الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد : فمن الآداب التي أصبحت عزيزة في المجتمعات التي لا تعرف لله حقا ولا ترجو لله وقارا ؛ قد طغت فيها الماديات ، وشاعت فيها الشهوات ، وعم فيها الفساد وضاعت فيها الحقوق والآداب ... الأدب مع الأبناء . إن من الفطرة التي فُطر الناس عليها فطرة الأبوة والأمومة .. التي تعني الشفقة والرحمة والحب والحنان والإحاطة والرعاية والتربية والتأديب . فما بالنا في هذا العصر نراها نادرة بمفهومها الصحيح عند كثير من الناس ؟!! إن الإسلام هو المنهج العظيم الذي فيه النجاة والسعادة لمن يريدهما ؛ ومن النجاة والسعادة القيام بحق الأبناء والأدب معهم ؛ إنها رسالة متوارثة لا بد أن يوصلها الآباء للأبناء ، ليستقيم الجميع في الدنيا على الهدى ، ويلتقوا في الآخرة على سرر متقابلين ؛ ] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [ ( الطور : 21 ) . وللإسلام عناية عظيمة بالأبناء تبدأ من قبل أن يأتي هذا الولد إلى الحياة ، وتمتد في الدنيا حتى يفرق الموت بين الآباء والأبناء .. ليلتقوا في الجنة إن هم عاشوا على الإيمان وماتوا عليه .. إنها وشيجة لا تنفصل ، وصلة لا تستأصل .. وإنما هو فراق بعده لقيا . ونحاول في هذه الرسالة أن نلقي الضوء على تلكم الآداب ، وهي تنقسم إلى : آداب قبل الزواج ، وآداب بعد الزواج وقبل ميلاد الولد ، وآداب عند الميلاد ، وآداب في مرحلة الرضاعة والفطام ، وآداب في مرحلة الطفولة ، وآداب في مرحلة المراهقة ، وآداب بعد البلوغ وإلى الممات . إنها حياة كاملة يحفها الأدب المتبادل من الآباء أولاً ، ثم من الأبناء برًا وصلة .. إنها تعاليم الإسلام التي يجب أن يستمسك بها المسلمون ، ويعيشوا بها ولها ، فإن الله تعالى سائلهم عن ذلك . إن الأسرة المسلمة في هذا العصر مستهدفة لتذويبها في مناهج أخرى غير منهج الإسلام ، وعلى المسلمين أن يعوا مسئولياتهم ، ويفهموا ما يدور حولهم ؛ يقول الدكتور عمر عبيد حسنة – حفظه الله : لكننا ما نزال نعتقد أن التمحور العالمي حول الأسرة واستهدافها ومحاولة إخراجها كوحدة أساس من وحدات المجتمع المدني ، واستبدالها بأنماط اجتماعية ، وعقد المؤتمرات وتنوع طروحاتها وتعدد أساليبها ، وما ترمي إليه من ابتداع أنماط وأشكال جديدة من الحياة الاجتماعية والاقتصادية تحطم الحواجز الأخلاقية ، وتعارض القيم الدينية ، وتنشر الإباحية باسم الحرية ، وتشجع على التحلل باسم التحرر ، حيث لم يكتف واضعو البرامج لهذه المؤتمرات عند حد التشكيك في اعتبار الأسرة هي الوحدة الأساس للمجتمع ، ومطالبة الوالدين بالتغاضي عن النشاط الجنسي للمراهقين عن غير طريق الزواج ، واعتبار ذلك من الشئون الشخصية أو الحرية الشخصية التي لا يحق لأحد أن يتدخل فيها . إن المحاولات اليوم مستمرة لكسر حواجز الحياء والقفز فوق الكثير من الضوابط والقيم الدينية الأخرى أيضا لينتهوا أن مفهوم الأسرة بالمعنى الذي يشرعه الدين ليس إلا مفهوما عقيما ..... إلى أن قال : واليوم تستخدم جميع وسائل الإعلام وأدوات الاتصال للترويج والإقرار لأنماط أسرية بديلة دون أدنى اعتبار للنواحي الشرعية والقانونية والأخلاقية ؛ مثل زواج الجنس الواحد ، والمعاشرة بدون زواج ، وإعطاء الجميع حقوقا متساوية ، ووضع سياسات وقوانين تقدم دعما تأخذ في الاعتبار تعددية أشكال الأسر ، إضافة للدعوة إلى تحديد النسل باسم تنظيم النسل ، وتشجيع موانع الحمل ، وتيسير سبل الاجهاض . والحقيقة التي باتت لا تخفى أن هذه المؤتمرات أو هذه المؤامرات على الإسلام والمسلمين - إن صح التعبير - تعني بالدرجة الأولى استهداف الأسرة المسلمة ، لأنها تعتبر من أواخر الحصون الإسلامية التي لم تسقط بعد ([1]).انتهى المراد منه . إنها رسالة نرجو أن تصل إلى كل مسلم ومسلمة ليقف على حقيقة ما يدور حوله ، ويعي ما يخطط له ، ويفهم قول ربه جل في علاه : ] يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [ ( النساء : 26 ، 27 ) . أسأل الله تعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم ردًّا جميلا ، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ؛ إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه ؛ وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
[1]- انظر تقديم د حسنة لكتاب ( التفكك الأسري - الأسباب والحلول المقترحة ) ص 21 : 23 .
نقصد بالأدب مع الأبناء في هذه الرسالة : مجموع الأعمال والسلوكيات التي أمر الإسلام أن تؤدى أو تراعى مع الأبناء ، وذلك ينتظم فيه ما يمكن أن يكون سببًا في وجود الطفل بدءًا من اختيار أمه ؛ كما يدخل فيه كل ما يكون سببًا في صلاحه بدءًا من الدعاء عند الجماع ، ومرورًا بعد ذلك بمراحل حياته المختلفة .
من هنا يبدأ الأدب مع الأبناء في الإسلام ، ومن هنا تبدأ مراعاة الحقوق ، فمن حق الولد على أبيه أن يختار أمه التي ستحتضنه بالرعاية والتربية والعناية والتعليم في سني حياته الأولى ، التي يكون فيها أساس بنائه العقلي والذهني والقلبي والنفسي والبدني . إن الزواج في الإسلام شأنه عظيم ، فليس هو لتفريغ شهوة وحسب ، إنه بناء من أبنية الإسلام ، الذي يشكل في مجموعه المجتمع المسلم ؛ والعناية باختيار أم الولد ضرورة لبناء هذا المجتمع وقوته وقيامه برسالته ؛ إذ الأم مدرسة إذا صلحت صلح خريجوها ، وإذا فسدت فسد خريجوها . فأول الآداب مع الأبناء يكون قبل الزواج بأن يختار الرجل أم أولاده ، وأن يحسن قصده عند الزواج بطلب الولد الصالح . 1 - حسن اختيار أم الأبناء : عندما يبلغ المرء مبلغ النكاح ، يتحرك في داخله اختيار زوجته ، وهذا الاختيار مهم جدا لحياة الأسرة جميعها ، فعلى الرجل أن يختار ذات الدين ، وعلى ولي المرأة أن يختار لها ذا الدين ، وللمرأة رأي في اختيار زوجها ، ففي صحيح مسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ : " الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا " وفي رواية : " وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا " ( [1] ) . وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ " قُلْتُ : إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحْيِي ! قَالَ : " إِذْنُهَا صُمَاتُهَا " ( [2] ) . فحسن الاختيار من الرجل والمرأة أساس في بناء الحياة السعيدة ، وتأدية لحق من سيكون بينهما من الأولاد ؛ وهذا من الأدب مع الأبناء قبل وجودهم . وأما سوء الاختيار فيعد سببًا رئيسًا في تعاسة الأسرة وضياع الأولاد ؛وقدجاء رجل إلى بعض السلف فقال له : رزقت غلاما البارحة وجئتك لتعلمني كيف أربيه ؟ فقال له : لقد تأخرتَ كثيرا ، كان ينبغي أن تسأل قبل أن تتزوج . ولله در القائل لابنه :
وأول إحساني إليك تخيري ... لماجدة الأعراق بادٍ عفافها
كما أن حسن الاختيار سبب في حسن التربية ، قال الشاعر :
وينشأ ناشئ الفـتيان مـنا ... على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجىً ولكن ... يعـوِّده التدين أقربوه
وقال آخر :
هي الأَخْلاقُ تَنْبُتُ كالنباتِ ... إِذا سُقيتْ بماءِ المكرماتِ
إن من حق الولد على أبيه أن يختار له الأم الصالحة في نفسها ، التي تحسن التربية فتخرِّج أولادًا صالحين يُنتفع بهم في الحياة ، وبعد الممات ... ألم يقل النبي e في الأعمال التي لا تنقطع بموت ابن آدم : " .. وَوَلَدٍ صَالحٍ يَدْعُو لَهُ " ( [3] ) .
وأما بعد الزواج فعناية الإسلام بالولد عظيمة ومتعددة ودائمة معه في مراحل حياته كلها ، ونوجزها فيما يلي : أول الآداب : الدعاء : تبدأ عناية الإسلام بالولد بالدعاء بالولد الصالح ؛ وقد قال زكريا u في دعائه : ] رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [ ( آل عمران : 38 ) . وهناك دعاء خاص عند الجماع ؛ ففي الصحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " أَمَا إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ وَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا ؛ فَرُزِقَا وَلَدًا لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ " ( [1] ) . وروى عَبْد الرَّزَّاق عَنْ الْحَسَن : يُقَالُ : إِذَا أَتَى الرَّجُل أَهْله فَلْيَقُلْ : بِسْمِ اللَّه اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيمَا رَزَقَتْنَا ، وَلَا تَجْعَل لِلشَّيْطَانِ نَصِيبًا فِيمَا رَزَقْتنَا , فَكَانَ يُرْجَى إِنْ حَمَلْت أَنْ يَكُون وَلَدًا صَالِحًا ( [2] ) ؛ فهذا أول الآداب التي ينبغي أن يحرص عليه الآباء لصيانة أبنائهم من أن يضرهم الشيطان ، فالوالدان بهذا الدعاء يؤسسان أول حصون التحصين للولد من شر الشيطان ؛ والذي – بإذن الله تعالى – يكون أول بوادر صلاح الولد .
العناية بالطفل جنينا ، لا تجدها إلا في الإسلام ؛ فقد اعتنى منهج الإسلام بالجنين عناية فائقة ؛ لأنه - إن صح التعبير - مشروع إنسان ؛ فله الحق في الحياة إذا نفخ فيه الروح . من هذا المنطلق أباح الإسلام الفطر للحامل في شهر رمضان إذا كان الصيام يؤثر على طفلها ، على أن تقضي ما أفطرته بعد ذلك ؛ فروى أحمد وأهل السنن عَنْ أَنَسٍ بن مالك الْكَعْبِيt عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْم وَشَطْرَ الصَّلَاةِ وَعَنْ الْحَامِلِ أَوْ الْمُرْضِعِ الصَّوْمَ " ( [1] ) . فمن الأدب مع الطفل أن ترعى أمه الحامل به حقه وهو جنين ، فلا تفعل شيئا – وإن كان طاعة – يمكن أن يؤثر سلبا على جنينها . فالإسلام يُعد الاعتداء على الجنين جناية ؛ ومن هنا حرَّم إجهاض الجنين حفاظًا لحقه في الحياة ؛ فلا يجوز لأمه أن تتعاطى ما يسبب الإجهاض من عمل شاق أو شرب دواء أو نحو ذلك ، ولا يحل لأبيه أن يأمرها بذلك ؛ يقول الغزالي - رحمه الله : الإجهاض والوأد جناية على موجود حاصل ؛ وله مراتب : وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة ، وإفساد ذلك جناية ؛ فإن صارت مضغة وعلقة كانت الجناية أفحش ، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشا ؛ ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيًّا ( [2] ) . بل جعل الإسلام ديةً للجنين على من يتسبب في إسقاطه ؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا ؛ فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ e أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ ؛ وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا ، وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ . فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ [ ولي القاتلة ] : يَا رَسُولَ اللَّهِ : كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ [ أي يهدر ] ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ e : " إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ " مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ ( [3] ) ؛ وفي الحديث دليل على وُجُوب دِّيَةٍ فِي الْجَنِين وَلَوْ خَرَجَ مَيِّتًا ؛ وهذا من أبلغ عناية الإسلام بالجنين ؛ ودية الجنين إذا نزل ميتا عشر الدية ؛ وأما إذا استهل صارخا ثم مات ففيه الدية كاملة . بل يدل على عظم عناية الإسلام بالجنين أن النبي e أخَّر رجم الغامدية التي أقرت بالزنا حتى تضع ولدها ؛ ثم أخَّرها حتى تفطمه ؛ رعاية لحق الجنين ثم رعاية لحق الوليد ؛ ولذلك قرر العلماء أن تحبس الحامل - عند طلب المستحق حبسها في قصاص النفس أو الطرف ؛ وكذلك حد الزنا أو القذف - حتى تضع ولدها وترضعه اللبأ ( [4] ) ، ويستغني ولدها بغيرها من امرأة أخرى أو بهيمة يحل لبنها ؛ فإن فقد ما يستغني الولد به فلابد من انتظار حولين للفطام ؛ لحديث الغامدية ، ولأنه في قصاص النفس اجتمع فيها حقان : حق الجنين وحق ولي الدم في التعجيل ؛ ومع الصبر يحصل استيفاء الجنين لحقه فهو أولى من تفويت أحدهما . وأما في قصاص الطرف [ يد أو رجل أو غير ذلك ] أو الحد ، فلأن في استيفائه قد يحصل إجهاض الجنين ، وهو متلف له غالبا وهو بريء فلا يهلك بجريمة غيره ؛ ولا فرق بين أن يكون الجنين من حلال أو حرام ، ولا بين أن يحدث بعد وجوب العقوبة أو قبلها ( [5] ) . ألا فليشهد العالمين بأن الإسلام هو دين حقوق الإنسان ، في عالم يدعي الحضارة والمدنية وحقوق الإنسان ، ثم هو يسعى لإقرار الإجهاض كحق للمرأة لتستمتع بحياتها في دنيا الشياطين . وفوق كل ذلك حفظ الإسلام حق الجنين في الميراث ، إذا مات أبوه وهو في بطن أمه ؛ فيتأخر توزيع تركة الميت ، حتى يأتي المولود فينظر أذكرًا هو أم أنثى ؟ ثم يقسم الميراث على أهله ؛ فإن أبوا إلا القسمة ، فإنه يعزل للجنين أوفى القسمتين ؛ فإن كان ذكرًا فحقه ، وإن كانت أنثى أخذت النصف ، ويعود النصف الثاني على الورثة جميعًا .
[1] - أحمد : 3 / ، وأبو داود ( 2408 ) والترمذي ( 715 ) وحسنه ، والنسائي ( 2274 ) ، وابن ماجة ( 1667 ) .
[2]- انظر إحياء علوم الدين : 2 / 51 ، بتصرف يسير ، وهناك حالات ضرورية تقدر في حينها ولها أحكام خاصة بها .
إذا أذن الله تعالى بميلاد الولد ، فهنا آداب إسلامية جليلة يلزم الأبوان القيام بها أداء لحق الله تعالى أولا ثم لحق الولد الذي هو هبة من الله تعالى .
1 - شكر نعمة الولد
إن النعم واجبها الشكر ، والولد هبة من الله تعالى ، والولد يطلق على كل مولود ذكرًا كان أو أنثى ، قال الله تعالى : ] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [ ( النساء : 11 ) ؛ فالذكر هبة والأنثى هبة ، قال الله U : ] لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ . أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [ ( الشورى : 49 ، 50 )؛ فبينت الآيتان أن لله جلَّت قدرته سلطان السموات السبع والأرضين ، يفعل في سلطانه ما يشاء ، ويخلق ما يحب ، ويحكم ما يريد ؛ فيهب لمن يشاء من خلقه من الولد الإناث دون الذكور ، بأن يجعل كل ما حملت زوجته من حمل منه أنثى ؛ ويهب لمن يشاء منهم الذكور ، بأن يجعل كل حمل حملته امرأته ذكورًا لا أنثى فيهم ؛ أو يجمع له من الذكور والإناث ، فتلد امرأته ذكورا أحيانا ، وإناثا أخرى ؛ كما قد يجعل الله تعالى من يشاء من خلقه عقيما ابتلاء منه سبحانه . وقد كان من الأنبياء من وهب الإناث ليس معهن ذكر ، كما كان لوط u ؛ ووهب إبراهيم u الذكور ليس معهم أنثى ، ووهب محمد e وآدم وإسماعيل وإسحاق - عليهم السلام - الذكور والإناث ؛ وكذلك قسم الله الخلق من لدن آدم وإلى أن تقوم الساعة على هذا التقدير المحدود بحكمته البالغة ومشيئته النافذة ، ليبقى النسل ، ويتمادى الخلق ، وينفذ الوعد ، ويحق الأمر ، وتعمر الدنيا حتى يأذن الله تعالى بفنائها . وفي تقديم الإناث بالذكر أقوال ، منها : جبرًا لهن ، وقيل : إنما قدمهن لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء الأبوان ، فإن الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا ، هو سبحانه أخبر أنه يخلق ما يشاء .. وقال ابن القيم - رحمه الله : إنه تعالى قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن ؛ أي : هذا النوع المؤخر الحقير عندكم مقدم عندي في الذكر ( [1] ) . إن على المخلوق شكر نعمة الخالق الوهاب U ؛ وأول شكر ذلك أن يرضى بهبة الله له ذَكَرًا كان أو أنثى ، وهذا من الأدب مع الهبة أيضًا ، وحسن استقبال الولد مع السعي في تربيته وتأديبه من شكر نعمة الواهب Y . فمن الأدب مع الله تعالى الرضا بقسمه ، والصبر على تربية ما وهب الله سبحانه ذكرًا كان أو أنثى ، مع الاعتقاد التام بأن الله تعالى عليم قدير حكيم ، وأنه سبحانه جعل في الصبر على البنات والإحسان إليهن فضلا عظيمًا ، وهو دخول الجنة . دخل عمرو بن العاص على معاوية - رضي الله عنهما - وعنده ابنته عائشة ، فقال : من هذه يا أمير المؤمنين ؟ قال : هذه تفاحة القلب ، قال : انبذها عنك ؛ فإنهن يلدن الأعداء ، ويقربن البعداء ، ويورثن الضغائن ! قال : لا تقل هذا يا عمرو ! فوالله ما مرَّض المرضى ، ولا ندب الموتى ، ولا أعان على الأحزان إلا هن ؛ وإنك لواجد خالا قد نفعه بنو أخته . فقال عمرو : ما أراك يا أمير المؤمنين إلا وقد حببتهن إلي ( [2] ) ؛ وقَالَ قَتَادَةُ : لرُبَّ جَارِيَةٍ خَيْرٌ لأهلها مِنْ غُلَامٍ ( [3] ) . فلابد أن يعلم الوالدان أن مع الهبة ابتلاءً ، فقد يبتلى بالذكور ، وقد يبتلى بالإناث ؛ فلا ينظر إلى هذه الهبة نظرة الجاهلية الجهلاء الذين وصفهم الله تعالى بقوله : ] وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ . يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [ ( النحل : 58 ، 59 ) ؛ فقد كان من حالهم في الجاهلية أن أحدهم إذا قيل له : قد ولدت لك بنت ، اغتم واربد وجهه غيظًا وتأسفًا وهو مملوء من الكرب ؛ وهذا من جهلهم وظلمهم إذ يعاملون المرأة معاملة من لو كانت ولادة الذكور باختيارها ، ولماذا لا يحنق على نفسه إذ يلقح امرأته بأنثى ؟! وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى ، فهجر البيت الذي فيه المرأة ؛ فقالت :
ما لأبي حـمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا ... ليس لنا من أمرنا ما شينا
إنما نأخذ ما أعطينا
وقولها : ( ما شينا ) أي : ما شئنا ، على تسهيل الهمزة لموافقة القافية . وإنما المسلم يستقبل هبة الله تعالى بالرضا والشكر والدعاء بأن يجعل الله ذريته صالحة ؛ ونِعْمَّ ما استقبلت به السيدة حمنة أم مريم هبة الله تعالى لها ، وقد كانت تنتظر مولودًا ذكرا ليصلح لخدمة بيت المقدس كما نذرت ، فلما وُهبت الأنثى كان استقبالها لها برضا المؤمنة الموقنة بحكمة الله تعالى وقدرته فقالت : ] رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [ ( آل عمران : 36 ) . قال ابن القيم - رحمه الله : ويكفي في قبح كراهتهن أن يكره ما رضيه الله وأعطاه عبده ؛ وقال صالح بن أحمد : كان أبي إذا ولد له ابنة يقول : الأنبياء كانوا آباء بنات ؛ ويقول : قد جاء في البنات ما قد علمت ؛ وقال يعقوب بن بختان : ولد لي سبع بنات ، فكنت كلما ولد لي ابنة دخلت على أحمد بن حنبل فيقول لي : يا أبا يوسف ، الأنبياء آباء بنات ؛ فكان يذهب قوله همي ( [4] ) .
من الآداب العامة التي لها أصل في مشروعيتها في القرآن الكريم : التهنئة بالمولود والبشارة به ؛ فقد بشرت الملائكة إبراهيم e بغلام عليم وهو إسحاق u : ] قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [ ( الحجر : 53 )، وبشر الله تعالى إبراهيم e بغلام حليم وهو إسماعيل u : ] فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [ ( الصافات : 101 )؛ وبشر الله تعالى عبده زكريا بيحيى عليهما السلام :] يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [ ( مريم : 7 )؛ وجاءت الملائكة مريم بالبشرى بعيسى u : ] إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [ ( آل عمران : 45 ). ولما كانت البشارة تسر العبد وتفرحه - كما يقول ابن القيم رحمه الله - استحب للمسلم أن يبادر إلى مسرة أخيه وإعلامه بما يفرحه ؛ ولا ينبغي للرجل أن يهنئ بالابن ولا يهنئ بالبنت ، بل يهنئ بهما أو يترك التهنئة ليتخلص من سنة الجاهلية ، فإن كثيرا منهم كانوا يهنئون بالابن وبوفاة البنت دون ولادتها . وقال أبو بكر بن المنذر في الأوسط : روينا عن الحسن البصري أن رجلا جاء إليه وعنده رجل قد ولد له غلام ، فقال له : يهنيك الفارس ؛ فقال له الحسن : ما يدريك فارس هو أم حمار ؟ قال : فكيف نقول ؟ قال : قل : بورك لك في الموهوب ، وشكرت الواهب ، وبلغ أشده ، ورزقت بره .. والله أعلم ( [1] ) . وروى الطبراني في ( الدعاء ) أن رجلا ممن كان يجالس الحسن ولد له ابن فهنأه رجل فقال : ليهنك الفارس ؛ فقال الحسن : وما يدريك أنه فارس ؟ لعله نجار ، لعله خياط ! قال فكيف أقول ؟ قال قل : جعله الله تعالى مباركا عليك وعلى أمة محمد e ( [2] ) . وعند أبي نعيم في الحلية أن أيوب السختياني كان إذا هنأ رجلا بمولود قال : جعله الله تعالى مباركا عليك وعلى أمة محمد e ( [3] ) .
[1]- انظر ( تحفة المودود ) ص 45 ، وأثر الحسن رواه علي ابن الجعد في مسنده رقم ( 3398 ) ، وابن عدي في الكامل : 7 / 101 ، بلفظ : قال رجل عند الحسن : يهنيك الفارس ! فقال الحسن : وما يهنيك الفارس ؟ لعله أن يكون بقارا أو حمارا ! ولكن قل : بورك لك في الموهوب ، وبلغ أشده ، ورزقت بره .
يستحب أن يؤذن في أذن المولود بعد ولادته ؛ لما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ e أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ - بِالصَّلَاةِ ( [1] ) ؛ وروى البيهقي في الشعب عن ابن عباس أن النبي أذن في أذن الحسن بن علي يوم ولد وأقام في أذنه اليسرى ( [2] ) . وروى عبد الرزاق أن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - كان إذا ولد له ولد أخذه كما هو في خرقته ، فأذن في أذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، وسماه مكانه ( [3] ) . فهذا من الآداب التي ينبغي أن يحافظ عليها الوالدان تجاه أبنائهم عند ولادتهم ، لما في ذلك من الخير العظيم الذي ينال المولود عندما يكون أول ما يقرع سمعه الأذان ؛ قال ابن القيم - رحمه الله : وسر التأذين - والله أعلم - أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته ، والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام ، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا ، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها ؛ وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به وإن لم يشعر .. مع ما في ذلك من فائدة أخرى وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان ، وهو كان يرصده حتى يولد فيقارنه للمحنة التي قدرها الله وشاءها ، فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه أول أوقات تعلقه به .. وفيه معنى آخر وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دينه الإسلام وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان ، كما كانت فطرة الله التي فطر عليها سابقة على تغيير الشيطان لها ونقله عنها ( [4] ) .
[1]- أحمد : 6 / 391 ، 392 ، وأبو داود ( 5105 ) ، والترمذي ( 1514 ) وقال : حسن صحيح ، ورواه الحاكم : 3 / 179 وصححه ، ومداره على عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف ، لكن يشهد له حديث ابن عباس الآتي .
[2]- شعب الإيمان ( 8620 ) وضعفه ، وهو شاهد للتأذين في حديث أبي رافع كما قال الألباني رحمه الله .
[5]- أحمد : 1 / 98 ، والبخاري في الأدب ( 823 ) ، والطبراني في الكبير : 3 / 96 ( 2774 ) ، وابن حبان ( 6958 ) ، والحاكم ( 4773 ) وصححه ووافقه الذهبي ؛ وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد 8 / 52 ) : رواه أحمد والبزار إلا أنه قال : " سميتهم بأسماء ولد هرون جبر وجبير ومجبر " والطبراني ؛ ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح غير هانئ بن هانئ ، وهو ثقة .ا.هـ . قلت : وتابع أبا إسحاق عن هانئ : الشعبي عن سالم بن أبي الجعد عند الطبراني في الكبير : 3 / 97 ( 2777 ) ؛ وللحديث شاهد عن سلمان عند الطبراني أيضًا : 3 / 97 ( 2778 ) ، وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) : 8 / 52 : رواه الطبراني وفيه برذعة بن عبد الرحمن وهو ضعيف ا.هـ ؛ وصحح إسناده الحافظ في الإصابة : 6 / 243.
قد ورد النهي عن التسمية ببعض الأسماء ؛ ففي صحيح مسلم عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " .. وَلَا تُسَمِّيَنَّ غُلَامَكَ يَسَارًا وَلَا رَبَاحًا وَلَا نَجِيحًا وَلَا أَفْلَحَ ، فَإِنَّكَ تَقُولُ : أَثَمَّ هُوَ ؟ فَلَا يَكُونُ فَيَقُولُ : لَا " وفي رواية : نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ e أَنْ نُسَمِّيَ رَقِيقَنَا بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ : أَفْلَحَ وَرَبَاحٍ وَيَسَارٍ وَنَافِعٍ ( [1] ) . وروى الترمذي وابن ماجة عَنْ جَابِرٍ t عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t قَالَ : " لَأَنْهَيَنَّ أَنْ يُسَمَّى رَافِعٌ وَبَرَكَةُ وَيَسَارٌ " ولفظ ابن ماجة : " لَئِنْ عِشْتُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -لَأَنْهَيَنَّ أَنْ يُسَمَّى رَبَاحٌ وَنَجِيحٌ وَأَفْلَحُ وَنَافِعٌ وَيَسَارٌ " ( [2] ) . قال النووي - رحمه الله : قال أصحابنا : يكره التسمية بهذه الأسماء المذكورة في الحديث وما في معناه ، ولا تختص الكراهة بها وحدها ، وهى كراهة تنزيه لا تحريم ، والعلة في الكراهة ما بينه e في قوله : فَإِنَّكَ تَقُولُ : أَثَمَّ هُوَ ؟ فَيَقُولُ : لَا " فكرهه لبشاعة الجواب ، وربما أوقع بعض الناس في شيء من الطيرة ( [3] ) . وقال ابن القيم رحمه الله : وفي معنى هذا : مبارك ومفلح وخير وسرور ونعمة وما أشبه ذلك ، فإن المعنى الذي كره له النبي e التسمية بتلك الأربعة موجود فيها ، فإنه يقال : أعندك خير ؟ أعندك سرور ؟ أعندك نعمة ؟ فيقول : لا ، فتشمئز القلوب من ذلك وتتطير به ، وتدخل في باب المنطق المكروه ؛ وفي الحديث أنه كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ خَرَجَ مِنْ عِنْدَ بَرَّةَ ( [4] ) ؛ مع أن فيه معنى آخر يقتضي النهي وهو تزكية النفس بأنه مبارك ومفلح ، وقد لا يكون كذلك ( [5] ) . وأما ما رواه مسلم عن جَابِرٍ t قال : أَرَادَ النَّبِيُّ e أَنْ يَنْهَى عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِيَعْلَى وَبِبَرَكَةَ وَبِأَفْلَحَ وَبِيَسَارٍ وَبِنَافِعٍ وَبِنَحْوِ ذَلِكَ ؛ ثُمَّ رَأَيْتُهُ سَكَتَ بَعْدُ عَنْهَا فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ، ثُمَّ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ e وَلَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ تَرَكَهُ ( [6] ) . فقال النووي - رحمه الله : مَعْنَاهُ أَرَادَ أَنْ يَنْهَى عَنْهَا نَهْي تَحْرِيم فَلَمْ يَنْهَ , وَأَمَّا النَّهْي الَّذِي هُوَ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيه فَقَدْ نَهَى عَنْهُ فِي الْأَحَادِيث الْبَاقِيَة ( [7] ) . وذكر ابن القيم في الأسماء التي يكره التسمية بها الأسماء التي لها معان تكرهها النفوس ولا تلائمها ؛ كحرب ومرة وكلب وحية وأشباهها ( [8] ) .. ومن هنا كان e يغير الأسماء كما سيأتي إن شاء الله .
ما يحرم من الأسماء
قال ابن حزم – رحمه الله : اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله ، كعبد العزى ، وعبد هبل ، وعبد عمرو ، وعبد الكعبة ، وما أشبه ذلك ا.هـ ( [9] ) . وفي مصنف ابن أبي شيبة عن هانئ بن شريح قال : وفد النبي e في قومه فسمعهم يسمون رجلا عبد الحجر ، فقال له : " ما اسمك " قال : عبد الحجر ، فقال له رسول الله e : " إنما أنت عبد الله " ( [10] ) . كما يحرم التسمية بملك الأملاك وسلطان السلاطين وشاهنشاه ؛ لما ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَـالَ : " إِنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ " قَالَ سُفْيَانُ : مِثْلُ شَاهَانْ شَاهْ ( [11] ) . وفي رواية عند البخاري : " أَخْنَى الْأَسْمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ "، وفي رواية لمسلم : " أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ رَجُلٍ كَانَ يُسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ ؛ لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ ". قَوْله : " أَخْنَى " مِنْ الْخَنَا وَهُوَ الْفُحْش فِي الْقَوْل ؛ و " أَخْنَع " مِنْ الْخُنُوع وَهُوَ الذُّلّ , قَالَ عِيَاض : مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَشَدُّ الْأَسْمَاء صَغَارًا ( [12] ) .ا.هـ . وَالْخَانِع الذَّلِيل , قَالَ اِبْن بَطَّال : وَإِذَا كَانَ الِاسْم أَذَلَّ الْأَسْمَاء كَانَ مَنْ تَسَمَّى بِهِ أَشَدَّ ذُلًّا ( [13] ) . قال ابن القيم - رحمه الله : وكذلك تحرم التسمية بسيد الناس وسيد الكل ، كما يحرم سيد ولد آدم ، فإن هذا ليس لأحد إلا لرسول الله e وحده ، فهو سيد ولد آدم ، فلا يحل لأحد أن يطلق على غيره ذلك ( [14] ) .
يجوز تسمية المولود بعد ولادته ، لما مر معنا من الأحاديث الصحيحة ومنها : " وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ " ، وكذلك تسمية النبي e لابن أبي موسى وابن أبي أسيد ، وعبد الله بن الزبير ؛ كما يجوز تأخير التسمية لليوم السابع ، لما رواه أحمد وأهل السنن عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e قَالَ : " كُلُّ غُلَامٍ رَهِينٌ بِعَقِيقَتِهِ ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ ، وَيُسَمَّى " ( [1] ) . وعند الترمذي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ e أَمَرَ بِتَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ سَابِعِهِ ، وَوَضْعِ الْأَذَى عَنْهُ ، وَالْعَقِّ ( [2] ) ؛ وبوب البخاري ( باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه ) . قال ابن حجر : إن من لم يرد أن يعق عنه لا يؤخر تسميته إلى السابع ، كما وقع في قصة إبراهيم بن أبي موسى وعبد الله بن أبي طلحة ، وكذلك إبراهيم بن النبي e وعبد الله بن الزبير ؛ فإنه لم ينقل أنه عق عن أحد منهم ، ومن أريد أن يعق عنه تؤخر تسميته إلى السابع ، كما سيأتي في الأحاديث الأخرى ؛ وهو جمع لطيف لم أره لغير البخاري ( [3] ) .
التسمية حق للأب
دلت الأحاديث المتقدمة على أن التسمية حق للأب ؛ وهذا - كما يقول ابن القيم - مما لا نزاع فيه بين الناس ، وهذا كما يُدَعى لأبيه لا لأمه ، فيقال ابن فلان ؛ قال تعالى : ] ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [ ( الأحزاب : 5 ) . والعلم عند الله تعالى .
[1] - أحمد : 5 / 12 ، وأبو داود ( 2838 ) ، والترمذي ( 1522 ) ، والنسائي ( 4220 ) ، وابن ماجة ( 3165 ) .
[2] - الترمذي ( 2832 ) وحسنه ، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي .
[2] - أسامة بن أخدري التميمي ثم الشقري : صحابي نزل البصرة ؛ قال ابن حبان : قدم على رسول الله e مسلمًا ؛ انظر في ترجمته : الاستيعاب لابن عبد البر : 1 / 141 ، والإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر : 1 / 48 .
العَقيقة : اسم الشاة المذبوحة عن المولود ؛ سميت بذلك لأنها تُعق مذابحها ، أي : تُشق وتُقطع ، فقيل لها عقيقة بمعنى معقوقة ؛ فأصل العَقَ الشق ، ومنه قيل للقاطع رحمه في أبيه وأمه : عاق ( [1] ) . وقد جاء في تسمية الشاة المذبوحة عن المولود أنها عقيقة ما أخرجه البزار والطبراني عن ابنعباسمرفوعا: " للغلام عقيقتان وللجارية عقيقة " ( [2] ) . وتقدم حديث سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e قَـالَ : " كُلُّ غُلَامٍ رَهِينٌ بِعَقِيقَتِهِ ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ ، وَيُسَمَّى " ، وفي رواية : " مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ " . وحديث عبد الله بن عَمْرِو أَنَّ النَّبِيَّ e أَمَرَ بِتَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ سَابِعِهِ وَوَضْعِ الْأَذَى عَنْهُ وَالْعَقِّ . وروى البخاري عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيُّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ ، فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا ، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى " ( [3] ) . ومعنى : " مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ " قيل : لا ينمو نمو مثله حتى يعق عنه ( [4] ) ؛ وقيل : هي لازمة لابد منها فشبه المولود في لزومها وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن ( [5] ) ؛ وقيل : هو محبوس مرتهن عن الشفاعة لوالديه ؛ وتعقب ذلك ابن القيم - رحمه الله - بكلام نفيس ، فكان مما قال : لا يقال لمن لم يشفع لغيره إنه مرتهن ، ولا في اللفظ ما يدل على ذلك ؛ والله سبحانه يخبر عن ارتهان العبد بكسبه كما قال الله تعالى : ] كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [ ( المدثر 38 ) ، فالمرتهن هو المحبوس عن أمر كان بصدد نيله وحصوله ، ولا يلزم من ذلك أن يكون بسبب منه ، بل يحصل ذلك تارة بفعله وتارة بفعل غيره ، وأما من لم يشفع لغيره فلا يقال له مرتهن على الإطلاق ؛ وقد جعل الله سبحانه النسيكة عن الولد سببًا لفك رهانه من الشيطان الذي يعلق به من حين خروجه إلى الدنيا وطعن في خاصرته ، فكانت العقيقة فداء وتخليصا له من حبس الشيطان له وسجنه في أسره ومنعه له من سعيه في مصالح آخرته التي إليها معاده ، فالشيطان بالمرصاد للمولود من حين يخرج إلى الدنيا ، فحين يخرج يبتدره عدوه ويضمه إليه ، ويحرص على أن يجعله في قبضته وتحت أسره ومن جملة أوليائه وحزبه ، فهو أحرص شيء على هذا ، فكان المولود بصدد هذا الارتهان فشرع الله سبحانه للوالدين أن يفكا رهانه بذبح يكون فداه ، فإذا لم يذبح عنه بقي مرتهنا به ؛ فلهذا قال النبي e : " الْغُلَامُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ الدَمَ ، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى " ( [6] ) ، فأمر بإراقة الدم عنه الذي يخلص به من الارتهان ، ولو كان الارتهان يتعلق بالأبوين لقال : فأريقوا عنكم الدم لتخلص إليكم شفاعة أولادكم ، فلما أمر بإزالة الأذى الظاهر عنه وإراقة الدم الذي يزيل الأذى الباطن بارتهانه ، علم أن ذلك تخليص للمولود من الأذى الباطن والظاهر ؛ والله أعلم بمراده ورسولُهُ ( [7] ) ؛ وهذا الذي قاله ابن القيم - رحمه الله - من أن العقيقة تفك رهان الولد من الشيطان ، توجيه حسن جدًا ، والعلم عند الله تعالى .
[2]- الطبراني في الكبير : 11 / 150 ( 11327 ) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : 4 / 92 : رواه البزار والطبراني في الكبير وفيه عمران بن عيينة وثقة ابن معين وابن حبان وفيه ضعف
جمهور أهل العلم على أن العقيقة سنة ( [1] ) ؛ قال ابن رشد - رحمه الله - في ( بداية المجتهد ) : ذهبت طائفة منهم الظاهرية إلى أنها واجبة ، وذهب الجمهور إلى أنها سنة ، وذهب أبو حنيفة إلى أنها ليست فرضا ولا سنة ، وقد قيل إن تحصيل مذهبه أنها عنده تطوع ( [2] ) .والحق أن العقيقة ليست بواجبة ؛ لما رواه أحمد وأبو داود والنسائي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ e عَنْ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ : " لَا يُحِبُّ اللَّهُ U الْعُقُوقَ " وَكَأَنَّهُ كَرِهَ الِاسْمَ ؛ قَيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ e : إِنَّمَا نَسْأَلُكَ أَحَدُنَا يُولَدُ لَهُ ؟ قَالَ : " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَنْسُكْ عَنْهُ : عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ [ أي متساويتان ] ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ " ( [3] ) . لأن الواجب لا يقال فيه : من أحب أن يفعله فعله ، بل هذا لفظ التخيير والإباحة ، فإذا انضم إليه غيره من الأحاديث الورادة في العقيقة رجح أنها سنة مؤكدة ، لا ينبغي تركها لمن قدر عليها . ويراعى في العقيقة ما يراعى في الأضحية من السن واتقاء العيوب ، ويأكل أهلها منها ويتصدقون ، ولا يُمس الصبي بشيء من دمها ، فإنها من عادات الجاهلية .
توقيت الذبح
الظاهر من حديث سمرة المتقدم : " تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ " أنه لا يجزئ الذبح قبل يوم السابع ؛ قَالَ الترمذي : وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُذْبَحَ عَنْ الْغُلَامِ الْعَقِيقَةُ يَوْمَ السَّابِعِ ، فَإِنْ لَمْ يَتَهَيَّأْ يَوْمَ السَّابِعِ فَيَوْمَ الرَّابِعَ عَشَرَ ، فَإِنْ لَمْ يَتَهَيَّأْ عُقَّ عَنْهُ يَوْمَ حَادٍ وَعِشْرِينَ ؛ وَقَالُوا : لَا يُجْزِئُ فِي الْعَقِيقَةِ مِنْ الشَّاةِ إِلَّا مَا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ ا.هـ . وقال ابن حجر - رحمه الله : تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْعَقِيقَة مُؤَقَّتَة بِالْيَوْمِ السَّابِع ، وَأَنَّ مَنْ ذَبَحَ قَبْله لَمْ يَقَع الْمَوْقِع ، وَأَنَّهَا تَفُوت بَعْده ، وَهُوَ قَوْل مَالِك ؛ وَقَالَ أَيْضًا : إِنَّ مَنْ مَاتَ قَبْل السَّابِع سَقَطَتْ الْعَقِيقَة . وَفِي رِوَايَة اِبْنِ وَهْب عَنْ مَالِك : أَنَّ مَنْ لَمْ يُعَقَّ عَنْهُ فِي السَّابِع الْأَوَّل عُقَّ عَنْهُ فِي السَّابِع الثَّانِي ، قَالَ اِبْن وَهْب : وَلَا بَأْس أَنْ يُعَقّ عَنْهُ فِي السَّابِع الثَّالِث . وَنَقَلَ التِّرْمِذِيّ عَنْ أَهْل الْعِلْم أَنَّهُمْ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ تُذْبَح الْعَقِيقَة يَوْم السَّابِع ، فَإِنْ لَمْ يَتَهَيَّأ فَيَوْم الرَّابِع عَشَر ، فَإِنْ لَمْ يَتَهَيَّأ عَقَّ عَنْهُ يَوْم أَحَد وَعِشْرِينَ ... قال : وَعِنْد الْحَنَابِلَة فِي اِعْتِبَار الْأَسَابِيع بَعْد ذَلِكَ رِوَايَتَانِ ، وَعِنْد الشَّافِعِيَّة أَنَّ ذِكْر الْأَسَابِيع لِلِاخْتِيَارِ لَا لِلتَّعْيِينِ ، فَنَقَلَ الرَّافِعِيّ أَنَّهُ يَدْخُل وَقْتهَا بِالْوِلَادَةِ ، قَالَ : وَذِكْر السَّابِع فِي الْخَبَر بِمَعْنَى أَنْ لَا تُؤَخَّر عَنْهُ اِخْتِيَارًا ، ثُمَّ قَالَ : وَالِاخْتِيَار أَنْ لَا تُؤَخَّر عَنْ الْبُلُوغ فَإِنْ أُخِّرَتْ عَنْ الْبُلُوغ سَقَطَتْ عَمَّنْ كَانَ يُرِيد أَنْ يَعُقّ عَنْهُ ، لَكِنْ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَعُقّ عَنْ نَفْسه فَعَلَ ( [4] ) .وهل يحسب يوم الميلاد ؟ قال مالك : ولا يعد اليوم الذي ولد فيه المولود إلا أن يولد قبل الفجر من ليلة ذلك اليوم ( [5] ) . ورجح الرافعي من الشافعية حساب يوم الميلاد ( [6] ) .
للغلام شاتان وللجارية شاة
روى أهل السنن عَنْ أُمِّ كُرْزٍ - رضي الله عنها - قَالَتْ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ e يَقُولُ : " عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُتَكَافِئَتَانِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ " ( [7] ) ، " عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ ، وَعَنْ الْأُنْثَى وَاحِدَةٌ ، وَلَا يَضُرُّكُمْ ذُكْرَانًا كُنَّ أَمْ إِنَاثًا " ( [8] ) . ومتكافئتان : أي : متساويتان سنًا وحسنًا . روى أحمد عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " الْعَقِيقَةُ عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ " ( [9] ) . وروى أحمد والترمذي وابن ماجة عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ e أَنْ نَعُقَّ عَنْ الْغُلَامِ شَاتَيْنِ ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةً ( [10] ). قال ابن حجر : هَذِهِ الْأَحَادِيث حُجَّة لِلْجُمْهُورِ فِي التَّفْرِقَة بَيْن الْغُلَام وَالْجَارِيَة ، وَعَنْ مَالِك هُمَا سَوَاء فَيَعُقَّ عَنْ كُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا شَاة ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِمَا جَاءَ أَنَّ النَّبِيِّ e عَقَّ عَنْ الْحَسَن وَالْحُسَيْن كَبْشًا كَبْشًا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ ( [11] ) وَلَا حُجَّة فِيهِ ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس بِلَفْظِ " كَبْشَيْنِ كَبْشَيْنِ " وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيق عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه مِثْله ، وَعَلَى تَقْدِير ثُبُوت رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيث مَا يُرَدُّ بِهِ الْأَحَادِيث الْمُتَوَارِدَة فِي التَّنْصِيص عَلَى التَّثْنِيَة لِلْغُلَامِ ، بَلْ غَايَته أَنْ يَدُلّ عَلَى جَوَاز الِاقْتِصَار ، وَهُوَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْعَدَد لَيْسَ شَرْطًا بَلْ مُسْتَحَبٌّ . وَذَكَرَ الْحَلِيمِيّ أَنَّ الْحِكْمَة فِي كَوْن الْأُنْثَى عَلَى النِّصْف مِنْ الذَّكَر أَنَّ الْمَقْصُود اِسْتِبْقَاء النَّفْس فَأَشْبَهَتْ الدِّيَة ، وَقَوَّاهُ اِبْن الْقَيِّمِ بِالْحَدِيثِ الْوَارِد فِي أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ ذَكَرًا أَعْتَقَ عُضْوا مِنْهُ ، وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَتَيْنِ كَذَلِكَ ، إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون فِي ذَلِكَ الْوَقْت مَا تَيَسَّرَ الْعَدَد ( [12] ) . قال مقيده - عفا الله عنه : حديث ابن عباس رواه أبو داود من طريق أَيُّوبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e عَقَّ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا ؛ وصحح إسناده النووي في المجموع ؛ ورواه الطبراني بلفظ : أن رسول الله e عق عن الحسن كبشًا وعن الحسين كبشًا ؛ ورواه النسائي من طريق قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ : عَقَّ رَسُولُ اللَّهِ e عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِكَبْشَيْنِ كَبْشَيْنِ ( [13] ) . قال السندي - رحمه الله – في حاشيته على ( سنن النسائي ) : قَوْله ( بِكَبْشَيْنِ كَبْشَيْنِ ) أَيْ عَنْ كُلّ وَاحِد بِكَبْشَيْنِ ، وَلِذَلِكَ كَرَّرَ ؛ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ التَّكْرِير لِلتَّأْكِيدِ وَالْكَبْشَانِ عَنْ الِاثْنَيْنِ عَلَى أَنَّ كُلّ وَاحِد عُقَّ عَنْهُ بِكَبْشٍ .ا.هـ . فالذي يظهر أن ذلك يرجع إلى السعة : فمن لم يجد إلا أن يذبح كبشًا عن الغلام أجزأه ؛ ومن كان عنده سعة فليذبح عن الغلام كبشين ؛ أو أن العدد - كما قال ابن حجر - ليس شرطًا بل هو مستحب ، فيكون فعله e للجواز ؛ والعلم عند الله تعالى .
المسألة : إذا ولدت المرأة أكثر من ولد في بطن واحدة : قال الليث – رحمه الله - في المرأة تلد ولدين في بطن واحدة أنه يعق عن كل واحد منهما ؛ قال ابن عبد البر : لا أعلم في ذلك خلافًا ( [1] ) . الفائدة : ذكر ابن حجر في ( الفتح ) أنه بِذِكْر الشَّاة وَالْكَبْش يَتَعَيَّن الْغَنَم لِلْعَقِيقَةِ ، وَبِهِ تَرْجَمَ أَبُو الشَّيْخ الْأَصْبِهَانِي ، وَنَقَلَهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ حَفْصَة بِنْت عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر ، وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّة : لَا نَصَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ غَيْرهَا ، وَالْجُمْهُور عَلَى إِجْزَاء الْإِبِل وَالْبَقَر أَيْضًا ، وَفِيهِ حَدِيث عِنْد الطَّبَرَانِيّ وَأَبِي الشَّيْخ عَنْ أَنَس رَفَعَهُ : " يَعُقّ عَنْهُ مِنْ الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم " وَنَصَّ أَحْمَد عَلَى اِشْتِرَاط كَامِلَة [ أي لا تتجزأ ولا يشترك فيها ] ، وَذَكَرَ الرَّافِعِيّ بَحْثًا أَنَّهَا تَتَأَدَّى بِالسَّبْعِ كَمَا فِي الْأُضْحِيَّة .. وَاللَّهُ أَعْلَم ( [2] ) . قال مقيده - عفا الله عنه : روى الحاكم عنأمكرزوأبيكرزقالا: نذرت امرأة من آل عبد الرحمن بن أبي بكر إن ولدت امرأة عبد الرحمن نحرنا جزورًا [ جملا ] ؛ فقالت عائشة - رضي الله عنها : لا ، بل السنة أفضل ؛ عن الغلام شاتان مكافئتان ، وعنالجاريةشاة؛تقطعجدولا، ولا يكسر لها عظم ، فيأكل ويطعم ويتصدق ،وليكنذاكيومالسابع،فإنلميكنففيأربعةعشر، فإن لم يكن ففي إحدى وعشرين ( [3] ) . وفي قول عائشة – رضي الله عنها : بل السنة أفضل ؛ دليل على أنها لا ترى بأسًا بذبح الجزور ، لكنها دلت من سألها على فعل السنة ، وهو الأفضل بلا ريب ... والعلم عند الله تعالى .
[1] - انظر ( الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار ) لابن عبد البر : 5 / 276 .
روى البيهقي عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي e قال : " يعق عن الغلام شاتان مكافئتان ، وعن الجارية شاة " قالت عائشة : فعق رسول الله e عن الحسن والحسين شاتين شاتينيومالسابع، وأمر أن يماط عن رأسه الأذى ، وقال : " اذبحوا على اسمه ، وقولوا : بسم الله ، الله أكبر ، اللهم منك ولك ، هذه عقيقة فلان " ( [1] ) . قال النووي في ( المجموع ) : يستحب أن يسميَ الله عند ذبح العقيقة ثم يقول : اللهم لك وإليك عقيقة فلان ؛ ويشترط أن ينوي عند ذبحها أنها عقيقة ( [2] ) .
[1]- رواه البيهقي في الكبرى : 9 / 303 ، وحسن إسناده النووي في المجموع : 8 / 320 .
تقدم في حديث سمرة " وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ " ، قال ابن عبد البر - رحمه الله - في ( التمهيد ) : أما حلق رأس الصبي عند العقيقة فإن العلماء كانوا يستحبون ذلك ، وقد ثبت عن النبي e أنه قال في حديث العقيقة : " وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُسَمَّى " ( [1] ) . ووقت الحلق بعد ذبح العقيقة ، لأن الحلق جاء بعد قوله e : " تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ " ؛ وذهب قوم إلى أن الحلق قبل الذبح ، لما نقله الأزهري في ( التهذيب ) عن الأصمعي وغيره أن العقيقة أصلها الشعر الذي يكون على رأس الولد حين يولد ؛ وإنما سميت الشاة التي تذبح عنه في ذلك الوقت عقيقة ، لأنه يحلق عنه ذلك الشعر ثم الذبح ؛ ولهذا قال في الحديث : " وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى " ويعني بالأذى ذلك الشعر الذي يحلق عنه ؛ قال : وهذا من تسمية الشيء باسم ما كان معه أو من سببه .ا.هـ . قلت : في الأمر سعة ، والواو لا تقتضي ترتيبا ؛ قال ابن حجر في ( الفتح ) : وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ " يُذْبَح .. وَيُحْلَق وَيُسَمَّى " بِالْوَاوِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَط التَّرْتِيب فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة لِأَبِي الشَّيْخ فِي حَدِيث سَمُرَة " يُذْبَح يَوْم سَابِعه ثُمَّ يُحْلَق " وَأَخْرَجَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ اِبْنِ جُرَيْجٍ يَبْدَأ بِالذَّبْحِ قَبْل الْحَلْق ، وَحَكَى عَنْ عَطَاء عَكْسه ، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيّ عَنْ نَصّ الشَّافِعِيّ ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي ( التَّهْذِيب ) يُسْتَحَبُّ الذَّبْحُ قَبْل الْحَلْقِ ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيّ فِي ( شَرْح الْمُهَذَّب ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ ( [2] ) . وفي فوائد حلق رأس المولود يقول ابن القيم - رحمه الله : وكان حلق رأسه إماطة الأذى عنه ، وإزالة الشعر الضعيف ليخلفه شعر أقوى وأمكن منه ، وأنفع للرأس ، مع ما فيه من التخفيف عن الصبي ، وفتح مسام الرأس ليخرج البخار منها بيسر وسهولة ، وفي ذلك تقوية بصره وشمه وسمعه ( [3] ) . النهي عن القزع : وَقَوْله e : " وَيُحْلَق رَأْسه " أَيْ : جَمِيعه لِثُبُوتِ النَّهْي عَنْ الْقَزَع ، والْقَزَع : حَلْقُ بَعْضِ رَأْسِ الصَّبِيِّ وَتَرْكُ بَعْضٍ ؛ ففي الصحيحين عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَفْصٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e نَهَى عَنْ الْقَزَعِ ؛ قَالَ [ أي عبيد الله ] قُلْتُ لِنَافِعٍ : وَمَا الْقَزَعُ ؟ قَالَ : يُحْلَقُ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ وَيُتْرَكُ بَعْضٌ ... هذا لفظ مسلم ( [4] ) . قال النووي – رحمه الله : وَأَجْمَع الْعُلَمَاء عَلَى كَرَاهَة الْقَزَع إِذَا كَانَ فِي مَوَاضِع مُتَفَرِّقَة إِلَّا أَنْ يَكُون لِمُدَاوَاةٍ وَنَحْوهَا ؛ وَهِيَ كَرَاهَة تَنْزِيه , وَكَرِهَهُ مَالِك فِي الْجَارِيَة وَالْغُلَام مُطْلَقًا , وَقَالَ بَعْض أَصْحَابه : لَا بَأْس بِهِ فِي الْقِصَّة وَالْقَفَا لِلْغُلَامِ ؛ وَمَذْهَبنَا كَرَاهَته مُطْلَقًا لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَة لِعُمُومِ الْحَدِيث . قَالَ الْعُلَمَاء : وَالْحِكْمَة فِي كَرَاهَته أَنَّهُ تَشْوِيه لِلْخَلْقِ , وَقِيلَ : لِأَنَّهُ زِيّ الْيَهُود ، وَاللَّه أَعْلَم ( [5] ) . وقال ابن القيم – رحمه الله : قال شيخنا : وهذا من كمال محبة الله ورسوله للعدل ، فإنه أمر به حتى في شأن الإنسان مع نفسه ، فنهاه أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه ، لأنه ظلم للرأس حيث ترك بعضه كاسيًا وبعضه عاريا ، ونظير هذا أنه نهى عن الجلوس بين الشمس والظل فإنه ظلم لبعض بدنه ، ونظيره نهى أن يمشي الرجل في نعل واحدة بل إما أن ينعلهما أو يحفيهما ؛ والقزع أربعة أنواع : أحدها : أن يحلق من رأسه مواضع من ها هنا وها هنا مأخوذ من تقزع السحاب وهو تقطعه . الثاني : أن يحلق وسطه ويترك جوانبه كما يفعله شمامسة النصارى . الثالث : أن يحلق جوانبه ويترك وسطه كما يفعله كثير من الأوباش والسفل . الرابع : أن يحلق مقدمه ويترك مؤخره ؛ وهذا كله من القزع ، والله أعلم ( [6] ) .
في صحيح ابن حبان عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كانوا في الجاهلية إذا عقُّوا عن الصبي خضبوا قطنة بدم العقيقة ، فإذا حلقوا رأس الصبي وضعوها على رأسه ، فقال النبي e : " اجعلوا مكان الدم خلوقًا " ( [1] ) ؛ والخلوق : طيب معروف مركب يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب ، وتغلب عليه الحمرة والصفرة ؛ قال ابن عبد البر - رحمه الله : وقوله e : " وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى " ناسخ لما كان عليه أهل الجاهلية من تخضيب رأس الصبي بدم العقيقة ( [2] ) . قال ابن القيم رحمه : ولما أقرَّ رسول الله العقيقة في الإسلام وأكد أمرها ، وأخبر أن الغلام مرتهن بها ، نهاهم أن يجعلوا على رأس الصبي من الدم شيئًا ، وسنَّ لهم أن يجعلوا عليه شيئا من الزعفران ؛ لأنهم في الجاهلية إنما كانوا يلطخون رأس المولود بدم العقيقة تبركًا به ، فإن دم الذبيحة كان مباركا عندهم ، حتى كانوا يلطخون منه آلهتهم تعظيمًا لها وإكرامًا ، فأمر بترك ذلك لما فيه من التشبه بالمشركين ، وعوضوا عنه بما هو أنفع للأبوين وللمولود وللمساكين ، وهو حلق رأس الطفل والتصدق بزنة شعره ذهبا أو فضة ، وسنَّ لهم أن يلطخوا الرأس بالزعفران الطيَّبِ الرائحة الحسن اللون بدلا عن الدم الخبيث الرائحة النجس العين ؛ والزعفران من أطيب الطيب وألطفه وأحسنه لونًا ( [3] ) .
المشهور من مذهب الشافعي - رحمه الله - وجوب الختان للذكر والأنثى جميعًا ، وهو رواية في مذهب أحمد - رحمه الله ، وقول لبعض المالكية حكاه القرطبي في تفسيره ، وابن حجر في الفتح ؛ والرواية الأخرى عند أحمد أنه واجب في حق الرجال وسنة في حق النساء ؛ وذهب الحنيفة وهو المشهور في مذهب مالك - رحمهما الله – وقول بعض الشافعية حكاه النووي في المجموع ، إلى أنه ليس بواجب في حقهما ، ولكن لا يجوز للرجل تركه تهاونًا ، لأنه يرتبط بطهارته من النجاسة ، وهي أمر واجب ( [1] ) . والراجح - والله أعلم - وجوبه للرجال ، وسنيته للنساء،فهوبلاشكمكرمةللمرأة؛ وَسُئِلَ شيخ الإسلام - رحمه الله - عَنْ الْمَرْأَةِ : هَلْ تَخْتَتِنُ أَمْ لَا ؟ فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ؛ نَعَمْ تَخْتَتِنُ ، وَخِتَانُهَا أَنْ تَقْطَعَ أَعْلَى الْجِلْدَةِ الَّتِي كَعُرْفِ الدِّيكِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e لِلْخَافِضَةِ - وَهِيَ الْخَاتِنَةُ : " أَشِمِّي وَلَا تُنْهِكِي ؛ فَإِنَّهُ أَبْهَى لِلْوَجْهِ ، وَأَحْظَى لَهَا عِنْدَ الزَّوْجِ " يَعْنِي : لَا تُبَالِغِي فِي الْقَطْعِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِخِتَانِ الرَّجُلِ تَطْهِيرُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ الْمُحْتَقِنَةِ فِي الْقُلْفَةِ ؛ وَالْمَقْصُودُ مِنْ خِتَانِ الْمَرْأَةِ تَعْدِيلُ شَهْوَتِهَا ، فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ قلفاء كَانَتْ مُغْتَلِمَةً شَدِيدَةَ الشَّهْوَةِ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ فِي الْمُشَاتَمَةِ : يَا ابْنَ القلفاء ، فَإِنَّ القلفاء تَتَطَلَّعُ إلَى الرِّجَالِ أَكْثَرَ ، وَلِهَذَا يُوجَدُ مِنْ الْفَوَاحِشِ فِي نِسَاءِ التتر وَنِسَاءِ الْإِفْرِنْجِ مَا لَا يُوجَدُ فِي نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِذَا حَصَلَتْ الْمُبَالَغَةُ فِي الْخِتَانِ ضَعُفَتْ الشَّهْوَةُ ، فَلَا يَكْمُلُ مَقْصُودُ الرَّجُلِ ؛ فَإِذَا قُطِعَ مِنْ غَيْرِ مُبَالِغَةٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِاعْتِدَالِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( [2] ) .
وقت الختان
لَا يَجِب الختان - عند من قال بوجوبه - قَبْل الْبُلُوغ ، لأنَّ الختان من أجل الطَّهارة ، وهي لا تجب عليه قبله ؛ ويستحب ختانه في الصغر إلى سنِّ التمييز لأنه أرفق به ، ولأنه أسرع برءًا فينشأ على أكمل الأحوال ؛ وللشّافعيّة في تعيين وقت الاستحباب وجهان : الصّحيح المفتى به أنَّه يوم السابع ويحتسب يوم الولادة معه ؛ وقيل - وعليه الأكثرون : أنّه اليوم السابع بعد يوم الولادة ، أي أن يوم الولادة لا يحتسب ؛ والمشهور عند الحنابلة والمالكية أنَّ المستحب ما بين العام السابع إلى العاشر ؛ لأنّها السن التي يؤمر فيها بالصلاة ؛ وفي رواية عن مالك أنّه وقت الإثغار ، إذا سقطت أسنانه ، والأشبه عند الحنفية أنَّ العبرة بطاقة الصَّبيِّ ، إذ لا تقدير فيه فيترك تقديره إلى الرَّأي ، وفي قول : إنه إذا بلغ العاشرة لزيادة الأمر بالصلاة إذا بلغها . وكره الحنفية والمالكية والحنابلة الختان يوم السابع لأن فيه تشبُّهًا باليهود ؛ وَسُئِلَ شيخ الإسلام عَنْ الْخِتَانِ : مَتَى يَكُونُ ؟ فَأَجَابَ – رحمه الله : أَمَّا الْخِتَانُ فَمَتَى شَاءَ اخْتَتَنَ ، لَكِنْ إذَا رَاهَقَ الْبُلُوغَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَتِنَ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ، لِئَلَّا يَبْلُغَ إلَّا وَهُوَ مَخْتُونٌ ؛ وَأَمَّا الْخِتَانُ فِي السَّابِعِ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : قِيلَ : لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ خَتَنَ إسْحَاقَ فِي السَّابِعِ ؛ وَقِيلَ : يُكْرَهُ لِأَنَّهُ عَمَلُ الْيَهُودِ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( [3] ) . وَسُئِلَ - أيضا - عَنْ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ ، وَلَيْسَ مُطَهَّرًا هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ وَمَنْ تَرَكَ الْخِتَانَ كَيْفَ حُكْمُهُ ؟ فَأَجَابَ : إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ ضَرَرَ الْخِتَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَتِنَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ مُؤَكَّدٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ؛ وَقَدْ اخْتَتَنَ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ u بَعْدَ ثَمَانِينَ مِنْ عُمْرِهِ ، وَيُرْجَعُ فِي الضَّرَرِ إلَى الْأَطِبَّاءِ الثِّقَاتِ ، وَإِذَا كَانَ يَضُرُّهُ فِي الصَّيْفِ أَخَّرَهُ إلَى زَمَانِ الْخَرِيفِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( [4] ) . والذي ينصح به الأطباء أن الختان في الصغر أرفق بالصبي .. والعلم عند الله تعالى ( [5] ) .
من الحقوق التي حفظها الإسلام للمولود : الحضانة والرضاعة ؛ فالمولود عندما يأتي إلى هذه الحياة بلا سن تقطع ، ولا يد تبطش ، ولا لسان يتكلم ، ولا وسيلة له للعيش إلا ما يخرج من ثدي أمه من لبن هو رزقه الذي تقوم به حياته في هذا الوقت ؛ ومن كان هذا حاله كانت الحضانة له لازمة ، لأن الإهمال فيها يعرض الطفل للهلاك . كما لا يخفى أن الطفل مع الرضاعة من ثدي أمه تتربى فيه عواطف الرحمة والحنان بما يستشعره من حنان أمه وشفقتها ورحمتها به وضمها إليه ، فإن ذلك كله يختزن في ذاكرة الطفل الصافية . فالحضانة حق الصغير لاحتياجه إلى من يرعاه ويقوم على شئونه ويتولى تربيته ؛ وإذا كانت كذلك ، فالأم تجبر عليها إذا تعينت ( أي : صارت فرض عين عليها ) بأن احتاج الطفل إليها ولم يوجد غيرها ، كيلا لا يضيع حقه في التربية والتأديب ( [1] ) . وقد عرف الفقهاء الحضانة بأنها : القيام بحق الصغير أو الصغيرة أو المعتوه الذي لا يميز ولا يستقل بأمره ، وتعهده بما يصلحه ، ووقايته مما يؤذيه ويضره ، وتربيته جسميا وعقليا كي يقوى على النهوض بتبعات الحياة والاضطلاع بمسئولياتها . والحضانة بالنسبة للصغير والصغيرة واجبة لأن الإهمال فيها يعرض الطفل للهلاك والضياع ( [2] ) . وقد بين القرآن الكريم هذا الحق مفصلا حتى وإن انفصل الزوجان ، فبيَّن ما للأم من حق إذا حضنت ولدها ، وما على للولد من حق على أبيه في هذه الحالة . فإحكاما لقضية الحضانة والرضاع ، وحتى لا يضيع الصغير إن انفصل الزوجان ؛ جاء القرآن بالفصل في قضية الحضانة والرضاع وما يتعلق بهما من أحكام وحقوق بأطرافها ، حتى يفهم كل من الزوجين ما عليه من حق تجاه هذه القضية المهمة في حياة الناس : قال الله تعالى : ] وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [ ( البقرة : 233 ) . إنها آداب لا يجدها المتأمل في غير منهج الإسلام ؛ وقد صوَّر الأستاذ سيد قطب رحمه الله – مجمل هذه الآداب والحقوق المتعلقة بحق الرضيع ، قال : إن على الوالدة المطلقة واجبًا تجاه طفلها الرضيع ؛ واجبًا يفرضه الله عليها ولا يتركها فيه لفطرتها وعاطفتها التي قد تفسدها الخلافات الزوجية ، فيقع الغرم على هذا الصغير . إذن يكفله الله ويفرض له في عنق أمه ؛ فالله أولى بالناس من أنفسهم ، وأبر منهم وأرحم من والديهم . والله يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين ؛ لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل ، ] لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [ ؛ وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لينمو الطفل نموًا سليمًا من الوجهتين الصحية والنفسية ؛ ولكن نعمة الله على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم ، فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليُترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل ، والله رحيم بعباده . وبخاصة بهؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية . وللوالدة في مقابل ما فرضه الله عليها حق على والد الطفل : أن يرزقها ويكسوها بالمعروف والمحاسنة ؛ فكلاهما شريك في التبعة ؛ وكلاهما مسؤول تجاه هذا الصغير الرضيع ، هي تمده باللبن والحضانة وأبوه يمدها بالغذاء والكساء لترعاه ; وكل منهما يؤدي واجبه في حدود طاقته : ] لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا [ ؛ ولا ينبغي أن يتخذ أحد الوالدين من الطفل سببًا لمضارة الآخر : ] لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [ ؛ فلا يستغل الأب عواطف الأم وحنانها ولهفتها على طفلها ، ليهددها فيه أو تقبل رضاعة بلا مقابل ؛ ولا تستغل هي عطف الأب على ابنه وحبه له لتثقل كاهله بمطالبها . والواجبات الملقاة على الوالد تنتقل في حالة وفاته إلى وارثه الراشد : ] وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [ ؛ فهو المكلف أن يرزق الأم المرضع ويكسوها بالمعروف والحسنى ؛ تحقيقًا للتكافل العائلي الذي يتحقق طرفه بالإرث ، ويتحقق طرفه الآخر باحتمال تبعات المورث . وهكذا لا يضيع الطفل إن مات والده . فحقه مكفول وحق أمه في جميع الحالات . وعندما يُستوفى هذا الاحتياط ؛ يعود إلى استكمال حالات الرضاعة : ] فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا [ فإذا شاء الوالد والوالدة ، أو الوالدة والوارث ، أن يفطما الطفل قبل استيفاء العامين ؛ لأنهما يريان مصلحة للطفل في ذلك الفطام ، لسبب صحي أو سواه فلا جناح عليهما ، إذا تم هذا بالرضى بينهما ، وبالتشاور في مصلحة الرضيع الموكول إليهما رعايته ، المفروض عليهما حمايته . كذلك إذا رغب الوالد في أن يحضر لطفله مرضعًا مأجورة ، حين تتحقق مصلحة الطفل في هذه الرضاعة ، فله ذلك على شرط أن يوفي المرضع أجرها ، وأن يحسن معاملتها : ] وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ [ فذلك ضمان لأن تكون للطفل ناصحة ، وله راعية وواعية . وفي النهاية يربط الأمر كله بذلك الرباط الإلهي . . بالتقوى . . بذلك الشعور العميق اللطيف الذي يكل إليه ما لا سبيل لتحقيقه إلا به : ] وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [ . فهذا هو الضمان الأكيد في النهاية ؛ وهذا هو الضمان الوحيد .ا.هـ ( [3] ) . ثم تأتي آية سورة الطلاق لتوضح مسائل أخرى متعلقة بحقوق وآداب أخرى في القضية ؛ وقال U : ] أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [ ( الطلاق : 6 ) . فبينت الآية الكريمة أن على الزوج إن طلق زوجته وهي حامل أن يسكنها وينفق عليها حتى تضع حملها ؛ قال ابن العربي – رحمه الله : ] وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ [ لِأَنَّ الْغِذَاءَ لَا يَصِلُ إلَى الْحَمْلِ إلَّا بِوَسَاطَتِهِنَّ ؛ وَهَذَا بَابٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَاجِبٌ مِثْلُهُ .ا.هـ ( [4] ) . ثم أكدت الآية حق الأم في أجر الإرضاع ، وبينت أنهما إن اختلفا ولم يتفقا ، فله أن يستأجر غيرها لترضع ولده ؛ فالمراد بتعاسرهم : امتناع الرجل من دفع ما تطلبه المرأة ، وامتناع المرأة من قبول الإرضاع بما يبذله الرجل ويرضى به ؛ قال ابن العربي : قَوْله تَعَالَى : ] وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ [ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ رَضَاعِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَغَيْرُهَا تُرْضِعُ ، يَعْنِي : إنْ قَبِلَ ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ كَمَا لَزِمَهَا وَلَمْ يَنْفَعْهَا تَعَاسُرُهَا مَعَ الْأَبِ ( [5] ) . كل ذلك حفاظا على حق هذا الرضيع في الحياة ، وهذا من مقاصد الشرع الحنيف ؛ إذ لا يكون الإبقاء على حياته في الغالب إلا بالرضاعة والحضانة .
ما من شك أن أسمى أنواع التربية أن يكون الطفل في حضانة أبويه ، يأخذ عنهما في سنه الصغيرة الرحمة والشفقة والرعاية والمتابعة له والنظر في أمر تنشئته وتربيته حسب مراحله العمرية ، فيتكامل له الأخذ عن أبويه في التربية والرعاية ؛ وأهم الآداب المتعلقة بهذه السن الصغيرة ؛ هي الرحمة بالصغير والشفقة عليه ، ورعاية أموره كلها . والحق أنه لم تعرف المناهج البشرية رحمة بالصغير مثل رحمة الإسلام به ، ففي الصحيحين عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t قال : قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ e سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحَلَّبَ ثَدْيُهَا تَسْعَى ، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ ؛ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ e : " أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ " قُلْنَا : لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ ! فَقَالَ : " لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا " ( [1] ) ؛ والشاهد أن النبي e أراد أن يأتي للصحابة بأعلى مثل معروف في الرحمة بين الخلق .. رحمة الأم بولدها ؛ ثم بيَّن لهم أن رحمة الله تعالى أعلى وأعظم من هذه الرحمة المعروفة . وفي الصحيحين عن عَائِشَةَ – رضي الله عنها - قَالَتْ : جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَأَعْطَيْتُهَا ، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا ، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ e فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ : " مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ ( [2] ) . وعند الإمام أحمد وأبي داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَنْ عَالَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ فَأَدَّبَهُنَّ وَرَحِمَهُنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ " وعند أبي داود " وَزَوَّجَهُنَّ " بدل " وَرَحِمَهُنَّ " ( [3] ) . وقد كان هذا الأمر محفوظا معروفا عند المسلمين حتى كان ينكر على من يخالف ذلك ، فروى ابن سعد عن ابن عمر قال : قدمت رفقة من التجار ، فنزلوا المصلى ، فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف : هل لك أن نحرسهم الليلة من السرق ؟ فباتا يحرسانهم ، ويصليان ما كتب الله لهما ، فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه ، فقال لأمه : اتقي الله وأحسني إلى صبيك ، ثم عاد إلى مكانه ، فسمع بكاءه ، فعاد إلى أمه ، فقال لها : مثل ذلك ، ثم عاد إلى مكانه ، فلما كان في آخر الليل سمع بكاءه ، فأتى أمه ، فقال : ويحك إني لأراك أمَّ سوء ! ما لي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة ؟ قالت : يا عبد الله قد أبرمتني منذ الليلة إني أريغه عن الفطام فيأبى ، قال : ولم ؟ قالت : لأن عمر لا يفرض إلا للفطيم ؛ قال : وكم له ؟ قالت : كذا وكذا شهرًا ، قال : ويحك لا تعجليه ، فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء فلما سلم قال : يا بؤسًا لعمر ! كم قتل من أولاد المسلمين ؛ ثم أمر مناديًا فنادى : ألا لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام ، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام ، وكتب بذلك إلى الآفاق : إنا نفرض لكل مولود في الإسلام ( [4] ) . فانظر كيف رحم عمر t الطفل ، ورأى أن أمه لا ترعى حقه ، ولا تنظر في أمره فقال لها : ويحك إني لأراك أمَّ سوء ! فما علم غرضها ، من محاولة فطام الطفل لنيل ما يفرضه الأمير للمفطوم ، عاد باللائمة على نفسه ، وأمر بالفرض لكل مولود .. رحم الله عمر أمير المؤمنين .
1 – حمل الصغير : قد ضرب لنا رسول الله eأروع الأمثلة في ذلك قولا وفعلا وهو يعلم الأمة ، وإليك بعض ذلك: ففي الصحيحين عن أَبُي قَتَادَةَ قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ e وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ فَصَلَّى فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهَا ( [1] ) . وَأمامة هِيَ اِبْنَة زَيْنَب بِنْت النَّبِيّ e ؛ ويظهر في الحديث كما يقول ابن حجر - رحمه الله : رَحْمَة الْوَلَد , وَوَلَدُ الْوَلَدِ وَلَد ؛ وَمِنْ شَفَقَته e وَرَحْمَته لِأُمَامَةَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَكَعَ أَوْ سَجَدَ يَخْشَى عَلَيْهَا أَنْ تَسْقُط فَيَضَعهَا بِالْأَرْضِ ، وَكَأَنَّهَا كَانَتْ لِتَعَلُّقِهَا بِهِ لَا تَصِير فِي الْأَرْض فَتَجْزَع مِنْ مُفَارَقَته , فَيَحْتَاج أَنْ يَحْمِلهَا إِذَا قَامَ ؛ وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضهمْ عِظَم قَدْر رَحْمَة الْوَلَد لِأَنَّهُ تَعَارض حِينَئِذٍ الْمُحَافَظَة عَلَى الْمُبَالَغَة فِي الْخُشُوع وَالْمُحَافَظَة عَلَى مُرَاعَاة خَاطِر الْوَلَد فَقَدَّمَ الثَّانِي , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون e إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَاز ( [2] ) ؛ وروى أحمد والنسائي عَنْ شَدَّادٍ بْنِ الهَادِ y قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ e فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ وَهُوَحَامِلٌ حَسَنًا أَوْحُسَيْنًا ، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ e فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ ، فَصَلَّى ، فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ e الصَّلَاةَ ، قَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ ! قَالَ : " كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ " ( [3] ) ، وقوله : " ارْتَحَلَنِي " أي : اتَّخَذَنِي رَاحِلَة لَهُ بِالرُّكُوبِ عَلَى ظَهْرِي . إن في حمل الصغير دلالة على حبه ورعايته والشفقة عليه ، وإن لهذا أثر ينمو في قلب الطفل وشعوره، ألا تراه يميل إلى من يحمله ويداعبه ويحنو عليه وإن كان ليس أباه أو أمه ؟
2 – تقبيل الصغير : ومن مظاهر الرحمة وعلامتها تقبيل الصغير ؛ وقد وصف النبي e من لم يقبل أولاده بأنه قد انتزعت الرحمة من قلبه ؛ ففي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ e فَقَالَ : تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ ! فَقَالَ النَّبِيُّ e : " أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ " ( [4] ) . وقد كان النبي e أرحم الخلق بالصغار؛روىمسلمعَنْأَنَسِtقَالَ:مَارَأَيْتُأَحَدًاكَانَأَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ e ؛ قَالَ : كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا [ أي : حدَّادًا ] ، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ ( [5] ) . وروى أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ e وَمَعَهُ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ ، هَذَا عَلَى عَاتِقِهِ ، وَهَذَا عَلَى عَاتِقِهِ ، وَهُوَ يَلْثِمُ هَذَا مَرَّةً ، وَيَلْثِمُ هَذَا مَرَّةً ، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا ؛ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُحِبُّهُمَا ! فَقَالَ : " مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي " ( [6] ) . وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ أَبْصَرَ النَّبِيَّ e يُقَبِّلُ الْحَسَنَ فَقَالَ : إِنَّ لِي عَشْرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ " ( [7] ) . قَالَ الْعُلَمَاء : هَذَا عَامّ يَتَنَاوَل رَحْمَة الْأَطْفَال وَغَيْرهمْ ( [8] ) . 3 – ضم الصغير ومعانقته : الضم إلى الصدر والمعانقة زيادة شفقة ورحمة ، وهي تنم عن حب ٍ، وهو أمر معروف في معاملة الصغار ، وتقدم قصة المرأة التي كانت في السبي تبحث عنابنهافلماوجدتهأَلْصَقَتْهُبِبَطْنِهَاوَأَرْضَعَتْهُ؛ وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ e فِي طَائِفَةِ النَّهَارِ [ أي : قطعة منه ] لَا يُكَلِّمُنِي وَلَا أُكَلِّمُهُ حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ ، فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ فَقَالَ : " أَثَمَّ لُكَعُ ، أَثَمَّ لُكَعُ ( [9] ) " فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا [ عقدا من خرز ] أَوْ تُغَسِّلُهُ ، فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ ، وَقَالَ : " اللَّهُمَّ أَحْبِبْهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ " ( [10] ) . وروى النسائي في ( الكبرى ) والبزار وغيرهما عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مسعودٍ قَالَ : كَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يأتيان النَّبِيَّ e وَهُوَ يُصَلِّي فَيَثِبَانِ عَلَيْهِ وَيَرْكِبَانِهِ ، فَإِذَا نُهِيَا عَنْ ذَلِكَ أَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ دَعُوهُمَا ، فَإِذَا قَضَى الصَّلاةَ ضَمَّهُمَا إِلَيْهِ ، وَقَالَ : " مَنْ أَحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ هَذَيْنِ " ( [11] ) ؛ وروى البخاري في الأدب المفرد والنسائي في الكبرى والبيهقي في شعب الإيمان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : أَتَى النَّبِيَّe رَجُلٌ وَمَعَهُ صَبِيٌّ ، فَجَعَلَ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ e : " أَتَرْحَمُهُ ؟ " قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : " فَاللهُ أَرْحَمُ بِكَ مِنْكَ بِهِ ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ " ( [12] ) . إنها مشاعر وأحاسيس إنسانية يربيها الإسلام في حياة أهله ، ينتج عنها الحب والخير والأدب وحسن المعاملة في الحياة عامة ، وينمو هذا مع الطفل خاصة .
4 – التعامل معه بما يقتضيه سنه وإدراكه : إن الرحمة بالصغير تتناول فهم وإدراك مرحلة عمره الأولى ، والتي يكون سلوكه فيها وحركته ليست عن وعي للصواب وإدراك للعواقب ، وإنما يحركه ميلهوحبهوعاطفتهالتياكتسبهاممنحوله، فقد تراه ينطلق مسرعا إلى أمه أو أبيه بحركة قد يكون فيها إيذاء به ، بل قد يكون أيضا - لسرعته - إيذاء بمن ينطلق إليه إن اصطدم به في موضع ضعيف من جسمه ؛ لذلك كان من المهم أن يفهم كل من يتعامل مع الصغير ما تحتاجه المرحلة العمرية له من فهم وتعامل . روى أحمد وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ e الْعِشَاءَ فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ أَخَذَهُمَا بِيَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ أَخْذًا رَفِيقًا ، وَيَضَعُهُمَا عَلَى الْأَرْضِ ، فَإِذَا عَادَ عَادَا ، حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ أَقْعَدَهُمَا عَلَى فَخِذَيْهِ ؛ قَالَ : فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرُدُّهُمَا ؟ فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ فَقَالَ لَهُمَا : " الْحَقَا بِأُمِّكُمَا " ( [13] ) ؛ وروىالطبرانيفي(الأوسط) عن البراء بن عازب قال : كان النبي e يصلي ، فجاء الحسن والحسين ، أو أحدهما ، فركب على ظهره ، فكان إذا سجد رفع رأسه ، قال بيده فأمسكه ، أو أمسكهما ، ثم قال : " نعم المطية مطيتكما " ( [14] ) ؛ وقوله : قال بيده فأمسكه ، أو أمسكهما ، أي حرَّك يده ليمسك بالصغير مخافة أن يقع وهو يهوي للسجود ؛ وقول أبي هريرة : فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ أَخَذَهُمَا بِيَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ أَخْذًا رَفِيقًا ، وَيَضَعُهُمَا عَلَى الْأَرْضِ ، فَإِذَا عَادَ عَادَا ، حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ أَقْعَدَهُمَا عَلَى فَخِذَيْهِ . دليل واضح على مراعاة سن الطفل والرحمة به واستيعاب إدراكه وحاجته في هذه السن الصغيرة . ما أبدع هذا وأجمله في معاملة الصغير : رفق في حب ، ورحمة وشفقة يتكرران ؛ إنها رسالة لكل أبٍ : هذه المعاملة السامية مع فعلٍ يظن البعض أنه خطأ لابد من معاقبتهما عليه ؛ ولو استوعب عمر الطفل وباعثه على الفعل وإدراكه لفهم ما فعله النبي e .
5 - رعايته وإماطة الأذى عنه إن الطفل في هذه المرحلة العمرية يحتاج إلى رعاية من كافة النواحي ، لأنه لا يستطيع أن يقوم بذلك بنفسه ، فيحتاج إلى إماطة الأذى عنه ، وإلى متابعة لنظافته ، وإلى ترقب لمواعيد طعامه ، وإلى النظر في تغيرات أحواله وأموره كلها . وقد روى أحمد وابن ماجة وابن حبان عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها - قَالَتْ : عَثَرَ أُسَامَةُ بِعَتَبَةِ الْبَابِ فَشُجَّ فِي وَجْهِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " أَمِيطِي عَنْهُ الْأَذَى " فَتَقَذَّرْتُهُ ، فَجَعَلَ يَمُصُّ عَنْهُ الدَّمَ وَيَمُجُّهُ عَنْ وَجْهِهِ ، ثُمَّ قَالَ : " لَوْ كَانَ أُسَامَةُ جَارِيَةً لَحَلَّيْتُهُ وَكَسَوْتُهُ حَتَّى أُنَفِّقَهُ " ( [15] ) . إنها أمثلة من حياة خير البرية e تبين كيف العناية بالصغير ورعاية حاله ، والنظر في حاجته ؛ ويقاس عليها كل ما يحتاجه الطفل من رعاية بدنية وصحية .
[11] - رواه النسائي في الكبرى ( 8114 ) ، والبزار ( 1834 ) واللفظ له ، وأبو يعلى ( 5368 ) وقال الهيثمي في المجمع : 9 / 180 رواه أبو يعلى والبزار وقال فاذا قضى الصلاة ضمهما إليه، والطبراني باختصار ورجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم خلاف .ا.هـ . وحسن الألباني إسناد أبي يعلى في ( الصحيحة ) رقم ( 312 ) .
[12] - الأدب المفرد ( 377 ) ، والبيهقي في الشعب ( 7134 ) .
ليس هناك سن محددة لنهاية حضانة الطفل ، أما الرضاعة فتمامها في سنتين كما بينت آية سورة البقرة ؛ وأما الحضانة فتنتهي – كما يقول السيد سابق - إذا استغنى الصغير أو الصغيرة عن خدمة النساء ، وبلغ سن التمييز والاستقلال ، وقدر الواحد منهما على أن يقوم وحده بحاجاته الأولية بأن يأكل وحده ، ويلبس وحده ، وينظف نفسه وحده ؛ وليس لذلك مدة معينة تنتهي بانتهائها ؛ بل العبرة بالتمييز والاستغناء ؛ والمفتى به في المذهب الحنفي وغيره : أن مدة الحضانة تنتهي إذا أتم الغلام سبع سنين ، وتنتهي كذلك إذا أتمت البنت تسع سنين ؛ وإنما رأوا الزيادة بالنسبة للبنت الصغيرة لتتمكن من اعتياد عادات النساء من حاضنتها.ا.هـ ( [1] ) . فإذا حدث أن افترق الوالدن وبينهما طفل ، فالأم أحق بحضانته من الأب ما لم يقم بالأم مانع من ذلك ، لما رواه أحمد وأبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو t أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً ، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ e : " أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي " ( [2] ) . وإنما كانت الأم أحق لأنها أعرف بالتربية وأقدر عليها في هذه السن ، ولها الصبر في هذه الناحية ما ليس للرجل ؛ وَالْحَضَانَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ لَمصلحة الْوَلَدِ ، فَلَا تُشْرَعُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ هَلَاكُهُ وَهَلَاكُ دِينِهِ ؛ وللحضانة أحكام وشروط تتعلق بها تنظر في مظانها من كتب الفقه .
[1] - انظر فقه السنة : 3 / 99 ، 100 ، ( الفتح للإعلام العربي ) .
الطفولة مدة زمنية من عمر الإنسان لها مراحل تبدأ بالرضيع ثم الفطيم ثم هو صبي إلى المراهقة ، وبعدها البلوغ ؛ فإذا بلغ الإنسان فليس هو بطفل شرعًا وعقلا ، فقد اكتمل عنده من العقل والجسم ما أصبح به مكلفا شرعًا . وكل مرحلة من هذه المراحل لها آدابها التي ينبغي أن لا يغفل عنها الأبوان حتى يكتمل نمو الطفل جسميا وعقليا ، وتنمو قدراته بحيث يصبح قادرا على مواجهة حياته حسب عمره وجنسه ، ونحاول – في هذه العجالة – أن نبين الملامح العامة لهذه الآداب ، والله المستعان .
ما بعد الرضاعة إلى التمييز
وأقصد بهذه المرحلة من سن الثانية إلى السابعة ؛ فعندما يفطم الطفل مع تمام الرضاعة يكون قد قارب السنتين ، وهي سن يبدأ فيها إدراك بعض الأمور حسب الفطرة والعادة ؛ويبدأأيضًافيالكلاموالحركة،كمايظهرعليهمخايلالفهموالذكاء؛ ولكن - وبلا ريب - لا يستوعب ما يفعل ولا يدرك أبعاده ، وإنما غالب ما يفعله محاكاة لما يراه من أبيه أو أمه أو إخوته أو من يتصل بهم في معيشتهم ؛ أو ما يراه مع أهله عبر التلفاز أو غير ذلك من الأجهزة . هذا وصف حال الصغير بعد فطامه ، ويتدرج بعد ذلك في الفهم والإدراك حسب ما يلقنه القائمون على تربيته ، وحسب ما يكتسبه هو من معايشة لبيئته وأقرانه ؛ومنهناكانمنالمهمجدًاأنتكونأقوالمنحولهحسنة،وأفعالهمكذلك؛ وأن تستغل هذه الفترة العمرية من عمر الولد في تأسيسه على الخير وحسن المنطق والفعال ؛ ومتابعته في أقواله وحركاته ، وتصويب الصائب منها ، وتخطئة الخطأ ، فإن زجر الطفل عن فعل الخطأ له اثر طيب في عدم تكراره منه ؛ ولا يمل المربي من ذلك ، فإن ما يتكرر على الحسِّ يتكرر في النفس .
ويمكن أن نجمل الآداب في هذه المرحلة في التالي : 1 – الرحمة والشفقة والرعاية إنها صفات ممتدة مع الأبناء في مراحل حياتهم ؛ ولكن لكل مرحلة ما تحتاجه مما يضاف إلى الرحمة والشفقة ، وليس زجر الصبي عن فعلٍ ما مخالف للرحمة ، وليس الشدة عليه في تعليم أو تربية مخالف للشفقة ، بل الرحمة والشفقة تستدعيان ذلك ؛ فليتنبه إليه ؛ وها هنا أمر لابد من توضيحه ، وهو الفرق بين الرحمة والتدليل ؛ حتى لا يقع أحدنا في خطأ التدليل ويترتب على ذلك أمور لا تحمد عقباها . بيان الفرق بين الرحمة والتدليل : الرَّحْمَةُ هي الرقة والتعطف ؛ وهي شيء يخلقه الله تعالى في قلوب عباده يتعاطفون بها ويتواصلون ويتوادون ؛ وقد قال النبي e : " هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ " متفق عليه من حديث أسامة بن زيد t . وأما التدليل فهو الانبساط في استجابة الطلبات المتكررة من الصغير حتى وإن كان غير محتاجلها. إن كون الآباء يحبون أطفالهم ، لا يعني أن ينبسطوا في تحقيق جميع رغباتهم ، فإن هذا النوع من الحب - وهو الذي يطلق عليه التدليل - لا يبني شخصية الطفل بطريقة إيجابية ، إذ يضعف إحساسه بالأمن والطمأنينة بعيدا عن والديه ، ويدفعه إلى التفكير في ذاته فقط إلى أن يصبح اتكاليا أنانيًّا ، كما قد يعود سلبا على سلوكياته عند كبره ؛ فيصبح غير مقدر للمسؤولية ولا مراعٍ لعواقب طلباته ولا ما يترتب عليها من أعباء على كاهل الأهل لتأمينها ؛ فيصبح غير قادر على تحمل أية مسؤولية . يقول المختصون في مجال سلوك الأطفال : إن الأطفال يترجمون ردود فعل الوالدين إلى سلوكيَّات تمكِّنهم من تحقيق ما يريدون ، ولذا من الخطأ الكبير أن يتعوَّد الطفل على تلبية كل طلباته ، فمن المفروض أن يسمع الطفل كلمة ( لا ) كثيرا ، ليكفَّ عندها عن استخدام الأساليب الملتوية لتحقيق مطالبه .ا.هـ . إن الأسلوب السليم تجاه تربية أبنائنا يدور حول الرحمة والحزم ، والمنح والمنع ، والشدة واللين ؛ وعلى الوالدين أن يختارا متى يُمنح الطفل ومتى يُمنع ؛ متى يكون الموقف مستحقا للرحمة واللين ، ومتى يستلزم الحزم والشدة في رحمة ؛ فالتدليل المبالغ فيه - وإن كانمدفوعًا بالحب والعواطف الطيبة - إلا أنه غالبًا ما ينقلب إلى عكس المراد .
إن من أسمى ألوان التربية المؤثرة : التربية بالقدوة ؛ فليكن الوالدان قدوةَ خيرٍ لأبنائهما ، وليحرص كل منهما على أن لا يرى منه ولده إلا خير العمل ، ولا يسمعون منه إلا أحسن الكلام ؛ وأن لا يلحظون عليه مخالفة فيقلدوه فيها ، وقد قال الشاعر :
إن الولد يقلد أباه في كل ما يراه منه أو يسمعه ؛ خاصة في سني عمره التي تتبع سن الرضاعة ، فهو في مرحلة عمرية يحاكي فيها من يراه ، فيقلده فيما يرى منه من أفعال ، وهكذا يبدأ هذا معه في أول سن الإدراك ، ويستمر إلى مرحلة التمييز وبعدها ، فيترسخ في ذهنه تلك الأعمال أو الأقوال التي رآها وسمعها .. فلذلك يجب أن لا يرى ولدك منك إلا كل خير ، ولا يسمع إلا كل طيب ، لتنمو نفسه على هذا الخير ، وينمو فكره على هذا الطيب ؛ ومن الحكمة في صلاة الرجل النافلة في بيته ، أن يراه أهل البيت فيقتدون به ؛ ففي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْرًا " ؛ وكم رأينا صغيرًا في أول سن الإدراك يحاكي أباه وهو يصلي ، فيكون ذلك أول تعلقه بالصلاة .
هذا من الأمور التي حرص الإسلام على تربية أبنائه عليها ، وهو تربية النشء على ما ينفعه في الدنيا والآخرة ، ومنعه مما يضره في الدنيا والآخرة ؛ قد ذكر القرآن أمر الآخرة لعلم الله تعالى أن الناس بما فطرهم عليه حريصون على أمور دنياهم ؛ قال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ ( التحريم : 6 ) . ومن هنا كان من المهم جدا في تربية الطفل أن يربى على معرفة ما ينفعه وما يضره ؛ فيعرف له الأول ويحبب إليه ، ويعرف له الثاني ويكَّره فيه ويزجر عنه ، ويتابع على ذلك ليتقرر في نفسه ذلك . وقد قال النبي e للحسن وهو صبي لما رآه يريد أن يأكل تمرة من تمر الصدقة : " كِخْ ، كِخْ ؛ أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ؟ " متفق عليه من حديث أبي هريرة ( [1] ) ؛ زَادَ مُسْلِمٌ " اِرْمِ بِهَا " ؛ وفِي رِوَايَةِ عند أحمد أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ e وَهُوَ يَقْسِمُ تَمْرًا مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي حِجْرِهِ ، فَلَمَّا فَرَغَ حَمَلَهُ النَّبِيُّ e عَلَى عَاتِقِهِ ، سَالَ لُعَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ e فَرَفَعَ النَّبِيُّ e رَأْسَهُ فَإِذَا تَمْرَةٌ فِي فِيهِ ، فَأَدْخَلَ النَّبِيُّ e يَدَهُ فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ ، ثُمَّ قَالَ : " أمَا عَلِمْتَ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ ؟ " ( [2] ) . قَوْلُهُ e : " كَخْ " بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا : كَلِمَةٌ تُقَالُ لِرَدْعِ الصَّبِيِّ عِنْدَ تَنَاوُلِهِ مَا يُسْتَقْذَرُ , بمعنى : اُتْرُكْهُ , وَارْمِ بِهِ , وَفِي رِوَايَةِ عِنْدَ أَحْمَدَ : فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ يَلُوكُ تَمْرَةً ، فَحَرَّكَ خَدَّهُ وَقَالَ : " أَلْقِهَا يَا بُنَيَّ ، أَلْقِهَا يَا بُنَيَّ " ( [3] ) ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ " كَخْ ، كَخْ " بِأَنَّهُ كَلَّمَهُ أَوَّلًا بِهَذَا فَلَمَّا تَمَادَى قَالَ لَهُ : " كَخْ ، كَخْ " إِشَارَةً إِلَى اِسْتِقْذَارِ ذَلِكَ لَهُ , وَيَحْتَمِلُ الْعَكْسُ بِأَنْ يَكُونَ كَلَّمَهُ أَوَّلًا بِذَلِكَ فَلَمَّا تَمَادَى نَزَعَهَا مِنْ فِيهِ ؛ أفاده ابن حجر رحمه الله ؛ وفي الحديث - كما قال ابن حجر أيضًا : جَوَازُ إِدْخَالِ الْأَطْفَالِ الْمَسَاجِدَ ، وَتَأْدِيبُهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَمَنْعُهُمْ مِمَّا يَضُرُّهُمْ وَمِنْ تَنَاوُلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُكَلَّفِينَ لِيَتَدَرَّبُوا بِذَلِكَ ... وَفِيهِ الْإِعْلَامُ بِسَبَبِ النَّهْيِ وَمُخَاطَبَةِ مَنْ لَا يُمَيِّزُ لِقَصْدِ إِسْمَاعِ مَنْ يُمَيِّزُ ، لِأَنَّ الْحَسَنَ إِذْ ذَاكَ كَانَ طِفْلًا .ا.هـ ( [4] ) ؛ وقال النووي : وَفِي الْحَدِيث أَنَّ الصِّبْيَان يُوَقَّوْنَ مَا يُوَقَّاهُ الْكِبَار , وَتُمْنَع مِنْ تَعَاطِيه , , وَهَذَا وَاجِب عَلَى الْوَلِيِّ ( [5] ) . هذه آداب عظيمة إذا تربى عليها الصغار ، أنتجت خصالا حسنة في النشأ يجمعها تقوى الله تعالى .
[3] - رواه أحمد : 1 / 214 ، وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 5 / 263 ) : رواه أحمد وفيه يزيد بن أبي زياد وفيه ضعف لين ، وقال أبو داود : لا أعلم أحدًا ترك حديثه وغيره أحب إلي منه ، وروى له مسلم مقرونًا والبخاري تعليقًا ، وبقية رجاله ثقات . وقال أيضا : ( مجمع الزوائد : 9 / 17 ، 285 ) : وإسناده حسن ؛ قلت : الحديث مرسل فإن عبد الله بن الحارث من كبار التابعين ، وأما يزيد بن أبي زياد ، فهو ممن ضعف ، لكن قال ابن عدي : يكتب حديثه مع ضعفه .
[6] - ابن أبي شيبة ( 32193 ) ، ورواه البخاري في الأدب المفرد ( 249 ) بنحوه والطبراني في الكبير : 3 / 49 ( 2653 ) وفيه أبو مزرد ، واسمه عبد الرحمن بن يسار ، قال في التقريب ( مقبول ) وبقية رجاله ثقات .
[7] - انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ( مادة ح ز ق ) .
قال رسول الله e : " إِنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي ، يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا" متفق عليه ؛ فالولد جزء من والديه ، وقطعة منهما ؛ فالولد فلذة من الكبد ، أي : قطعةٌ منه ، وقديما قال الشاعر العربي :
وإنّما أوْلاُدنا بَيْنَنا ... أَكْبادُنا تَمْشِي على الأَرْضِ
لو هَبَّت الريحُ على بَعْضهم لامتنعت عيني من الغَمْضِ
قال المرزوقي الأصفهاني في ( شرح ديوان الحماسة ) : أي : محل أولادنا من أنفسنا فيما بيننا وإن كانت ماشية على الأرض محل الأكباد من الأجواف ا.هـ . وإذا كان الأمر كذلك ؛ فعلى الوالدين أن يقوما بأداء حق أولادهما ، حتى لا يكون في تقصيرهما سبب في إيصال إيذاءٍ ما لبعض هؤلاء الأولاد ؛ أرأيت إن قصر والد في تعليم ولده توحيد رب العالمين ، وأمور العبادة التي أمر الله تعالى بها ، فإلى ما يئول أمره ؟ وماذا تكون عاقبته ؟ ألا يؤذيه أن يتعرض ولده لعذاب الله تعالى ؟ قال الله Y : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ ( التحريم : 6 ). إن الأبوين بدافع من الفطرة يعتنون بأمور أبنائهم المادية ، ويطلبون لهم وسائل الراحة قدر الاستطاعة ؛ وهذا وإن كان جانبا مهما في شأن التربية ؛ إلا أن الخوف على الأبناء من عذاب الله تعالى أهم وأجدر أن يهتم به الآباء . وفي خلال هذه المرحلة لابد وأن يكون الطفل قد لقن من الأخلاقيات والآداب والعبادات وما يمكن أن يفهمه من أمور العقيدة ، ما يكون تمهيدا له للدخول في مرحلة التمييز والتي يُبدأ معه بتكاليف شرعية - بحسب سنه - لاعتيادها وممارستها حتى لا يثقل عليه الأمر عند بلوغه وتكليفه شرعًا . وننوه هنا إلى أمر مهم جدا ، وهو ضرورة تحفيز الطفل وتنشيطه لحفظ القرآن منذ أن يستقيم لسانه على النطق الصحيح ، وغالبا ما يكون ذلك بين الثالثة والرابعة من عمر الطفل ، والبنت أسرع في استقامة النطق من الابن ؛ وحبذا لو عُهد به إلى معلم حاذق فاضل مربٍّ ليقوم بهذه المهمة ؛ كما أنه في سن الرابعة - أو دونها بقليل - يستجيب لتعلم القراءة والكتابة وبعض أشياء أخرى من مبادئ العلوم التي يمكن أن يستوعبها ، وهذا أمر معروف بالتجربة والاستقراء . ويتدرج معه في مسألة تعليم مبادئ العقيدة والفقه الذي هو من فروض الأعيان ، كالطهارة والصلاة وما يتعلق بها من أحكام ، وما يتعلق بالآداب والأخلاق والمعاملات ، كل ذلك بأسلوب يناسب سنه وإدراكه ، حتى إذا دخل في سن التمييز التي يؤمر فيها بالصلاة ، يكون على فهم لما يقوم بأدائه ؛ وهذه أمور كان مؤدب الأولاد في عصور الإسلام يقوم بها فيما يعرف بالمكاتب أو الكتاتيب أو الخلاوي والزوايا في بعض البلاد ؛ وقد يقوم ببعضها اليوم مراكز التحفيظ الموجودة في بعض بلاد المسلمين . فموالاة الولد بالرعاية والتربية والتعليم حسب سني عمره من الآداب التي لابد أن يراعيها الآباء مع الأبناء ؛ ففي الصحيحين عن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ t قال : كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ e وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ e : " يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ " فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ ( [1] ) ؛ فهكذا يعلمنا النبي e ألا نغفل عن تعليم الصغير هذا الأدب ونحوه طالما أنه يدرك فهم ذلك .
معنى سن التمييز أن الطفل في هذه السن يستطيع أن يميز القربة إلى الله تعالى ويتعلم ما يقوم به عبادة لربه ؛ كما يستطيع أن يميز بين النافع والضار ، وبين الشيء وضده في كثير من أمور حياته . ومن هنا فهي مرحلة تحتاج إلى نقلة أخرى في فهم واقع الطفل وما يحتاجه ؛ مع استمرار ما يتعلق بالاهتمام بشأنه عمومًا والآداب الأخرى التي ألمحنا إليها ، وبعض التغيير في مسألة ملاعبة الطفل والنظر فيما يناسب عمره من بعض هذه الألعاب ، والاهتمام بترسيخ المحافظة على الوقت ، وعدم تضييعه إياه في غير مفيد ، وتعليمه كيفية ترتيب وقته بين المفيد والترفيه ، ما هو الأولى بشغل الوقت ؛ حتى يتزن عقل الولد في ترتيب أمور حياته ؛ فالوقت هو العمر وهو زمن الحياة ؛ وهذا أمر مهم يُبدأ في تعليمه إياه من سن التمييز . وسأتحدث عن أهم الأمور التي يراعيها الأبوان في هذه الفترة من مراحل عمر أبنائهم ..
إن أول ما يتوجب على الآباء تجاه أبنائهم رحمة بهم واهتماما بشأنهم تعليمهم : العقيدة الصحيحة في سن التمييز ، والتدرج معهم في إعطائهم الجرعات المناسبة التي تعينهم على فهم حقيقة الحياة ، وترسخ في عقولهم ونفوسهم حقيقة الإيمان والعيش به ، وإننا لنرى رسول الله e يقوم بذلك معلمًا الأمة ، ومبينًا أن الغلام وهو ما دون سن البلوغ يحتاج إلى هذا التعليم ؛ روى أحمد والترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ : كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ e يَوْمًا فَقَالَ : " يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ : احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ؛ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ؛ رُفِعَتْ الأَقْلامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ "( [1] ) ؛ وهذا الحديث أصل في تعليم الأبناء عقيدتهم في السن المناسبة لذلك . ومن الواجب على الآباء أن يعلموا أولادهم الصلاة ويأمروهم بها ، فعند أحمد وأبي داود عَنْ ابنِ عَمْرٍو t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : « مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ " ( [2] ) . وقوله : " أَوْلادكُمْ " يَشْمَل الذُّكُور وَالإِنَاث ؛ وإنما أمر النبي e بتعليم الصغار الصلاة لِيَعْتَادُوا وَيَسْتَأْنِسُوا بِهَا ؛ وقوله : " وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا " أَيْ عَلَى تَرْك الصَّلاة ، " وَهُمْ أَبْنَاء عَشْر سِنِينَ " لأَنَّهُمْ بَلَغُوا أَوْ قَارَبُوا الْبُلُوغ ؛ فالأنثى قد تبلغ من تسع سنين ؛ ويتأخر الذكر عنها قليلا ؛ وإن كان الأمر بذلك عند سن السابعة ، فواجب أن يعلمه ذلك عند هذه السن ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ؛ ولذلك أشرنا فيما سبق أنه لا بد من تعليم الأولاد في سن قبل التمييز حتى يتسنى لهم أن يؤدوا ما يؤمرون به على فهم وإدراك . وقد قاس بعض العلماء الصيام على الصلاة في تعويد الأولاد عليه ، وقال بعض العلماء إنما يكون ذلك بمراعاة طاقة الطفل وقدرته ؛ فمن المهم أن يعوَّد الطفل على الصيام ، حتى لا يستصعبه إذا صار في سن التكليف ؛ ومما يعين على ذلك ذكر فضائل الصيام لهم وتحفيزهم عليه ؛ فإن في ذلك خير عظيم وأجر عميم بإذن الله الكريم . ويجب أن تُعلم البنت - أيضًا - في هذه السن اللباس الشرعي للمرأة ، وأنه من شروط صحة الصلاة ، حتى تعتاد على لبسه ، فإذا بلغت توبعت على ذلك وبُيِّن لها أن هذا اللباس السابغ الذي يسترها تماما ، ولا يشف ، ولا يجسم ، ولايطيَّب ولا يبخر ، ولا يشبه لباس الكافرات ، ولا يكون لباس شهرة ، ولا يكون به زينة ملفتة ؛ أن هذا اللباس بهذه الشروط هو ما أمرها الله به إذا خرجت لقضاء حاجاتها ؛ كما تُعلم حدود المعاملة مع الرجال الأجانبكماأرادالشرعالمطهر. وكذا على الوالدين أن يعلموا أطفالهم آداب الاستئذان ، كما قـال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ ( النور : 58 ، 59 ) . كما يجب على الوالدين أن يعلموا أبناءهم غير ذلك من الفرائض والآداب التي لابد أن يتعلمها المسلم رحمة به في الدنيا فيعيش بذلك حياة طيبة كريمة ؛ ورحمة في الآخرة بنجاة من النار .
إن أساس التربية السليمة هو العدل بين الأبناء ، والعدل مبدأ عام وأصل أصيل في دين الإسلام جاءت به النصوص المتكاثرة ، والتفرقة بين الأولاد ظلم له آثار وخيمة ؛ وكم من مشكلات حدثت بين أشقاء كان سببها الأول تفضيل بعض الأبناء على بعض . والعدل بين الأولاد ذكورا وإناثًا يشمل جميع الأمور المادية من رعاية واهتمام وعطايا ومظاهر المحبة والشفقة من تقبيل وضم وسؤال عنهم وعن أحوالهم .. إلى غير ذلك من الأمور من جوانب العدل التي يجب أن يراعيها الآباء في حـق أبنائهم ؛ والقاعدة العظيمة التي أصلَّها لنا رسول الإنسانية e : " اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ " ( [1] ) . ومما هو متفق عليه أن للصغير حظه من التدليل مما قد يفوق من شب واستوى ، وللمريض حقه من الرعاية بخلاف من سلم وعوفي من الأسقام ، وللغائب أو المسافر نصيبه من الاهتمام والتعلق قد يزيد على من أقام بين والديه فأصبح معهما وبات ؛ لكن كل ذلك بميزان من التقوى لا يطغى على حق باقي الأولاد ؛ لئلا يقع الخلل ، وتدب البغضاء ، وتكون الوحشة والأحقاد بين الأولاد ، وما قصة إخوة يوسف منا ببعيد ؛ مع أن أباه يعقوب e لم يكن حبه له إلا من باب ما ذكرنا من أن الصغير لضعفه وحاجته قد يكون له من الشفقة الزائدة ؛ وحاشا لنبي الله أن يصدر عنه ظلم لأبنائه ؛ فلئن كان ما حدث من إخوة يوسف مع عدم الظلم من أبيهم ؛ فكيف يتصور أن يكون الأمر إذا وجد الظلم من الأب أو الأم ؟ وقد حثنا الإسلام على العدل في معاملة الأولاد جميعا ذكورًا كانوا أو إناثًا ، بل خص النبي e الإناث بوصية خاصة لما كان أهل الجاهلية يفعلونه من تفضيل الذكور على الإناث مما يهضم حق الإناث ؛ من هنا نرى كيف جعل رسول الله e عدم المفاضلة بين الأولاد سببًا في دخول الجنة فروى أحمد وأبو داود عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَنْ كَانَتْ لَهُ أُنْثَى فَلَمْ يَئِدْهَا ، وَلَمْ يُهِنْهَا ، وَلَمْ يُؤْثِرْ وَلَدَهُ عَلَيْهَا ( يَعْنِي الذُّكُورَ ) أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ " ( [2] ) ؛ وقوله : " فَلَمْ يَئِدْهَا " وَأَدَ بِنْته يَئِدهَا وَأْدًا فَهِيَ مَوْءُودَة : إِذَا دَفَنَهَا فِي الْقَبْر وَهِيَ حَيَّة ؛ وَهَذَا كَانَ مِنْ عَادَة الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة خَوْفًا مِنْ الْفَقْر أَوْ فِرَارًا مِنْ الْعَار ؛ وفي التنزيل : ] وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ . بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [ ( التكوير : 8 ، 9 ) ؛ وتقدم ذكر أحاديث الإحسان إلى البنات . فالعدل بصفته العامة بين الأولاد ذكورًا كانوا فقط ، أو إناثا فقط ، أو كانوا ذكورا وإناثا من مطالب شرعنا الحنيف في معاملة أبنائنا ؛ وعند أحمد وأبي داود والنسائي من حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ ، اعْدِلُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ " ( [3] ) . وظاهرة التفريق بين الأولاد من أخطر الظواهر التي تسبب أمراضًا قلبية كالحسد والغل والحقد والكره والخوف والحياء المذموم ؛ أو نفسية كالقلق والاكتئاب والحزن الدائم والانطواء والبكاء ، والذي له مردوده السيئ في حياة الأولاد ؛ بل في حياة الأسرة جميعًا ، وكم من حالات تراكمت فيها هذه الأمراض أدت إلى جرائم خطيرة كالقتل وشرب المخدرات والخمر وغير ذلك . من هنا يجب على الآباء مراعاة العدل بين أبنائهم ، وتصحيح ما يمكن أن يظهر على بعضهم من سلوك نابع من سوء ظنٍ بأن والديه يفضلون أخاه أو أخته عليه ، ومتابعة ذلك ببث الحب بينهم ، وإبعاد مظاهر الكراهية بكل صورها ، مما يكون له الأثر البالغ في تنشئة الأولاد تنشئة أخلاقية صالحة ينمو معها حب بعضهم لبعض ، وتآلف بعضهم مع بعض . ومن جوانب العدل بين الأولاد : العدل في العطية ، وهذا جانب مهم روعي فيه الجانب النفسي والجانب المادي والأثر المترتب على عدم العدل ؛ والأصل فيه حديث النعمان بن بشير t ، وله روايات وألفاظ توضح ما ذكرنا ؛ ففي صحيح مسلم وغيره عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رضي الله عنهما - قَالَ : انْطَلَقَ بِي أَبِي يَحْمِلُنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَحَلْتُ النُّعْمَانَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِي ، فَقَالَ : " أَكُلَّ بَنِيكَ قَدْ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ ؟ " قَالَ : لَا ، قَـالَ : " فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي " ثُمَّ قَالَ : " أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً " قَالَ : بَلَى ، قَالَ : " فَلَا إِذًا " ( [4] ) ؛ وفي لفظ في الصحيحين : أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e فَقَالَ : إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا ، فَقَالَ : " أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ " قَالَ : لَا ، قَالَ : " فَارْجِعْهُ " ، وفي رواية : " فَارْدُدْهُ " ( [5] ) ؛ وعندهما : " أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا ؟"قَالَ:لَا ، قَالَ : " فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ " قَالَ : فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ ( [6] ) ؛ وفي رواية لهما : " لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ " وفي لفظ : " لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ " ( [7] ) . ففي هذه الروايات بيان واضح أن التفرقة في العطية جور ، أي : ظلم ؛ وأن العدل بين الأولاد من أسباب البر بالآباء ، وأن النبي e أمر بشيرًا t أن يرد عطيته ، مما يدل على أن من فعل مثل فعل بشير يرد عطيته ، لإزالة ما يحتمل أن يكون حدث في النفوس من بغضاء وحسد وحقد وشعور بالظلم ونحو ذلك . إن مما يجب على الآباء تجاه أبنائهم أن يزرعوا بينهم المودة والحب والخوف من الله تعالى ، ويقتضي ذلك ألا يفعلوا شيئًا يوجد عداوة وكراهية بين الأبناء ، لأن ذلك له مردوده السيئ في حياتهم وسلوكياتهم ومعاملاتهم مع آبائهم وإخوتهم ؛ بل ولربما مع المجتمع بأسره . فلابد أن يراعى العدل في جميع جوانب المعاملة ؛ روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي - رحمه الله - قال : كانوا يستحبون أن يعدل الرجل بين ولده حتى في القُبَلِ ( [8] ) . إنه أدب الإسلام الذي إذا اتبعه الناس سادت المودة والرحمة والألفة بين الأسرة ؛ وبالتالي بين أفراد المجتمع بأسره .
[1] - جزء من حديث متفق عليه : البخاري ( 2587 ) ، ومسلم ( 1623 ) .
[2] - أحمد : 1 / 223 ، وأبو داود ( 5146 ) ، ورواه الحاكم ( 7348 ) وصححه .
[3] - أحمد : 4 / 275 ، 278 ، وأبو داود ( 3544 ) ، والنسائي ( 3687 ) .
[4] - رواه مسلم ( 1623 ) ، والنسائي ( 3680 ) ، وابن ماجة ( 2375 ) .
التأديب تفعيل من الأدب ، وهو تعليم فضيلة من الفضائل ، ومعاقبة من يخالف ذلك على إساءته ، وسميت المعاقبة هاهنا تأديبا ، لأنها تدعو إلى حقيقة الأدب ([1]) ؛ وجاء في وصايا النبي e للآباء ضرب الولد للتأديب والتعليم ، فمن ذلك ما تقدم : " مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ " ، وكذا ما رواه أحمد وغيره عَنْ مُعَاذٍ t قَالَ : أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ e بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ [ وفيها ]: " وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ مِنْ طَوْلِكَ ، وَلا تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ أَدَبًا ، وَأَخِفْهُمْ فِي اللَّهِ " ( [2] ) . وعند الطبراني وابن حبان عن جابر t قال : قال رجل : يا رسول الله مما اضرب منه يتيمي ؟ قال : " مما كنت ضاربا منه ولدك " ( [3] ) . وهذا الضرب المذكور إنما هو ضرب تأديب لا ضرب تعذيب ، ولا يجوز بحال أن تتجاوز العقوبة عن العشر ضربات غير المبرحات ؛ وليعلم المؤدب أن هذا الضرب إشارة إلى أن الخطأ عليه عقاب ، ولا يلجأ إليه إلا إذا استنفدت الوسائل التي يمكن أن يستجيب لها الطفل للتأديب ، كالنصيحة والحوار ، ثم التهديد إذا تكرر منه الخطأ ، ثم يكون بعد ذلك الضرب للتأديب . وفي تأديب الولد بالضرب رحمة - وإن كانت تخفى على كثيرين – فإن ضربه يجعله يتذكر العقاب على ما أخطأ فيه فلا يقع فيه بعد ، وفي ذلك رحمة ظاهرة . ولذا قال الشاعر :
وقسا ليزدجروا ومن يك حازمًا ... فليقسو أحيانًا على من يرحم
فإنـما أنـتَ بتقـويمـهِ ... أولى من الشرطي والسَجنِ
فهكذا يكون التعامل مع الصغير رحمة في شفقة وتعليم ، ومعاقبة للتأديب فيها رحمة وشفقة وتعليم . إن من الفطرة التي فُطر الناس عليها فطرة الأبوة والأمومة .. التي تعني الشفقة والرحمة والحب والحنان والإحاطة والرعاية والتربية والتأديب ؛ إنه مزيج يؤدي إلى أن يتحمل الأب مسؤولية التربية دون خلل في الفهم ، أو تجاوز في التطبيق ، والله الموفق . وفي قوله e : " وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ " ، وقوله : " مما كنت ضاربا منه ولدك " ، وقوله : " وَلا تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ أَدَبًا " بيان لأمور : الأول : مشروعية ضرب الصغير للتأديب ، وخاصة إذا قصر في أمر من أمور الشريعة . الثاني : مشروعية الضرب إذا تهاون في أداء الصلاة عند بلوغه عشر سنين ، وهذه السن قد تكون سن بلوغ بالنسبة للبنات ، وهي سن قرب من البلوغ بالنسبة للبنين ؛ فتكون هذه العقوبة فيها تحذير وإنذار ، ويستحسن أن يُذَّكر الولد عند ضربه بحديث النبي e ، ويُخَوَّف بالله تعالى وعقوبته الشديدة لمن يتهاون في أداء الصلاة وغيرها من الفرائض . الثالث : إنما ذُكرت الصلاة كمثال ، ويعاقب الولد على التهاون في أي أمر شرعي ؛ وليس الضرب إلا وسيلة من وسائل التربية التي ثبتت جدواها في محلها.
[2] - أحمد : 5 / 238 ، قال الممنذري في الترغيب : رواه أحمد والطبراني في الكبير وإسناد أحمد صحيح لو سلم من الانقطاع فإن عبد الرحمن بن جبير بن نفير لم يسمع من معاذ ا.هـ . قلت : له شواهد فقد رواه عبد بن حميد ( 1594 ) عن مكحول عن أم أيمن به ، وهذا مرسل . ورواه الطبراني في الكبير : 24 / 190 ( 479 ) عن أميمية مولاة النبي e ، ورواه ابن نصر في ( تعظيم قدر الصلاة ) ( 911 ) عن أبي الدرداء .
[3] - الطبراني في الصغير ( 244 ) ، وابن حبان ( 4244 ) .
من المهم في هذه السن أن يصطحب الوالد ابنه إلى المسجد مع كل صلاة ، وكذلك في يوم الجمعة ، وأن يعلمه آداب المساجد ، وآداب الجمعة ويتابع ذلك عليه وهو داخل المسجد ، ويذكره بهذه الآداب دائمًا حتى إذا حفظها انتقل إلى غيرها من الآداب . وكل هذا يقع تحت قوله صلى الله عليه وسلم : " مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين ، واضربوهم عليها لعشر سنين " .
وهذا من أصول التربية السليمة ؛ ومرادنا بأذكار الأعمال ، ما يتعلق بأذكار أعمال الإنسان في يومه وليلته ، كالنوم والاستيقاظ ودخول الخلاء والوضوء والطعام والشراب والدخول والخروج من البيت ... ونحو ذلك من الأعمال . وأما أذكار الأوقات فهي ما يتعلق بأذكار الصباح والمساء . ومن فوائد ذلك : 1 – تعلق الولد بالله تعالى ؛ وهذا أهم الأمور في تربية الولد . 2 – ترتيب عقلية الولد باستحضار ما يكون من الأذكار عند العمل ، مما يكون له الأثر الطيب في ترتيب عقليته في أموره كلها . 3 – تعويده على النظام ، إذ أنه إذا اعتاد استحضار الأذكار عند الأعمال يتعلم أن ينظم حياته ؛ ويرتب أولوياته . هذا مع ما في الأذكار من فوائد كثيرة ؛ عدها ابن القيم مائة ، وذكر منها أكثر من سبعين فائدة في كتابه ( الوابل الصيب من الكلم الطيب ) .
متابعة سلوكيات الولد في هذه المرحلة مهم جدًّا لترسيخ الآداب العامة والأخلاقيات الفضلى في شخصية الولد ؛ ولا يقولن أحد الأبوين : قد علمته .. قد قلت له .. كررت عليه مرارًا ... أو نحو ذلك من الأقوال التي نسمعها دائمًا عند الشكوى من أحد الأبناء ؛ وإنما ينبغي أن يتابع الولد ، ويُذَكَّر بما قيل له ، وبما كرر عليه حتى يستقيم أمره على ما نريد من الخلق والآداب .
هذا مما علمنا ربنا Y في الأدب مع أبنائنا : أن ندعوا لهم بالصلاح والخير ؛ نجد ذلك في مثل قوله تعالى : ] وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [ ( الفرقان : 74 ) ، وقوله U : ] وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ ( الأحقاف : 15 ) . وفي دعاء إبراهيم e : ] رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ ( البقرة : 128 ) ، ] رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [ ( إبراهيم : 40 ) . ويحذرنا النبي e أن نتجاوز الحد في الدعاء فندعو على أبنائنا ؛ فعن جابر t قال : قال رسول الله e : " لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ " رواه مسلم ( [1] ) . ورواه أبو داود بلفظ : " لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ " ( [2] ) .
فعلة النهي : " لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ " ، أي : لئلا توافقوا ، فقد تكون الساعة التي يدعو فيها الداعي على نفسه أو على ولده أو على ماله هي ساعة إجابة ، فيتحقق للداعي ما دعاه من الشر ، فيندم بعد أن ينتبه من غفلته أو يفيق من غضبته . وقد جاء رجل إلى عبد الله ابن المبارك - رحمه الله - يشكو ابنه ، فقال له : لعلك دعوت عليه ؟ قال نعم : قال أنت أفسدته . ودعوة الوالدين مستجابة على العموم ، سواء أكانت للولد أو عليه ؛ لما فيها من الإخلاص ؛ والعادة جارية بدعاء الوالدين لأبنائهما ، لشدة شفقتهما عليهم وخاصة في صغرهم ، وإذا رأى الوالدان من الولد بره فإن ذلك يدعوهما لكثرة الدعاء له . وأما الدعاء منهما عليه فلا يصدر في الغالب إلا عند تكامل عجزهما عنه ، وإياسهما من بره مع وجود أذيته ، فتصدق ضرورتهما فيسرع الحق لإجابتهما ؛ وقد وردت الأدلة بذلك فمنها : ما رواه البخاري في ( الأدب المفرد ) عن أبي هريرة t أن النبي e قال : " ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَهُنَّ لَا شَكَّ فِيهِنَّ : دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ ، وَدَعْوَةُ الوَالِدَينِ عَلَى وَلَدِهِمَا " ، ورواه أحمد والطيالسي وأبو داود وابن ماجة بلفظ : " دَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ " ؛ ولأحمد والترمذي : " وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ " ( [3] ) ، وفي حديث أنس مرفوعاً بنحوه وفيه : " دَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ " ( [4] ) . وروى عبد الرزاق وعنه أحمد عن عقبة بن عامر مرفوعا : " ثَلَاثٌ مُسْتَجَابٌ لَهُمْ دَعْوَتُهُمُ الْمُسَافِرُ وَالْوَالِدُ وَالْمَظْلُومُ " ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني وابن خزيمة والخطيب البغدادي ( [5] ) . وفي قصة جريج التي أخرجها أحمد والشيخان لعبرة ؛ فقد أتته أمه وهو يتعبد في صومعته ، فنادته ثلاثاً في كل مرة يقول : رب أمي وصلاتي ، ويقبل على صلاته ، فدعت عليه فقالت : " اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا جُرَيْجٌ وَهُوَ ابْنِي وَإِنِّي كَلَّمْتُهُ فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي اللَّهُمَّ فَلَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَاتِ " قال e " وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتَنَ لَفُتِنَ " ( [6] ) .. فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا فَقَالَتْ : إِنْ شِئْتُمْ لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ ، قَالَ : فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا ، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا ، فَحَمَلَتْ فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ : هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ ؛ فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ ، فَقَالَ : مَا شَأْنُكُمْ ؟! قَالُوا : زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ مِنْكَ ! فَقَالَ : أَيْنَ الصَّبِيُّ ؟ فَجَاءُوا بِهِ ، فَقَالَ : دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ ، فَصَلَّى فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ وَقَالَ : يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ ؟ قَالَ : فُلَانٌ الرَّاعِي ؛ قَالَ : فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ ، وَقَالُوا : نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لَا أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ فَفَعَلُوا " ( [7] ) . فقد آثر جريج الصلاة على إجابة أمه ، فدعت عليه ، فاستجاب الله دعاءها ، فهذا وهو في الصلاة ، فكيف إذا كان في حالة عقوق ؟! فحذار أن يدعو الوالد على ولده في أي حال ؛ وإنما يدعو له ولو كان في حالة ضيق منه أو غضب عليه ؛ فغاية الوالد ومطلبه صلاح ابنه ، لا أن ينزل الله به عقوبة أو شقاء .
[1] - جزء من حديث طويل رواه مسلم في الزهد والرقائق ( 3014 ) ؛ ورواه ابن حبان ( 5742 ) .
مرحلة المراهفة هي امتداد لما سبق من مراحل نمو الإنسان وتربيته ؛ وإذا سلك الأبوان - فيما سبق هذه المرحلة - مسالك التربية السليمة ؛ كانت النتيجة في هذه المرحلة اتزان خلقي وسلوكي يتفق مع ما يريده الشرع المطهر من إيصال الأولاد إلى مرحلة الوعي والفهم الصحيح للتغيرات التي تحدث للإنسان في هذه المرحلة ، فيتعامل معها الآباء والأبناء تعاملا عاقلا فاهما لحقيقتها وواقعها . والمراهقة من ( راهق ) أي :إذا اقترب من الشيء ؛ يقال : رهقت الشيء رهقًا ، أي : قربت منه ؛ وراهق الغلامُ فهو مراهِق إِذا قارب الاحتلام ، وجارية مراهِقة ؛ ويقال جارية راهِقة وغلام راهِق ؛ وذلك ابن العشر إِلى إِحدى عشرة ( [1] ) . وهذه المرحلة هي مرحلة انتقالية بين الطفولة والبلوغ ، ومن هنا تعد من أحرج المراحل التي يمر بها الإنسان ضمن أطواره المختلفة ، إذ يحدث للإنسان فيها تغيرات في مظاهر النمو المختلفة : جسميًّا وعقليًّا ونفسيًّا ؛ ومن هنا كان لابد أن يكون لها أسلوب آخر في التربية والترشيد ؛ ومن هنا كان قول النبي e : " وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ " ؛ قال ابن القيم - رحمه الله : فإذا صار ابن عشر ازداد قوة وعقلا واحتمالا للعبادات ، فيضرب على ترك الصلاة كما أمر به النبي e ، وهذا ضرب تأديب وتمرين ؛ وعند بلوغ العشر يتجدد له حال أخرى يقوى فيها تمييزه ومعرفته ( [2] ) . وقوله e : " وَفَرِّقُوا بَيْنهمْ فِي الْمَضَاجِع " أَيْ : مواضع النوم ، فيُفَرَّق بين الذكور فيما بينهم إذا بلغوا هذه السن ، وكذا بين الإناث ، وكذا بين الذكور والإناث ، وهذا تأديب آخر يلزم الوالدين لأولادهما ، وفيه رحمة بهما وطاعة لربهما ؛ قَالَ الْمُنَاوِيُّ - رحمه الله - فِي ( فَيض الْقَدِير شَرْح الْجَامِع الصَّغِير ) : أَيْ فَرِّقُوا بَيْن أَوْلادكُمْ فِي مَضَاجِعهمْ الَّتِي يَنَامُونَ فِيهَا إِذَا بَلَغُوا عَشْرًا ، حَذَرًا مِنْ غَوَائِل الشَّهْوَة وإِنْ كُنَّ أَخَوَاته ؛ قَالَ الطِّيبِيُّ - رحمه الله : جَمَعَ بَيْن الأَمْر بِالصَّلاةِ وَالْفَرْق بَيْنهمْ فِي الْمَضَاجِع فِي الطُّفُولِيَّة تَأْدِيبًا لَهُمْ ، وَمُحَافَظَة لأَمْرِ اللَّه كُلّه ، وَتَعْلِيمًا لَهُمْ أَنْ لا يَقِفُوا مَوَاقِف التُّهَم فَيَجْتَنِبُوا الْمَحَارِم ا.هـ ( [3] ) . وفي دراسة ميدانية أجراها باحث أمريكي يدعى ( الفريد كنسي ) بعنوان ( السلوك الجنسي لدى الأمريكيين ) والتي شملت اثنى عشر ألف مواطن أمريكي من مختلف شرائح المجتمع ، خلصت إلى أن 22 % ممن سألهم عن أول تجربة لممارسة الجنس قالوا : إن أول تجربة جنسية لهم كانت في سن العاشرة ، وأنها كانت في فراش النوم ، وأنها كانت مع الأخ أو الأخت أو الأم !! وانتهت الدراسة التي أجريت في مطلع الأربعينيات ، إلى القول بأن الإرهاصات الجنسية تبدأ عند الولد والبنت في سن العاشرة . لقد سبق الإسلام هؤلاء الذين لا ينظرون إلى الخطر إلا بعد وقوعه ، فيبحثوا عن أسبابه ؛ ليجدوا أن أصل ذلك موجود في دين الإسلام ؛ وأن رسول الإنسانية محمدا e عندما قال : " وَفَرِّقُوا بَيْنهمْ فِي الْمَضَاجِع " كان ذلك بوحي من علام الغيوب سبحانه ، لتعيش الأمة في مأمن من الوقوع في مثل ما وقع فيه هؤلاء . ولما انتشرت ثقافة الغرب في بلاد المسلمين ظهر فيهم ذلك لبعدهم عن منهج ربهم وتعاليم نبيهم e ؛ وفي دراسة أجراها الدكتور أحمد المجدوب ( المستشار بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية بالقاهرة ) ؛ قال فيها : لقد اتضح لي من خلال دراسة ميدانية شاملة قمت بها على عينة من 200 حالة حول ( زنا المحارم ) - الذي أصبح منتشرًا للأسف - أن معظم حالات زنا المحارم كانت بسبب النوم المشترك في نفس الفراش مع الأخت أو الأم أو ... ، وهو ما حذرنا منه الرسول e بقوله : " وَفَرِّقُوا بَيْنهمْ فِي الْمَضَاجِع ". هذا بالإضافة إلى ما قد قدمنا من آداب في المراحل السابقة على المراهقة ؛ ويبقى أن الأب في هذه المرحلة يقترب من بنيه ، وكذا الأم ؛ فيصادق الأب ابنه والأم ابنتها ، بمعنى أن يفسحوا لهم في إبداء الرأي ، ومناقشة الأمور في حوار تربوي تعليمي ؛ قد يكون بطرح سؤال على الأولاد للنظر في فهمهم لقضية ما وإيصال الصحيح فيها ، أو يكون تحذيرًا من خلق سيئ أو فعل رديء ، أو بيانًا لحكم يحتاجونه في هذه السن ... إلى غير ذلكممايحتاجهالأولادفيسنالمراهقة. ومن المهم في هذه المرحلة أن يقوم الوالدان بتدريب الأولاد على تحمل المسئولية كل فيما يخصه ؛ وذلك بإسناد بعض الأعمال التي يطيقونها إليهم ، ثم النظر في زيادة هذه الأعمال تدريجيًا ، حتى يكتمل فهم الأبناء لتحمل المسئولية .
لم يحدد الشرع المطهر سنًّا معينة يكون فيها الذكر أو الأنثى بالغين ؛ ولكن هناك علامات واضحة بها يصل الولد البلوغ ؛ وأوضحها بالنسبة للأنثى هي : الحيض ؛ وأما العلامات الأخرى ، فيشترك فيها الذكر والأنثى ، وهي : الاحتلام ، وإنبات الشعر حول العانة وتحت الإبط . وهناك علامات أخرى كتغير الصوت ، وظهور بعض علامات الجسم بالنسبة للمرأة ؛ وقد قال النبي e : " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنْ الطِّفْلِ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَبْرَأَ أَوْ يَعْقِلَ " ( [1] ) . فإذا لم تظهر علامة من هذه العلامات - وقليلا ما يحدث - فاختلف العلماء في تحديد سن البلوغ ؛ والمشهور أنها خمسة عشر سنة . وعلى ذلك فإذا حاضت البنت صارت بالغًا يجري عليها القلم ؛ وإذا احتلم الابن أو ظهر عليه علامات البلوغ كذلك ؛ وعند ذلك لابد أن تكون وقفة تنبيه وترشيد ، فيستوقفهما الأبوان ليخبراهما بذلك : أنتَ ( أنتِ ) الآن بالغ مكلف ( مكلفة ) بأن تفعل الأوامر وتجتنب النواهي ؛ يجري عليك القلم بالخير والشر من الأقوال والأفعال ، فانتبه ( فانتبهي ) ، فاليوم غير الأمس ، كنت بالأمس في عداد من لا يجري عليه القلم ، فأما اليوم فكل شيء مما تفعل ( تفعلين ) أو تقول ( تقولين ) ، يسجل في صحيفتك ، ثم يحاسبك الله تعالى عليه ؛ ] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [ ( الزلزلة : 7 ، 8 ) . وعندها - أيضًا - يجب أن يتعلما ما يستوجبه الحال من أحكام الجنابة والحيض وغير ذلك مما يجب عليه ببلوغه ؛ وكم سمعنا عن ذكور ظلوا على جنابة لأنهم لا يعرفون أحكامها ، وكم سمعنا عن فتيات ظللن غير طاهرات ردحًا من الزمن لأنهن يجهلن أحكام الحيض والجنابة .
[1] - رواه أحمد : 6 / 101 ، وأبو داود ( 4398 ) ، والنسائي في الكبرى ( 5625 ) ، وابنحبان(142)،والحاكم:2/59، عن عائشة ، وصححه الحاكم على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي . ورواه أحمد : 1 / 116 ، 118 ، 140 ، وأبو داود ( 4401 : 4403 ) ، والترمذي ( 1423 ) ، والنسائي في الكبرى ( 7343 : 7347 ) ، وغيرهم ، من طرق عن علي .
الاستئذان داخل البيت من الأمور التي يجب أن يتعلمها من بلغ من الأبناء ، قال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ ( النور : 58 ، 59 ) ؛ فالأطفال يستأذنوا في صغرهم في أوقات العورات الثلاث ، فإذا بلغوا الحلم تغير حكمهم في الاستئذان إلى حكم استئذان الكبار الذي في قوله : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [ ( النور : 27 ) ؛ قال عطاء : واجب على الناس أجمعين أن يستأذنوا إذا احتلموا على من كان من الناس . وإن كانت هذه الآية في استئذان الكبار من خارج البيت ؛ فاستذان من بلغ من الأولاد هو في داخل البيت . هذا ، ويبقى استمرار النصح والترشيد متأكدًا في هذه السن ، مستمرًا بعدها ، وإلى أن يحول الموت بين الآباء والأبناء . وقد قص علينا القرآن الكريم في هذا الباب القصص الحق ؛ فمن ذلك عظة لقمان لابنه ؛ ومن ذلك وصية إبراهيم ويعقوب - عليهما السلام - لبنيهما ؛ ومن ذلك دعوة نوح لابنه وكان في معزل . مما يدل على أن علاقة الوالد بابنه علاقة نصح دائم وترشيد مستمر لا ينقطع أبدًا مدى الحياة . إنها آداب الإسلام الراقية ، وعلاقاته الوطيدة ، وأخلاقياته العالية ، التي من عمل بها سعد في الدنيا وأسعد أولاده ، وأما في الآخرة فقد قال ربنا Y : ] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [ ( الطور : 21) .
هذا ما يسره الله الكريم في كتابة هذه الكلمات ؛ وإن كان الموضوع قد كتب فيه مجلدات في كل مرحلة من مراحل العمر ؛ غير أن هذه إشارات ومفاتيح لأبواب التربية والآداب التي أرادها الإسلام لأهله ؛ وهي توضح ما عليه هذا المنهج الرباني من العظمة في إصلاح البشر ؛ ولا عجب في ذلك ... إنه منهج الله . وما تعانيه الأمة اليوم من عقوق بعض أبنائها ، عقوقًا عامًا أو خاصًا ، إنما هو نتيجة للبعد عن هذا المنهج الرباني ؛ والاعتماد في التربية على المناهج البشرية التي توضع لمجتمعات غير إسلامية ؛ فنتج عن ذلك الأمراض الاجتماعية والأخلاقية التي تعاني منها هذه المجتمعات وتبحث عن حل لها . أما لو عاد الناس إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم وفهم سلفهم الصالح ، فدرسوا ذلك وفهموه وطبقوه في حياتهم ؛ لتغير الحال ولما عانى الناس من هذه المشكلات المدمرة في حياتهم . هذا والله الكريم أسأل أن يردنا إلى ديننا ردًّا جميلا ؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .