الأدب بين الصغير والكبير

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الأدب بين الصغير والكبير
الحمد لله كما علمنا أن نحمد ، والصلاة والسلام على النبي محمد ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، أما بعد :
فكلما نظر المرء في الإسلام نظرة متأمل فاحص لأي أمر من أمور الحياة الدنيوية أو الأخروية وجد أن هذا الدين العظيم قد بلغ في هذا الأمر المنظور فيه أبعد مما يأتي على الخيال حسنا وجمالا واتقانا . وصدق الله العظيم : ] وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [ [ النحل : 89 ] ، وإنما خص المسلمين بالذكر لأنهم هم المنتفعون بما في الكتاب من هدى ورحمة وبشرى . روى ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن مسعود t أن رسول الله e قال : " أيها الناس إنه ليس من شيء يقربكم إلى الجنة ويبعدكم من النار إلا قد أمرتكم به ، وليس شيء يقربكم من النار ويبعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه " ( [1] ) .
إن الإسلام منهج حياة متكامل سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وعسكريًّا ؛ فإذا تأملت أي شأن من شئون الحياة الكريمة السعيدة تجد أن الإسلام وضع له أصوله وضوابطه وآدابه ، فلا يحتاج المسلم في حياته كلها على مستوى الفرد والجماعة والأمة أن ينظر في غيره من المناهج البشرية التي اختلط فيها الحق بالباطل .. كيف والإسلام هو المنهج الرباني الوحيد الذي لم ينل أصوله ( القرآن والسنة ) ما نال ما سبقه من الكتب من تحريف وتزييف ونسيان ؛ قال الله تعالى : ] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ [ الحجر : 9 ] .
وفي غمرة حيرة البشر فيما جد لهم من مشكلات وظواهر في حياتهم العصرية ، ينسون أو يتناسون أن السبب الرئيسي لهذه المشكلات هو بعدهم عن دين الله تعالى الذي لا يقبل من أحد من البشر دينا غيره ، قال الله تعالى : ] وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ [ آل عمران : 85 ] . والذي كتب على من التمس الهدى في غيره الضلال والشقاء والضنك ، قال الله تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } ( طـه : 124 ) . ولا حلَّ - على الحقيقة - لهذه المشكلات والظواهر المَرَضِية إلا بالرجوع إلى الله تعالى والاستسلام لأوامره والانقياد التام لدينه وشرعه ؛ ورحم الله الإمام مالك حيث قال : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها . فهلم أيها المسلمون إلى الإسلام ، هلم إلى القرآن والسنة أقيموا دين الله في أنفسكم يقم في مجتمعاتكم ، وينتشر بين الناس بإذن الله تعالى .
ومن هذه الظواهر الاجتماعية المؤرقة ضياع الأدب بين الصغير والكبير ، فالصغير لا يعرف للكبير حقًّا ولا توقيرًا ، والكبير لا يعرف للصغير شفقة ولا رحمة ، مما يترتب على ذلك ظلمٌ بيِّنٌ من الصغير تجاه الكبير ، ومن الكبير في حق الصغير .
وبالعودة لآداب الإسلام وأخلاقه تنضبط الأمور ويعطى كل ذي حق حقه ، فيعم الخير ويسود الوئام ، إذ الأدب طريق المودة والمحبة ، فإذا تحاب الناس وتوادوا راعى كلٌ حق الآخر فيعامل الكبير الصغير معاملة رحمة وشفقة ، ويعامل الصغير الكبير معاملة توقير وإحسان .
وقد عدَّ الإمام البيهقي ذلك من شعب الإيمان قال : الخامس والسبعون من شعب الإيمان وهو باب في ( رحم الصغير وتوقير الكبير ) قال : فإنما ذكرتها في باب واحد لأن المعنى معاملة كل أحد بحسب سنه وقدر قوته وبما يليق بمنزلته ، فالذي يقتضيه حال الصغير أن يُرحم والذي يقتضيه حال الكبير أن يُوقر ( [2] ) .
وقد قيل : من أعلام الوقار : تعظيم الكبير ، والترحم على الصغير ، والتحلم على الوضيع .
وللحديث صلة .


[1] - ابن أبي شيبة ( 34332 ) ، وشعب الإيمان ( 30276 ) .

[2] - انظر شعب الإيمان للبيهقي : 7 / 457 .
 
الإنسان ومراحل الحياة
يمر الإنسان في حياته الدنيا بمراحل حياتية : طفولة ومراهقة وشباب وكهولة وشيخوخة وهرم ؛ وتختزل هذه المراحل في ثلاث : ضعف .. ثم قوة .. ثم ضعف وشيبة ؛ فالإنسان قوة بين ضعفين ، قال الله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } ( الروم : 54 ) .
إنها مراحل تحتاج إلى تأمل وتدبر : فمرحلة الطفولة مرحلة ضعف ، ثم المراهقة والشباب والكهولة مرحلة القوة ، ثم الشيخوخة والهرم مرحلة ضعف ؛ فهذا هو الإنسان : أوله ضعف وآخره ضعف ، وكل من المرحلتين يحتاج إلى رحمة وعناية خاصة . ومن هنا قال النبي e : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ " رواه أحمد والترمذي وقَالَ : قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ e " لَيْسَ مِنَّا " يَقُولُ : لَيْسَ مِنْ سُنَّتِنَا ، لَيْسَ مِنْ أَدَبِنَا ( [1] ) . قال بعض الحكماء : الأسنان أربعة : سن الطفولية ، ثم الشباب ، ثم الكهولة ، ثم الشيخوخة ، وهي آخر الأسنان ، وغالب ما يكون ما بين الستين والسبعين ، فحينئذ يظهر ضعف القوة بالنقص والانحطاط ، فينبغي له الإقبال على الآخرة بالكلية لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة .
وللحديث صلة .

[1] - انظر كلام الترمذي في سننه رقم ( 1921 ) ، وسيأتي تخريج الحديث.
 
وصف حال الصغير
لا يخفى وصف حال الصغير وحاجته إلى الرحمة على من عنده مسكة عقل ؛ وقد قال الله تعالى : ] وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [ [ النحل : 78 ] ، والإنسان في هذه الحال لا له سن تقطع ولا يد تبطش ولا قدم تسعى ، فقذف الله تعالى الرحمة في قلب أبويه يرعيانه ويحوطانه بالرحمة والشفقة ، ويظل في حاجة إلى ذلك حتى يشتد عوده ويقوى ظهره ويقدر على الاستقلال بحياته مع بقاء الصلة والود .

الرحمة بالصغير
لم تعرف المناهج البشرية رحمة بالصغير مثل رحمة الإسلام به ، ففي الصحيحين عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t قال : قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ e سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحَلَّبَ ثَدْيُهَا تَسْعَى ، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ ؛ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ e : " أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ " قُلْنَا : لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ ! فَقَالَ : " لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا " ( [1] ) ؛ والشاهد أن النبي e أراد أن يأتي للصحابة بأعلى مثل معروف في الرحمة بين الخلق .. رحمة الأم بولدها ؛ ثم بين لهم أن رحمة الله تعالى أعلى وأعظم من هذه الرحمة المعروفة .
وفي الصحيحين عن عَائِشَةَ – رضي الله عنها - قَالَتْ : جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَأَعْطَيْتُهَا ، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا ، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ e فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ : " مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ ( [2] ) . وعند الإمام أحمد وأبي داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَنْ عَالَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ فَأَدَّبَهُنَّ وَرَحِمَهُنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ " وعند أبي داود " وَزَوَّجَهُنَّ " بدل " وَرَحِمَهُنَّ " ( [3] ) . قال ابن حجر - رحمه الله : وَفِي الْحَدِيث تَأْكِيد حَقِّ الْبَنَات لِمَا فِيهِنَّ مِنْ الضَّعْف غَالِبًا عَنْ الْقِيَام بِمَصَالِح أَنْفُسهنَّ , بِخِلَافِ الذُّكُور لِمَا فِيهِمْ مِنْ قُوَّة الْبَدَن وَجَزَالَة الرَّأْي وَإِمْكَان التَّصَرُّف فِي الْأُمُور الْمُحْتَاج إِلَيْهَا فِي أَكْثَر الْأَحْوَال ( [4] ) .
وللحديث صلة .


[1] - البخاري ( 5999 ) ، ومسلم ( 2754 ) .

[2] - البخاري ( 5995 ) ، ومسلم ( 2629 ) .

[3] - أحمد : 3 / 97 ، وأبو داود ( 5147 ).

[4] - انظر فتح الباري : 10 / 428 .
 
صور من رحمة الصغير في حياة النبي e
قد ضرب لنا رسول الله e أروع الأمثلة في ذلك قولا وفعلا ، وإليك بعض ذلك :
روى مسلم عَنْ أَنَسِ t قَالَ : مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ e ؛ قَالَ : كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا [ أي : حدَّادًا ] ، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ ( [1] ) . وفي الصحيحين عن أَبُي قَتَادَةَ قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ e وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ فَصَلَّى فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهَا ( [2] ) . وَأمامة هِيَ اِبْنَة زَيْنَب بِنْت النَّبِيّ e ؛ ويظهر في الحديث كما يقول ابن حجر - رحمه الله : رَحْمَة الْوَلَد , وَوَلَد الْوَلَد وَلَد ؛ وَمِنْ شَفَقَته e وَرَحْمَته لِأُمَامَةَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَكَعَ أَوْ سَجَدَ يَخْشَى عَلَيْهَا أَنْ تَسْقُط فَيَضَعهَا بِالْأَرْضِ ، وَكَأَنَّهَا كَانَتْ لِتَعَلُّقِهَا بِهِ لَا تَصِير فِي الْأَرْض فَتَجْزَع مِنْ مُفَارَقَته , فَيَحْتَاج أَنْ يَحْمِلهَا إِذَا قَامَ . وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضهمْ عِظَم قَدْر رَحْمَة الْوَلَد لِأَنَّهُ تُعَارض حِينَئِذٍ الْمُحَافَظَة عَلَى الْمُبَالَغَة فِي الْخُشُوع وَالْمُحَافَظَة عَلَى مُرَاعَاة خَاطِر الْوَلَد فَقَدَّمَ الثَّانِي , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون e إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَاز ( [3] ) .
وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ e فَقَالَ : تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ ! فَقَالَ النَّبِيُّ e : " أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ " ( [4] ) .
وفيهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ أَبْصَرَ النَّبِيَّ e يُقَبِّلُ الْحَسَنَ فَقَالَ : إِنَّ لِي عَشْرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ " ( [5] ) . قَالَ الْعُلَمَاء : هَذَا عَامّ يَتَنَاوَل رَحْمَة الْأَطْفَال وَغَيْرهمْ ( [6] ) .
وروى البخاري في الأدب المفرد وابن ماجة عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ e إِلَى طَعَامٍ دُعُوا لَهُ ، فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي السِّكَّةِ ، قَالَ : فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ e أَمَامَ الْقَوْمِ وَبَسَطَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَفِرُّ هَا هُنَا وَهَا هُنَا ، وَيُضَاحِكُهُ النَّبِيُّ e حَتَّى أَخَذَهُ ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ ذَقْنِهِ وَالْأُخْرَى فِي فَأْسِ رَأْسِهِ فَقَبَّلَهُ ، وَقَالَ : " حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا ، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنْ الْأَسْبَاطِ " ( [7] ) . وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ e فِي طَائِفَةِ النَّهَارِ [ أي : قطعة منه ] لَا يُكَلِّمُنِي وَلَا أُكَلِّمُهُ حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ ، فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ فَقَالَ : " أَثَمَّ لُكَعُ أَثَمَّ لُكَعُ ( [8] ) " فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا [ عقدا من خرز ] أَوْ تُغَسِّلُهُ ، فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ ، وَقَالَ : " اللَّهُمَّ أَحْبِبْهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ " ( [9] ) . وروى البخاري في الأدب المفرد عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال : سماني رسول الله e يوسف وأقعدنى على حجره ، ومسح على رأسي ( [10] ) . وروى أيضا عن أبى هريرة قال : أتى النبي e رجل ومعه صبي فجعل يضمه إليه فقال النبي e : " أترحمه " قال : نعم ، قال : " فالله أرحم بك منك به وهو أرحم الراحمين " ( [11] ) .
هكذا يُعلم النبي e البشرية الرحمة بالصغير ؛ ولم تكن رحمته بالصغير قاصرة على أهل بيته بل على الجميع ، فهو e الذي أرسله ربه رحمة للعالمين ، وإليك صورا من ذلك مع الصغار من أبناء الصحابة كيف كان يرأف بهم ويحسن ملاعبتهم :
روى أحمد وابن ماجة وابن حبان عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها - قَالَتْ : عَثَرَ أُسَامَةُ بِعَتَبَةِ الْبَابِ فَشُجَّ فِي وَجْهِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " أَمِيطِي عَنْهُ الْأَذَى " فَتَقَذَّرْتُهُ ، فَجَعَلَ يَمُصُّ عَنْهُ الدَّمَ وَيَمُجُّهُ عَنْ وَجْهِهِ ، ثُمَّ قَالَ : " لَوْ كَانَ أُسَامَةُ جَارِيَةً لَحَلَّيْتُهُ وَكَسَوْتُهُ حَتَّى أُنَفِّقَهُ " ( [12] ) . وفي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا ، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ - قَالَ أَحْسِبُهُ قَالَ كَانَ فَطِيمًا - قَالَ : فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ e فَرَآهُ قَالَ : " أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ " قَالَ : فَكَانَ يَلْعَبُ بِهِ ( [13] ) . وَالنُّغَيْر طَائِر صَغِير ؛ وذكر النووي - رحمه الله - فوائد مستنبطة من الحديث منها : جَوَاز تَكْنِيَة مَنْ لَمْ يُولَد لَهُ , وَتَكْنِيَة الطِّفْل وَأَنَّهُ لَيْسَ كَذِبًا , وَجَوَاز الْمِزَاح فِيمَا لَيْسَ إِثْمًا , وَمُلَاطَفَة الصِّبْيَان وَتَأْنِيسهمْ , وَبَيَان مَا كَانَ النَّبِيّ e عَلَيْهِ مِنْ حُسْن الْخُلُق وَكَرَم الشَّمَائِل وَالتَّوَاضُع ( [14] ) .
وعند الشيخين عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e يَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مَعَ أُمِّهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَقْرَأُ بِالسُّورَةِ الْخَفِيفَةِ أَوْ بِالسُّورَةِ الْقَصِيرَةِ . وفي رواية : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنِّي لَأَدْخُلُ الصَّلَاةَ أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأُخَفِّفُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ " ( [15] ) . وفي رواية عند أحمد والبيهقي عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : سَمِعَ النَّبِيُّ e نِدَاءَ صَبِيٍّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَخَفَّفَ ؛ فَظَنَنَّا أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ رَحْمَةً لِلصَّبِيِّ إِذْ عَلِمَ أَنَّ أُمَّهُ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ ( [16] ) .
ومن رحمته e بالصغير أنه أوصى باليتيم وجعل جزاء كفالته القرب منه في الجنة ؛ ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى " ( [17] ) . وكَافِل الْيَتِيم أي الْقَائِم بِأُمُورِهِ مِنْ نَفَقَة وَكِسْوَة وَتَأْدِيب وَتَرْبِيَة وَغَيْر ذَلِكَ , وَهَذِهِ الْفَضِيلَة تَحْصُل لِمَنْ كَفَلَهُ مِنْ مَال نَفْسه , أَوْ مِنْ مَال الْيَتِيم بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّة . وَأَمَّا قَوْله e : " لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ " فَاَلَّذِي لَهُ أَنْ يَكُون قَرِيبًا لَهُ كَجَدِّهِ وَأُمّه وَجَدَّته وَأَخِيهِ وَأُخْته وَعَمّه وَخَاله وَعَمَّته وَخَالَته وَغَيْرهمْ مِنْ أَقَارِبه , وَاَلَّذِي لِغَيْرِهِ أَنْ يَكُون أَجْنَبِيًّا .ا.هـ ( [18] ) . ولا يخفى ما في ذلك من عناية ورحمة باليتيم ؛ واليتيم من لم يبلغ الحلم ؛ فقد قال النبي e : " لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ " ( [19] ) .
وللحديث صلة
[1] - مسلم ( 2316 ) .

[2] - البخاري ( 5996 ) ، ومسلم ( 543 ) .

[3] - انظر فتح الباري : 10 / 429 .

[4] - البخاري ( 5998 ) ، ومسلم ( 2317 ) .

[5] - البخاري ( 5997 ) ، ومسلم ( 2318 ) .

[6] - انظر شرح مسلم للنووي : 15 / 77 .

[7] - الأدب المفرد ( 364 ) ، وابن ماجة ( 144 ) .

[8] - لكع : كلمة لها معان في اللغة ؛ وتطلق على الصغير أيضا .

[9] - البخاري ( 2122 ) ، ومسلم ( 2421 ) .

[10] - الأدب المفرد ( 367 ) .

[11] - الأدب المفرد ( 377 ) ، والبيهقي في الشعب ( 7134 ) .

[12] - أحمد : 6 / 139 ، وابن ماجة ( 1976 ) ، وابن حبان ( 7056 ) .

[13] - البخاري ( 6129 ) ، ومسلم ( 2150 ) .

[14] - انظر شرح مسلم : 14 / 129 .

[15] - البخاري ( 708 ) ، ومسلم ( 470 ) .

[16] - أحمد : 3 / 182 ، 188 ، والبيهقي في الشعب ( 11055 ) .

[17] - مسلم ( 2983 ) .

[18] - انظر شرح النووي على مسلم : 18 / 113 .

[19] - رواه أبو داود ( 2873 ) عن علي رضي الله عنه .
 
وتتجلى الرحمة بالصغير في الإسلام منذ العناية باختيار اسمه والعقيقة عنه مرورا بحاله في الرضاع والفطام ؛ وتربيته في سن التربية ، وإرشاده وتعليمه في سن الإدراك والفهم ؛ وإليك بيان ذلك :
1 – أما اختيار الاسم فقد روى أحمد وأبو داود وابن حبان عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ ، فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ " ( [1] ) ؛ ولا شك أن في اختيار اسم الإنسان رحمة به صغيرا كان أو كبيرا ؛ فإن بعض الأسماء التي لم يحسن الآباء اختيارها تجلب على الصبي اللمز والاستهزاء فيعاني من ذلك بلا شك .
2 – وأما العقيقة عن المولود فهي سنة فيها رحمة بالصبي كما أن فيها شكر نعمة الواهب سبحانه ، روى أحمد وأهل السنن عَنْ سَمُرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " الْغُلَامُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ ، وَيُسَمَّى وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ " ( [2] ) . قال السندي - رحمه الله - في حاشية ابن ماجة : قِيلَ هُوَ كَالشَّيْءِ الْمَرْهُون لَا يَتِمّ الِانْتِفَاع بِدُونِ فَكّه ، وَالنِّعْمَة إِنَّمَا تَتِمّ عَلَى الْمُنْعَم عَلَيْهِ بِقِيَامِهِ بِالشُّكْرِ ، وَوَظِيفَة الشُّكْر فِي هَذِهِ النِّعْمَة مَا سَنَّهُ نَبِيّ اللَّه e وَهُوَ أَنْ يَعُقّ عَنْ الْمَوْلُود شُكْرًا لِلَّهِ وَطَلَبًا لِسَلَامَةِ الْمَوْلُود ؛ وَيُحْتَمَل أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ سَلَامَة الْمَوْلُود وَنُشُؤَهُ عَلَى النَّعْت الْمَحْمُود رَهِينَة بِالْعَقِيقَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم .ا.هـ. وقال ابن القيم - رحمه الله : قال الإمام أحمد : معناه أنه محبوس عن الشفاعة في أبويه ا.هـ والرهن في اللغة الحبس قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } ( المدثر : 38 ) ، وظاهر الحديث أنه رهينة في نفسه ممنوع محبوس عن خير يراد به ... وقد يفوت الولد خير بسبب تفريط الأبوين وإن لم يكن من كسبه ، كما أنه عند الجماع إذا سمى أبوه لم يضر الشيطان ولده وإذا ترك التسمية لم يحصل للولد هذا الحفظ ( [3] ) . فالعقيقة إذًا رحمة ظاهرة بالولد والعلم عند الله تعالى ؛ والعقيقة هي ما يذبحه المولود له عن ولده يوم سابعه ، والسنة أن تكون عن الذكر شاتين وعن الأنثى شاة واحدة .
3 – حضانة الصغير ، وهي حق له لاحتياجه إلى من يرعاه ويحفظه ويقوم على شئونه ويتولى تربيته ؛ وأسمى لون من ألوان التربية هو تربية الطفل في أحضان والديه ؛ إذ ينال من رعايتهما وحسن قيامهما عليه ما يبني جسمه وينمي عقله ويزكي نفسه ويعده للحياة .
فإذا حدث أن افترق الوالدن وبينهما طفل ، فالأم أحق بحضانته من الأب ما لم يقم بالأم مانع من ذلك ، لما رواه أحمد وأبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو t أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً ، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ e : " أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي " ( [4] ) . وإنما كانت الأم أحق لأنها أعرف بالتربية وأقدر عليها في هذه السن ، ولها الصبر في هذه الناحية ما ليس للرجل .
وتجبر الأم على الحضانة إذا تعينت ( أي صارت فرض عين عليها ) بأن يحتاج الطفل إليها ولم يوجد غيرها ، كيلا يضيع حقه في التربية والتأديب ( [5] ) .
وقد عرف الفقهاء الحضانة بأنها : القيام بحق الصغير أو الصغيرة أو المعتوه الذي لا يميز ولا يستقل بأمره ، وتعهده بما يصلحه ، ووقايته مما يؤذيه ويضره ، وتربيته جسميا وعقليا كي يقوى على النهوض بتبعات الحياة والاضطلاع بمسئولياتها . والحضانة بالنسبة للصغير والصغيرة واجبة لأن الإهمال فيها يعرض الطفل للهلاك والضياع ( [6] ) . وللحضانة أحكام وشروط تتعلق بها تنظر في مظانها من كتب الفقه .

4 – موالاته بالرعاية والتربية والتعليم حسب سني عمره ؛ ففي الصحيحين عن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ t قال : كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ e وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ e : " يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ " فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ ( [7] ) .
وكذا تعليمه ما يجب عليه من حق الله تعالى وهو عبادته وحده وأول ما يتوجب عليهم تعليمه لولدهما رحمة به وبهما أن يعلماه العقيدة الصحيحة ؛ روى أحمد والترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ : كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ e يَوْمًا فَقَالَ : يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ " ( [8] ) .
وكذا أن يعلماه الصلاة ويأمرانه بها ، فعند أحمد وأبي داود عَنْ ابنِ عَمْرٍو t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ " ( [9] ) . ومعنى " أَوْلَادكُمْ " يَشْمَل الذُّكُور وَالْإِنَاث ؛ وإنما أمر النبي e بتعليم الصغار الصلاة لِيَعْتَادُوا وَيَسْتَأْنِسُوا بِهَا ؛ وقوله : " وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا " أَيْ عَلَى تَرْك الصَّلَاة ، " وَهُمْ أَبْنَاء عَشْر سِنِينَ " لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا أَوْ قَارَبُوا الْبُلُوغ .
وقوله e : " وَفَرِّقُوا بَيْنهمْ فِي الْمَضَاجِع " أَيْ مواضع النوم ، فيفرق بين الذكور فيما بينهم إذا بلغوا هذه السن ، وكذا بين الإناث ، وكذا بين الذكور والإناث ، وهذا تأديب آخر يلزم الوالدين لأولادهما ، وفيه رحمة بهما وطاعة لربهما ؛ قَالَ الْمُنَاوِيُّ - رحمه الله - فِي ( فَيض الْقَدِير شَرْح الْجَامِع الصَّغِير ) : أَيْ فَرِّقُوا بَيْن أَوْلَادكُمْ فِي مَضَاجِعهمْ الَّتِي يَنَامُونَ فِيهَا إِذَا بَلَغُوا عَشْرًا حَذَرًا مِنْ غَوَائِل الشَّهْوَة إِنْ كُنَّ أَخَوَاته . قَالَ الطِّيبِيُّ - رحمه الله : جَمَعَ بَيْن الْأَمْر بِالصَّلَاةِ وَالْفَرْق بَيْنهمْ فِي الْمَضَاجِع فِي الطُّفُولِيَّة تَأْدِيبًا لَهُمْ وَمُحَافَظَة لِأَمْرِ اللَّه كُلّه وَتَعْلِيمًا لَهُمْ وَالْمُعَاشَرَة بَيْن الْخَلْق , وَأَنْ لَا يَقِفُوا مَوَاقِف التُّهَم فَيَجْتَنِبُوا الْمَحَارِم ا.هـ ( [10] ) .
وكذا على الوالدين أن يعلموا أطفالهم آداب الاستئذان ، كما قال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ ( النور : 58 ، 59 ) .
كما يجب عليهما أن يعلموهم غير ذلك من الفرائض والآداب التي لابد أن يتعلمها المسلم رحمة به في الدنيا بحياة كريمة ، وفي الآخرة بنجاة من النار .


[1] - أحمد : 5 / 194 ، وأبو داود ( 4849 ) ، وابن حبان ( 5818 ) .

[2] - أحمد : ، وأبو داود ( 2837 ) ، والترمذي ( 1522 ) ، والنسائي ( 4220 ) ، وابن ماجة ( 3165 ) .

[3] - زاد المعاد 2 / 326 .

[4] - أحمد : 2 / 182 ، وأبو داود ( 2276 ) .

[5] - انظر فقه السنة : 3 / 93 : 95 باختصار وتصرف ( الفتح للإعلام العربي ) .

[6] - انظر فقه السنة : 3 / 92 ، ( الفتح للإعلام العربي ) .

[7] - البخاري ( 5376 ) ، ومسلم ( 2022 ) .

[8] - أحمد : 1 / ، والترمذي ( 2516 ) وصححه .

[9] - أحمد : 2 / 187 ، وأبو داود ( 495 ) .

[10] - انظر فيض القدير : 5 / 521 .
 
وصف حال الكبير
عندما يصل الإنسان إلى شيخوخته فإن منحنى القوة ينحدر ، فتضمر العضلات ، وتضعف العظام ، ويتجعد الجلد ، وينحني الظهر وتثقل الرجلين عن الحركة ، وبالجملة تضعف حركة الجسم وأجهزته .
وإليك قصة شيخٍ يصوِّر حال الشيوخ في كلمات صادقة بليغة ، فقد دخل عمرو بن مسعود - وكان قد أسنَّ وطال عمرة - على معاوية رضي الله عنه فقال له : كيف أنت ? وكيف حالك ? فقال : ما تسألُ يا أمير المؤمنين عمن ذَبُلتْ بشرته , وقطعت ثمرتُه [ أراد مات ولده , شبهه بثمرة الشجرة ] وكثر منه ما يجب أن يقل [ أراد بما يجبُّ أن يقل : السهو والنسيان , والذَّنِين ( المخاط الرقيق الذي يسيل من الأَنف ) ، والبول , وغير ذلك ] , وصعب منه ما يحبُّ أن يذل [ أراد المفاصل الجاسية التي لا تُطاوعه في القبض والبسط ] , وسحلت مريرته بالنقض [ أي : جعل حبله المُبْرم سحيلا , وهو الرخو المفتول على طاق واحد , وقد سَحَله يَسْحَله . والمَرِيرة والمَرِير : المرُّ المفتول على طَاقَيْن فصَاعِدًا , وهذا تمثيل لضَعْفِه واسترخاء قُوَّته ] , وأَجُم [عاف وملَّ ] النساء وكُنِّ الشفاء , وقل انحياشه [ الانحياش : النفور من الشيء فزعًا ؛ أراد أنه إذا فزع لم يقدر على النفار والفرار ] , وكثر ارتعاشه , فنومه سبات [ النوم الثقيل ] , وليله هُبَات [الُهباَت : الضعف والاسترخاء ] , وسمعه خُفَات [ضغف الاستماع , من خُفُوت الصوت ] , وفهمه تَارَاتٌ [ يُكرَّرُ عليه الحديث مرات حتى يتفَّهمَه ] .
فتأمل هذه الصفات لحال الشيخوخة والضعف ، وانظر أي أدب يليق بتلك الحال ؟ واعلم أنها حال يصل إليها كل من كتب له حياة ، وأنه كما تدين تدان .
إنها حال تحتاج إلى التوقير والرحمة ، وقد أمرنا الإسلام بذلك ..
 
عناية الإسلام بالمسنين
من الظواهر الاجتماعية المؤرقة غير السوية إهمال العناية بالمسنين وضياع الأدب معهم ، وهم كبار السن الذين بلغوا مرحلة تحتاج إلى رحمة بهم وشفقة عليهم ورد لجميلهم ، وهؤلاء على اختلاف طبقاتهم نسبًا ودينًا لا يضيعون في مجتمع الإسلام .. فقد بين الإسلام ما لكلٍّ من حقوقٍ ، كما يندرج هذا الأمر تحت صفة عامة من صفات هذه الأمة ، وهي ما حدثنا به النبي e بقوله : " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى " رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير t ( [1] ) .

حق ذي الشيبة المسلم

لذي الشيبة المسلم مكانة في الإسلام ، ففي صحيح ابن حبان عن عمر بن الخطاب t قال : قال رسول الله e : " مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ( [2] ) . وروى أحمد عَنْ عبد الله بن عَمْرِو t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : " لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وفِي رواية : " إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً " ( [3] ) . ورواه أحمد والترمذي عن عمرو بن عبسة ، ورواه الترمذي والنسائي عن كعب بن مرة ، ورواه أحمد عن فضالة بن عبيد ، ورواه ابن حبان عن أبي هريرة ( [4] ) .
وللشيخ عند الله حرمة لشيبته في الإسلام وعبادته لربه ، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي عُذْرَةَ ثَلَاثَةً أَتَوُا النَّبِيَّ e فَأَسْلَمُوا قَالَ : فَقَالَ النَّبِيُّ e : " مَنْ يَكْفِنِيهِمْ ؟ " [ أي من يقوم بأمورهم ] قَالَ طَلْحَةُ : أَنَا ، قَالَ : فَكَانُوا عِنْدَ طَلْحَةَ ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ e بَعْثًا فَخَرَجَ أَحَدُهُمْ فَاسْتُشْهِدَ ، ثُمَّ بَعَثَ بَعْثًا فَخَرَجَ فِيهِمْ آخَرُ فَاسْتُشْهِدَ ، قَالَ : ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ عَلَى فِرَاشِهِ ، قَالَ طَلْحَةُ : فَرَأَيْتُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدِي فِي الْجَنَّةِ ، فَرَأَيْتُ الْمَيِّتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَمَامَهُمْ ، وَرَأَيْتُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ أَخِيرًا يَلِيهِ ، وَرَأَيْتُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ أَوَّلَهُمْ آخِرَهُمْ ، قَالَ : فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ e فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ ، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللهِ e : " وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ ؟ لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِي الْإِسْلَامِ لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ " .
وأمر الإسلام بإكرام ذي الشيبة المسلم وإجلاله ، بل وجعل ذلك من تعظيم الله وإجلاله ؛ فعند البخاري في الأدب المفرد وأبي داود عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : " إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ ( [5] ) ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ " أي : تعظيم الشيخ الكبير في الإسلام بتوقيره في المجالس والرفق به والشفقة عليه ونحو ذلك ، كل هذا من كمال تعظيم الله ، لحرمة ذي الشيبة المسلم عند الله .
وذم رسول الله e من لا يعرف حق الكبير ، ومن لم يوقره ، فعند أحمد والترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرِ الْكَبِيرَ ، وَيَرْحَمِ الصَّغِيرَ ، وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ " ( [6] ) ، وروى أحمد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ t أَنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ : " لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا ، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ " ، وروى أحمد والترمذي عَنِ ابنِ عَمْرِو t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا " وفي رواية : " وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا " ( [7] ) . أَي : ما يستحقه من التعظيم والتبجيل والتوقير . وروى البخاري في الأدب المفرد والحاكم عن أبى هريرة عن النبي e قال : " من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا " ( [8] ) .
وجعل البركة في معاشرة الأكابر ، فروى الطبراني وابن حبان والحاكم عن ابن عباس أن النبي e قال : " البركة مع أكابركم " ( [9] ) . وبوب عليه ابن حبان قال : ( ذكر استحباب التبرك للمرء بعشرة مشايخ أهل الدين والعقل ) .
وروى عبد الرزاق عن طاووس قال : من السنة أن يوقر أربعة : العالم ، وذو الشيبة ، والسلطان ، والوالد ( [10] ) .

[1] - البخاري ( 6011 ) ، ومسلم ( 2586 ) .

[2] - ابن حبان ( 2983 ) .

[3] - أحمد : 2 / 179 ، وأبو داود ( 4202 ) .

[4] - حديث عمرو بن عبسة رواه أحمد : ، والترمذي ( 1635 ) والنسائي ( 3142 ) ، وحديث كعب رواه الترمذي ( 1634 ) والنسائي ( 3144 ) ، وحديث فضالة بن عبيد رواه الإمام أحمد ( 23433 ) ، وحديث أبي هريرة رواه ابن حبان ( 2985 ) .

[5] - الْغُلُوُّ التَّشْدِيد وَمُجَاوَزَة الْحَدِّ , يَعْنِي غَيْر الْمُتَجَاوِز الْحَدّ فِي الْعَمَل بِهِ وَتَتَبُّع مَا خَفِيَ مِنْهُ وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِنْ مَعَانِيه وَفِي حُدُود قِرَاءَته وَمَخَارِج حُرُوفه ، قَالَهُ الْعَزِيزِيُّ ؛ ( وَالْجَافِي عَنْهُ ) أَيْ : وَغَيْر الْمُتَبَاعِد عَنْهُ الْمُعْرِض عَنْ تِلَاوَته وَإِحْكَام قِرَاءَته وَإِتْقَان مَعَانِيه وَالْعَمَل بِمَا فِيهِ . ا.هـ من عون المعبود : 13 / 132 .

[6] - أحمد : 1 / ، والترمذي ( 1921 ) .

[7] - أحمد : 2 / 185 ، والترمذي ( 1920 ) ، ورواه أحمد : 2 / 268 ، والبخاري في الأدب المفرد ( 354 ) ، وأبو داود ( 4943 ) عن ابن عمرو من وجه آخر .

[8] - البخاري في الأدب المفرد ( 353 ) ، والحاكم ( 7353 ) وصححه .

[9] - الطبراني في الأوسط ( 8991 ) ، وابن حبان ( 559 ) ، والحاكم ( 210 ) وصححه على شرط البخاري .

[10] - المصنف : 11 / 137 .
 
النبي e ومعاملة الكبير
قد كان النبي e يعرف حق الكبير ويشفق عليه ، فلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ e مَكَّةَ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ أَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ يَعُودُهُ ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ e قَالَ : « ألا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ » وإنما قال ذلك e بيانا لحقه وإكراما له ؛ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ أَنْتَ إِلَيْهِ ، فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ : « أَسْلِمْ » فَأَسْلَمَ t .
وكان e يربي الأمة على تقديم الكبير وتوقيره ففي الصحيحين في حديث القسامة فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ e فَذَهَـــبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ ، فَقَالَ : " كَبِّرْ ، كَبِّرْ " وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ فَسَكَتَ ، فَتَكَلَّمَا .
وروى البيهقي عن جابر t قال : قدم وفد جهينة على النبي e فقام غلام يتكلم ، فقال النبي e:«مه، فأين الكبر؟ »([1]).
يعني أين توقير الكبير وتقديمه . إنها آداب الإسلام التي تُربى بها الرجال وتُصنع بها الأمم .
وهكذا بين النبي e حق الكبير في الإمامة إذا تساوى القوم في العلم والهجرة ، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبَي مَسْعُودٍ t قَالَ : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ e : « يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ وَأَقْدَمُهُمْ قِرَاءَةً ، فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُمْ سَوَاءً ، فَلْيَؤُمَّهُمْ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ سِنًّا »( [2] ).
وفي الصحيحين عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ t : أَتَيْتُ النَّبِيَّ e فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا ، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا قَالَ : « ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ ،وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا ، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ » ( [3] ) .
وراعى النبي e أيضا حال الكبير في الصلاة ، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : « إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ ، فَإِنَّ مِنْهُمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ » ( [4] ) .
وكذا يراعى حق الكبير في السلام عند اللقاء فيسلم الصغير على الكبير ، ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : « يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ » ( [5] ) .
تلكم آداب راقية في معاملة الكبير في الإسلام ورعاية حقه ، وهي تدل على غيرها ، فإن التزم الناس أدب الإسلام وقر الكبير وحفظ مقامه وروعيت شيبته .

[1] - شعب الإيمان ( 10996 ) .

[2] - مسلم ( 673 ) .

[3] - البخاري ( 628 ) ، ومسلم ( 674 ) .

[4] - البخاري ( 703 ) ، ومسلم ( 467 ) .

[5] - البخاري ( 6231 ) .
 
حق الوالدين إذا كبرا
إن كان هذا حق الكبير في الإسلام على العموم ، فحق الوالدين أعلى وأعظم ، وهو ثالث الحقوق بعد حق الله تعالى وحق رسوله e ؛ وقد أولى الإسلام الوالدين عناية ورعاية وتوقيرًا يعرفه القاصي والداني والموافق والمخالف ، فالإسلام عني بأمر الوالدين عناية خاصة في مراحل حياتهم كلها ، غير أن مرحلة الكبر لها خصوصية في العناية ، قال الله تعالى :  وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا  [ الإسراء : 23 ، 24 ] ؛ إن العاقل ليقف متعجبًا مشدوهًا مشدودًا لهذه الآداب الراقية التي تحدثنا عنها هاتان الآيتان ، والتي تختص بمعاملة الوالدين في كبرهما ؛ فالكبر سن تنوبه بعض الأخلاق التي قد لا يصبر عليها من لم يتأدب بأدب الإسلام ، كسرعة الغضب ، والإلحاح في طلب الشيء .. وغير ذلك مما قد يفرضه حال هذا الكبير صحة وسقمًا وعقلا ؛ فيأتي الأمر الإلهي ليبين أن أقل كلمة تقال حال الغضب وهي ( أُفٍّ ) لا تقال لأحد الوالدين ، فإن قولها لهما إثم عظيم ، وليس هذا وفقط  وَلا تَنْهَرْهُمَا  أي : لا تعلي عليهما صوتك ، أو تشيح لهما بوجهك ، أو تشير إليهما بيدك نهرًا لهما وزجرًا ، فإن هذا من الكبائر ؛ وليس هذا وفقط ، ولكن مع ما قد يفعلانه معك  وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا  ، وكأن الله تعالى يذكرنا بأن هذا جزء من رد جميلهما ، فإن هذا كله كانا يفعلانه معك وأنت طفل صغير تحتاج إلى خفض الجناح والرحمة والدعاء ، فكانا يقومان بذلك أحسن قيام ، فلا أقل من أن ترد إليهما ذلك وقد وصلا إلى سن ضعف يحتاج إلى خفض الجناح والرحمة والدعاء .
إننا ونحن نذكر هذه الآداب العظيمة ، وننظر في واقعٍ بَعُدَ كثيرٌ من الناس فيه عن تلكم الآداب ، ووقع الكثير في العقوق للآباء والأمهات ، فنتأسف على حضارة جلبت للناس متعا من متع الدنيا وانحطت بأهلها إلى مرتبة دون مرتبة الدواب ، فما رأينا من الدواب مثل ما نرى من بعض البشر في العقوق .
 
جزاكم الله عني وعن المسلمين خير الجزاء وأسأل الله العلي العظيم أن يزيدكم من فضله ويبارك لكم في طرحكم الرائع لمواضيع مهمة جدا لنا وللانسانية أجمع ...وجعلكم الله ممن طال عمره وحسن عمله ،،،،، اللهم آمين
 
رحمة عامة
الإسلام دين الرحمة ، ورحمة الإسلام نالت كل المخلوقات حتى الحيوانات ، ومهما ذُكر في وصف رحمة الإسلام على الحقيقة فالقلم يعجز عن تسجيل ذلك ؛ وحسبنا في هذه العجالة أن نذكر بعض ما ورد في ذلك من نصوص :
ففي صحيح مسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ " ( [1] ) .
وفي الصحيحين عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَنْ لا يَرْحَمْ النَّاسَ لا يَرْحَمْهُ اللَّهُ U " ، وفي لفظ : " مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ " ( [2] ) .
قَالَ اِبْن بَطَّال : فِيهِ الْحَضّ عَلَى اِسْتِعْمَال الرَّحْمَة لِجَمِيعِ الْخَلْق ، فَيَدْخُل الْمُؤْمِن وَالْكَافِر وَالْبَهَائِم الْمَمْلُوك مِنْهَا وَغَيْر الْمَمْلُوك , وَيَدْخُل فِي الرَّحْمَة التَّعَاهُد بِالإِطْعَامِ وَالسَّقْي وَالتَّخْفِيف فِي الْحَمْل وَتَرْك التَّعَدِّي بِالضَّرْبِ ( [3] ) .
وعن أبي موسى الأشعري أنه سمع النبي e يقول : " لن تؤمنوا حتى تراحموا " قالوا : يا رسول الله كلنا رحيم ، قال : " إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ، ولكنها رحمة الناس رحمة العامة " رواه الطبراني والحاكم وصححه ( [4] ) .
وهذه الرحمة تعم الناس جميعًا ، مؤمنهم وكافرهم ممن يستحق الرحمة ، فلا يضيع في كنف الإسلام أحد .
إنها آداب راقية ... إنها آداب الإسلام .
هذا ما خطه القلم في هذا الموضوع ، فما كان فيه من صواب فمن فضل الله وحده ، وما كان غير ذلك فمني ، وأستغفر الله تعالى ، وعذري أن الحق أردت .
لكن قدرة مثلي غير خافية .... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله وصحبه .

[1] - مسلم ( 2865 ) .

[2] - البخاري ( 7376 ) ، مسلم ( 2319 ) .

[3] - نقلا عن فتح الباري : 10 / 440 .

[4] - قال المنذري في الترغيب : 3 / 140: رواه الطبراني ورواته رواة الصحيح ا.هـ ، ورواه الحاكم ( 7310 ) .
 
عودة
أعلى