عزام عز الدين
New member
- إنضم
- 22/02/2006
- المشاركات
- 65
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
..لا مفر من إسقاط معاصر.
فالخطاب القرآني يستفزنا دوماً من اجل ان نقرأ الحاضر والمستقبل .
وقصة يونس وخروجه من بطن الحوت ، والتي جرت في القرن الثامن قبل الميلاد تقريباً ، كانت مثلاً جيداً لمحمد (صلى الله عليه و سلم) في القرن السادس بعد الميلاد ، أي بعد 15 قرناً من وقوعها – وهي لا تزال تحمل الكثير ، بل ان إيحاءاتها زادت بعد أن رأينا ارتباطاتها بالوضع النفسي للرسول (صلى الله عليه و سلم) في البداية المبكرة للدعوة .
وإيحاءاتها وأمثلتها تزيد عندما نكون في وضع مشابه : في بطن الحوت . في درك الظلمة واليأس .
واليوم – يواجه المسلمون عموماً – واقعاً مظلماً ومستقبلاً اشد إظلاماً . وللحقيقة والأنصاف فليس المسلمون وحدهم من يواجهون هذا الواقع المظلم والمستقبل الأشد إظلاماً ، فمعظم شعوب الجنوب – ونسبة كبيرة منها مسلمة – تواجه هذا الواقع . انهم يعيشون في ظل نظام عالمي يستغلهم ويسحقهم ويهمشهم على كافة المستويات : الاقتصادية أساساً ، والاجتماعية والثقافية والسياسية تباعاً – وهو نظام لا يخدم حتى مواطنيه – فهو لا يخدم غير طبقة النخبة ، الملأ الاحتكاري الذي لا يتجاوز الـ5% من السكان – والذي قد يتقلص حتى الـ 1% في غضون سنوات – لكنه مع ذلك يمارس اشد انواع الظلم ضد شعوب كاملة : يستغل مواردها بأبخس الأثمان ، ويستغل بطالتها ليحول عمالتها البشرية إلى رقيق رخيص مهدد في أي وقت بالطرد والموت جوعاً – وفوق ذلك كله يمسخ هويتها الحضارية ويحولها إلى تابع استهلاكي لحضارة الغرب ، حضارة الرجل الأبيض الخالدة .
وخلال ذلك كله ، وبسبب تعقد الأوضاع الاقتصادية العالمية ، فأن الحصار يبدو مطبقاً من جميع الجهات . فوصايا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على سبيل المثال – وهما الملجأ الوحيد للدولة الهاربة من الفقر وهاوية الأفلاس – لا تؤدي إلا إلى تكريس هيمنة النظام العالمي الجديد وتسهيل حركته وانتقال الأموال عبر هذه الدولة أو تلك – والقروض التي تمنح عادة ، تكون فخاً منصوباً بإحكام للسقوط في دورة العولمة المهيمنة – فلكي تسدد الدولة المدينة القروض وفوائدها المتراكمة لابد لها ان تتبع مجموعة من الإرشادات تجعلها دائرة تماماً في فلك العولمة : تخفيض الضرائب على القطط الكبار وزيادتها على المواطن العادي . زيادة الفوائد في البنوك . إلغاء القطاع العام بما في ذلك خدمات البنية التحتية من ماء وكهرباء وحتى تعليم وصحة . ولا تؤدي هذه الإرشادات الى تحسين الوضع الاقتصادي أبداً – لكن طبقة معينة، طبقة ال ]5%مثلاً[ ستنشأ وترتبط مصالحها بالطبقات المتعولمة في كل مكان – الملأ الاحتكاري الذي صار يمثل طبقة عابرة الحدود والقارات ، انتماؤها الحقيقي يتجاوز حدود الأوطان والقوميات والأديان التقليدية إلى عقيدة دين جديد أسماؤه متعددة : وحدانية السوق . الدولار . العولمة … الخ . أما المواطن العادي فسينسحق اكثر واكثر ويتهمش اكثر فأكثر .. ويضيق أفق أحلامه اكثر فأكثر : فلا يصير اكثر من لقمة الغد وكسوة الشتاء القادم ..
وبسبب الحذق الإعلامي المحترف الذي تمارسه مؤسسات العولمة الإعلامية المتسلطة على وسائل الإعلام بكافة أشكالها ، فان شعوب الجنوب – اللاهثة وراء اللقمة وسداد الدين ووسائل العيش البيولوجي البحت ، تكون في الوقت نفسه مهشمة الهوية مزدوجة الانتماء –فالمؤسسة الإعلامية العالمية من تلفزيون وسينما وإذاعة تسوق " نمط الحياة " الغربية – بالضبط كما تسوق لكل منتجاتها الاستهلاكية الأخرى : السيارة ، والهاتف النقال ، ومسّرح الشعر - وتسويق نمط الحياة عبر الصورة الإعلامية الجذابة هو اخطر ما في عملية التسويق : معها يصير الهامبرغر اكثر من مجرد أكلة سريعة . والجينز اكثر من مجرد ثوب عملي ، والبيبسى كولا اكثر من شراب منعش ، كل هذه تصير رموزاً لحياة أخرى واختيار اخر ، تركض شعوب الجنوب خلفها بحثاً عن رفاهية ذلك العالم "الآخر" – ارض الأحلام كما يسميها مسوقو الحلم الأمريكي .. وخلال ذلك الركض – الذي غالباً ما يصيب المنتجات الاستهلاكية وحدها ، تستمر عجلة الاستهلاك – محور الحضارة الغربية المعاصرة – في الدوران ، ويستمر المدينون في الاقتراض لشراء ما يتغير باستمرار ، تستمر الفوائد في التصاعد ، وجيوب الملأ العالمي في الانتفاخ .. وخلال ذلك ، يصير الهامبرغر والبيبسى والجينز اكثر من مجرد حاجات استهلاكية ، بل ان مظاهر نمط الحياة الأخرى ، يحمل ولا بد ، قيم تلك الحياة – وللأسف فان القيم التي تأتي دوماً تكون أسوء ما في الحياة الغربية : القيم الفردية والتحلل والإباحية والتفكك الأسرى والعنف والجريمة والمخدرات ..
ويحدث ذلك كله وسط (زفة) إعلامية هائلة تروج لما يدور كما لو كان منتهى الأمل والمنى ، وهي (زفة) تتابع أحياناً بدقة حتى ابشع العمليات العسكرية التي تثبت فيها الحضارة الغربية (العبرة) و(الدرس) لكل من تسول له نفسه ان يقول لا لهيمنتها على شؤون العالم اجمع …
وسط ذلك كله . يسأل الفرد المسلم نفسه : ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل ؟ . وهو سؤال منطقي وبديهي . انه يجد نفسه محاصراً تماماً . قيمه وكتابه وبقايا هاجسه الديني يقول شيئاً ، لكن حياته – كلها – تقول أشياء أخرى مضادة .. فماذا بوسعه حقاً ان يفعل ؟ .
بمواجهة هذا التنين هائل الحجم ، متعدد الرؤوس ، عابر القارات ، ماذا بوسعه ان يفعل ؟.
هذا التنين الذي احتل بيته واستغل ثرواته – بطريقة او بأخرى ، ويكاد حتى ان يحتل رأسه او رؤوس باقي أفراد عائلته .. ماذا بوسعه ان يفعل في مواجهته .
انه اليأس . فقدان المناعة أمام كل شيء . اليأس القاتل- الانتحار ، في هذه الحالة – ببساطة : لاشيء يفعله يمكن ان يغير شيئاً من نتيجة المواجهة .
انه اليأس .
الانخراط في الزفة والركض خلف سلع الاستهلاك ودورة الإنتاج وحضارة العولمة ، يأس ورفض الانخراط عبر التقوقع على الذات والاقتصار على الشعائر والعبادات وبعض الأناشيد والتسابيح هنا وهناك ، يأس أيضاً .
انه اليأس : مرض قاتل ، بل وباء مستشري فتاك ، ينتشر كما الإيدز ، يسلب مناعة الأفراد كما المجتمعات – فيجعلها عرضة للموت والاندحار في اقل ضربة .. او هزة ، انه اليأس . السلبية العميقة التي تصيب حتى أصحاب الشهادات والأفكار فيفرون بشهاداتهم إلى الخارج – او بأفكارهم الى الداخل - ، تاركين في كل الأحوال مجتمعاً وواقعاً جديدين بالتغيير ..
انه اليأس . الذي يهاجر مجتمعه وقيمة إلى ارض الأحلام – (التي قد تتحول إلى كوابيس ). والاوهام والفرص، يائس، يائس من قدرته على تحويل مجتمعه وارضه إلى مجتمع ملائم وارض احلام اخرى..
والذي يبقى اما ان يتقوقع على ذاته وكتبه وشعاراته وعباداته وبقايا قيمه – ليكون وامثاله جالية منفصلة عن الواقع مغتربة عن المجتمع ركيزتها الاساسية ياسها المستفحل من القدرة على التغيير والاستسلام المهين لقدر النوم والتثاؤب.. او .. ان ينخرط الفرد مع بقية افراد المجتمع في درب التغريب – وبالذات في التطبع في اسؤ ما في الغرب من قيم – ولا يمنع ذلك من بعض الشعائر والطقوس – مفرغة تماما من القيم والوظائف الاجتماعية – ولا تفعل غير تلطيف الجو الاستهلاكي الذي يمجد السيارة الحديثة الفارهة ومقتنيات تكنلوجيا التسلية بكل انواعها – وتظل العين دوما هناك على تاشيرة الدخول الـ( Visa) والبطاقة الخضراء الـ( Green Card).. وماذا سوى الياس امام جداره القائم في النفوس والعقول والواقع المظلم وخندق السلبية والاستسلام المحفور بضراوة في دهاليز نفسيته.؟. ماذا بامكانه ان يفعل امام التنين الهائل الذي دخل بيته واحتل سريره وراسه وصار جزء منه.؟.
ماذا بامكانه ان يفعل وهو يائس حتى من امكانية المواجهة؟.
ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟.
* * *
هناك كتاب، في الكتاب آية، في الاية مثل، وامر، وحكاية.
ويمكن ان تظل الحكاية مجرد حكاية اخرى – مثل حكايا التوراة مسلية وتاريخية فقط – او تصير للحكاية بعدا اخر: ملحمة، رؤية، رؤيا.
وبين الحكاية المسلية – والملحمة الفاعلة فارق كبير لكنه يتعلق بنا – لا بالكتاب – يتعلق بفهمنا له، برؤيتنا لدوره، لكن لنعد للموضوع: ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟..
مرة اخرى هناك كتاب في الكتاب اية في الاية مثل وامر وحكاية.
وعندما سال محمد (صلى الله عليه وسلم) ذلك السؤال لنفسه: ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟ – نزلت تلك الاية بالذات ( فأصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت).
ولم تكن مجرد حكاية بل صارت ملحمة.
وكان الخروج من بطن الحوت بالرؤية المختلفة والمشروع المغاير والنفسية المستعدة للمواجهة وبثمرة الامل في العراء – هو الدرس والعبرة التي استوعبها عليه افضل الصلاة والسلام مبكرا في مرحلة شبيهة بمرحلة بطن الحوت: الياس، الوحدة والظلمة..
وكان الخروج من بطن الحوت يعني شطب كلمة الياس من معجمه واقتلاع جذور السلبية من نفسيته وكان العبور بالنسبة له هو ايمانه بقدرته على التغيير ،على التحدي، على ان تنبت الثمرة فيه.. في داخله.
لكن اليوم ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل حقا؟.
واليوم نستطيع ان تكون حكاية صاحب الحوت مجرد حكاية اخرى تروى للاطفال عن معجزة الرجل الصالح الذي ابتلعه الحوت ولم يمت. او ان تكون ملحمة تحمل في ثناياها مفتاحا لنا للخروج من بطن الحوت. او شمعة تضئ الظلمة ولو ببصيص صغير..
نستطيع ان نختار: في بطن الحوت الذي انزلقنا اليه: حوت العولمة والهيمنة الامريكية والشركات عابرة القارات وصندوق النقد الدولي ووحدانية السوق ومؤسسات الاعلام الحاذق الذي ينتقل عبر الاقمار الصناعية دونما تأشيرة او رقابة – في بطن هذا الحوت الذي التقمنا – علينا ان نختار البقاء فيه – إلى يوم يرجعون – او الخروج منه..
البقاء في بطن الحوت؟. انه يعني قطعا الموت. بل لعل الانقراض هو التعبير الادق والمطبلون في زفة العولمة الحالمون بدولة الرفاهية بجنة الاستهلاك وبارض الاحلام – لا يدركون ان المضي بالزفة إلى نهايتها لن يجعلهم مواطنين في دولة الحلم الامريكي كما يريدون – بل سيجعلهم في احسن الاحوال رقم اخر في سلسلة البطالة بنسبتها المتزايدة – بسبب التغييرات الهيكلية في الاقتصاد العالمي المصاحب للعولمة – وهي النسبة التي ستبلغ 80% - حتى في الدول الغربية – وسيعيش هؤلاء الـ80% في احسن الاحوال على فتات الصدقة التي تتبرع بها طبقة الملأ الاحتكاري..
لكن ليس كل الباقين في بطن الحوت مطبلين في زفة العولمة بل هناك من يرفضها لكن يرفض مواجهتها. ياسا طبعا ويفضل الانكفاء على ذاته الممزقة وهويته الضائعة وبضعة كتب ومجلدات وطقوس وشعائر مفرغة من وظيفتها الاجتماعية.. وانتظار ليوم اخر ينتصفون فيه ممن ظلمهم. وهؤلاء ايضا باقون في بطن الحوت إلى يوم يبعثون.
اما الخروج من بطن الحوت فيبدأ من ذلك الخط الفاصل بين الخيط الابيض من الاسود من الفجر.
يبدء من الايمان في الداخل بالقدرة على التغيير – القدرة على العمل – على المواجهة. يبدء من اقتلاع جذور السلبية والكسل والتواكل،.. غرس جذور بديلة لقيم بديلة: قيم الايجابية والعمل والثقة بالنفس..
يبدء من الايمان ان بامكان رجل واحد الكثير: ان يدعو مائة ألف او يزيدون
من الايمان اذن من نقطة محورية جدا في الايمان تبدء عملية الخروج من بطن الحوت.
وهي نقطة محورية وتتعلق بخيارنا وقرارنا في جزء منها.
ان نبقى في بطن الحوت: الظلمة والهيمنة الاحتكارية والبطالة والتخلف وقيم السلبية او ان نخرج إلى فضاء الله الرحب: الايجابية والعمل والتحدي – مهما كانت الصعوبات.
باختصار: هامبرغر أم يقطين؟
ولا مفر من الاختيار.
من كتاب : البوصلة القرآنية احمد خيري العمري دار الفكر دمشق
فالخطاب القرآني يستفزنا دوماً من اجل ان نقرأ الحاضر والمستقبل .
وقصة يونس وخروجه من بطن الحوت ، والتي جرت في القرن الثامن قبل الميلاد تقريباً ، كانت مثلاً جيداً لمحمد (صلى الله عليه و سلم) في القرن السادس بعد الميلاد ، أي بعد 15 قرناً من وقوعها – وهي لا تزال تحمل الكثير ، بل ان إيحاءاتها زادت بعد أن رأينا ارتباطاتها بالوضع النفسي للرسول (صلى الله عليه و سلم) في البداية المبكرة للدعوة .
وإيحاءاتها وأمثلتها تزيد عندما نكون في وضع مشابه : في بطن الحوت . في درك الظلمة واليأس .
واليوم – يواجه المسلمون عموماً – واقعاً مظلماً ومستقبلاً اشد إظلاماً . وللحقيقة والأنصاف فليس المسلمون وحدهم من يواجهون هذا الواقع المظلم والمستقبل الأشد إظلاماً ، فمعظم شعوب الجنوب – ونسبة كبيرة منها مسلمة – تواجه هذا الواقع . انهم يعيشون في ظل نظام عالمي يستغلهم ويسحقهم ويهمشهم على كافة المستويات : الاقتصادية أساساً ، والاجتماعية والثقافية والسياسية تباعاً – وهو نظام لا يخدم حتى مواطنيه – فهو لا يخدم غير طبقة النخبة ، الملأ الاحتكاري الذي لا يتجاوز الـ5% من السكان – والذي قد يتقلص حتى الـ 1% في غضون سنوات – لكنه مع ذلك يمارس اشد انواع الظلم ضد شعوب كاملة : يستغل مواردها بأبخس الأثمان ، ويستغل بطالتها ليحول عمالتها البشرية إلى رقيق رخيص مهدد في أي وقت بالطرد والموت جوعاً – وفوق ذلك كله يمسخ هويتها الحضارية ويحولها إلى تابع استهلاكي لحضارة الغرب ، حضارة الرجل الأبيض الخالدة .
وخلال ذلك كله ، وبسبب تعقد الأوضاع الاقتصادية العالمية ، فأن الحصار يبدو مطبقاً من جميع الجهات . فوصايا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على سبيل المثال – وهما الملجأ الوحيد للدولة الهاربة من الفقر وهاوية الأفلاس – لا تؤدي إلا إلى تكريس هيمنة النظام العالمي الجديد وتسهيل حركته وانتقال الأموال عبر هذه الدولة أو تلك – والقروض التي تمنح عادة ، تكون فخاً منصوباً بإحكام للسقوط في دورة العولمة المهيمنة – فلكي تسدد الدولة المدينة القروض وفوائدها المتراكمة لابد لها ان تتبع مجموعة من الإرشادات تجعلها دائرة تماماً في فلك العولمة : تخفيض الضرائب على القطط الكبار وزيادتها على المواطن العادي . زيادة الفوائد في البنوك . إلغاء القطاع العام بما في ذلك خدمات البنية التحتية من ماء وكهرباء وحتى تعليم وصحة . ولا تؤدي هذه الإرشادات الى تحسين الوضع الاقتصادي أبداً – لكن طبقة معينة، طبقة ال ]5%مثلاً[ ستنشأ وترتبط مصالحها بالطبقات المتعولمة في كل مكان – الملأ الاحتكاري الذي صار يمثل طبقة عابرة الحدود والقارات ، انتماؤها الحقيقي يتجاوز حدود الأوطان والقوميات والأديان التقليدية إلى عقيدة دين جديد أسماؤه متعددة : وحدانية السوق . الدولار . العولمة … الخ . أما المواطن العادي فسينسحق اكثر واكثر ويتهمش اكثر فأكثر .. ويضيق أفق أحلامه اكثر فأكثر : فلا يصير اكثر من لقمة الغد وكسوة الشتاء القادم ..
وبسبب الحذق الإعلامي المحترف الذي تمارسه مؤسسات العولمة الإعلامية المتسلطة على وسائل الإعلام بكافة أشكالها ، فان شعوب الجنوب – اللاهثة وراء اللقمة وسداد الدين ووسائل العيش البيولوجي البحت ، تكون في الوقت نفسه مهشمة الهوية مزدوجة الانتماء –فالمؤسسة الإعلامية العالمية من تلفزيون وسينما وإذاعة تسوق " نمط الحياة " الغربية – بالضبط كما تسوق لكل منتجاتها الاستهلاكية الأخرى : السيارة ، والهاتف النقال ، ومسّرح الشعر - وتسويق نمط الحياة عبر الصورة الإعلامية الجذابة هو اخطر ما في عملية التسويق : معها يصير الهامبرغر اكثر من مجرد أكلة سريعة . والجينز اكثر من مجرد ثوب عملي ، والبيبسى كولا اكثر من شراب منعش ، كل هذه تصير رموزاً لحياة أخرى واختيار اخر ، تركض شعوب الجنوب خلفها بحثاً عن رفاهية ذلك العالم "الآخر" – ارض الأحلام كما يسميها مسوقو الحلم الأمريكي .. وخلال ذلك الركض – الذي غالباً ما يصيب المنتجات الاستهلاكية وحدها ، تستمر عجلة الاستهلاك – محور الحضارة الغربية المعاصرة – في الدوران ، ويستمر المدينون في الاقتراض لشراء ما يتغير باستمرار ، تستمر الفوائد في التصاعد ، وجيوب الملأ العالمي في الانتفاخ .. وخلال ذلك ، يصير الهامبرغر والبيبسى والجينز اكثر من مجرد حاجات استهلاكية ، بل ان مظاهر نمط الحياة الأخرى ، يحمل ولا بد ، قيم تلك الحياة – وللأسف فان القيم التي تأتي دوماً تكون أسوء ما في الحياة الغربية : القيم الفردية والتحلل والإباحية والتفكك الأسرى والعنف والجريمة والمخدرات ..
ويحدث ذلك كله وسط (زفة) إعلامية هائلة تروج لما يدور كما لو كان منتهى الأمل والمنى ، وهي (زفة) تتابع أحياناً بدقة حتى ابشع العمليات العسكرية التي تثبت فيها الحضارة الغربية (العبرة) و(الدرس) لكل من تسول له نفسه ان يقول لا لهيمنتها على شؤون العالم اجمع …
وسط ذلك كله . يسأل الفرد المسلم نفسه : ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل ؟ . وهو سؤال منطقي وبديهي . انه يجد نفسه محاصراً تماماً . قيمه وكتابه وبقايا هاجسه الديني يقول شيئاً ، لكن حياته – كلها – تقول أشياء أخرى مضادة .. فماذا بوسعه حقاً ان يفعل ؟ .
بمواجهة هذا التنين هائل الحجم ، متعدد الرؤوس ، عابر القارات ، ماذا بوسعه ان يفعل ؟.
هذا التنين الذي احتل بيته واستغل ثرواته – بطريقة او بأخرى ، ويكاد حتى ان يحتل رأسه او رؤوس باقي أفراد عائلته .. ماذا بوسعه ان يفعل في مواجهته .
انه اليأس . فقدان المناعة أمام كل شيء . اليأس القاتل- الانتحار ، في هذه الحالة – ببساطة : لاشيء يفعله يمكن ان يغير شيئاً من نتيجة المواجهة .
انه اليأس .
الانخراط في الزفة والركض خلف سلع الاستهلاك ودورة الإنتاج وحضارة العولمة ، يأس ورفض الانخراط عبر التقوقع على الذات والاقتصار على الشعائر والعبادات وبعض الأناشيد والتسابيح هنا وهناك ، يأس أيضاً .
انه اليأس : مرض قاتل ، بل وباء مستشري فتاك ، ينتشر كما الإيدز ، يسلب مناعة الأفراد كما المجتمعات – فيجعلها عرضة للموت والاندحار في اقل ضربة .. او هزة ، انه اليأس . السلبية العميقة التي تصيب حتى أصحاب الشهادات والأفكار فيفرون بشهاداتهم إلى الخارج – او بأفكارهم الى الداخل - ، تاركين في كل الأحوال مجتمعاً وواقعاً جديدين بالتغيير ..
انه اليأس . الذي يهاجر مجتمعه وقيمة إلى ارض الأحلام – (التي قد تتحول إلى كوابيس ). والاوهام والفرص، يائس، يائس من قدرته على تحويل مجتمعه وارضه إلى مجتمع ملائم وارض احلام اخرى..
والذي يبقى اما ان يتقوقع على ذاته وكتبه وشعاراته وعباداته وبقايا قيمه – ليكون وامثاله جالية منفصلة عن الواقع مغتربة عن المجتمع ركيزتها الاساسية ياسها المستفحل من القدرة على التغيير والاستسلام المهين لقدر النوم والتثاؤب.. او .. ان ينخرط الفرد مع بقية افراد المجتمع في درب التغريب – وبالذات في التطبع في اسؤ ما في الغرب من قيم – ولا يمنع ذلك من بعض الشعائر والطقوس – مفرغة تماما من القيم والوظائف الاجتماعية – ولا تفعل غير تلطيف الجو الاستهلاكي الذي يمجد السيارة الحديثة الفارهة ومقتنيات تكنلوجيا التسلية بكل انواعها – وتظل العين دوما هناك على تاشيرة الدخول الـ( Visa) والبطاقة الخضراء الـ( Green Card).. وماذا سوى الياس امام جداره القائم في النفوس والعقول والواقع المظلم وخندق السلبية والاستسلام المحفور بضراوة في دهاليز نفسيته.؟. ماذا بامكانه ان يفعل امام التنين الهائل الذي دخل بيته واحتل سريره وراسه وصار جزء منه.؟.
ماذا بامكانه ان يفعل وهو يائس حتى من امكانية المواجهة؟.
ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟.
* * *
هناك كتاب، في الكتاب آية، في الاية مثل، وامر، وحكاية.
ويمكن ان تظل الحكاية مجرد حكاية اخرى – مثل حكايا التوراة مسلية وتاريخية فقط – او تصير للحكاية بعدا اخر: ملحمة، رؤية، رؤيا.
وبين الحكاية المسلية – والملحمة الفاعلة فارق كبير لكنه يتعلق بنا – لا بالكتاب – يتعلق بفهمنا له، برؤيتنا لدوره، لكن لنعد للموضوع: ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟..
مرة اخرى هناك كتاب في الكتاب اية في الاية مثل وامر وحكاية.
وعندما سال محمد (صلى الله عليه وسلم) ذلك السؤال لنفسه: ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟ – نزلت تلك الاية بالذات ( فأصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت).
ولم تكن مجرد حكاية بل صارت ملحمة.
وكان الخروج من بطن الحوت بالرؤية المختلفة والمشروع المغاير والنفسية المستعدة للمواجهة وبثمرة الامل في العراء – هو الدرس والعبرة التي استوعبها عليه افضل الصلاة والسلام مبكرا في مرحلة شبيهة بمرحلة بطن الحوت: الياس، الوحدة والظلمة..
وكان الخروج من بطن الحوت يعني شطب كلمة الياس من معجمه واقتلاع جذور السلبية من نفسيته وكان العبور بالنسبة له هو ايمانه بقدرته على التغيير ،على التحدي، على ان تنبت الثمرة فيه.. في داخله.
لكن اليوم ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل حقا؟.
واليوم نستطيع ان تكون حكاية صاحب الحوت مجرد حكاية اخرى تروى للاطفال عن معجزة الرجل الصالح الذي ابتلعه الحوت ولم يمت. او ان تكون ملحمة تحمل في ثناياها مفتاحا لنا للخروج من بطن الحوت. او شمعة تضئ الظلمة ولو ببصيص صغير..
نستطيع ان نختار: في بطن الحوت الذي انزلقنا اليه: حوت العولمة والهيمنة الامريكية والشركات عابرة القارات وصندوق النقد الدولي ووحدانية السوق ومؤسسات الاعلام الحاذق الذي ينتقل عبر الاقمار الصناعية دونما تأشيرة او رقابة – في بطن هذا الحوت الذي التقمنا – علينا ان نختار البقاء فيه – إلى يوم يرجعون – او الخروج منه..
البقاء في بطن الحوت؟. انه يعني قطعا الموت. بل لعل الانقراض هو التعبير الادق والمطبلون في زفة العولمة الحالمون بدولة الرفاهية بجنة الاستهلاك وبارض الاحلام – لا يدركون ان المضي بالزفة إلى نهايتها لن يجعلهم مواطنين في دولة الحلم الامريكي كما يريدون – بل سيجعلهم في احسن الاحوال رقم اخر في سلسلة البطالة بنسبتها المتزايدة – بسبب التغييرات الهيكلية في الاقتصاد العالمي المصاحب للعولمة – وهي النسبة التي ستبلغ 80% - حتى في الدول الغربية – وسيعيش هؤلاء الـ80% في احسن الاحوال على فتات الصدقة التي تتبرع بها طبقة الملأ الاحتكاري..
لكن ليس كل الباقين في بطن الحوت مطبلين في زفة العولمة بل هناك من يرفضها لكن يرفض مواجهتها. ياسا طبعا ويفضل الانكفاء على ذاته الممزقة وهويته الضائعة وبضعة كتب ومجلدات وطقوس وشعائر مفرغة من وظيفتها الاجتماعية.. وانتظار ليوم اخر ينتصفون فيه ممن ظلمهم. وهؤلاء ايضا باقون في بطن الحوت إلى يوم يبعثون.
اما الخروج من بطن الحوت فيبدأ من ذلك الخط الفاصل بين الخيط الابيض من الاسود من الفجر.
يبدء من الايمان في الداخل بالقدرة على التغيير – القدرة على العمل – على المواجهة. يبدء من اقتلاع جذور السلبية والكسل والتواكل،.. غرس جذور بديلة لقيم بديلة: قيم الايجابية والعمل والثقة بالنفس..
يبدء من الايمان ان بامكان رجل واحد الكثير: ان يدعو مائة ألف او يزيدون
من الايمان اذن من نقطة محورية جدا في الايمان تبدء عملية الخروج من بطن الحوت.
وهي نقطة محورية وتتعلق بخيارنا وقرارنا في جزء منها.
ان نبقى في بطن الحوت: الظلمة والهيمنة الاحتكارية والبطالة والتخلف وقيم السلبية او ان نخرج إلى فضاء الله الرحب: الايجابية والعمل والتحدي – مهما كانت الصعوبات.
باختصار: هامبرغر أم يقطين؟
ولا مفر من الاختيار.
من كتاب : البوصلة القرآنية احمد خيري العمري دار الفكر دمشق