محمد يزيد
Active member
الباب الثالث - الفصل الأول - المبحث الأول
المطلب الثاني: الآيات الأولى التي نزلت على رسول الله تحمل في طيات معانيها أسس العلوم.
- فعلم العقيدة والإيمان يبدأ من الربوبية، وأول صفاتها (الخلق -ويفيد الملك والتدبير ضمنيا- ثم التعليم): {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق 1).
- وعلم عدد السنين والحساب أولى أسسه ومراحله القراءة: {اقْرَأْ}[1]، ثم الكتابة: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}[2]، وهما مبنيان على الإحساس والتجريد، وما يأتي تابعًا ملازمًا له هو علم الهندسة من {يَسْطُرُونَ}.
- وعلم الوجود[3] يبدأ من قولِهِ تَعَالى: {رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. وهو يفيد أنه "كانَ اللهُ وَلَمْ يَكُن قَبْلَهُ شَيْءٌ"[4]، ثم خلق الله الخلق بأمر "كن"، فعند حرف "نون" كان ما شاء الله من الخلق، وأول الخلق القلم على قول، وذلك مصداق قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}.
- وعلم الطِّبّ مبدؤه قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}.
- وعلم النفس يبدأ من صفات جاءت في الآيات الخمس الأولى: النسيان[5] والأنس والكرم والكرامة والجهل والتعلم وصفات كثيرة مستخلصة من ثلاثين (30) معنًى من المعاني المودعة في كلمة {عَلَقٍ} كما في لسان العرب، تصف حياة الإنسان من قبل الممات إلى الموت والحساب والمثوبة والعقوبة، ثم في أوائل سورة القلمِ الجنونُ والخلقُ العظيم والافتتانُ والضلالُ والهدى والتكذيبُ والمداهنةُ والحلفُ والهوانُ والهمزُ وأنّه مشاءٌ ومشاءٌ بالنميمة ومنعُ الخير والاعتداء والإثمُ والاستهزاءُ، وفي سورتي المزملِ والمدثر صفات أخرى واسم ثانٍ لجنسنا هو "البشر"، وفيه معاني خلقه وتكاثره من البشرة والمباشرة وغيرها.
- وعلوم القرآن كافة ومنها التجويد تبدأ من التعريف بكلمةِ "قرآن" المشتقة من {اقْرَأْ}.
- وعلم أصول الفقه يبدأ من "الأمر للوجوب" {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وتكرار الأمر لتوكيده. (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ).[6]
- وعلم الفقه يبدأ من باب العلم والنية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}.
- وعلم التشريع يبدأ من "المشرِّع الرب ومنفذ التشريع المربوب" {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}.
- وعلم النحو من علوم اللغة يتأسس على "الكلمة فعل وحرف واسمٌ"[7]. وهذا في قوله سبحانه: {اقْرَأْ بِاسْمِ}.
- وعلم المعاني والبيان (ويسمى علم الدلالة[8]) من علوم اللغة يبدأ من "الكلام إنشاء وخبر"، وهذا في قوله سبحانه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. فالجملة الأولى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} هي أمْرٌ، والأمر من الصيغ الإنشائية، والثانية جملة خبرية {الَّذِي خَلَقَ}.
- وعلم الأصوات، بأنواعه أو شعبه الثلاثة علم النطق ونقل الصوت وتحْلِيل الصَّوت أسسه في {اقْرَأْ}.
وسأقتصر فيما أسرد في هذا البحث على علم عدد السنين والحسابِ، الذي يظهر للدارسين أصعب العلوم في الاستنباط.
ولا بأس أن نتساءل أوّلًا لمَ لمْ تتأسس الرياضيات الحديثة ونظرياتها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أيام النبوة ما دامت بهذا الزعم من العلوم المستنبطة من القرآن، فالجواب أنك ستدرك من صفحات هذا الكتاب تأكيد وجود التأصيل التام الكامل الممنهج لأسس علم عدد السنين والحساب التي تستوعب العلوم الكونية الأخرى حسب النزول الترتيبي للآيات، وليس هذا فحسب بل إن هذه الأسس شُفِعَت بتطبيقاتٍ بديعة متقدمة لتفنيد الشرك وإثبات وحدانية الله وتحديد مواقيت الصلاة والزكاة والصوم والحج والكفارات والعِدَد والمواريث والحدود وغيرها من عدة الركعات في الصلوات وأشواط الطواف والسعي، وفي أنصبة الزكوات بتفاصيلها بالغة الإحكام، وأغلب ذلك كان في المدينة بعد الهجرة، ولنا مثلٌ في الصَّحابيّ الجليل زَيْد بنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه كعالمٍ رياضي في زمن النبوة، وقدْ أقر له النبي صلى الله عليه وسلم بالسبق في علم الفرائض بقوله: "وَأَعْلمُكُمْ بالفرائض زَيْدٌ"، وانظر إلى التسبيح الذي رغب النبي صلى الله عليه وسلم في تأديته بالأصابع دبر كل صلاةٍ وفي سائر الأوقات، وهو عبادة تجمع مع فضل ذكر الله تعالى مزيةً لا تُسنّ إلا في تشريع كاملٍ مصدره رب الأرباب الخالق العلي، والحكمة أن تكون الأمة كلها دائمة الاتصال بالحساب، كل على حسب الخوارزم الذي اعتمده في الحساب بأصابعه وفق التركيبة العددية لليد اليمنى أو اليدينِ كلتيهما.
وكان مسك ختام تلك الدورة التعليمية الطويلة على مدار عشرين سنة ونيف خطبة الوداع التي لم يغفل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرساه القرآن من علم عدد السنين والحساب، فعن أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ"[9]، ولم يلبث أن بدأ التأريخ الهجري كأحد أهم تطبيقات ذلك العلم بعد إرساء الركائز العلمية الأساسية لحساب الزمن والعدِّ في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أما ما هو متقدم في تفصيل العلوم الرياضية والفلكية والطبية وغيرها فإن سنة التدرج التي كتب الله، اقتضت أن لا يتم الأمر في هذا الباب الكمالي إلا حين تستعد البشرية له، وشأنها شأن معارف وأسرار لظواهر كونية مدخرة إلى أجل بيانها، لتمام حكمة الله، كالصبي يربيه ربه أو والده ويعلمه بما يعي ويعقل في بابٍ معينٍ من العلوم والمعارف (مثل حساب محيط الدائرة بنصف القطر والثابت "بي" π)، حتى يتهيأ لتقبل ما هو أكثر تفصيلاً إذا كبر (من أين جاء الثابت "بي" π)، ويحتار آنذاك كيف غاب عنه تلك الأمور في زمن الصبا حين تعلمها أول مرة، فكذلك الأُمَّةُ لِعمرهَا الطويلِ على مدى أجيالٍ، يربيها ربها ويعلّمها في زمن أطول من زمن تعلم أو حتى عمر الفرد الواحد. وذلك ما تحقق بعد قرنين من الزمن حين انبجست قرائح علماء الإسلام على اكتشافات ومخترعات وإنجازات ومؤلفات جليلة كانت بمثابة مقدمات لثورات علمية وحضارية كبيرة آخرها التي ظهرت في وقتنا في القرن الخامس عشر الهجري (ق 20 م).
تخيل لو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من العلم الكونيِّ التجريبيِّ الذي لا يمازجهُ لا تعاملٌ مع الجنِّ ولا سحرٌ أن يكلمَ الرّجلُ أخاه من أقاصي الدنيا ويراه أكانوا يصدقونه؟ ولو طرح عليهم نظريات العلوم الفلكية ما كانوا مصدقيه أيضًا إلا أن يرَوا تطبيقاتِها وشواهدَها الحسيةَ ماثلةً أمام أعينهمْ، لكنه يخاطبهم بما يعقلونَ، فيكونُ {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة 2 - 3)، ولا يجاري الممارينَ من الكافرينَ إلا بما يقيم الحجة عليهم، لأن الله يعلم أن دأبهم أنهم في الجدل يتدرجون {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} (الحجر 14 - 15) وهذا الذي أخذه الصحابة الكرام عنه صلى الله عليه وسلم وأوَّلُهم ترجمانُ القرآن وخبير تأويله ابن عباس رضي الله عنهما، عن مجاهد عن ابن عباس في قوله: {سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}قال: "لوْ حَدَّثْتكُمْ بِتَفْسيرِهَا لَكَفَرتُمْ، وَكفْرُكُمْ تَكذِيبُكمْ بِهَا". وعن سعيد بن جبير قال: قال رجلٌ لابن عباسٍ: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطَّلَاق 12)، فقال ابن عباسٍ: "مَا يؤمنكَ إنْ أخْبرتُكَ بهَا فَتكْفُر"!!.
وهل سبقْنا محمدًا صلى الله عليه وسلم وصحبه في تلك العلوم؟ لا والله، فإن السبق في زكاة الأنفس وكمال العقول وصحة الدين أولى، وبه يتبلغ إلى العلم المتكامل الشامل الصحيح بمعرفة الحقائق الوجودية العظمى، وأسرار جريان النواميس والقوانين الأرضية والكونية مع اليقين الذي لا يعتريه ريب، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل الكل فكتب الله له مع ذلكم رحلةً أرضية وأخرى سماوية في الإسراء والمعراج بسرعة تتجاوز تخيلات البشر وما بلغوه في أزمانهم كلها، ورأى من ملكوت السموات والأرض وما بينهما وعظيم خلق الله ما لم يره من الثقلين أحد.
[1] القراءة ناجمة عن التلقي بالحواس وأهمها السمع أو البصر، وقد تكون باستقبال تجريدٍ صوتيٍّ أو كتابيٍّ للأشياء فتكون النتيجة بعد إعمال حاسة العقل، تجريداً صوتياًّ مسموعاً أو مهموساً مستخدمًا حاسة النطق عمومًا، أو بترميز أو إيماءٍ باليد وغيرها.
[2] الكتابة هي تجريد كتابي للأشياء غرضه التعلم من الكامل الخلاق العليم(ربك) لاستدراك النقص الفطريِّ من النسيان (الإنسان) والجهل (ما لم يعلم).
[3] بالإنجليزية: Ontology.
[4] عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ : إِنِّي لَجَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِذَا جَاءَهُ قَوْمٌ مِنَ بَنِي تَمِيمٍ ، فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ". قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ، إِذَا لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ". قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْنَا لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَنَسْأَلُكُ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ، مَا كَانَ اللَّهُ؟. قَالَ: "كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ". قَالَ: وَآتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، رَاحِلَتَكَ، أَدْرِكْ، نَاقَتَكَ، فَقَدْ ذَهَبَتْ. فَانْطَلَقْتُ فِي طَلَبِهَا، وَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا، وَأَيْمِ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا ذَهَبَتْ وَأَنِّي لَمْ أَقُمْ" أخرجه البخاري.
[5] اختصاص الإنسان باسم "الإنسان" هو تمييز له عن الملائكة التي لا تنسى، وتمييزا عن الجن التي لا تأنس. وصفة النسيان تلازمه إلى يوم القيامة وأثرها على العلوم والحضارات قوي إلى درجة كونه بتقدير من الله الباني الهادم لاستخلافه في الأرض.
[6] وقريب منها: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب: قم الليل إلا قليلا ... الواجب قيام الليل، نصفه ... وقياس ساعات الزمن واجب.
[7] وفي الآيات الأربع الأولى وردت أصناف الفعل الزمانية الثلاثة: الأمر (اقرأ) والماضي (خلق) والمضارع (يعلم)، والفعل المثبت (خلق) والمنفي (لم يعلم) ، ووردت النكرة من الأسماء والمعرفة، والمعرف بالألف واللام وبالإضافة، والنكرة من الجمل والمعرف.
[8] جاء في كتاب [الله والإنسان،الباحث الياباني توشيهيكو ايزوتسو، ص30]."عِلْم الدّلالة كما فهمتهُ هو دراسةٌ تحليلية للتعابير المفتاحية Key- terms في لغةٍ من اللغات ابتغاءَ الوصولِ أخيراً إلى إدراكٍ مفهوميٍّ للنّظرة إلى العالم Weltanschauung لدى النّاس الذين يستخدمون تلك اللّغة أداةً ليس فقط للتحدّث والتفكُّر، بل أيضاً، وهذا أكثرُ أهمّيةً، لتقديم مفهوماتٍ وتفاسير للعالَم الذي يحيط بهم.... فهدف الدراسة الدلالية للقرآن البحث عن رؤية القرآن لكيفية بناء عالَم الوجود، وما المكوِّناتُ الرّئيسةُ للعالم، وكيف يُرْبَط بعضُها ببعض، فيكون عِلْمُ دلالات الألفاظ وتطوّرها، في هذا المعنى، نوعاً من عِلْم الوجود ontology- علم وجود محّدد وحيّ ومتحرّك ".
[9] صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، 4385.
المطلب الثاني: الآيات الأولى التي نزلت على رسول الله تحمل في طيات معانيها أسس العلوم.
- فعلم العقيدة والإيمان يبدأ من الربوبية، وأول صفاتها (الخلق -ويفيد الملك والتدبير ضمنيا- ثم التعليم): {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق 1).
- وعلم عدد السنين والحساب أولى أسسه ومراحله القراءة: {اقْرَأْ}[1]، ثم الكتابة: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}[2]، وهما مبنيان على الإحساس والتجريد، وما يأتي تابعًا ملازمًا له هو علم الهندسة من {يَسْطُرُونَ}.
- وعلم الوجود[3] يبدأ من قولِهِ تَعَالى: {رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. وهو يفيد أنه "كانَ اللهُ وَلَمْ يَكُن قَبْلَهُ شَيْءٌ"[4]، ثم خلق الله الخلق بأمر "كن"، فعند حرف "نون" كان ما شاء الله من الخلق، وأول الخلق القلم على قول، وذلك مصداق قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}.
- وعلم الطِّبّ مبدؤه قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}.
- وعلم النفس يبدأ من صفات جاءت في الآيات الخمس الأولى: النسيان[5] والأنس والكرم والكرامة والجهل والتعلم وصفات كثيرة مستخلصة من ثلاثين (30) معنًى من المعاني المودعة في كلمة {عَلَقٍ} كما في لسان العرب، تصف حياة الإنسان من قبل الممات إلى الموت والحساب والمثوبة والعقوبة، ثم في أوائل سورة القلمِ الجنونُ والخلقُ العظيم والافتتانُ والضلالُ والهدى والتكذيبُ والمداهنةُ والحلفُ والهوانُ والهمزُ وأنّه مشاءٌ ومشاءٌ بالنميمة ومنعُ الخير والاعتداء والإثمُ والاستهزاءُ، وفي سورتي المزملِ والمدثر صفات أخرى واسم ثانٍ لجنسنا هو "البشر"، وفيه معاني خلقه وتكاثره من البشرة والمباشرة وغيرها.
- وعلوم القرآن كافة ومنها التجويد تبدأ من التعريف بكلمةِ "قرآن" المشتقة من {اقْرَأْ}.
- وعلم أصول الفقه يبدأ من "الأمر للوجوب" {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وتكرار الأمر لتوكيده. (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ).[6]
- وعلم الفقه يبدأ من باب العلم والنية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}.
- وعلم التشريع يبدأ من "المشرِّع الرب ومنفذ التشريع المربوب" {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}.
- وعلم النحو من علوم اللغة يتأسس على "الكلمة فعل وحرف واسمٌ"[7]. وهذا في قوله سبحانه: {اقْرَأْ بِاسْمِ}.
- وعلم المعاني والبيان (ويسمى علم الدلالة[8]) من علوم اللغة يبدأ من "الكلام إنشاء وخبر"، وهذا في قوله سبحانه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. فالجملة الأولى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} هي أمْرٌ، والأمر من الصيغ الإنشائية، والثانية جملة خبرية {الَّذِي خَلَقَ}.
- وعلم الأصوات، بأنواعه أو شعبه الثلاثة علم النطق ونقل الصوت وتحْلِيل الصَّوت أسسه في {اقْرَأْ}.
وسأقتصر فيما أسرد في هذا البحث على علم عدد السنين والحسابِ، الذي يظهر للدارسين أصعب العلوم في الاستنباط.
ولا بأس أن نتساءل أوّلًا لمَ لمْ تتأسس الرياضيات الحديثة ونظرياتها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أيام النبوة ما دامت بهذا الزعم من العلوم المستنبطة من القرآن، فالجواب أنك ستدرك من صفحات هذا الكتاب تأكيد وجود التأصيل التام الكامل الممنهج لأسس علم عدد السنين والحساب التي تستوعب العلوم الكونية الأخرى حسب النزول الترتيبي للآيات، وليس هذا فحسب بل إن هذه الأسس شُفِعَت بتطبيقاتٍ بديعة متقدمة لتفنيد الشرك وإثبات وحدانية الله وتحديد مواقيت الصلاة والزكاة والصوم والحج والكفارات والعِدَد والمواريث والحدود وغيرها من عدة الركعات في الصلوات وأشواط الطواف والسعي، وفي أنصبة الزكوات بتفاصيلها بالغة الإحكام، وأغلب ذلك كان في المدينة بعد الهجرة، ولنا مثلٌ في الصَّحابيّ الجليل زَيْد بنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه كعالمٍ رياضي في زمن النبوة، وقدْ أقر له النبي صلى الله عليه وسلم بالسبق في علم الفرائض بقوله: "وَأَعْلمُكُمْ بالفرائض زَيْدٌ"، وانظر إلى التسبيح الذي رغب النبي صلى الله عليه وسلم في تأديته بالأصابع دبر كل صلاةٍ وفي سائر الأوقات، وهو عبادة تجمع مع فضل ذكر الله تعالى مزيةً لا تُسنّ إلا في تشريع كاملٍ مصدره رب الأرباب الخالق العلي، والحكمة أن تكون الأمة كلها دائمة الاتصال بالحساب، كل على حسب الخوارزم الذي اعتمده في الحساب بأصابعه وفق التركيبة العددية لليد اليمنى أو اليدينِ كلتيهما.
وكان مسك ختام تلك الدورة التعليمية الطويلة على مدار عشرين سنة ونيف خطبة الوداع التي لم يغفل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرساه القرآن من علم عدد السنين والحساب، فعن أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ"[9]، ولم يلبث أن بدأ التأريخ الهجري كأحد أهم تطبيقات ذلك العلم بعد إرساء الركائز العلمية الأساسية لحساب الزمن والعدِّ في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أما ما هو متقدم في تفصيل العلوم الرياضية والفلكية والطبية وغيرها فإن سنة التدرج التي كتب الله، اقتضت أن لا يتم الأمر في هذا الباب الكمالي إلا حين تستعد البشرية له، وشأنها شأن معارف وأسرار لظواهر كونية مدخرة إلى أجل بيانها، لتمام حكمة الله، كالصبي يربيه ربه أو والده ويعلمه بما يعي ويعقل في بابٍ معينٍ من العلوم والمعارف (مثل حساب محيط الدائرة بنصف القطر والثابت "بي" π)، حتى يتهيأ لتقبل ما هو أكثر تفصيلاً إذا كبر (من أين جاء الثابت "بي" π)، ويحتار آنذاك كيف غاب عنه تلك الأمور في زمن الصبا حين تعلمها أول مرة، فكذلك الأُمَّةُ لِعمرهَا الطويلِ على مدى أجيالٍ، يربيها ربها ويعلّمها في زمن أطول من زمن تعلم أو حتى عمر الفرد الواحد. وذلك ما تحقق بعد قرنين من الزمن حين انبجست قرائح علماء الإسلام على اكتشافات ومخترعات وإنجازات ومؤلفات جليلة كانت بمثابة مقدمات لثورات علمية وحضارية كبيرة آخرها التي ظهرت في وقتنا في القرن الخامس عشر الهجري (ق 20 م).
تخيل لو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من العلم الكونيِّ التجريبيِّ الذي لا يمازجهُ لا تعاملٌ مع الجنِّ ولا سحرٌ أن يكلمَ الرّجلُ أخاه من أقاصي الدنيا ويراه أكانوا يصدقونه؟ ولو طرح عليهم نظريات العلوم الفلكية ما كانوا مصدقيه أيضًا إلا أن يرَوا تطبيقاتِها وشواهدَها الحسيةَ ماثلةً أمام أعينهمْ، لكنه يخاطبهم بما يعقلونَ، فيكونُ {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة 2 - 3)، ولا يجاري الممارينَ من الكافرينَ إلا بما يقيم الحجة عليهم، لأن الله يعلم أن دأبهم أنهم في الجدل يتدرجون {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} (الحجر 14 - 15) وهذا الذي أخذه الصحابة الكرام عنه صلى الله عليه وسلم وأوَّلُهم ترجمانُ القرآن وخبير تأويله ابن عباس رضي الله عنهما، عن مجاهد عن ابن عباس في قوله: {سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}قال: "لوْ حَدَّثْتكُمْ بِتَفْسيرِهَا لَكَفَرتُمْ، وَكفْرُكُمْ تَكذِيبُكمْ بِهَا". وعن سعيد بن جبير قال: قال رجلٌ لابن عباسٍ: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطَّلَاق 12)، فقال ابن عباسٍ: "مَا يؤمنكَ إنْ أخْبرتُكَ بهَا فَتكْفُر"!!.
وهل سبقْنا محمدًا صلى الله عليه وسلم وصحبه في تلك العلوم؟ لا والله، فإن السبق في زكاة الأنفس وكمال العقول وصحة الدين أولى، وبه يتبلغ إلى العلم المتكامل الشامل الصحيح بمعرفة الحقائق الوجودية العظمى، وأسرار جريان النواميس والقوانين الأرضية والكونية مع اليقين الذي لا يعتريه ريب، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل الكل فكتب الله له مع ذلكم رحلةً أرضية وأخرى سماوية في الإسراء والمعراج بسرعة تتجاوز تخيلات البشر وما بلغوه في أزمانهم كلها، ورأى من ملكوت السموات والأرض وما بينهما وعظيم خلق الله ما لم يره من الثقلين أحد.
[1] القراءة ناجمة عن التلقي بالحواس وأهمها السمع أو البصر، وقد تكون باستقبال تجريدٍ صوتيٍّ أو كتابيٍّ للأشياء فتكون النتيجة بعد إعمال حاسة العقل، تجريداً صوتياًّ مسموعاً أو مهموساً مستخدمًا حاسة النطق عمومًا، أو بترميز أو إيماءٍ باليد وغيرها.
[2] الكتابة هي تجريد كتابي للأشياء غرضه التعلم من الكامل الخلاق العليم(ربك) لاستدراك النقص الفطريِّ من النسيان (الإنسان) والجهل (ما لم يعلم).
[3] بالإنجليزية: Ontology.
[4] عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ : إِنِّي لَجَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِذَا جَاءَهُ قَوْمٌ مِنَ بَنِي تَمِيمٍ ، فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ". قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ، إِذَا لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ". قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْنَا لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَنَسْأَلُكُ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ، مَا كَانَ اللَّهُ؟. قَالَ: "كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ". قَالَ: وَآتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، رَاحِلَتَكَ، أَدْرِكْ، نَاقَتَكَ، فَقَدْ ذَهَبَتْ. فَانْطَلَقْتُ فِي طَلَبِهَا، وَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا، وَأَيْمِ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا ذَهَبَتْ وَأَنِّي لَمْ أَقُمْ" أخرجه البخاري.
[5] اختصاص الإنسان باسم "الإنسان" هو تمييز له عن الملائكة التي لا تنسى، وتمييزا عن الجن التي لا تأنس. وصفة النسيان تلازمه إلى يوم القيامة وأثرها على العلوم والحضارات قوي إلى درجة كونه بتقدير من الله الباني الهادم لاستخلافه في الأرض.
[6] وقريب منها: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب: قم الليل إلا قليلا ... الواجب قيام الليل، نصفه ... وقياس ساعات الزمن واجب.
[7] وفي الآيات الأربع الأولى وردت أصناف الفعل الزمانية الثلاثة: الأمر (اقرأ) والماضي (خلق) والمضارع (يعلم)، والفعل المثبت (خلق) والمنفي (لم يعلم) ، ووردت النكرة من الأسماء والمعرفة، والمعرف بالألف واللام وبالإضافة، والنكرة من الجمل والمعرف.
[8] جاء في كتاب [الله والإنسان،الباحث الياباني توشيهيكو ايزوتسو، ص30]."عِلْم الدّلالة كما فهمتهُ هو دراسةٌ تحليلية للتعابير المفتاحية Key- terms في لغةٍ من اللغات ابتغاءَ الوصولِ أخيراً إلى إدراكٍ مفهوميٍّ للنّظرة إلى العالم Weltanschauung لدى النّاس الذين يستخدمون تلك اللّغة أداةً ليس فقط للتحدّث والتفكُّر، بل أيضاً، وهذا أكثرُ أهمّيةً، لتقديم مفهوماتٍ وتفاسير للعالَم الذي يحيط بهم.... فهدف الدراسة الدلالية للقرآن البحث عن رؤية القرآن لكيفية بناء عالَم الوجود، وما المكوِّناتُ الرّئيسةُ للعالم، وكيف يُرْبَط بعضُها ببعض، فيكون عِلْمُ دلالات الألفاظ وتطوّرها، في هذا المعنى، نوعاً من عِلْم الوجود ontology- علم وجود محّدد وحيّ ومتحرّك ".
[9] صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، 4385.