سمير ابن عبد المجيد
New member
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
أود في هذه الرسالة المتواضعة أن أتطرق إلى تأويل المثلين المضروبين للمنافقين في سورة البقرة, خاصة المثل المائي الذي وقع فيه الاختلاف و الإشكال, فأرجو منكم أهل الاختصاصتصويبي ان كنت مخطئا. بعد اطلاعي على عدة تفاسير ( ابن جرير الطبري, ابن كثير, ابن الجوزي, ابن القيم الجوزية, ابن تيمية, ابن عاشور و الرازي, ابن السعدي, ابن العثيمين) و بعد تدبري المتواضع, هداني الله تبارك و تعالى إلى ما يلي :
يقول الله تعالى " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلمّا أضاءت ماحوله ذهب الله بنورهم و تركهم في ظلمات لا يبصرون"
يشبّه الله تبارك و تعالى المنافقين في بقائهم على الضلال و عدم اهتدائهم بالرغم منمجيء الهدىبين أظهرهم بقوم بقوا في الظلمات لا يبصرون شيئا بالرغم من وجود نار مضيئة بين أظهرهم.
هؤلاء القوم لقيهم في سفرهم ليل شديد الظلام, فاستوقدوا نارًا ليهتدوا بها السبيل, فلما أضاءت ماحولهم ( أي انتشرت أشعتها وانعكست و تشتّتت في محيطهم فتشكّل النور) منع الله النور الحادث من الدخول في أعينهم وذهب به (بنورهم) و صرفه عنها فما هو بداخل فيها فأبقاهم و تركهم في الظلمات لا يبصرون بأعينهم السليمة شيئا ( لأن العين لا تبصر إلّا عندما تستقبل أشعة الضوء المنعكسة) بالرغم من بقاء النار مضيئة ما حولهم فما هم بمهتدين بل هم في الظلمات منغمسون غير خارجين منها, ألم تسمع قوله تعالى في سورة الحجر" ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ", فالكافر عند عروجه الى الفضاء يجد ظلمات شديدة لا يبصر شيئا بالرغم من وجود الشمس الموقدة فيحسب انه سكّر بصره, لأنّ ضوء الشمس (أشعتها) لا يتشتّت و لا ينعكس في الفضاء و لا يتشكّل النور كما يحدث في الغلاف الجوي لكوكب الأرض و بالتالي لا تستقبل أعينه السليمة نورا و لا تبصر شيئا ( حسب كتب الإعجاز العلمي في القرآن).
كذلك المنافقون في المدينة كانوا على ضلال و لمّا جاءهم الهدى نبذوه وراء ظهورهم و استحبوا البقاء على الضلال و الكفر كرها و حسدا من عند أنفسهم فعاقبهم الله تبارك و تعالى بأن مدّهم في طغيانهم يعمهون فطبع على قلوبهم وأعمى بصائرهم عن الهدى فما هو بداخل فيها و ما هم بمهتدين بل هم في ظلمات الكفر و الشك و الجهل و الحيرة و الضلال منغمسون غير خارجين منها بالرغم من بقاء الهدى بين أظهرهم.
النار: مصدر مضيء بذاته متكون من حرارة و ضوء. إضاءة النار ما حولهم (تشكل النور) تحدث بفضل انتشار ضوءها و انعكاسه و تشتّته في محيطهم (ما حولهم).
قال صاحب كتاب المناظر ( الحسن ابن الهيثم):
" و قد تبين...أن كل جسم مضيء بأي ضوء كان, فإن الضوء الذي فيه يصدر منه ضوء الى كل جهة تقابله, فإذا قابل البصر(العين) مبصرا من المبصرات وكان المبصر مضيئا بأي ضوء كان, فإن الضوء الذي في المبصريرد منه ضوء الى سطح البصر. وقد تبين ايضا أن من خاصية الضوء ان يؤثر في البصر, و أن من طبيعة البصرأن ينفعل بالضوء. فأخلق بأن يكون إحساس البصر بالضوء الذي في المبصر إنما هو من الضوء الذي يرد منه الى البصر"
فالرؤية تكون عندما تصل الأشعة الضوئية المرتدة أو المنبعثة من الأجسام المرئية الى العين.
قال بعض الأساتذة الجامعيين في علم الفيزياء:
" وكيفية رؤية العين للأجسام هي أنه عندما تستقبل هذه الأجسام أشعة ضوئية ساقطة عليها, ترتد هذه الأشعة فتسبب رؤية الأجسام...ونلخص بأن تعريف الضوء: هو الإشعاع الذي يؤثر في العين فيسبب الرؤية".
و عليه أقول:
قوله تعالى "فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم" معناه ان الله تعالى أذهب و منع الأشعة الضوئية المرتدة و المنبعثة ؛ من الأجسام و الأشياء المحيطة بالنار المضية؛ من الورود الى أعينهم, و "تركهم في ظلمات لا يبصرون" لإختفاء الإشعاع الذي يؤثر في العين فيسبب الرؤية.
قال تبارك و تعالى: " فلمّا أضاءت ما حوله" و لم يقل "فلمّا أضاءت له" (كما ذكر في المثل المائي) فهذا يدل على أنّهم لم ينتفعوا بإضاءتها ولم يبصروا ما حولهم , و قال تبارك و تعالى "ذهب اللهبنورهم" ولم يقل لا بنورها و لا بنارهم و لا بأبصارهم (كما قال في المثل المائي:"و لو شاء الله لذهببسمعهم و أبصارهم") و لم يقل كذلك " أطفأها الله "(كما قال تعالى في سورة المائدة " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " ) : فالله تبارك و تعالى لم يذهب بنارهم (الأصل) ولم يطفئها, فالنار بقيت بحرارتها وضوئها غير منطفئة, و لم يذهب أيضا بنورها فإضاءتها ما حولهم بقيت مستمرة و لم يذهب بأبصارهم فأعينهم بقيت سليمة لكنها لا تبصر ما حولها لأنها لم تستقبل و لم تدخلها أشعة الضوء المنعكسة و المنبعثة من محيطها فالله تعالى ذهب بها و صرفها عن أعينهم, كذلك المنافقون يدخل الهدى في صدورهم ويحيط بقلوبهم لكن لا يدخل فيها لان الله طبع على قلوبهم و ختم عليها.
ومن شدّة استحبابهم الضلال و كرههم للهدى الموجود بين أظهرهم, أصمّ المنافقون آذانهم عنسماع الهدى و امتنعوا عن السؤال عليه و النطق به و رفضوا الإبصار إليه بأعينهم, فشبههم الله تبارك و تعالى بالصم البكم العمي و بأصحاب الصيّب.
فقال فيهم " صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون أو كصيّب من السماء فيه ظلمات و رعد و برق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت و الله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطفأبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه و إذا أظلم عليهم قاموا و لو شاء الله لذهب بسمعهم و أبصارهمانّ الله على كل شيء قدير "
يشبّه الله تبارك و تعالى المنافقين في شدّة امتناعهم عن سماع الهدى و ابصاره و السؤال عنه و التكلم به و في عدم اهتدائهم في ظلمات الكفر و الكذب و الضلال, بالصمّ البكم العمي في شدّة تعطّل و امتناع حواسهم (سمع,بصر,نطق) عن الادراك وعدم اهتدائهم في ظلمات الصمم و العمي, و بأصحاب الصيّب في شدّة امتناعهم عنسماع الرعد الشديد (صوت الصواعق) وابصار البرق السريع و عدم اهثدائهم في ظلمات اليل و السحاب و المطر.
ولو تتبعنا مسألة وضع الأصابع في الاذنين للامتناع عن سماع الحق لوجدنا في سورة نوح قوله تعالى :
أو: للتخيير بين تشبيههم بالصم البكم العمي أو تشبيههم بأصحاب الصيّب.
وجه الشبه بين المنافقين و أصحاب الصيّب: تعطيل السمع و تعطيل البصر.
و لهذا قال تبارك و تعالى في آخر الآية: " و لو شاء الله لذهب بسمعهم و أبصارهم إنّ الله على كل شيء قدير " جزاءًا و عقابا لهم لتعطيلهما و امتناعهم عن الانتفاع بهما.
هنا خرج الكثير من المفسرين عن السياق الذي جاء فيه المثل, فقالوا ضرب مثلا لقلقهم, خوفهم (يناقض حالة المستهزء), حيرتهم, لحالهم مع القرآن, ضرب لصنف آخر من المنافقين.....الخ, فحسب رأيي المتواضع فقد أصابوا جزءا يسيرا من المعنى. و قد وجدت ابن جرير الطبري الأقرب من السياق.
و قالوا كذلك أنّ أو جاءت بين المثل المائي و المثل الناري: جملة كصيّب استئناف لجملة مثلهم كمثل الذي استوقد, عكس الظاهر من الآيات الذي يبيّن أنّ أو جاءت بين جملة الصم البكم العمي و جملة كصيّب من السماء, و لم أجد دليلا صريحا يستندون عليه في قولهم هذا إلّا ابن جرير الذي غيّر ترتيب الآية و قال أنّ جملة الصم البكم تأتي في المعني قبل المثل الناري.
الصمّ: جمع أصم الذي لا يسمع, البكم: جمع أبكم الذي لا يتكلم, عمي:جمع أعمى الذي لا يبصر, فمن كانت فيه هذه الثلاث صفات معا: فإنّه لا يسمع من يرشده و لا يبصر علامات الإرشاد في الطريق و لا يسأل عن الإرشاد و لا ينطق به, فكيف يهتدي؟ فالهدى مستحيل في حقّه , فهو منغمس في ظلمات الصمم و العمي متحيّر متوقّف لا يهتدي السبيل و لا يمشي في الطريق إلاّ بواسطة شخص آخر يسمع و يرى و يتكلم.
أصحاب الصيّب يمتنعون أشد إمتناع عن سماع صوت الرعد الشديد لحرصهم الشديد على الحياة (قال أصابعهم ولم يقل أناملهم) و يمتنعون عن ابصار البرق السريع في السماء لعدم قدرتهم من جهة على النظر في السماء بسبب شدة انصباب المطرعلى رؤوسهم و شدة ضياء البرق و لحرصهم الشديد من جهة أخرى على رؤية الطريق في الأرض و المشي فيه "كلما أضاء لهم مشوا فيه " (مدّة الإضاءة قصيرة جدّا فلو أبصروا البرق في السماء -خط كهربائي متكون من حرارة (شحنة) و ضوء, سريع الظهور و الاختفاء, يصعب أو يستحيل رؤيته بالعين المجردة- لأضاعوا فرصة رؤية الطريق في الأرض و تعطّلوا عن المشي) هم في الظلمات (الليل, السحاب, المطر, الظلمة الحاصلة بعد النور) منغمسون متوقفون, لا يمشون إلاّ بنور البرق (إضاءته) الذي يبيّن لهم الطريق.
تكرر إضاءة البرق (حدوث النور الناتج من تشتت و انعكاس ضوء البرق في السحاب و الأرض) بشكل سريع و متقطع يسبب فقدان البصر, لذا قال "يكاد البرق يخطف أبصارهم".
أصحاب الصيّب لا يسأل بعضهم بعضا عن الطريق بسبب الظلمات الشديدة و لا يتكلمون كذلك فيما بينهم لشدة أصوات الرعد و الصواعق من جهة و بسبب جعل أناملهم في آذانهم من جهة أخرى.
كذلك المنافقون يمتنعون عن سماع الهدى و ابصاره و السؤال عنه,هم في الظلمات(كفر, جهل, شكّ, كذب, ضلال...) منغمسون متوقفون لا يهتدون و لا يمشون في طريق الإسلام إلاّ بالمؤمنينالذين يلاقونهم و يظهرون لهم الإيمان فيبيّنون لهم الدين و يرشدونهم لأنهم يحملون الهدى (النور) في قلوبهم, و إذا فارقوهم عادوا إلى ظلمات جهلهم و ضلالهم و حيرتهم لا يعرفون شيئا, قال عزّوجلّ " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤون" و يقول عزّوجلّ " أو من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون" (الأنعام 122), قال مقاتل" كلما أضاء لهم مشوا فيه و اذا أظلم عليهم قاموا :إضاءته تكلمهم بالإسلام, مشيه فيه إهتدائهم به ",فالمنافقون يتكلمون بالإسلام عند ملاقاة المؤمنين و إهتداؤهم بالإسلام يكون بالإقتداء بالمؤمنين و تقليدهم.
يقول ابن كثير في قوله تعالى : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونانقتبس من نوركم )
فالمثل الناري يصوّر تعطّل القلب عن تقبّل الهدى, و المثل المائي يصوّر تعطّيل السمع والبصر, و قبل ذكر المنافقين, تكلّم الله عن الكفّار فقال فيهم عزّوجلّ " ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم" فذكر أيضا السمع و البصر.
والله أعلم.
أود في هذه الرسالة المتواضعة أن أتطرق إلى تأويل المثلين المضروبين للمنافقين في سورة البقرة, خاصة المثل المائي الذي وقع فيه الاختلاف و الإشكال, فأرجو منكم أهل الاختصاصتصويبي ان كنت مخطئا. بعد اطلاعي على عدة تفاسير ( ابن جرير الطبري, ابن كثير, ابن الجوزي, ابن القيم الجوزية, ابن تيمية, ابن عاشور و الرازي, ابن السعدي, ابن العثيمين) و بعد تدبري المتواضع, هداني الله تبارك و تعالى إلى ما يلي :
يقول الله تعالى " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلمّا أضاءت ماحوله ذهب الله بنورهم و تركهم في ظلمات لا يبصرون"
يشبّه الله تبارك و تعالى المنافقين في بقائهم على الضلال و عدم اهتدائهم بالرغم منمجيء الهدىبين أظهرهم بقوم بقوا في الظلمات لا يبصرون شيئا بالرغم من وجود نار مضيئة بين أظهرهم.
هؤلاء القوم لقيهم في سفرهم ليل شديد الظلام, فاستوقدوا نارًا ليهتدوا بها السبيل, فلما أضاءت ماحولهم ( أي انتشرت أشعتها وانعكست و تشتّتت في محيطهم فتشكّل النور) منع الله النور الحادث من الدخول في أعينهم وذهب به (بنورهم) و صرفه عنها فما هو بداخل فيها فأبقاهم و تركهم في الظلمات لا يبصرون بأعينهم السليمة شيئا ( لأن العين لا تبصر إلّا عندما تستقبل أشعة الضوء المنعكسة) بالرغم من بقاء النار مضيئة ما حولهم فما هم بمهتدين بل هم في الظلمات منغمسون غير خارجين منها, ألم تسمع قوله تعالى في سورة الحجر" ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ", فالكافر عند عروجه الى الفضاء يجد ظلمات شديدة لا يبصر شيئا بالرغم من وجود الشمس الموقدة فيحسب انه سكّر بصره, لأنّ ضوء الشمس (أشعتها) لا يتشتّت و لا ينعكس في الفضاء و لا يتشكّل النور كما يحدث في الغلاف الجوي لكوكب الأرض و بالتالي لا تستقبل أعينه السليمة نورا و لا تبصر شيئا ( حسب كتب الإعجاز العلمي في القرآن).
كذلك المنافقون في المدينة كانوا على ضلال و لمّا جاءهم الهدى نبذوه وراء ظهورهم و استحبوا البقاء على الضلال و الكفر كرها و حسدا من عند أنفسهم فعاقبهم الله تبارك و تعالى بأن مدّهم في طغيانهم يعمهون فطبع على قلوبهم وأعمى بصائرهم عن الهدى فما هو بداخل فيها و ما هم بمهتدين بل هم في ظلمات الكفر و الشك و الجهل و الحيرة و الضلال منغمسون غير خارجين منها بالرغم من بقاء الهدى بين أظهرهم.
النار: مصدر مضيء بذاته متكون من حرارة و ضوء. إضاءة النار ما حولهم (تشكل النور) تحدث بفضل انتشار ضوءها و انعكاسه و تشتّته في محيطهم (ما حولهم).
قال صاحب كتاب المناظر ( الحسن ابن الهيثم):
" و قد تبين...أن كل جسم مضيء بأي ضوء كان, فإن الضوء الذي فيه يصدر منه ضوء الى كل جهة تقابله, فإذا قابل البصر(العين) مبصرا من المبصرات وكان المبصر مضيئا بأي ضوء كان, فإن الضوء الذي في المبصريرد منه ضوء الى سطح البصر. وقد تبين ايضا أن من خاصية الضوء ان يؤثر في البصر, و أن من طبيعة البصرأن ينفعل بالضوء. فأخلق بأن يكون إحساس البصر بالضوء الذي في المبصر إنما هو من الضوء الذي يرد منه الى البصر"
فالرؤية تكون عندما تصل الأشعة الضوئية المرتدة أو المنبعثة من الأجسام المرئية الى العين.
قال بعض الأساتذة الجامعيين في علم الفيزياء:
" وكيفية رؤية العين للأجسام هي أنه عندما تستقبل هذه الأجسام أشعة ضوئية ساقطة عليها, ترتد هذه الأشعة فتسبب رؤية الأجسام...ونلخص بأن تعريف الضوء: هو الإشعاع الذي يؤثر في العين فيسبب الرؤية".
و عليه أقول:
قوله تعالى "فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم" معناه ان الله تعالى أذهب و منع الأشعة الضوئية المرتدة و المنبعثة ؛ من الأجسام و الأشياء المحيطة بالنار المضية؛ من الورود الى أعينهم, و "تركهم في ظلمات لا يبصرون" لإختفاء الإشعاع الذي يؤثر في العين فيسبب الرؤية.
قال تبارك و تعالى: " فلمّا أضاءت ما حوله" و لم يقل "فلمّا أضاءت له" (كما ذكر في المثل المائي) فهذا يدل على أنّهم لم ينتفعوا بإضاءتها ولم يبصروا ما حولهم , و قال تبارك و تعالى "ذهب اللهبنورهم" ولم يقل لا بنورها و لا بنارهم و لا بأبصارهم (كما قال في المثل المائي:"و لو شاء الله لذهببسمعهم و أبصارهم") و لم يقل كذلك " أطفأها الله "(كما قال تعالى في سورة المائدة " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " ) : فالله تبارك و تعالى لم يذهب بنارهم (الأصل) ولم يطفئها, فالنار بقيت بحرارتها وضوئها غير منطفئة, و لم يذهب أيضا بنورها فإضاءتها ما حولهم بقيت مستمرة و لم يذهب بأبصارهم فأعينهم بقيت سليمة لكنها لا تبصر ما حولها لأنها لم تستقبل و لم تدخلها أشعة الضوء المنعكسة و المنبعثة من محيطها فالله تعالى ذهب بها و صرفها عن أعينهم, كذلك المنافقون يدخل الهدى في صدورهم ويحيط بقلوبهم لكن لا يدخل فيها لان الله طبع على قلوبهم و ختم عليها.
ومن شدّة استحبابهم الضلال و كرههم للهدى الموجود بين أظهرهم, أصمّ المنافقون آذانهم عنسماع الهدى و امتنعوا عن السؤال عليه و النطق به و رفضوا الإبصار إليه بأعينهم, فشبههم الله تبارك و تعالى بالصم البكم العمي و بأصحاب الصيّب.
فقال فيهم " صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون أو كصيّب من السماء فيه ظلمات و رعد و برق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت و الله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطفأبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه و إذا أظلم عليهم قاموا و لو شاء الله لذهب بسمعهم و أبصارهمانّ الله على كل شيء قدير "
يشبّه الله تبارك و تعالى المنافقين في شدّة امتناعهم عن سماع الهدى و ابصاره و السؤال عنه و التكلم به و في عدم اهتدائهم في ظلمات الكفر و الكذب و الضلال, بالصمّ البكم العمي في شدّة تعطّل و امتناع حواسهم (سمع,بصر,نطق) عن الادراك وعدم اهتدائهم في ظلمات الصمم و العمي, و بأصحاب الصيّب في شدّة امتناعهم عنسماع الرعد الشديد (صوت الصواعق) وابصار البرق السريع و عدم اهثدائهم في ظلمات اليل و السحاب و المطر.
ولو تتبعنا مسألة وضع الأصابع في الاذنين للامتناع عن سماع الحق لوجدنا في سورة نوح قوله تعالى :
{ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا } [نوح:7]
فأهل الإيمان يقبلون على سماع الحق واتباعه والاستهداء بنوره ، بينما أهل الضلال يسمعونه في آذانهم كالرعد المزعج فيسدون آذانهم لئلاً يسمعون منه شيئاً ، ويستغشون ثيابهم لئلا يرون منه وميضاً فكانهم صم بكم عمي فهم لا يرجعون ، فمن لا يسمع فهو لن يتحدث بالضرورة لذلك أتبع الله الصمم بالبَكَم لأنه نتيجة فعلية للصمم فكيف لمن لم يسمع أن يحاجك أو يناقش دعواك وهو تجنب سماعها أصلاً ؟أو: للتخيير بين تشبيههم بالصم البكم العمي أو تشبيههم بأصحاب الصيّب.
وجه الشبه بين المنافقين و أصحاب الصيّب: تعطيل السمع و تعطيل البصر.
و لهذا قال تبارك و تعالى في آخر الآية: " و لو شاء الله لذهب بسمعهم و أبصارهم إنّ الله على كل شيء قدير " جزاءًا و عقابا لهم لتعطيلهما و امتناعهم عن الانتفاع بهما.
هنا خرج الكثير من المفسرين عن السياق الذي جاء فيه المثل, فقالوا ضرب مثلا لقلقهم, خوفهم (يناقض حالة المستهزء), حيرتهم, لحالهم مع القرآن, ضرب لصنف آخر من المنافقين.....الخ, فحسب رأيي المتواضع فقد أصابوا جزءا يسيرا من المعنى. و قد وجدت ابن جرير الطبري الأقرب من السياق.
و قالوا كذلك أنّ أو جاءت بين المثل المائي و المثل الناري: جملة كصيّب استئناف لجملة مثلهم كمثل الذي استوقد, عكس الظاهر من الآيات الذي يبيّن أنّ أو جاءت بين جملة الصم البكم العمي و جملة كصيّب من السماء, و لم أجد دليلا صريحا يستندون عليه في قولهم هذا إلّا ابن جرير الذي غيّر ترتيب الآية و قال أنّ جملة الصم البكم تأتي في المعني قبل المثل الناري.
الصمّ: جمع أصم الذي لا يسمع, البكم: جمع أبكم الذي لا يتكلم, عمي:جمع أعمى الذي لا يبصر, فمن كانت فيه هذه الثلاث صفات معا: فإنّه لا يسمع من يرشده و لا يبصر علامات الإرشاد في الطريق و لا يسأل عن الإرشاد و لا ينطق به, فكيف يهتدي؟ فالهدى مستحيل في حقّه , فهو منغمس في ظلمات الصمم و العمي متحيّر متوقّف لا يهتدي السبيل و لا يمشي في الطريق إلاّ بواسطة شخص آخر يسمع و يرى و يتكلم.
أصحاب الصيّب يمتنعون أشد إمتناع عن سماع صوت الرعد الشديد لحرصهم الشديد على الحياة (قال أصابعهم ولم يقل أناملهم) و يمتنعون عن ابصار البرق السريع في السماء لعدم قدرتهم من جهة على النظر في السماء بسبب شدة انصباب المطرعلى رؤوسهم و شدة ضياء البرق و لحرصهم الشديد من جهة أخرى على رؤية الطريق في الأرض و المشي فيه "كلما أضاء لهم مشوا فيه " (مدّة الإضاءة قصيرة جدّا فلو أبصروا البرق في السماء -خط كهربائي متكون من حرارة (شحنة) و ضوء, سريع الظهور و الاختفاء, يصعب أو يستحيل رؤيته بالعين المجردة- لأضاعوا فرصة رؤية الطريق في الأرض و تعطّلوا عن المشي) هم في الظلمات (الليل, السحاب, المطر, الظلمة الحاصلة بعد النور) منغمسون متوقفون, لا يمشون إلاّ بنور البرق (إضاءته) الذي يبيّن لهم الطريق.
تكرر إضاءة البرق (حدوث النور الناتج من تشتت و انعكاس ضوء البرق في السحاب و الأرض) بشكل سريع و متقطع يسبب فقدان البصر, لذا قال "يكاد البرق يخطف أبصارهم".
أصحاب الصيّب لا يسأل بعضهم بعضا عن الطريق بسبب الظلمات الشديدة و لا يتكلمون كذلك فيما بينهم لشدة أصوات الرعد و الصواعق من جهة و بسبب جعل أناملهم في آذانهم من جهة أخرى.
كذلك المنافقون يمتنعون عن سماع الهدى و ابصاره و السؤال عنه,هم في الظلمات(كفر, جهل, شكّ, كذب, ضلال...) منغمسون متوقفون لا يهتدون و لا يمشون في طريق الإسلام إلاّ بالمؤمنينالذين يلاقونهم و يظهرون لهم الإيمان فيبيّنون لهم الدين و يرشدونهم لأنهم يحملون الهدى (النور) في قلوبهم, و إذا فارقوهم عادوا إلى ظلمات جهلهم و ضلالهم و حيرتهم لا يعرفون شيئا, قال عزّوجلّ " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤون" و يقول عزّوجلّ " أو من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون" (الأنعام 122), قال مقاتل" كلما أضاء لهم مشوا فيه و اذا أظلم عليهم قاموا :إضاءته تكلمهم بالإسلام, مشيه فيه إهتدائهم به ",فالمنافقون يتكلمون بالإسلام عند ملاقاة المؤمنين و إهتداؤهم بالإسلام يكون بالإقتداء بالمؤمنين و تقليدهم.
يقول ابن كثير في قوله تعالى : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونانقتبس من نوركم )
" هذا إخبار منه تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات من الأهوال. قال العوفي ، والضحاك ، وغيرهما ، عن ابن عباس : بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نورا فلما رأي المؤمنون النور توجهوا نحوه ، وكان النور دليلا من الله إلى الجنة ، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم ، فأظلم الله على المنافقين ، فقالوا حينئذ : ( انظرونا نقتبس من نوركم ) فإنا كنا معكم في الدنيا . قال المؤمنون :( ارجعوا ) من حيث جئتم من الظلمة ، فالتمسوا هنالك النور ." انتهى .فالمنافقون يوم القيامة يريدون ان يستنيروا بنور المؤمنين فيتبعونهم كما كانوا يفعلون في الدنيا يتكلمون بكلام أهل الإيمان و يهتدون بهم.
فالمثل الناري يصوّر تعطّل القلب عن تقبّل الهدى, و المثل المائي يصوّر تعطّيل السمع والبصر, و قبل ذكر المنافقين, تكلّم الله عن الكفّار فقال فيهم عزّوجلّ " ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم" فذكر أيضا السمع و البصر.
والله أعلم.