ابن الشجري
New member
- إنضم
- 18/12/2003
- المشاركات
- 101
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم [/align]
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على رسوله المصطفى وآله وسلم وبعد
فإن العلم نور من الله يهبه لمن يشاء من عباده المؤمنين ، ولاشك أن من أشرف العلوم علوم كتابه تعالى لشرف المعلوم ، وكم يغبط من فتح الله عليه في باب التفسير وفهم كلام العزيز الخبير ، فمع كثرة كتب التفسير وتنوع أساليبها ، إلا أن الكتب التي تقرأ فيها وتشعر أنك تقرأ تفسير كلام الله قليلة جدا ، ومن يكتب في بيان علوم هذا العلم ويقربها للناس ويحاول تجديد ما درس من رسومها أقل من القليل ، ولاحول ولا قوة إلا بالله .
ومن نعم الله علينا التي يكل الذهن عن تصورها وحصرها ، نعمة الحاسوب وهذه الشبكة العنكبوتية التي تقرب لك البعيد ، وتدنيك من الشارد الغريب ، فتتناول أي كتاب أردته في أي مكان عرفته أو لم تعرفه بنقرة صغيرة من أنملة ضعيفة في أقل من طرفة عين ، لا أقول فواق ناقة أو ناقتين .
فسبحان الله العظيم ، والحمد لله رب العالمين ، حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيد فضله ، على ما سخره لنا ، ووهبه وفتح به على الناس ، ولكن أكثر الناس لايشكرون .
أرأيتم هذا الملتقى العلمي وغيره من المنتديات والملتقيات ، وكيف تكتب فيها ماشئت في أي ساعة أردت ، دون حاجة لحبر أو قرطاس ، أو ناسخ أو ناشر ، يوم كانت الناس تفتقد اللخاف والكاغد ، والجلد والعظم ، لتسطير كلامها ، ورصف منثورها و منظومها ، اللهم إني لنعمك من المقرين فاجعلني بمنك لها من الشاكرين ، وجنبني مزالق الطلبة والكاتبين .
لقد انتفعت كما انتفع سواي بكثير مما يكتب في هذا الملتقى ، من علماء فضلاء ، وأدباء نبلاء ، فأراه كل يوم ينمو ويكبر ، عهدي به في المهد رضيعا ففطيماً ، وإذ به مع الأيام يافعاً حزوَّراً ، وقريبا يبلغ الأشد ، وتكثر فيه الأسد ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
ومع هذا كله فإني أرى أقلاماً تريد أن تشب عن الطوق ، وتتزبب قبل أن تتحصرم ، وتخترع الرأي الفطيرَ ، والكلام المبتسر ، وإنه لأمر جلل مع كلام الله رب العالمين .
سمعنا عن فقهاء قالوا بما لم يقل به قبلهم أحد من العالمين ، فما هالنا الأمر وما استعظمناه لما للرأي من مجال واسع ومسلك وعر تزل فيه الأقدام ، وتتفاوت فيه القرائح والأفهام ، فكم من رأي إذا سمعته طنت منك الأذنان وقلس الخاطر وانقبضت الوجنتان ، كقول من قال بوجوب غسل السواد والبياض من العينين ، وجواز أكل الثلج للصائم لأنه ليس أحد المطعومين ، وجواز سماع المعازف وطرق الدف باليدين ...، ثم لا تتمالك إلا أن تترحم على القائل وتستغفر له .
وقد نقبل هذا من محدث نحرير يضعف ماصححه البخاري أو يصحح ما ضعفه أبو زرعة الرازي ، نعم ... فمازال مجال التصحيح والتضعيف ذا سعة ، وإن خالف في هذا ابن الصلاح رحمه الله ومن معه ، فالأمر لم يصل بعد للتعرض للوحين ، وإنما كان هذا لتفوات النقل عن حال الراوي وما ينظر به كلا الفريقين ، كما فعل الدارقطني رحمه الله ، في إلزاما ته وتتبعا ته لما في الصحيحين .
وكم نطرب ونهتز لشاعر مفلق يفترع الأبكار من المعاني ، ويصوغها لنا في أجمل المباني ، ونأنس بهدير خطيب مصقع يحيي أصوا ت المنابر ويستحلب الدمع من المحاجر والمآقي ، ونسعد بكاتب أو ناثر يوشي حديثه بخرائد الألفاظ وبديع المعاني .
مع أن الجم الغفير من النقاد لايعولون كثيرا على المعاني السائرة ، أكثر من تعويلهم على ماصيغت فيه من حلل مبتكرة باهرة ، وإليك ما قال أبوهلال رحمه الله في الصناعتين : ( وليس الشأن في إيراد المعاني ، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي ، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه ، وحسنه وبهائه ، ونزاهته ونقائه ، وكثرة طلاوته ومائه ، مع صحة السبك والتركيب ، والخلو من أود النظم والتأليف ، وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابا ، ولايقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدمت ) أهـ (1)
فأنت ترى في هذا النص من كلام العسكري رحمه الله ، ومن قال بمثل قوله كالجاحظ من قبله ، وهو رأي الجمهور من أهل البيان من بعده ، أنهم في بابي النثر والشعر لا يعولون في النقد على المعنى أكثر من تعويلهم على اللفظ ، وهي قضية محل بحث ودرس بين الأدباء من عصور متقدمة حتى يومنا هذا . (2)
وكم تطالعنا كتب التاريخ ودواوين الأدب وتحدثنا عن عزيز النظم ومنثور الكلم ، فكم بنا بيت من الشعر بيوتا من مدر ، وكم من حكمة أومثل سائر نثر الدر في جيب كثير من البشر ، وكم أعتق به من الرقاب ، واستنزلت به الكرام كما يستنزل القطر من السحاب ،ولاتعجب ...، فلربما نكست الأعلام بالأقلام وملكت الأصقاع بالرقاع .
وليس مرادي تقرير أي الرأيين أصوب في هذا الباب ، إنما أردت أن أبين أن احتفال أهل اللسان بالمعاني لايعدل احتفالهم بجودة اللفظ وحسن سبكه ورصفه ، فكيف يحفل من يحفل بالمعنى الخطير في تفسير آية ، أو ابتكار معنى لها لم يسبق إليه ؟.
لا ياسادة ياكرام ، قد نقبل هذا في أي باب من أبواب العلم ، أما مع كلام الله وتفسيره فلا وألف لا .
أترى الف عام مرت لاتفي بهذا ؟، أم أن الأمة قد قصرت في تفسير كلام ربها وخالقها ؟، لست مع الجمود وعدم التجديد في أي فن ، فلايقول بهذا إلا بارد الطبع بليد الذهن ، لكن أقول : أن كتاب الله ليس مجال التلاعب بالعبارات وتفخيم العناوين ،أو سرور بسبق علمي في فهم مفردة أو تفسير آية ، أومرتع للفكر في الكتابة واكتشاف المواهب الذهنية والقدرات العقلية واللسانية ، لا أيه الإخوة الكرام .
فكلام الله يجب أن يصان عن مثل هذا ، فلا يفرح بسبق علمي لغوي أوبلاغي أو نحوي تفسيري في كلام الله إلا من اختلط ذهنه وأيس منه أهله ، ومن رام تجديدا في هذا قلنا له :
[align=center]ماذا بعشك ياحمامة فادرجي ! . [/align]
وقديما ذم تفسير القرآن بالرأي ، فكيف بابتكار مالم يسمع به الرازي أو الزمخشري ومن على شاكلتهم ، أو سار سيرتهم ، اللهم إلا رجل أتانا على قوله بشاهد صدق وحجة دامغة أوسلطان مبين .
كم مرة تمر علي وأنا أفكر في توقف كبار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ، عن تفسير مفردة قرآنية ، كما يذكر عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وهل سائر الصحابة إلا من بعدهم ، مع أنهم أهل القرآن واللسان ، بل في اللسان يحتج بهم لا لهم ، فما نزل القرآن إلا بلغتهم وعلى سمعهم ، ودونك أول مفردة قرآنية في أي معجم لغوي ، ستجد أنها خير شاهد لي على ما ذكرت .
وسار من بعدهم أئمة كبار هالهم الإقدام على أقل مما ترانا نهجم عليه اليوم هجوما ، ونفتخر بفض خاتمه للناس ، ودونكم إمام العربية وراوي أيامها وأشعارها عبد الملك بن قريب الأصمعي رحمه الله ، مع دماثة خلقه ولين طبعه ، واسترساله للمجالس ومخالطة الناس ، إلا أن عجبك لا ينقضي إذا علمت أنه كان من أبعد الناس عن تفسير مفردة قرآنية ، وهل المعاجم العربية إلا عالة على ما روي عنه في باب أخبار العرب وأيامها وأشعارها وكلامها ، رحمه الله وبرد مضجعه .
ألا تقرأ ون يا قوم ترجمة هذا الحبر محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي رحمه الله ، فما من آية في كتبا الله إلا وقد درسها على حدة ، وما من آية إلا وقد جمع لها كل كلام من تقدم قبله من أهل التفسير ، ثم ماذا ؟.
هل أشتهر بقول فطير أو رأي تفسيري مبتسر ، سبحانك ما علمنا هذا عنه ، وما شهدنا إلا بما علمنا من تفسيره للقرآن بالقرآن ، وخوفه من أن يشذ بما لم يعهد من قول مسبوق خطير الشأن ، وأمثاله بحمد الله من أهل العلم في كل زمان .
فهلا حاسب كل كاتب نفسه في اختياره لعنوان مكتوبه ، وهلا وقف مع نفسه قبل طرحه في هذه الصفحات وعلى مشهد من الناس فطيرمكنونه، وهلا حاسب نفسه قبل أن يتشدق بابتكاره لهذا المعنى أو ذاك ، وبحث له عن إمام معتبر يستأنس به وإن كان قولا مرذولا منسيا ، فربك يحي الموتى وهو على كل شئ قدير.
صدقوني ليست القضية هي النقد هنا ، لكن القضية هي السؤال غدا ( هناك ) ! .
ألا لايظنن ظان بي مالست به ، من تنفير من التجديد في ماهو من بابه ، لكن ليأت هذا الأمر من بابته ، فحسبنا ماوسع من قبلنا ، وليتنا نأتي على شئ مما أتوا عليه وتركوه لنا ، ولانفرح بمالم يعرجوا عليه ، والله لايحب الفرحين .
وإني أضرب لكم مثلا برجل رشيد ، أحسبه والله حسيبه ممن لديه محاولات ولمسات تجديدية لما درس من علم التفسير وعلومه ، لمست هذا في جوانب عديدة في بعض ماكتبت يداه ، وفي مايحاول به من انتصابه لتعليم كتاب الله في حمله عصا تسياره هنا وهناك ، ألا وهو الشيخ د / مساعد الطيار ، وإني أدعو الله أن يحيي على يديه وإخوانه من علماء التفسير كالشيخ د/ عبدالرحمن البكري ، مادرس من رسوم هذا العلم ، فكفى به تجديدا ، وكفى به شرفا مجيدا .
ومازلنا ونحن بالمغرب نسمع أن هناك رجل بالمشرق يقال له د/خالد السبت ، يحاول كذلك شق هذا الطريق ، وإن نسيت فلن أنسى العالم الفذ د/ فاضل السامرائي ، فلله هو وإخوانه ما أعظم أثرهم على الخلق ، وما أجمل سيرتهم بين الناس ، ومن نسيت ذكره من أهل الفضل فلن يضره بحمد الله نسياني .
ففي محدود علمي أن علم التفسير خاصة ، لا يحتاج في هذا الزمن أكثر من السعي لنشره بين الناس ، والتصدر لتعليمه وتقريب علومه ، وإحياء درسه بين طلاب العلم ، وإزالة النفرة الشديدة بين الناس وكتب التفسير .
ألا إن في إقبال الناس وطلاب العلم خاصة على تعلم علم التفسير وعلومه ، لفتحا وتجديدا لما درس من معالمه مع الأيام والليالي . ومن رام تجديدا فليحاول في هذا الباب لعل وعسى .
[align=center]ليس على الله بمستكثر *** أن يجمع العالم في واحد [/align]
*أين هم أساتذة التفسير وكراسيه الذين أثقلوا تلك الكراسي ، ولم نرهم خلف سارية أو في زاوية من بيوت الله يعلمون كتاب الله ؟، أم أن الأمر كما قال لي أحد الأخوة التلاد ، لطالما هالنا ونحن نجلس على كراسي الدرس أيام الطلب ، ونسمع ممن كان وظيفه لتعليم التفسير وعلومه ما يهول العقل ، من أسماء طنانة رنانة ، كالأخفش والزجاج والنحاس وقتادة ... ، حتى إذا عدلت بأحدهم عن مقرر التعليم ، أخذ بك ذات اليمين وذات الشمال ، وعلمت أنه ليس له من علمه إلا حرف الدال ، ومثلهم أساتذة في النحو والأدب والفقه والحديث ، اللهم إلا ثلة قليلة ألقت معاطفها وألقابها التي أثقلتها وأعمتها فنفعها الله ونفع بها .
وإني لأعد مثل هذا الملتقى التفسيري ، من المشاريع التي يجب أن تتكاتف لها الجهود ، وتتظافر لها الطاقات والهمم ، حتى يتم المبتغي وينال المراد من إحياء هذا العلم الشريف ، فهذه دعوة صادقة أشد بها يدي إخواني من طلاب العلم ، لسقي هذه البذرة الطيبة ، التي نبتت في أرض صالحة تتلاقح فيها العقول وتتقادح , فلعل الله يهيئ من ذلك ثمرة يقطف جناها الناس ولو بعد حين ، وما يدريك فالله ذو الفضل العظيم .
ومع أن الكلام له ذيول طويلة ، إلا أني آثرت الإيجاز حياء من أهل التفسير وظنا بوقتهم الخطير ، وللحر كان طرق العصا ، فماكتبت إلا تذكيرا لي ولإخواني الذين نأنس بما أبدعته لنا أناملهم في جوانب عديدة في هذا الملتقى ، وقد فضلت عدم التعرض بتصريح أو تلويح لبعض الأسماء التي دعتني لكتابة ماكتبت ، لعلمي أن الكمال عزيز وأن الناقد بصير ، وأن ماذكرته ماهو إلا زلة مغمورة في بحر ما سطروه ، وما أنا إلا منهم وبهم ، ومن كان لك أكثره فليكن في هذا مايدعوك للتغاضي عن أيسره ، فليتقبلوا ماذكرته بصدر رحب ، ولهم غنمه وعلي غرمه .
وفق الله الجميع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كتاب الصناعتين للعسكري رحمه الله .
(2) ينظر (قضية اللفظ والمعنى ونظرية الشعر عند العرب) للدكتور أحمد الودرني .
*********
[align=center]إهداء[/align]
وختاما فإني أسوق هذا المقال على عوره تهنئة لزينة الملتقى وقرة عينه ، لحصوله على إجازة العالمية العالية ( الدكتوراة ) ، ولقد زورت في نفسي وحبرت مقالا بهذه المناسبة ، وشيته بحلل القريض والتقريض ، ثم عدلت عن ذلك وماكان عدولي بحمد لله لعجز أو فتور ، إنما خشية من عتاب أو نفور ، وصدقوني جميعا إن من دواعي تأخرنا كأمة عربية مسلمة ، عدم قولنا للمحسن أحسنت حتى يعلم إحسانه ، وللمسيئ أسأت فيحذر الغمر إساءته ، حتى أصبحت الدنيا كلها حظوظ وفتون ، فقصر المبدع واستشرى من كان دون .
لقد أحسنت أباعبدالله ثم أحسنت ثم أحسنت ، حتى لم تدع لمستزيد أو مزيد مايزيد.
أحسنت أولا : في اختيار الموضوع وهذا العنوان الفخم الذي هو لك وأنت له .
وأحسنت ثانيا : في هذا الإتقان العجيب في خطة البحث واستقصاء كل جوانبه .
وأحسنت ثالثا: في هذا الأدب الجم الذي بلغنا عن جلسة المناقشة ، وكم كان يحف نسيمها من علم وافر وأدب عال .
فلا أقول : إلا أحسن الله إلى تلك الأقلام كما أحسنت إليك وقدرت جهدك وثمنت رسالتك ، فأعطتها ما تستحقه من تشريف وامتياز.
حتى كان حديثكم كله إحسان مع إحسان ، وكاد يختلط على جليسه الحبلان ، و يتيه سامعه في التفريق بين من هو الباحث والمناقش والمشرفان ، لحسن ماكان في ذاك المجلس من درر وفوائد مستغربة عن مثل هذا الميدان ، وهذا والله مايغبط له أهل القرآن ، فبارك الله لك فيما أعطاك وجعله سبب رفعتك في دنياك وأخراك .
هذا ولو كنت أملك من الأبل هنيدة أو مدفئة لسقت إليك أبا عبدالله كرامها ، وأراك في قبولها صاحب الفضل ، ولكن أحسب القائل : أكرم الهدايا علم نافع ، ونصيحة موثوق بها ، ومدحة صادقة ، قد أحسن لي بجميل العذر.
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على رسوله المصطفى وآله وسلم وبعد
فإن العلم نور من الله يهبه لمن يشاء من عباده المؤمنين ، ولاشك أن من أشرف العلوم علوم كتابه تعالى لشرف المعلوم ، وكم يغبط من فتح الله عليه في باب التفسير وفهم كلام العزيز الخبير ، فمع كثرة كتب التفسير وتنوع أساليبها ، إلا أن الكتب التي تقرأ فيها وتشعر أنك تقرأ تفسير كلام الله قليلة جدا ، ومن يكتب في بيان علوم هذا العلم ويقربها للناس ويحاول تجديد ما درس من رسومها أقل من القليل ، ولاحول ولا قوة إلا بالله .
ومن نعم الله علينا التي يكل الذهن عن تصورها وحصرها ، نعمة الحاسوب وهذه الشبكة العنكبوتية التي تقرب لك البعيد ، وتدنيك من الشارد الغريب ، فتتناول أي كتاب أردته في أي مكان عرفته أو لم تعرفه بنقرة صغيرة من أنملة ضعيفة في أقل من طرفة عين ، لا أقول فواق ناقة أو ناقتين .
فسبحان الله العظيم ، والحمد لله رب العالمين ، حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيد فضله ، على ما سخره لنا ، ووهبه وفتح به على الناس ، ولكن أكثر الناس لايشكرون .
أرأيتم هذا الملتقى العلمي وغيره من المنتديات والملتقيات ، وكيف تكتب فيها ماشئت في أي ساعة أردت ، دون حاجة لحبر أو قرطاس ، أو ناسخ أو ناشر ، يوم كانت الناس تفتقد اللخاف والكاغد ، والجلد والعظم ، لتسطير كلامها ، ورصف منثورها و منظومها ، اللهم إني لنعمك من المقرين فاجعلني بمنك لها من الشاكرين ، وجنبني مزالق الطلبة والكاتبين .
لقد انتفعت كما انتفع سواي بكثير مما يكتب في هذا الملتقى ، من علماء فضلاء ، وأدباء نبلاء ، فأراه كل يوم ينمو ويكبر ، عهدي به في المهد رضيعا ففطيماً ، وإذ به مع الأيام يافعاً حزوَّراً ، وقريبا يبلغ الأشد ، وتكثر فيه الأسد ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
ومع هذا كله فإني أرى أقلاماً تريد أن تشب عن الطوق ، وتتزبب قبل أن تتحصرم ، وتخترع الرأي الفطيرَ ، والكلام المبتسر ، وإنه لأمر جلل مع كلام الله رب العالمين .
سمعنا عن فقهاء قالوا بما لم يقل به قبلهم أحد من العالمين ، فما هالنا الأمر وما استعظمناه لما للرأي من مجال واسع ومسلك وعر تزل فيه الأقدام ، وتتفاوت فيه القرائح والأفهام ، فكم من رأي إذا سمعته طنت منك الأذنان وقلس الخاطر وانقبضت الوجنتان ، كقول من قال بوجوب غسل السواد والبياض من العينين ، وجواز أكل الثلج للصائم لأنه ليس أحد المطعومين ، وجواز سماع المعازف وطرق الدف باليدين ...، ثم لا تتمالك إلا أن تترحم على القائل وتستغفر له .
وقد نقبل هذا من محدث نحرير يضعف ماصححه البخاري أو يصحح ما ضعفه أبو زرعة الرازي ، نعم ... فمازال مجال التصحيح والتضعيف ذا سعة ، وإن خالف في هذا ابن الصلاح رحمه الله ومن معه ، فالأمر لم يصل بعد للتعرض للوحين ، وإنما كان هذا لتفوات النقل عن حال الراوي وما ينظر به كلا الفريقين ، كما فعل الدارقطني رحمه الله ، في إلزاما ته وتتبعا ته لما في الصحيحين .
وكم نطرب ونهتز لشاعر مفلق يفترع الأبكار من المعاني ، ويصوغها لنا في أجمل المباني ، ونأنس بهدير خطيب مصقع يحيي أصوا ت المنابر ويستحلب الدمع من المحاجر والمآقي ، ونسعد بكاتب أو ناثر يوشي حديثه بخرائد الألفاظ وبديع المعاني .
مع أن الجم الغفير من النقاد لايعولون كثيرا على المعاني السائرة ، أكثر من تعويلهم على ماصيغت فيه من حلل مبتكرة باهرة ، وإليك ما قال أبوهلال رحمه الله في الصناعتين : ( وليس الشأن في إيراد المعاني ، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي ، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه ، وحسنه وبهائه ، ونزاهته ونقائه ، وكثرة طلاوته ومائه ، مع صحة السبك والتركيب ، والخلو من أود النظم والتأليف ، وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابا ، ولايقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدمت ) أهـ (1)
فأنت ترى في هذا النص من كلام العسكري رحمه الله ، ومن قال بمثل قوله كالجاحظ من قبله ، وهو رأي الجمهور من أهل البيان من بعده ، أنهم في بابي النثر والشعر لا يعولون في النقد على المعنى أكثر من تعويلهم على اللفظ ، وهي قضية محل بحث ودرس بين الأدباء من عصور متقدمة حتى يومنا هذا . (2)
وكم تطالعنا كتب التاريخ ودواوين الأدب وتحدثنا عن عزيز النظم ومنثور الكلم ، فكم بنا بيت من الشعر بيوتا من مدر ، وكم من حكمة أومثل سائر نثر الدر في جيب كثير من البشر ، وكم أعتق به من الرقاب ، واستنزلت به الكرام كما يستنزل القطر من السحاب ،ولاتعجب ...، فلربما نكست الأعلام بالأقلام وملكت الأصقاع بالرقاع .
وليس مرادي تقرير أي الرأيين أصوب في هذا الباب ، إنما أردت أن أبين أن احتفال أهل اللسان بالمعاني لايعدل احتفالهم بجودة اللفظ وحسن سبكه ورصفه ، فكيف يحفل من يحفل بالمعنى الخطير في تفسير آية ، أو ابتكار معنى لها لم يسبق إليه ؟.
لا ياسادة ياكرام ، قد نقبل هذا في أي باب من أبواب العلم ، أما مع كلام الله وتفسيره فلا وألف لا .
أترى الف عام مرت لاتفي بهذا ؟، أم أن الأمة قد قصرت في تفسير كلام ربها وخالقها ؟، لست مع الجمود وعدم التجديد في أي فن ، فلايقول بهذا إلا بارد الطبع بليد الذهن ، لكن أقول : أن كتاب الله ليس مجال التلاعب بالعبارات وتفخيم العناوين ،أو سرور بسبق علمي في فهم مفردة أو تفسير آية ، أومرتع للفكر في الكتابة واكتشاف المواهب الذهنية والقدرات العقلية واللسانية ، لا أيه الإخوة الكرام .
فكلام الله يجب أن يصان عن مثل هذا ، فلا يفرح بسبق علمي لغوي أوبلاغي أو نحوي تفسيري في كلام الله إلا من اختلط ذهنه وأيس منه أهله ، ومن رام تجديدا في هذا قلنا له :
[align=center]ماذا بعشك ياحمامة فادرجي ! . [/align]
وقديما ذم تفسير القرآن بالرأي ، فكيف بابتكار مالم يسمع به الرازي أو الزمخشري ومن على شاكلتهم ، أو سار سيرتهم ، اللهم إلا رجل أتانا على قوله بشاهد صدق وحجة دامغة أوسلطان مبين .
كم مرة تمر علي وأنا أفكر في توقف كبار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ، عن تفسير مفردة قرآنية ، كما يذكر عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وهل سائر الصحابة إلا من بعدهم ، مع أنهم أهل القرآن واللسان ، بل في اللسان يحتج بهم لا لهم ، فما نزل القرآن إلا بلغتهم وعلى سمعهم ، ودونك أول مفردة قرآنية في أي معجم لغوي ، ستجد أنها خير شاهد لي على ما ذكرت .
وسار من بعدهم أئمة كبار هالهم الإقدام على أقل مما ترانا نهجم عليه اليوم هجوما ، ونفتخر بفض خاتمه للناس ، ودونكم إمام العربية وراوي أيامها وأشعارها عبد الملك بن قريب الأصمعي رحمه الله ، مع دماثة خلقه ولين طبعه ، واسترساله للمجالس ومخالطة الناس ، إلا أن عجبك لا ينقضي إذا علمت أنه كان من أبعد الناس عن تفسير مفردة قرآنية ، وهل المعاجم العربية إلا عالة على ما روي عنه في باب أخبار العرب وأيامها وأشعارها وكلامها ، رحمه الله وبرد مضجعه .
ألا تقرأ ون يا قوم ترجمة هذا الحبر محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي رحمه الله ، فما من آية في كتبا الله إلا وقد درسها على حدة ، وما من آية إلا وقد جمع لها كل كلام من تقدم قبله من أهل التفسير ، ثم ماذا ؟.
هل أشتهر بقول فطير أو رأي تفسيري مبتسر ، سبحانك ما علمنا هذا عنه ، وما شهدنا إلا بما علمنا من تفسيره للقرآن بالقرآن ، وخوفه من أن يشذ بما لم يعهد من قول مسبوق خطير الشأن ، وأمثاله بحمد الله من أهل العلم في كل زمان .
فهلا حاسب كل كاتب نفسه في اختياره لعنوان مكتوبه ، وهلا وقف مع نفسه قبل طرحه في هذه الصفحات وعلى مشهد من الناس فطيرمكنونه، وهلا حاسب نفسه قبل أن يتشدق بابتكاره لهذا المعنى أو ذاك ، وبحث له عن إمام معتبر يستأنس به وإن كان قولا مرذولا منسيا ، فربك يحي الموتى وهو على كل شئ قدير.
صدقوني ليست القضية هي النقد هنا ، لكن القضية هي السؤال غدا ( هناك ) ! .
ألا لايظنن ظان بي مالست به ، من تنفير من التجديد في ماهو من بابه ، لكن ليأت هذا الأمر من بابته ، فحسبنا ماوسع من قبلنا ، وليتنا نأتي على شئ مما أتوا عليه وتركوه لنا ، ولانفرح بمالم يعرجوا عليه ، والله لايحب الفرحين .
وإني أضرب لكم مثلا برجل رشيد ، أحسبه والله حسيبه ممن لديه محاولات ولمسات تجديدية لما درس من علم التفسير وعلومه ، لمست هذا في جوانب عديدة في بعض ماكتبت يداه ، وفي مايحاول به من انتصابه لتعليم كتاب الله في حمله عصا تسياره هنا وهناك ، ألا وهو الشيخ د / مساعد الطيار ، وإني أدعو الله أن يحيي على يديه وإخوانه من علماء التفسير كالشيخ د/ عبدالرحمن البكري ، مادرس من رسوم هذا العلم ، فكفى به تجديدا ، وكفى به شرفا مجيدا .
ومازلنا ونحن بالمغرب نسمع أن هناك رجل بالمشرق يقال له د/خالد السبت ، يحاول كذلك شق هذا الطريق ، وإن نسيت فلن أنسى العالم الفذ د/ فاضل السامرائي ، فلله هو وإخوانه ما أعظم أثرهم على الخلق ، وما أجمل سيرتهم بين الناس ، ومن نسيت ذكره من أهل الفضل فلن يضره بحمد الله نسياني .
ففي محدود علمي أن علم التفسير خاصة ، لا يحتاج في هذا الزمن أكثر من السعي لنشره بين الناس ، والتصدر لتعليمه وتقريب علومه ، وإحياء درسه بين طلاب العلم ، وإزالة النفرة الشديدة بين الناس وكتب التفسير .
ألا إن في إقبال الناس وطلاب العلم خاصة على تعلم علم التفسير وعلومه ، لفتحا وتجديدا لما درس من معالمه مع الأيام والليالي . ومن رام تجديدا فليحاول في هذا الباب لعل وعسى .
[align=center]ليس على الله بمستكثر *** أن يجمع العالم في واحد [/align]
*أين هم أساتذة التفسير وكراسيه الذين أثقلوا تلك الكراسي ، ولم نرهم خلف سارية أو في زاوية من بيوت الله يعلمون كتاب الله ؟، أم أن الأمر كما قال لي أحد الأخوة التلاد ، لطالما هالنا ونحن نجلس على كراسي الدرس أيام الطلب ، ونسمع ممن كان وظيفه لتعليم التفسير وعلومه ما يهول العقل ، من أسماء طنانة رنانة ، كالأخفش والزجاج والنحاس وقتادة ... ، حتى إذا عدلت بأحدهم عن مقرر التعليم ، أخذ بك ذات اليمين وذات الشمال ، وعلمت أنه ليس له من علمه إلا حرف الدال ، ومثلهم أساتذة في النحو والأدب والفقه والحديث ، اللهم إلا ثلة قليلة ألقت معاطفها وألقابها التي أثقلتها وأعمتها فنفعها الله ونفع بها .
وإني لأعد مثل هذا الملتقى التفسيري ، من المشاريع التي يجب أن تتكاتف لها الجهود ، وتتظافر لها الطاقات والهمم ، حتى يتم المبتغي وينال المراد من إحياء هذا العلم الشريف ، فهذه دعوة صادقة أشد بها يدي إخواني من طلاب العلم ، لسقي هذه البذرة الطيبة ، التي نبتت في أرض صالحة تتلاقح فيها العقول وتتقادح , فلعل الله يهيئ من ذلك ثمرة يقطف جناها الناس ولو بعد حين ، وما يدريك فالله ذو الفضل العظيم .
ومع أن الكلام له ذيول طويلة ، إلا أني آثرت الإيجاز حياء من أهل التفسير وظنا بوقتهم الخطير ، وللحر كان طرق العصا ، فماكتبت إلا تذكيرا لي ولإخواني الذين نأنس بما أبدعته لنا أناملهم في جوانب عديدة في هذا الملتقى ، وقد فضلت عدم التعرض بتصريح أو تلويح لبعض الأسماء التي دعتني لكتابة ماكتبت ، لعلمي أن الكمال عزيز وأن الناقد بصير ، وأن ماذكرته ماهو إلا زلة مغمورة في بحر ما سطروه ، وما أنا إلا منهم وبهم ، ومن كان لك أكثره فليكن في هذا مايدعوك للتغاضي عن أيسره ، فليتقبلوا ماذكرته بصدر رحب ، ولهم غنمه وعلي غرمه .
وفق الله الجميع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كتاب الصناعتين للعسكري رحمه الله .
(2) ينظر (قضية اللفظ والمعنى ونظرية الشعر عند العرب) للدكتور أحمد الودرني .
*********
[align=center]إهداء[/align]
وختاما فإني أسوق هذا المقال على عوره تهنئة لزينة الملتقى وقرة عينه ، لحصوله على إجازة العالمية العالية ( الدكتوراة ) ، ولقد زورت في نفسي وحبرت مقالا بهذه المناسبة ، وشيته بحلل القريض والتقريض ، ثم عدلت عن ذلك وماكان عدولي بحمد لله لعجز أو فتور ، إنما خشية من عتاب أو نفور ، وصدقوني جميعا إن من دواعي تأخرنا كأمة عربية مسلمة ، عدم قولنا للمحسن أحسنت حتى يعلم إحسانه ، وللمسيئ أسأت فيحذر الغمر إساءته ، حتى أصبحت الدنيا كلها حظوظ وفتون ، فقصر المبدع واستشرى من كان دون .
لقد أحسنت أباعبدالله ثم أحسنت ثم أحسنت ، حتى لم تدع لمستزيد أو مزيد مايزيد.
أحسنت أولا : في اختيار الموضوع وهذا العنوان الفخم الذي هو لك وأنت له .
وأحسنت ثانيا : في هذا الإتقان العجيب في خطة البحث واستقصاء كل جوانبه .
وأحسنت ثالثا: في هذا الأدب الجم الذي بلغنا عن جلسة المناقشة ، وكم كان يحف نسيمها من علم وافر وأدب عال .
فلا أقول : إلا أحسن الله إلى تلك الأقلام كما أحسنت إليك وقدرت جهدك وثمنت رسالتك ، فأعطتها ما تستحقه من تشريف وامتياز.
حتى كان حديثكم كله إحسان مع إحسان ، وكاد يختلط على جليسه الحبلان ، و يتيه سامعه في التفريق بين من هو الباحث والمناقش والمشرفان ، لحسن ماكان في ذاك المجلس من درر وفوائد مستغربة عن مثل هذا الميدان ، وهذا والله مايغبط له أهل القرآن ، فبارك الله لك فيما أعطاك وجعله سبب رفعتك في دنياك وأخراك .
هذا ولو كنت أملك من الأبل هنيدة أو مدفئة لسقت إليك أبا عبدالله كرامها ، وأراك في قبولها صاحب الفضل ، ولكن أحسب القائل : أكرم الهدايا علم نافع ، ونصيحة موثوق بها ، ومدحة صادقة ، قد أحسن لي بجميل العذر.