محمد محمود إبراهيم عطية
Member
استفادة العبر من حديث ابن عمر
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ : أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ e بِمَنْكِبِي فَقَالَ : " كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ " ؛ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ : إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ .
التخريج : ورواه أحمد : 2/24،41،والترمذي(2333)، والبخاري ( 6416 ) واللفظ له ، ابن ماجة ( 4114 ) . وزاد أحمد : " وَاعْدُدْ نَفْسَكَ فِي الْمَوْتَى " ؛ ولفظ الترمذي : عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ e بِبَعْضِ جَسَدِي ، فَقَالَ : " كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ ، وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ " ؛ فَقَالَ لِي ابْن ُعُمَرَ : إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْمَسَاءِ ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاحِ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ غَدًا .
هذا الحديث أصل في قصر الأمل والتزهيد في الدنيا ، وهو من جوامع كلمه e الذي فيه حياة القلوب ؛ قَالَ النَّوَوِيُّ - رحمه الله : مَعْنَى الْحَدِيث لَا تَرْكَنْ إِلَى الدُّنْيَا وَلَا تَتَّخِذهَا وَطَنًا ، وَلَا تُحَدِّث نَفْسك بِالْبَقَاءِ فِيهَا ، وَلَا تَتَعَلَّق مِنْهَا إلا بِمَا يَتَعَلَّق بِهِ الْغَرِيب فِي غَيْر وَطَنه ( [1] ) .
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ، ولا وطنًا ، فينبغي للمؤمن أنْ يكون حالُه فيها على أحد حالين : إما أنْ يكونَ كأنَّه غريب مقيمٌ في بلد غُربةٍ ، هَمُّه التزوُّد للرجوع إلى وطنه ؛ أو يكون كأنَّه مسافرٌ غير مقيم البتَّة ، بل هو ليله ونهارَه ، يسيرُ إلى بلدِ الإقامة ، فلهذا وصَّى النَّبيُّ e ابنَ عمر أنْ يكونَ في الدُّنيا على أحد هذين الحالين .
فأحدهما : أنْ ينْزِل المؤمن نفسه كأنَّه غريب ٌفي الدنيا يتخيَّلُ الإقامةَ ،لكن في بلد غُربةٍ ، فهوَ غيرُ متعلِّقِ القلب ببلد الغربة ، بل قلبُه متعلِّقٌ بوطنه الذي يَرجِعُ إليه ، وإنّما هو مقيمٌ في الدنيا ليقضي مَرَمَّةَ جهازه إلى الرجوع إلى وطنه ، قال الفضيلُ بن عياض : المؤمن في الدنيا مهمومٌ حزين ، همُّه مَرَمَّةُ جهازه ( [2] ) ؛ ومن كان في الدنيا كذلك ، فلا همَّ له إلا في التزوُّد بما ينفعُه عندَ عودِه إلى وطنه ، فلا يُنافِسُ أهلَ البلدِ الذي هو غريبٌ بينهم في عزِّهم ، ولا يَجْزَعُ من الذلِّ عندهم ؛ قال الحسن : المؤمن في الدُّنيا كالغريب لا يُنافِسُ في عِزِّها ، ولا يجزع من ذُلها ، للناس حال وله حال ( [3] ) .
الحال الثاني : أن يُنْزِلَ المؤمنُ نفسَه في الدنيا كأنَّه مسافرٌ غيرُ مقيم البتة ، وإنَّما هو سائرٌ في قطعِ منازل السَّفر حتّى ينتهي به السفرُ إلى آخره ، وهو الموت ؛ ومن كانت هذه حالَه في الدنيا ، فهمَّتُه تحصيلُ الزاد للسفر ، وليس له هِمَّةٌ في الاستكثار من متاع الدنيا ، ولهذا أوصى النَّبيُّ e جماعة ً من أصحابه أن يكون َبلاغُهم من الدُّنيا كزادِ الرَّاكب ؛ وقيل لمحمد بن واسع : كيف أصبحتَ ؟ قال : ما ظَنُّك برجل يرتَحِلُ كلَّ يومٍ مرحلةً إلى الآخرة ( [4] ) ؟ وقال الحسن : إنَّما أنت أيامٌ مجموعة ، كلّما مضى يومٌ مضى بعضُك ( [5] ) .
وأما وصيةُ ابن عمر رضي الله عنهما ، فهي مأخوذةٌ مِنْ هذا الحديث الذي رواه ، وهي متضمنة لنهاية قِصَرِ الأمل ، وأنَّ الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصَّباحَ ، وإذا أصبح لم ينتظر المساء ، بل يظنُّ أنَّ أجلَهُ يُدركُه قبل ذلك ، وبهذا فسَّر غيرُ واحدٍ مِنَ العُلماء الزُّهدَ في الدنيا ؛ وَقَوْله : ( خُذْ مِنْ صِحَّتك إِلَخْ ) أَيْ : اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أنْ يحولَ بينك وبينها السقمُ ، وفي الحياة قبل أن ْيحول بينك وبينها الموتُ ؛ وفي رواية :( فإنَّك يا عبدَ الله لا تدري ما اسمُك غدًا ) يعني :لعلَّك غدًا مِنَ الأموات دونَ الأحياء ([6]).
ما يستفاد من الحديث
1 - الحديث أصل في تقصير الأمل ، والاستعداد للموت .
2 - قال ابن حجر - رحمه الله : فِي الْحَدِيث مَسُّ الْمُعَلِّمِ أَعْضَاءَ الْمُتَعَلِّم عِنْد التَّعْلِيم وَالْمَوْعُوظ عِنْد الْمَوْعِظَة ، وَذَلِكَ لِلتَّأْنِيسِ وَالتَّنْبِيه ،وَلَا يُفْعَل ذَلِكَ غَالِبًا إِلَّا بِمَنْ يَمِيل إِلَيْهِ.
3 - حِرْص النَّبِيِّ e عَلَى إِيصَال الْخَيْر لِأُمَّتِهِ .
4 - الابتداء بالنصيحة والإرشاد لمن لم يطلب ذلك .
5 - الحديث يضبط تعامل المؤمن مع الدنيا ، فينظر لها على أنها دار ممر لا دار مقر ؛ ففيه الْحَضُّ عَلَى تَرْك الدُّنْيَا وَالِاقْتِصَار عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ .
6 - الحثُّ على استشعار الغربة في هذه الحياة ؛ ليستعدَّ فيها بالأعمال الصالحة .
7 - المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها ، ويحول مرض أو موت .
8 - فضيلة عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - حيث تأثر بهذه الموعظة من رسول الله e ، وحث غيره عليها .
9 - مبادرة الصحابة إلى تنفيذ وصايا رسول الله e .
10 - إن الإنسان إذا لم يستغل حياته وصحته فإنه يندم ولات حين مندم ، ويتمنى الرجوع فلا يستطيع .
هذا ؛ والعلم عند اَللَّه تعالى .
[1] - انظر شرحه على الأربعين ، حديث رقم ( 40 ) .
[2] - رواه ابن عساكر في ( تاريخ دمشق ) : 51 / 306 .
[3] - رواه ابن أبي شيبة ( 35210 ) .
[4] - أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) : 2 / 348 .
[5] - أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) : 2 / 148 .
[6] - انظر جامع العلوم والحكم ، الحديث الأربعون ؛ باختصار وتصرف .