير القرطبي عند الآية ( 36 ) من سورة النساء .
 
فضل حسن الجوار
لما كان حسن الجوار من القربات إلى الله تعالى ؛ ويجمع صاحبه فيه حسن الخلق مع الإحسان ، وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بفضل من يقوم بحسن الجوار ؛ فمن ذلك :
1 - إكرام الجار والإحسان إليه من الإيمان ، فقد روى البخاري عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ " الحديث ، ورواه مسلم بلفظ : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ " ( 1 ) ؛ وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه : " وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا " ( 2 ) .

2 - خير الجيران عند الله هو من يقوم بحق جاره على الوجه الأكمل ؛ فقد روى أحمد والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ " ( 3 ) ، وفيه بيان أن الإحسان إلى الجار قربة إلى الله تعالى يؤجر عليها صاحبها .
3 – من الثلاثة الذين يحبهم الله تعالى : من أحسن إلى جاره رغم إيذائه له كان - كما في حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه يرفعه : " وَالرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْجَارُ يُؤْذِيهِ جِوَارُهُ فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ ظَعْنٌ " ( 4 ) ؛ أي : موت أو رحيل ؛ وروى عبد الرزاق ومن طريقه البيهقي في ( شعب الإيمان ) عن الزهري قال : حدثني من لا أتهم من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ أَحْبَ أَنْ يُحِبَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ ، فَلْيَصْدُقِ الْحَدِيثَ ، وَلْيُؤَدِ الْأَمَانَةَ ، وَلَا يُؤْذِي جَارَهُ " ( 5 ) .
3 – حسن الجوار يعمر الديار ويزيد في الأعمار ؛ روى أحمد عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا : " إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ وَصِلَةُ الرَّحِمِ ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ ، يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ " ( 6 ) .
4 – شهادة الجيران لمن أحسن جواره بالإحسان في عمله ، وقبول الله ذلك منهم ؛ فقد روى أحمد وابن ماجة عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ إِذَا أَحْسَنْتُ وَإِذَا أَسَأْتُ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " إِذَا سَمِعْتَ جِيرَانَكَ يَقُولُونَ أَنْ قَدْ أَحْسَنْتَ ، فَقَدْ أَحْسَنْتَ ؛ وَإِذَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ : قَدْ أَسَأْتَ ، فَقَدْ أَسَأْتَ " ( 7 ) .
وروى أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل قَالَ : " مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَشْهَدُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيْنَ بِخَيْرٍ إِلَّا قَالَ اللَّهُ عز وجل : قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَةَ عِبَادِي عَلَى مَا عَلِمُوا ؛ وَغَفَرْتُ لَهُ مَا أَعْلَمُ " ( 8 ) ؛ ورواه أحمد وابن حبان والحاكم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَشْهَدُ لَهُ أَرْبَعَةٌ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيْنَ إِلَّا قَالَ : قَدْ قَبِلْتُ فِيهِ عِلْمَكُمْ فِيهِ وَغَفَرْتُ لَهُ مَا لَا تَعْلَمُونَ " ( 9 ) ؛ وبوب له ابن حبان في صحيحه ( ذكر مغفرة الله جل وعلا ذنوب من شهد له جيرانه بالخير ، وإن علم الله منه بخلافه ) .
5 – من أسباب السعادة في الدنيا : الجار الصالح ؛ فقد روى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) عَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ : الْجَارُ الصَّالِحُ ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ " ( 10 ) . قال الشاعر في الجوار الصالح :
إِنِّي لأَحسد جاركم لجواركم ... طوبى لمن أَمسى لدارك جارا
يا ليت جاركَ باعني من داره ... شِـبْرًا فأُعطيَه بشِـبرٍ دارا
_____________
1 - البخاري ( 6019 ) ، ومسلم ( 48 ) .
2 - رواه أحمد : 2 / 310 ، والترمذي ( 2305 ) ، وابن ماجة ( 4217 ) وأبو يعلى ( 6240 ) عن أبي هريرة ، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب ( 2349 ) ، وأطلق تحسينه في الصحيحة ( 930 ) .
3 - أحمد : 2 / 167، والترمذي ( 1944 ) ، وحسنه . ورواه عبد بن حميد ( 343 ) ، والبخاري في الأدب المفرد ( 115) ، والدارمي ( 2434 ) ، وابن خزيمة ( 2539 ) ، وابن حبان ( 518 ، 519 ) ، والحاكم : 1 / 443 ، 4 / 164، وصححه على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي ، ورواه أيضا : 2 / 101 ، وصححه ووافقه الذهبي .
4 - جزء من حديث رواه أحمد : 5 / 176 ، والطيالسي ( 468) ، والبزار ( 3908 ) ، والطبراني : 2 / 152 ( 1637) ، والحاكم (2/98 ، رقم 2446) وقال : صحيح على شرط مسلم .
5 - عبد الرزاق ( 19748 ) ، والبيهقي في الشعب ( 9104 ) ، وحسنه الألباني بطرقه وشواهده في الصحيحة ( 2998 ) .
6 - رواه أحمد : 6 / 159 ؛ وقال الحافظ في الفتح : 10 / 415 : بِسَنَد رِجَاله ثِقَات ؛ وصححه الألباني في الصحيحة ( 519 ) .
7 - رواه عبد الرزاق ( 19749 ) ، وعنه أحمد : 1 / 402 ، وابن ماجة ( 4223 ) ، وابن حبان ( 525 ) وإسناده صحيح ؛ وله شاهد رواه الحاكم : 1 / 534 ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ؛ والبيهقي في الشعب الإيمان ( 8278 ) عن أبي هريرة .
8 - أحمد : 2 / 384 ، 408 ، وفيه مجهول ، ويشهد له ما بعده .
9 - أحمد : 3 / 242 ، وأبو يعلى ( 3481 ) ، وابن حبان ( 3026 ) ، والحاكم ( 1398 ) وصححه على شرط مسلم .
10 - رواه أحمد : 3 / 407 ، وعبد بن حميد ( 385 ) ، والبخاري في الأدب المفرد ( 116 ، 457 ) ؛ وهو جزء من حديث رواه ابن حبان ( 4032 ) ، والحاكم ( 7306 ) عن سعد بن أبي وقاص ، وصححه .
 
التحذير من أذى الجار

ومع أن الأمر بالإحسان إلى الجار يدخل فيه عدم إيذائه ؛ فقد جاء التحذير الشديد المؤكد بالوعيد من إيذاء الجار ؛ لينتظم أمر الأدب مع الجار في أعلى رتبه ؛ فقد روى أحمد والبخاري عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ t أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ : " وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ " قَالُوا : وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " الْجَارُ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ : " شَرُّهُ " ( [1] ) ؛ ورواه أحمد والبخاري - أيضًا - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t ( [2] ) ؛ وَالْبَوَائِق : جَمْع بَائِقَة ، وَهِيَ الْغَائِلَةُ وَالدَّاهِيَةُ وَالْمُصِيبةُ ؛ وَالْمُرَادُ ما فسره النبي e بقوله : " شَرُّهُ " ، كَالظُّلْمِ وَالْغِشِّ وَالْإِيذَاءِ بأنواعه ؛ قال ابن بطال - رحمه الله - في ( شرح البخاري ) : وهذا الحديث شديد في الحض على ترك أذى الجار ، ألا ترى أنه u أكد ذلك بقسمه ثلاث مرات أنه لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه ، ومعناه أنه لا يؤمن الإيمان الكامل ، ولا يبلغ أعلى درجاته من كان بهذه الصفة ، فينبغي لكل مؤمن أن يحذر أذى جاره ويرغب أن يكون في أعلى درجات الإيمان ، وينتهي عما نهاه الله ورسوله عنه ، ويرغب فيما رضياه وحضا العباد عليه .ا.هـ .
وروى أحمد والبخاري في الأدب المفرد ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعًا بلفظ : " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ " ( [3] ) ؛ وروى أحمد عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ e : " الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ ؛ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَبْدٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ " ( [4] ) ؛ قال النووي - رحمه الله - فِي مَعْنَى قَوْله e : " لَا يَدْخُل الْجَنَّة مَنْ لَا يَأْمَن جَاره بَوَائِقه " جَوَابَانِ يَجْرِيَانِ فِي كُلِّ مَا أَشْبَهَ هَذَا ؛ أَحَدهمَا : أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ يَسْتَحِلّ الْإِيذَاء مَعَ عِلْمه بِتَحْرِيمِهِ ؛ فَهَذَا كَافِرٌ لَا يَدْخُلُهَا أَصْلًا ؛ وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ : جَزَاؤُهُ أَنْ لَا يَدْخُلهَا وَقْت دُخُول الْفَائِزِينَ إِذَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهََا لَهُمْ ، بَلْ يُؤَخَّر ثُمَّ قَدْ يُجَازَى ، وَقَدْ يُعْفَى عَنْهُ فَيَدْخُلهَا أَوَّلًا ؛ وَإِنَّمَا تَأَوَّلْنَا هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ لِأَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ مَذْهَب أَهْل الْحَقِّ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ مُصِرًّا عَلَى الْكَبَائِر فَهُوَ إِلَى اللَّه تَعَالَى ؛ إِنْ شَاءَ اللَّه عَفَا عَنْهُ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ أَوَّلًا ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْجَنَّة ؛ وَاَللَّه أَعْلَم ( [5] ) .
وفي بيان عظم الجرم في إيذاء الجار ؛ يأتي حديث رسول الله e الذي رواه أحمد والبخاري في الأدب وغيرهما عن الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e لِأَصْحَابِهِ : " مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا ؟ " قَالُوا : حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e لِأَصْحَابِهِ : " لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرَةِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ " قَالَ : فَقَالَ : " مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ ؟ " قَالُوا : حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، فَهِيَ حَرَامٌ ؛ قَالَ : " لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ " ( [6] )؛ قال المناوي في(فيضالقدير):ويقاسبهانحوأمتهوبنتهوأخته؛ وذلك لأن من حق الجار على الجار أن لا يخونه في أهله ، فإن فعل ذلك كان عقاب تلك الزنية يعدل عذاب عشر زنيات .ا.هـ . وفي الحديث تحذير عظيم من أذى الجار بكل طريق من فعل أو قول ؛ وخاصة في حفظ عرضه وماله ؛ وقد عدَّ النبي e إيذاء الجار في عرضه من أعظم الذنوب ؛ ففي الصحيحين عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : سَأَلْتُ النَّبِيَّ e : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ " قُلْتُ : إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : " وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ " قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : " أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ " ( [7] ) ؛ قال النووي في ( شرح مسلم ) : " حَلِيلَةَ جَارك "هِيَ زَوْجَته ؛ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا تَحِلُّ لَهُ ... وَمَعْنَى تُزَانِي ، أَيْ : تَزْنِي بِهَا بِرِضَاهَا ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّن الزِّنَا وَإِفْسَادهَا عَلَى زَوْجهَا وَاسْتِمَالَة قَلْبهَا إِلَى الزَّانِي ، وَذَلِكَ أَفْحَشُ ، وَهُوَ مَعَ اِمْرَأَة الْجَار أَشَدُّ قُبْحًا ، وَأَعْظَمُ جُرْمًا ؛ لِأَنَّ الْجَار يَتَوَقَّع مِنْ جَاره الذَّبّ عَنْهُ وَعَنْ حَرِيمه ، وَيَأْمَن بَوَائِقه ، وَيَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ ؛ وَقَدْ أُمِرَ بِإِكْرَامِهِ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ ، فَإِذَا قَابَلَ هَذَا كُلّه بِالزِّنَا بِامْرَأَتِهِ وَإِفْسَادهَا عَلَيْهِ - مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَكَّن غَيْره مِنْهُ - كَانَ فِي غَايَةٍ مِنْ الْقُبْح ( [8] ) .ا.هـ . وقال ابن بطال - رحمه الله : وإنما عظم الزنا بحليلة الجار - وإن كان الزنا عظيمًا - لأن الجار له من الحرمة والحق ما ليس لغيره ، فمن لم يراع حق الجوار فذنبه مضاعف ؛ لجمعه بين الزنا وبين خيانة الجار الذي وصى الله تعالى بحفظه .ا.هـ .

وَلِلْجَارِ حَقٌّ فَاحْتَرِزْ مِنْ إيذَائِهِ ... وَمَا خَيْرُ جَارٍ لَا يَزَالُ مُؤَاذِيًا

ولما كان حق الجار عظيمًا ، كان من أول ما يقضى في الخصومات يوم القيامة ما كان بين الجيران ؛روى أحمد والطبراني عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ " ( [9] ) ، أي : جاران لم يحسن أحدهما جوار صاحبه ولم يف له بحقه ، ومقصود الحديث الحث على كف الأذى عن الجار وإن جار ، وأنه تعالى يهتم بشأنه وينتقم للجار المظلوم من الظالم ويفصل القضاء بينهما ( [10] ) .
فأذى الجار محرم باتفاق ، لأن الأذى بغير حق محرم لكل أحد ؛ وهو في حق الجار أشد تحريمًا لما تقدم من الأدلة ؛ وروى أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَال َرَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؛ قَالَ : " هِيَ فِي النَّارِ " ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا ، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؛ قَالَ : " هِيَ فِي الْجَنَّةِ " ( [11] ) ؛ وأخرج البخاري في الأدب عن ثوبان قال : ما من جار يظلم جاره ويقهره حتى يحمله ذلك على أن يخرج من منزله إلا هلك ( [12] ) .

فلا تؤذ جارك لا بلسانك ولا بفعالك ، ولا تحسده في شيء من أحواله وأفعاله ؛ وأشفق عليه وعلى أهله وولده كشفقتك على نفسك وأهلك ؛ واحفظ ماله كحفظ مالك ؛ يكون ذلك سببًا لدخولك الجنة .

[1] - أحمد : 6 / 385 ، والبخاري ( 6016 ) .

[2] - أحمد : 2 / 288 ، 336 ، والبخاري ( 6016 ) .

[3] - أحمد : 2 / 372 ، ومسلم ( 46 ) ، ورواه البخاري في الأدب المفرد ( 121 ) .

[4] - أحمد : 3 / 174 ، وصححه ابن حبان ( 510 ) .

[5] - شرح مسلم : 2 / 17 .

[6] - أحمد : 6 / 8 ، والبخاري في الأدب ( 103 ) ، ورواه الطبراني في الأوسط ( 6333 ) ، والكبير : 20 / 256 ( 605 ) ، وقال الهيثمي في المجمع : 8 / 168 : رجاله ثقات ؛ والبيهقي في الشعب ( 9552 ) ، وغيرهما ، وإسناده حسن .

[7] - البخاري ( 6861 ) ، ومسلم ( 86 ) .

[8] - شرح مسلم : 2 / 81 ، بشيء من الاختصار والتصرف .

[9] - أحمد : 4 / 151 ، والطبراني في الكبير : 17 / 309 ( 852 ) ، وفيه ابن لهيعة ، وقد تابعه عمرو بن الحارث وهو ابن يعقوب الأنصاري المصري ، ثقة حافظ ، عند الطبراني في الكبير : 17 / 303 ( 837 ) ، وبقية رواته ثقات ، وحسن إسناده الهيثمي في المجمع : 10 / 349 ، وجود المنذري في الترغيب إسناد الطبراني . فالحديث صحيح .

[10] - انظر فيض القدير للمناوي : 3 / 84 .

[11] - أحمد : 2 / 440 ، والبُخاري في ( الأدب المفرد ) رقم 119 ؛ وابن حبان ( 2054 ) والحاكم : 4 / 166 وصححه ؛ وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 8 / 169 ) : رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات .ا.هـ ؛ الأثوار : جمع ثور وهو القطعة من اللبن المجفف ؛ والأقط : لبن مجفف يابس يطبخ به .

[12] - الأدب المفرد ( 127 ) موقوفًا وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ؛ ورواه الطبراني في الشاميين مرفوعا ( 681 ) ،
 
فائدة :
قَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة : إِذَا أُكِّدَ حَقُّ الْجَار مَعَ الْحَائِل بَيْنَ الشَّخْص وَبَيْنَه ، وَأُمِرَ بِحِفْظِهِ وَإِيصَال الْخَيْر إِلَيْهِ وَكَفّ أَسْبَاب الضَّرَر عَنْهُ ؛ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاعِي حَقَّ الْحَافِظِينَ اللَّذَيْنِ لَيْسَ بَيْنَه وَبَيْنَهمَا جِدَار وَلَا حَائِل ، فَلَا يُؤْذِيهِمَا بِإِيقَاعِ الْمُخَالَفَات فِي مُرُورِ السَّاعَات ، فَقَدْ جَاءَ أَنَّهُمَا يُسَرَّانِ بِوُقُوعِ الْحَسَنَات ، وَيَحْزَنَانِ بِوُقُوعِ السَّيِّئَات ، فَيَنْبَغِي مُرَاعَاة جَانِبهمَا ، وَحِفْظ خَوَاطِرهمَا بِالتَّكْثِيرِ مِنْ عَمَل الطَّاعَات ، وَالْمُوَاظَبَة عَلَى اِجْتِنَاب الْمَعْصِيَة ، فَهُمَا أَوْلَى بِرِعَايَةِ الْحَقّ مِنْ كَثِير مِنْ الْجِيرَان .ا.هـ . مُلَخَّصًا ( [1] ) .

[1] - نقلا عن فتح الباري : 10 / 444 .
 
خاتمة
هذا ما يسره الله الكريم في كتابة هذه الكلمات ؛ وفيها بيان لعظمة هذا المنهج العظيم في حفظ حقوق الجيران ؛ مما يؤدي إلى تراحم وتعاطف المجتمع بعضه ببعض ؛ هذا المجتمع الذي وصفه النبي e بقوله : " تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى " ( [1] ) ؛ وهو - كما قال النووي رحمه الله - صَرِيح فِي تَعْظِيم حُقُوق الْمُسْلِمِينَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض , وَحَثّهمْ عَلَى التَّرَاحُم وَالْمُلَاطَفَة وَالتَّعَاضُد فِي غَيْر إِثْم وَلَا مَكْرُوه . ا.هـ .
والمرجو ممن قرأ هذه الرسالة وهو يعلم من نفسه إساءة لجاره - بقول أو فعل - أن يبادر بتصحيح أمره ، فيسارع بالتوبة إلى الله تعالى ، ويتحلل من جاره مما قد أخطأ في حقه ؛ ويستقبل أيامه بالإحسان إلى جاره ، وترك إيذائه .
والله الكريم أسأل أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لذلك ، وأن يغفر لنا ما مضى ، وأن يصلح لنا ما بقي من أعمارنا ؛ إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ؛ وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله وصحبه .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية



[1] - متفق عليه من حديث النعمان بن بشير t : البخاري ( 6011 ) ، ومسلم ( 2586 ) .
 
عودة
أعلى