محمد محمود إبراهيم عطية
Member
الأخوة النافعة
لا يستغني عاقل في حياته عن مصادقة ومصاحبة ومؤاخاة ومخاللة ، وتشترك هذه الألفاظ في بعض المعاني وتختلف في أخرى .
وقد عُرفت الصداقة والأخوة منذ القدم ، وكتب في هذه العلاقة بكل لسان ، وذكر فيها آداب وحِكَم بجميع لغات البشر .
ولا تبلغ كل هذه الكتابات معشار ما كتبه علماء الإسلام في ذلك ؛ من أجل أن هذه العلاقة في الإسلام قربة يتقرب بها إلى الله تعالى ، وعلاقة لها حقوقها وآدابها التي شرعها الله Y في شريعة الإسلام .
لقد رفع الإسلام من شأن هذه العلاقة ، وأصَّل لها قاعدة لا يخيب من تلاقى عليها، وهي : الحب في الله والبغض في الله ، إنها أوثق عرى الإيمان كما أخبر بذلك نبينا e .
إن الأخوة والصداقة والصحبة والخلة نافعة في الدنيا والآخرة إذا أسست على التقوى لله تعالى، وأما إذا بنيت على غير ذلك فلا تنفع أصحابها يقينًا في الآخرة ، وإن أصابهم بعض نفع دنيوي من ورائها ؛ قال الله تعالى : ] الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [ [ الزخرف : 67 ] .
إن حاجة الناس لهذه الأخوة النافعة في الدنيا والآخرة ضرورية لحياة طيبة ، موصولة بحياة أطيب منها .
أما في الحياة الدنيا ، فقد قيل : الأخوَّة قرابةٌ مستفاده ؛ ويقال : الرجل بلا أخ كشمال بلا يمين ؛ وقال الشاعر :
ومـا الـمرء إلا بإخوانه ... كما يقبض الكف بالمعصمِ
ولا خير في الكف مقطوعة ... ولا خير في الساعد الأجذمِ
ولعلي t :
عليك بإخـوان الصفاء فإنهم ... عماد إذا استنجدتهم وظهـور
وليس كثيرًا ألفُ خلٍ وصاحبٍ ... وإنَّ عـدوًّا واحـدًا لكـثير
ولكن لا تبلغ الأخوة في واقع الناس ما بلغت أخوة الإيمان الذي تأسست على تلكم القاعدة : الحب في الله والبغض في الله ؛ قال ابن عباس - رضي الله عنهما : أحبب في الله ، وأبغض في الله ، وعاد في الله ، فإنه لا تنال موالاة الله إلا بذلك ، ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان ولو كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك ؛ قال : ولقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله ، ثم قرأ ابن عباس : ] الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [ [ الزخرف : 67 ] ، وقرأ : ] لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ [ المجادلة : 22 ] .
ومن هنا يمكن القول ، بأن المرء قد يصادق من يجد فيه المروءة والفضل ، فيمدح الأخوة والصداقة ، وقد يخالل من ليس كذلك ، فيظن انعدام الخل الموافي والصديق الصادق ؛ من أجل ذلك تضادت الأقوال في التآخي والتصادق والتخالل والتصاحب ؛ حتى لقد بلغ من بعضهم أن جعل ذلك من المستحيلات ، فقال بعضهم في هذا المعنى :
خليلي جـربت الزمان وأهله ... فما نالني منهم سوى الهم والعنا
وعاشرت أبناء الزمان فلم أجد ... خـليلاً يـوفي بالعهود ولا أنا
وقال آخر :
لما رأيت بني الزمان وما بهم ... خِلٌ وفيٌ للشدائد أصطفي
فعلمت أن المستحيل ثلاثةٌ ... الغول والعنقاء والخِلُّ الوفي
وللرِّياشيِّ :
إذا ذَهَب التكرُّم والوَفاء ... وباد رِجالُه وبَقَى الغُثَاءُ
وأَسْلَمني الزَّمانُ إلى رِجالٍ ... كأمْثال الذِّئاب لها عُواء
صَديق كلَّما استَغْنيت عنهم ... وأَعْداء إذا جَهَدَ البَلاء
إذا ما جئتهم يَتدافَعوني ... كأنِّي أجربٌ آذاه داء
أقولُ ولا ألاَم على مَقال ... على الإخوان كُلِّهم العَفاء
وعلى النقيض من ذلك ؛ قيل : المرء كثيرٌ بأخيه ؛ وقيل : قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي الصَّدِيقِ البَارِّ عِوَضًا عَنِ الرَّحِمِ المَذْمُومَةِ ؛ وقيل : أين مثل الأخ الصالح ؟ أهلك يقسمون ميراثك ، وهو قد تفرد بجدثك يدعو لك وأنت بين أطباق الأرض([1]).
اسـتكثرن من الإخوان إنهم ... خـير لكانزهم كنزًا من الذهب
كم من أخٍ لك لو نابتك نائبة ... وجدته لك خيرًا من أخي النسب
وروى ابن حبان في ( روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ) عن سفيان أنه قيل له : ما ماء العيش ؟ قال : لقاء الإخوان .ا.هـ .
والحق أن المؤاخاة إذا انضبطت بقواعد الشرع وآدابه ، فكانت في الله تعالى ، وروعي فيها الحقوق والآداب التي بينها الكتاب والسنة ، فنِعِمَّا هي ، وليستكثر منها من استطاع ، فإنها نافعة في الدنيا والآخرة .
وأما إذا كانت لدنيا فهي تبقى ما بقيت دنيا من يصادقه ، فإذا اختلت دنياه ، اختلت صداقة من صادقه وأخوة من آخاه؛ وقديمًا قيل: ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل .
فيجب على الإنسان أن لا يصحب إلا من له دين وتقوى ، فإن المحبة في الله تنفع في الدنيا والآخرة ، وما أحسن ما قال بعضهم :
وكل محبة في الله تبقى ... على الحالين من فرج وضيق
وكل محبة فيما سواه ... فكالحلفاء في لهب الحـريق
هذا ، والعلم عند الله تعالى .
[1] - انظر حلية الأولياء : 8 / 231 .