الذي أعرفه أن حسد العلم لا شيء فيه وهو مستثنىً من الحسد المذموم:
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الله تعالى علما فهو يعمل به ويعلمه الناس. والحديث متفق عليه من حديث ابن عمرو .
وقد يطلق على الغبطة حَسدًا ، وعليه يُحمل الحسدُ في هذا الحديث ، فكأنه قال : لا غبطةَ أعظم أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين .
وقد نبّه البخاري على هذا ؛ حيث بوَّب على هذا الحديث : باب الاغتباط في العلم والحكمة .
فرق كبير بين الحسد وبين الغبطة وإن كان الإطلاق واردا .
وكنت قد ناقشت مسألة الحسد والفرق بينه وبين الغبطة في كتابي أنس البدوي وهذا نص ما كتبته فيه :
الحسد : هو تمني زوال نعمة عن مستحق لها ، ويقال : ظلم ذي النعمة بتمني زوالها عنه ، وصيرورتها إلى الحاسد.
وبعضهم قال هو : أن يتمنى زوال ذلك عن المحسود وإن لم يحصل له ، سواء سعى في زواله عنه أم لا . ( )
وقد يختلط على بعض الناس الحسد والغبطة ، ولكنهما مختلفان معنى وحكما ، أما المعنى فالغبطة هي : أن يتمنى الإنسان مثل ما للإنسان الآخر من نعمة علم ، أو مال ، أو غير ذلك ؛ دون أن يتمنى زوالها عن أخيه ، والحسد قد تقدم معناه ، وأما الحكم فالحسد مذموم شرعا وعقلا ، وليست الغبطة كذلك وقد جاء في الحديث : ( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطـه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة ؛ فهو يقضي بها ويعلمها )( )
فمعنى لا حسد في هذا الحديث : لا غبط.
ويكفي تحذيرا من داء الحسد حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( دب إليكم داء الأمم : الحسد والبغضاء ، وهي الحالقة ، لا أقول تحلق الشعر ، ولكنها تحلق الدين ، والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم).( )
وقل أن يسلم إنسان من الحسد ، ولكن المؤمن لا يجاوز الحسد عنده حديث النفس ، إلى الظلم والبغي ، والنظرة إلى أخيه بعين الحاسد .
قال الحسن البصري ( ): ( ما من آدمي إلا وفيه الحسد ؛ فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيء ). ( )
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي الزناد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ، والصدقة تطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار ، والصلاة نور المؤمن ، والصيام جنة من النار). ( )
قال العلامة ابن القيم ( ) رحمه الله تعالى تعليقا على هذا الحديث : ( لما كان الحاسد يكره نعمة الله على عباده ، والمتصدق ينعم عليهم كانت صدقة هذا ونعمته تطفيء خطيئته وتذهبها ، وحسد هذا وكراهته نعمة الله عــلى عباده تذهب حسناته ). ( )
وقال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني ( ) – رحمه الله تعالى - : ( ... وفي الحسد أحاديث وآثار كثيرة ، ويقال كان أول ذنب عصي الله به الحسد ؛ فإنه أمر إبليس بالسجود لآدم فحسده فامتنع عنه فعصى الله فطرده ، وتولد من طرده كل بلاء وفتنة عليه وعلى العباد ، والحسد لا يكون إلا على نعمة فإذا أنعم الله على أخيك نعمة فلك فيها حالتان ، إحداهما : أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها وهذه الحالة تسمى حسدا .
الثانية : أن لا تحب زوالها ، ولا تكره وجودها ودوامها له ، ولكنك تريد لنفسك مثلها ؛فهذا يسمى غبطة ؛ فالأول حرام على كل حال إلا نعمة على كافر أو فاجر وهو يستعين بها على تهييج الفتنة وإفساد ذات البين وإيذاء العباد فهذه لا يضرك كراهتك لها ولا محبتك زوالها ؛ فإنك لم تحب زوالها من حيث هي نعمة بل من حيث هي آلة للفساد.
ووجه تحريم الحسد مع ما علم من الأحاديث أنه تسخط لقدر الله تعالى وحكمته في تفضيل بعض عباده على بعض ..
ولذا قيل :
ألا قل لمن كان لي حاسـدا أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فعلـــه لأنك لم ترض لي ما وهـب
فجـــازاك عني بأن زادني وسد عليك وجوه ا لطلـب
ثم الحاسد إن وقع له الخاطر بالحسد فدفعه ، وجاهد نفسه في دفعه ؛ فلا إثم عليه ؛ بل لعله مأجور في مدافعة نفسه ، فإن سعى في زوال نعمة المحسود ؛ فهو باغ ، وإن لم يسع ولم يظهره لمانع العجز ، فإن كان بحيث لو أمكنه لفعل ؛ فهو مأزور ، وإلا فلا أي لا وزر عليه ؛ لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية ، فيكفيه في مجاهدتها أن لا يعمل بها ، ولا يعزم على العمل بها ). ( )
وقال الإمام أبو محمد بن حزم – رحمه الله تعالى - : ( وأما من اعتقد عداوة مسلم ؛ فإن لم يضر به بعمل ولا بكلام ؛ فإنما هو بغضة ، والبغضة التي لا يقدر المرء على صرفها عن نفسه لا يؤاخذ بها ، فإن تعمد ذلك ؛ فهو عاص ؛ لأنه مأمور بموالاة المسلم ومحبته ؛ فتعدى ما أمره الله تعالى به فلذلك أثم ). ( )
قلت : والحسد من أمراض القلوب التي تكثر في العلماء وطلاب العلم ، وقد قال بعض السلف إن بضائع الشيطان يشتريها منه كل من هب ودب إلا الحسد فإن أكثر من يشتريه بالجملة هو العلماء وطلاب العلم ؛ فعلى المسلم أن يحذر منه ، ويعالج نفسه من دائه ، وخاصة إذا كان من طلاب العلم ..
من علامات الحسد :
وهذا الحسد الذي يكثر في هذا الصنف من الناس له علامات تدل المرء عليه من أهمها :
1 –
محاولة التنقيص من العلماء ، وطلاب العلم الذين رزقهم فهما وعلما فاقوا به أقرانهم ؛ بل وربما تقدموا به على من هو أكبر منهم سنا ، وفضل الله كثير ، ورحمته واسعة ؛ فربما رزق طالب علم صغير فهما وعلما منعه لغيره ، ولذا فإنك تجد من العلماء المتأخرين من فاق كثيرا ممن تقدمه من أهل العلم ، وربما تجد لهم استدراكات ونكت على مسائل دقيقة لم يفهمها من سبقهم من العلماء ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، ومتناثرة في كتب جميع الفنون من التفسير والحديث والفقه ، وغيرها.
ومحاولة التنقيص هذه التي ذكرت تأخذ صورا مختلفة كالتقليل من القيمة العلمية لكتب بعض طلاب العلم ، أو الاستهزاء ببعض آرائهم بلا برهان ، أو التفتيش عن بعض الأخطاء البسيطة وتضخيمها ، وكثيرا ما يُظهر من يمارس هذا النوع من الحسد أنه لا يريد إلا النصح ، وأنه يقدر طالب العلم الذي ينتقصه ، وربما يثني عليه أحيانا ، ونحو ذلك ..
2 – الهجوم العلني على طالب العلم المحسود : فتجد بعض من يدعي العلم يهجم على بعض طلاب العلم الذين فاقوه بفضل الله وعطائه هجوما علنيا ، ويغتابه غيبة شنيعة أمام بعض طلابه الذين يثق بهم ، وهذا النوع من الحسد يدل على خبث السريرة ، وفساد القلب ، وقل أن يكون في العلماء الربانيين ، فإذا رأيت من يمارس هذا النوع فاعلم أنه على غير هدى ؛ فعليك أن تعظه وتخوفه من الله تعالى ، ولا تستصغر نفسك أن تنصحه ، فقد كان السلف الصالح ينصح بعضهم بعضا ولو كان أعلم منه أو أكبر منه سنا ، لكن مع توقيره واحترامه وسلوك أقرب وأسهل طريق توضح له خطأه ، وتبين له عثرته ، فلا يكن هدفك التنقيص منه أو تصغير نفسه عنده ، أو العثور على بعض الشظايا الفاسدة في قلبه ؛ وليكن همك أن ترى ما فيه من المحاسن أولا ، والثناء عليه بها ثم توضيح خطئه على أنه عثرة بسيطة ، وكبوة جواد سرعان ما يقوم منها وهو أسرع عدوا ، وأشد فتكا بأعدائه من شياطين الإنس والجن.
هذا وإن المسلم مطالب بأن يجاهد نفسه ويحذر من الحسد ويكثر من سؤال الله عز وجل أن يجنبه هذه الأمراض وغيرها. والله تعالى أعلم وأحكم.اهـ.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.