استشكالات في بعض التفاسير – 1

أحمد كوري

New member
إنضم
13/06/2008
المشاركات
153
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
موريتانيا
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين


تفسير قوله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد: 11):

من اللافت للانتباه أنه قد شاع على ألسنة الدعاة والخطباء، وذاع على أقلام الكتاب والصحفيين والأدباء، تفسير هذه الآية بأن معناها: إن الله لا يغير الواقع السيء الذي يعيشه الناس حتى يعمل الناس لتغيير واقعهم، وكلهم يوردون هذه الآية في سياق شحذ الهمة واستنهاض الأمة إلى التقدم والرقي والإصلاح، ويحضون الأمة على أن تغير ما بها من واقع سيء لكي يغيره الله تعالى، مستشهدين بهذه الآية.
ثم تسرب هذا التفسير إلى بعض التفاسير المعاصرة؛ يقول سيد قطب مثلا في تفسير هذه الآية: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم: فهو يتعقبهم بالحفظة من أمره لمراقبة ما يحدثونه من تغيير بأنفسهم وأحوالهم فيرتب عليه الله تصرفه بهم؛ فإنه لا يغير نعمة أو بؤسا، ولا يغير عزا أو ذلة، ولا يغير مكانة أو مهانة، إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم. وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون، ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم، ويجيء لاحقا له في الزمان بالقياس إليهم، وإنها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة؛ فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر، وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم".
وجه الاستشكال:
أن التفاسير المشهورة قد أجمعت على أن تفسير هذه الآية هو: إن الله لا يغير ما بقوم من النعمة والحالة الحسنة حتى يغيروا ما بأنفسهم من الإيمان والطاعة. قال الرازي في تفسير هذه الآية: "أما قوله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" فكلام جميع المفسرين يدل على أن المراد لا يغير ما هم فيه من النعم بإنزال الانتقام إلا بأن يكون منهم المعاصي والفساد".
ومن ما يقوي هذا التفسير أنه هو الموافق لقوله تعالى: "ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الأنفال: 53)؛ لأن التفسير ينبغي أن يطلب من القرآن أولا، فما أجمل في موضع ربما يكون قد فصل في موضع آخر، قال السيوطي في الإتقان (في النوع الثامن والسبعين في معرفة شروط المفسر وآدابه): "قال العلماء: من أراد تفسير الكتاب العزيز طلبه أولا من القرآن؛ فما أجمل منه في مكان فقد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر منه".
ومن ما يقوي هذا التفسير أيضا أنه هو الموافق لسياق الآيات كما يقول سيد قطب: "وبعد تقرير المبدأ يبرز السياق حالة تغيير الله ما بقوم إلى السوء؛ لأنهم حسب المفهوم من الآية غيروا ما بأنفسهم إلى أسوأ فأراد لهم الله السوء".
ولم أقف على من خالف هذا التفسير من المفسرين المتقدمين غير القشيري فإنه ذكر في تفسير هذه الآية وجوها منها قوله: "وإذا غيروا ما بهم إلى الطاعات غير الله ما بهم منه من الإحسان والنعمة، وإذا كانوا في نعمة فغيروا ما بهم من الشكر لله تغير عليهم ما من به من الإنعام فيسلبهم ما وهبهم من ذلك، وإذا كانوا في شدة لا يغير ما بهم من البلاء حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أخذوا في التضرع، وأظهروا العجز غير ما بهم من المحنة بالتبديل والتحويل". وكذلك البقاعي فإنه ذكر احتمال أن المغيَّر قد يكون خيرا وقد يكون شرا؛ فقال: "لا يغير ما بقوم، أي: خيرا كان أو شرا، حتى يغيروا ما، أي: الذي بأنفسهم من ما كانوا يزينونها به من التحلي بالأعمال الصالحة والتخلي عن أخلاق المفسدين، فإذا غيروا ذلك غير ما بهم إذا أراد، وإن كانوا في غاية القوة".
فهل التفسير الشائع لهذه الآية مقبول أم لا؟
 
ليس هناك إشكال أخي الكريم
وكلا المعنيين صحيح
ألم تر أن الآيات واردة في سياق ذم الكفار وأنهم مهددون بالعقوبة من الله تعالى إذا لم يغيروا ما هم عليه من الشرك والكفر والأخلاق الباطلة ؟
إن السورة كلها تهديد لأهل الباطل بالعقوبات الدنيوة والأخروية ، وهي دعوة إلى التغيير حتى تدفع عنهم النقم ولا تحل بهم المحن ، وتأمل قول الله تعالى:
(وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) ) سورة الرعد
 
الأخ الكريم د . أحمد كوري
سلام الله عليكم و رحمته و بركاته
و بعد
قوله تعالى :
[ إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ] {الرعد:11}
* التفسير الشائع - المذكور آنفا - لتلك الآية الكريمة مقبولٌ عقلاً و نقلاً ، و قد تفضلتم بِذِكْر ما يؤيده من كلام المُفَسِّريْن القشيري و البقاعي .
و نَصّ الآية يَحْتَمِله ؛ فـ ( ما ) موصولة ، صلتها ( بقومٍ ) ، و كذا ( ما بأنفسهم )
و الأسماء الموصولة مِن ألفاظ العموم ؛ فتشمل ما بقومٍ مِن نعمةٍ أو نِقمة ،
و كذا ما بأنفسهم مِن طاعة و معصية .
و تغيير ما نزل بالقوم من ضُرٍّ و نِقمة بتغيير ما بأنفسهم مِن السَيئة و المعصية ، ذكره أيضا - ضِمناً - الإمامان ابن كثير و السيوطي في تفسيريهما لتلك الآية الكريمة ؛ قال السيوطي في " الدُرّ المنثور في التأويل بالمأثور " :
( أخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } لا يغير ما بهم من النعمة حتى يعملوا بالمعاصي ، فيرفع الله عنهم النعم .
* وأخرج ابن أبي شيبة في كتاب العرش ، وأبو الشيخ وابن مردويه ، عن عليّ - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله : « وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ، ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية ، كانوا على ما كرهته من معصيتي ، ثم تحوّلوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي ، إلا تحوّلت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي؛ وما من أهل بيت ولا قرية ولا رجل ببادية كانوا على ما أحببت من طاعتي ، ثم تحولوا عنها إلى ما كرهت من معصيتي ، إلا تحولت لهم عما يحبون من رحمتي إلى ما يكرهون من غضبي » ) . اهـ
و عليه ، فلا إشكال في تفسير المعاصرين لتلك الآية الكريمة ، إن شاء الله

 
بارك الله فيكم
إن هذا المعنى الذي تقول أنه شاع على ألسنةالدعاة....يدل عليه فحوى الخطاب
إذا كان الله لا يغير ما بقوم من النعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم من الإيمان......فكذلك أن الله لا يغير ما بقوم من السوء حتى يغيروا مابأنفسهم من الظلم ...............
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين
أشكر للسادة العلماء والشيوخ الأجلاء تفضلهم بالمشاركة في هذا الموضوع؛ فقد أجادوا وأفادوا وساهمت مشاركاتهم في حل الإشكال. ومن بركات مشاركتهم أني قرأت بعض المشاركات التي كانوا قد كتبوا سابقا في هذا المنتدى والتي ظهرت عناوينها مع مشاركاتهم، فأعجبت بها؛ فجزاهم الله خير الجزاء ونفع بعلمهم، وأعتذر لهم عن تأخري في التفاعل معهم، بسبب تراكم الأعمال والأشغال في آخر السنة الجامعية.
فالذي لفت نظري في هذه المسألة أن العامة اليوم أصبحت لا تعرف لهذه الآية تفسيرا غير هذا التفسير المحدث!! حتى صارت الآية (بهذا التفسير) تستعمل عنوانا للكتب والسلاسل والمقالات!! ولم يسمع أكثر الناس بالتفسير الذي اتفق عليه جل المفسرين أو كلهم حسب تعبير الإمام الرازي. مع أن إجماع المفسرين حجة؛ قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: "ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها" بعد أن ذكر أقوال المفسرين فيها: "ولولا أن أقوال أهل التأويل مضت بما ذكرت عنهم من التأويل، وأنا لا نستجيز خلافهم في ما جاء عنهم، لكان وجها يحتمله التأويل أن يقال: ولا تجهر بصلاتك التي أمرناك بالمخافتة بها، وهي صلاة النهار لأنها عجماء، لا يجهر بها، ولا تخافت بصلاتك التي أمرناك بالجهر بها، وهي صلاة الليل، فإنها يجهر بها، وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بالتي أمرناك بالجهر بها، وتخافت بالتي أمرناك بالمخافتة بها، لا تجهر بجميعها، ولا تخافت بكلها، فكان ذلك وجها غير بعيد من الصحة، ولكنا لا نرى ذلك صحيحا لإجماع الحجة من أهل التأويل على خلافه".
مع أن هذا التفسير الذي اتفق عليه المفسرون كما قال الرازي هو أيضا الموافق لآية الأنفال والموافق للسياق؛ فـ"ما" في الآية مجملةلكن كيف نفصل إجمالها؟ نفصله من القرآن؛ فنجد آية الأنفال قد فصلته، والمجمل يطلب تفصيله من القرآن أولا، كما قال السيوطي في الاستشهاد أعلاه، وقد مثل العلماء لذلك بآية الزخرف: "وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم"، فـ"ما" في هذه الآية مجملة، لكن فسرتها آية النحل: "وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم"، وكذلك آياتنا التي هي موضوع هذا الكلام؛ فـ"ما" فيها مجملة فصلتها آية الأنفال. وإذا كان المجمل مفصلا في الكتاب أو في السنة فلا يصح العدول عنهما إلى الاحتمالات اللغوية والعقلية؛ ففي قوله تعالى: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة"، لا يصح أن نحمل الصلاة والزكاة على كل مدلولاتهما اللغوية؛ لأن هذه المجملات مبينة في الكتاب والسنة؛ فلا يصح مثلا أن نحمل الصلاة على الدعاء ولا أن تحمل الزكاة على عموم الإنفاق. قال السيوطي في الإتقان: (في النوع السادس والأربعين في مجمله ومبينه): "وقد يقع التبيين بالسنة مثل: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" "ولله على الناس حج البيت"، وقد بينت السنة أفعال الصلاة والحج ومقادير نصب الزكوات في أنواعها". وقال أيضا في الإتقان (في النوع الثمانين في طبقات المفسرين): "ثم صار كل من يسنح له قول يورده، ومن يخطر بباله شيء يعتمده، ثم ينقل ذلك عنه من يجيء بعده ظانا أن له أصلا غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ومن يرجع إليهم في التفسير، حتى رأيت من حكى في تفسير قوله تعالى: "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" نحو عشرة أقوال، وتفسيرها باليهود والنصارى هو الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجميع الصحابة والتابعين وأتباعهم، حتى قال ابن أبي حاتم: "لا أعلم في ذلك اختلافا بين المفسرين". وما أشبه الليلة بالبارحة!!
بعد القرآن الكريم نطلب التفسير من الحديث الشريف، لكن يجب الاحتراس عند استمداد التفسير من الحديث الشريف؛ لكثرة الضعيف والموضوع في التفسير؛ قال الزركشي في البرهان: "للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة: الأول: النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو الطراز المعلم لكن يجب الحذر من الضعيف منه والموضوع؛ فإنه كثير، ولهذا قال أحمد: "ثلاث كتب لا أصل لها المغازي والملاحم والتفسير". وقال المحققون من أصحابه: مراده أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متصلة، وإن لاَّ فقد صح من ذلك كثير كتفسير الظلم بالشرك في آية الأنعام، والحساب اليسير بالعرض، والقوة بالرمي في قوله: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة". قال السيوطي في الإتقان (في النوع الثامن والسبعين في معرفة شروط المفسر وآدابه) معلقا على كلام الزركشي: "قلت: الذي صح من ذلك قليل جدا، بل أصل المرفوع منه في غاية القلة".
وقد ورد في تفسير هذه الآية الحديث: "قال الرب وعزتي وجلالي.." إلخ، ويقال فيه ما قاله الإمام الشاطبي في حرز الأماني (البيت: 97):
وقد ذكروا لفظ الرسول فلم يزد ولو صح هذا النقل لم يبق مجملا
فالاحتجاج بهذا الحديث مترتب على صحته، ولم أقف على سند صحيح لهذا الحديث؛ فقد أخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتاب العرش، بسند فيه الهيثم بن الأشعث السلمي وأبو حنيفة اليمامي، وهما مجهولان، إضافة إلى أن راوي الحديث عن علي قد اضطربت المراجع في اسمه؛ فالذي في المخطوطة الوحيدة لكتاب العرش: "عمير بن عبد الله"، وفي بعض المراجع التي نقلت الحديث عن كتاب العرش: "عمر بن عبد الملك" وفي بعضها: "عمير بن عبد الملك" وفي بعضها: "عدي بن عميرة الكندي"، وهذا الأخير هو الذي توقع د. التميمي أنه الصحيح. (انظر: الحديث: 19، من طبعتي الكتاب: كتاب العرش - تحقيق: محمد بن حمد الحمود – مكتبة المعلا – الكويت – ط1 – 1406هـ/1986م. و: محمد بن عثمان بن أبي شيبة وكتابه العرش دراسة وتحقيق – د. محمد بن خليفة التميمي – مكتبة الرشد الرياض و/شركة الرياض للنشر والتوزيع – ط1 – 1418هـ/1998م). وقال ابن كثير في تفسيره معلقا على هذا السند: "وهذا غريب، وفي إسناده من لا أعرفه". وقال عنه الذهبي في كتاب العلو (الحديث: 123) بعد أن عزاه إلى كتاب العرش: "ورواه العسال في كتاب المعرفة عن أحمد بن الحسن الطائي عن الحلواني، وإسناده ضعيف". وقال د. التميمي "وعلة ضعفه جهالة ابن الأشعث السلمي، وأبي حنيفة اليمامي" (كتاب العرش: تحقيق التميمي: 351).
ولما كان السند الوارد في "كتاب العرش" لمحمد بن عثمان بن أبي شيبة، هو السند الوحيد الذي وقفت عليه لهذا الحديث؛ وكان من المحتمل أن جميع طرق هذا الحديث تدور عليه، فلا بأس بوقفة مع هذا الكتاب ومؤلفه.

كتاب العرش ومنهجه:
يضم كتاب العرش 90 حديثا وأثرا، نحو ثلاثة أرباعها ضعيف أو موضوع، كما يظهر من حواشي التحقيقين. ويقول د. التميمي عن منهج المؤلف في الكتاب: "لم يهتم المؤلف حين جمعه للأحاديث والآثار التي أوردها بدرجة تلك الأحاديث والآثار من حيث الصحة والضعف؛ فقد جمع في كتابه هذا الغث والسمين، فكان هناك الكثير من الأحاديث والآثار الضعيفة والإسرائيليات، إلى جانب بعض الأحاديث الموضوعة التي لا يصح أن يستدل بها بأي حال من الأحوال، والمؤلف – رحمه الله – محدث حافظ، وله باع طويل في معرفة رجال الأحاديث جرحا وتعديلا؛ فكان الأولى أن يجنب كتابه مثل هذه الأمور، وخاصة أن كتابه يتحدث في مسائل اعتقادية، لا يقبل فيها إلا ما صح من الأحاديث" (كتاب العرش: تحقيق د. التميمي: 252).

محمد بن عثمان بن أبي شيبة الذي ينسب إليه كتاب العرش:
اختلف فيه رجال الجرح والتعديل؛ فقد عدله بعضهم لكن قال فيه عبد الله بن أحمد بن حنبل: كذاب.وقال عبد الرحمن بن خراش: كان يضع الحديث.وقال مطين: هو عصا موسى، يتلقف ما يأفكون.وقال أبو بكر البرقاني: لم أزل أسمع الشيوخ يذكرون أنه مقدوح فيه. (انظر سير أعلام النبلاء: 14/22 – 21). وقال ابن عقدة: سمعت عبد الله بن أسامة الكلبي وإبراهيم بن إسحاق الصواف وداوود بن يحيى يقولون: محمد بن عثمان كذاب. زادنا داود: قد وضع أشياء على قوم ما حدثوا بها قط. ثم حكى ابن عقدة نحو هذا عن طائفة في حق محمد. وقال جعفر بن محمد الطيالسي: كان كذابا سمع عن قوم بأحاديث ما حدثوا بها قط، متى سمع؟! أنا به عارف. و حكى ابن عقدة عن طائفة أنهم كذبوه، منهم: جعفر الطيالسي وعبد الله بن إبراهيم بن قتيبة وجعفر بن هذيل ومحمد بن أحمد العدوي. (انظر: لسان الميزان: 5/280). وقال الخطيب البغدادي: "أخبرنا على بن محمد بن الحسين الدقاق قال: قرأنا على الحسين بن هارون عن أبى العباس بن سعيد قال: سمعت عبد الله بن أسامة الكلبي يقول: محمد بن عثمان كذاب أخذ كتب ابن عبدوس الرازي ما زلنا نعرفه بالكذب. وقال ابن سعيد: سمعت إبراهيم بن إسحاق الصواف يقول: محمد بن عثمان كذاب ويسرق حديث الناس ويحيل على أقوام بأشياء ليست من حديثهم. قال: سمعت داوود بن يحيى يقول: محمد بن عثمان كذاب وقد وضع أشياء كثيرة يحيل على أقوام أشياء ما حدثوا بها قط. وقال: سمعت عبد الرحمن بن يوسف بن خراش يقول: محمد بن عثمان كذاب بين الأمر يزيد في الأسانيد ويوصل ويضع الحديث، وقال: سمعت محمد بن عبد الله الحضرمي يقول: محمد بن عثمان كذاب ما زلنا نعرفه بالكذب مذ هو صبي. وقال: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: محمد بن عثمان كذاب بين الأمر يقلب هذا على هذا، ويعجب من من يكتب عنه. وقال: سمعت جعفر بن محمد بن أبى عثمان الطيالسي يقول: ابن عثمان هذا كذاب يجيء عن قوم بأحاديث ما حدثوا بها قط متى سمع؟! أنا عارف به جدا. وقال: سمعت عبد الله بن إبراهيم بن قتيبة يقول: ابن عثمان أخذ كتب ابن عبدوس وادعاها ما زلنا نعرفه بالتزيد. وقال: سمعت محمد بن أحمد العدوى يقول: محمد بن عثمان كذاب مذ كان متى سمع هذه الأشياء التي يدعيها؟! وذكر كلاما غير هذا في بدئه, وقال: حدثني محمد بن عبيد بن حماد قال سمعت جعفر بن هذيل يقول: محمد بن عثمان كذاب. إلى ها هنا عن ابن سعيد. حدثني على بن محمد بن نصر قال: سمعت حمزة بن يوسف السهمي يقول: وسألت الدارقطني عن محمد بن عثمان بن أبى شيبة فقال: كان يقال: أخذ كتب أبى أنس وكتب غير محدث. سألت البرقاني عن ابن أبى شيبة فقال: لم أزل أسمع الشيوخ يذكرون أنه مقدوح فيه". (تاريخ بغداد: 3/42 - 47).

نسبة كتاب العرش إلى محمد بن عثمان بن أبي شيبة:
إن نسبة كتاب العرش إلى محمد بن عثمان بن أبي شيبة في حاجة إلى إثبات؛ فلا تكفي مجرد نسبته إليه في بعض المراجع دون ذكر سند لهذه النسبة. ومخطوطة الكتاب الوحيدة المعروفة الآن في العالم، تنسب الكتاب إلى هذا المؤلف بسند فيه نظر. (انظر كتاب العرش تحقيق الحمود: 33 – 39، وتحقيق د. التميمي: 254 - 259).ففي سندها العشاري: قال عنه الذهبي: "وقد أدخل في سماعه ما لم يتفطن له". (انظر سير أعلام النبلاء: 18/49)، وقال فيه: "ليس بحجة". (ميزان الاعتدال: 3/ 657). وفي سند هذه النسخة أيضا ابن البناء: اتهم بأنه كان يكشط الأسانيد وينسبها إلى نفسه، وإن كان الذهبي قد دافع عنه. (انظر: سير أعلام النبلاء: 18/381 - 382). وفي سند هذه النسخة أيضا ابن كادش: قال الذهبي: قال ابن النجار: كان ضعيفا في الرواية، مخلطا كذابا، لا يحتج به، وللائمة فيه مقال. قال السمعاني: كان ابن ناصر يسئ القول فيه. وقال عبد الوهاب الأنماطي: كان مخلطا. وقال السمعاني: سمعت ابن ناصر يقول: سمعت إبراهيم بن سليمان يقول: سمعت أبا العز بن كادش يقول: وضعت حديثا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقر عندي بذلك. قال عمر بن علي القرشي: سمعت أبا القاسم علي بن الحسن الحافظ يقول: قال لي ابن كادش: وضع فلان حديثا في حق علي، ووضعت أنا في حق أبي بكر حديثا، بالله أليس فعلت جيدا؟" قال الذهبي: هذا يدل على جهله، يفتخر بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن النجار: رأيت له كتابا سماه "الانتصار لرتم القحاب" فيه أشعار، فيقول: أنشدتني المغنية فلانة، وأنشدتني ستوت المغنية بأوانا، وقد قرأه عليه ابن الخشاب. (انظر سير أعلام النبلاء: 19/558 - 560). وقال ابن حجر (لسان الميزان: 1/218): "مشهور من شيوخ ابن عساكر أقر بوضع حديث وتاب وأناب". وفي سند هذه النسخة أيضا أبو إسحاق إبراهيم بن بركة بن طاقويه: قال فيه ابن الدبيثي: "سمعنا منه على تخليط كان فيه، على صحة سماعه" (انظر: كتاب العرش تحقيق د. التميمي: 257)، وقد قرن معه في السند أبو القاسم بن هبة الله، قال فيه الذهبي: "قال ابن الدبيثي: هو صحيح السماع، فيه تسامح في الأمور الدينية. وقال ابن نقطة: كان غير مرضي السيرة في دينه. قال ابن النجار: كان فهما ذكيا، حفظة للنوادر، عمل مرة شطرنجا وزنه خروبتان، ورزة من عاج وأبنوس، ثم كبر وساء خلقه، وكان يتعاسر، ويسب أباه الذي سمعه، وفيه قلة دين، الله يسامحه". (انظر: سير أعلام النبلاء: 21/352 - 353).
ويبدو أن هذا السند هو السند الوحيد للكتاب؛ فقد روى ابن الجوزي كتاب العرش بالسند نفسه المذكور أعلاه (انظر: دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه – لابن الجوزي الحنبلي ص: 225 – تحقيق: حسن السقاف – دار الإمام النووي – ط4 – 1424هـ/2000م)، ورواه أيضا ابن حجر بالسند نفسه (انظر: المجمع المؤسس للمعجم المفهرس: 2/363 – تحقيق: د. يوسف عبد الرحمن المرعشلي – دار المعرفة – بيروت – لبنان – ط1 – 1415هـ/1994م) وقد ذكر كتابَ العرش محمدُ بن سليمان الروداني ضمن مروياته في فهرسه: "صلة الخلف بموصول السلف"، بالسند نفسه أيضا. (انظر: كتاب العرش تحقيق الحمود: 39 - 40). فمن اللافت للانتباه حقا أن لا يكون لكتاب العرش إلا هذا السند العجيب!!

ابن مردويه وأبو الشيخ ومنهجهما:
أورد هذا الحديث أيضا الإمام السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية المذكورة، ونسبه إلى محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتاب العرش، وإلى ابن مردويه وأبي الشيخ، ولم يقيده بواحد من كتبهما، والظاهر من صنيعة أنهما روياه في تفسيريهما، وهما مفقودان حسب علمي، وقد بحثت عن هذا الحديث في القسم المطبوع من كتاب العظمة لأبي الشيخ فلم أقف عليه. (انظر: كتاب العظمة لأبي الشيخ الإصبهاني – تحقيق: رضاء الله بن محمد إدريس المباركفوري – دار العاصمة – الرياض). ولم يذكر السيوطي سند الحديثين حتى تمكن معرفة درجتهما، وقد كان قدماء المفسرين بالرواية يذكرون سند كل حديث، "ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"، ثم حذف أكثر المتأخرين الأسانيد فلم يعد من الممكن التمييز بين الصحيح والضعيف، كما قال السيوطي في الإتقان (في النوع الثمانين في طبقات المفسرين): "ثم ألف في التفسير خلائق فاختصروا الأسانيد ونقلوا الأقوال بترا فدخل من هنا الدخيل والتبس الصحيح بالعليل". لكن ابن مردويه وأبا الشيخ بصفة عامة لا يلتزمان الصحة في كتبهما، ولذلك لا يصح قبول ما روياه قبل الوقوف على سنده والتأكد من صحته، قال الذهبي عن أبي الشيخ (سير أعلام النبلاء: 16/279): "قد كان أبو الشيخ من العلماء العاملين، صاحب سنة واتباع، لولا ما يملأ تصانيفه بالواهيات". وقال المعلمي اليماني (في الأنوار الكاشفة: 123): "كتاب العظمة تكثر فيه الرواية عن الكذابين والساقطين والمجاهيل"، وقال محقق كتاب العظمة (1/110): "نعم قد أورد فيه كثيرا من الأحاديث والآثار التي لا تستحق ذكرها لكونها من الواهيات أو الضعاف شديدة الضعف أو الاسرائيليات". وقال (ص: 128): "ثم إنه تساهل كثيرا في ما أورده من الأحاديث والأخبار فيوجد كثير منها قد حكم عليه بالوضع، أو بالضعف الشديد"، وقال (1/131): "فأما المآخذ من الناحية العلمية فهي تتمثل في ما يلي: 1 – إيراده في الكتاب من الواهيات والموضوعات شيئا كثيرا من ما جعل الكتاب يعتبر مصدرا من مصادر كتب الموضوعات". وقال (1/146): "والمؤلف رحمه الله تعالى - كما تقدمت الإشارة – أكثر من إيراد الإسرائيليات التي يوجد في أسانيدها من اتهم بالكذب والوضع، كما أكثر أيضا من إيراد ما تخالفه الشريعة الإسلامية والعقول الصريحة وتقضي ببطلانها، وكان المفروض الاجتناب عن مثلها".
ومن أمثلة الطرق الواهية التي اعتمدها ابن مردويه وأبو الشيخ في تفسيريهما طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال السيوطي في الإتقان (في النوع الثمانين في طبقات المفسرين): "وطريق الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس منقطعة فإن الضحاك لم يلقه، فإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة عن أبي روق عنه فضعيفة لضعف بشر،وقد أخرج من هذه النسخة كثيرا ابن جرير وابن أبي حاتم، وإن كان من رواية جويبر عن الضحاك فأشد ضعفا؛ لأن جويبرا شديد الضعف متروك. ولم يخرج ابن جرير ولا ابن أبي حاتم من هذا الطريق شيئا، إنما أخرجها ابن مردويه وأبو الشيخ بن حيان".
ومن أمثلة الموضوعات التي أوردها ابن مردويه في تفسيره الحديث الطويل في فضائل سور القرآن سورة سورة، قال الحافظ العراقي في ألفيته:
كذا الحديث عن أبي اعترف راويه بالوضع وبئس ما اقترف
وكل من أودعه كتابـــه كالواحدي مخطئ صوابــه
قال السخاوي في فتح المغيث (1/260 – 261) شارحا هذين البيتين: "وعلى كل حال فهو موضوع وإن كان له عن أبي طرق. (وبئس) كما زاده الناظم أيضا (ما اقترف) أي: اكتسب واضعه. (و) لهذا (كل من أودعه كتابه) في التفسير (كـ) أبي الحسن علي بن أحمد (الواحدي) (..) وأبي بكر بن مردويه وأبي إسحاق الثعلبي وأبي القاسم الزمخشري، وفي فضائل القرآن كأبي بكر بن أبي داود الحافظ ابن الحافظ فهو (مخطيء) في ذلك (صوابه)؛ إذ الصواب تجنب إيراد الموضوع إلا مقرونا ببيانه كما تقدم، والزمخشري أشدهم خطأ حيث أورده بصيغة الجزم غير مبرز لسنده، وتبعه البيضاوي، بخلاف الآخرين فإنهم ساقوا إسناده. وإن حكينا في ما تقدم قريبا عدم جوازه أيضا".
والسر في تقارب منهج أبي الشيخ وابن مردويه أن الأول شيخ الأخير. انظر: (سير أعلام النبلاء: 16/277).

كلام القشيري والبقاعي في تفسير هذه الآية:
أما كلام القشيري في الآية فالمفهوم من سياقه أنه من التفسير الإشاري؛ وقد اعتمد القشيري هذا النوع من التفسير، وهو – وإن كان مقبولا بشروطه - لا يسمى تفسيرا اصطلاحا، قال السيوطي في الإتقان (في النوع الثامن والسبعين في معرفة شروط المفسر وآدابه): "وأما كلام الصوفية في القرآن فليس بتفسير"، وحكى عن ابن عطاء الله قوله: "اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان، وثم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه، وقد جاء في الحديث: "لكل آية ظهر وبطن"؛ فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة: "هذا إحالة لكلام الله وكلام رسوله"؛ فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لو قالوا: لا معنى للآية إلا هذا. وهم لم يقولوا ذلك، بل يقرون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها، ويفهمون عن الله تعالى ما أفهمهم".
وأما البقاعي ففي أول كلامه على تفسير هذه الآية ذكر أن المغيَّر قد يكون خيرا وقد يكون شرا، لكنه في سائر كلامه ركز على ما يوافق تفسير الجمهور، وفي ذلك تقوية لتفسير الجمهور.
وعلى كل حال فغاية ما يدل عليه الحديث المذكور – على ضعفه – أن المغيَّر قد يكون خيرا وقد يكون شرا، وكذلك كلام القشيري والبقاعي، أما التفسير المحدث فلا يجعل المغيَّر إلا شرا. والله أعلم.
 
أما التفسير المحدث فلا يجعل المغيَّر إلا شرا. والله أعلم.

حياك الله يا دكتور أحمد وشكر لك وأعانك
لا أعتقد يا دكتور أحمد أن التفسير المحدث كما ذكرت ، هذا إذا كنت تعني بالتفسير المحدث كتب التفسير الحديثة ، والسبب أن المفسرين لم يغفلوا عن أقوال من سبقهم فهم يذكرونها فهذا بن سعدي رحمه الله تعالى يقول في تفسيره:
"{ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ } من النعمة والإحسان ورغد العيش { حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر ومن الطاعة إلى المعصية، أو من شكر نعم الله إلى البطر بها فيسلبهم الله عند ذلك إياها.
وكذلك إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية، فانتقلوا إلى طاعة الله، غير الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة
"
وكذلك ما نقلته أنت عن سيد رحمه الله حيث تضمن كلامه الإشارة إلى القولين:
"فإنه لا يغير نعمة أو بؤسا، ولا يغير عزا أو ذلة، ولا يغير مكانة أو مهانة، إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم."
وكذلك البقاعي في نظم الدرر:
"{ لا يغير ما بقوم } أي خيراً كان أوشراً { حتى يغيروا ما } أي الذي { بأنفسهم }"
وكلا المعنيين دل عليه منطوق الآية إلا إن المفسرين ذكروا أحد القولين للقرينة التي في الآية المفهومة من قوله تعالى:
"لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ"
وهذا لا يعني أن القول الآخر غير صحيح فقد دلت عليه آيات كثيرة في كتاب الله ومن ذلك قوله تعالى:
"وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ "
"ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " الروم(41)
"وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " الزخرف(48)
"فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" الأنعام (43)
وهذه الآيات واضحة أن رفع البلاء إذا وقع مشروط بالرجوع عن السبب الجالب لوقوعه وهذا تغيير.
ثم إن التغيير أمر نسبي فقد يكون من حال سيئة إلى حال حسنة وقد يكون من حال حسنة إلى حالة أحسن منها ومثال هذا الأخير ما وقع لقريش لما آمنت سلمت من زوال النعمة السابقة لإسلامهم وحصلوا ما هو أحسن وهو ما ذكره الله تعالى في قوله:
"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" سورة النور (55)
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم التالي يعطينا مثالاً لمدلولي آية سورة الرعد :
"إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ"
رواه أبو داود من حديث بن عمر رضي الله عنهما وصححه الألباني رحمه الله.
وما شاع على ألسن الخطباء والوعاظ ليس المعنى الذي ذكرتَ وحده بل هم يستخدمون الآية في المعنيين فيحذرون الأمة من التخلي عن دينهم وعقيدتهم فإنهم إن فعلوا فسيغير الله ما بهم من نعم ويزيلها ، وكذلك يذكرونهم إن كانوا يشعرون بشيء من الذل والهوان وضيق العيش أن لا سبيل لتغيير هذه الحال إلا بتغيير ما في النفوس من ضعف الإيمان وقلة العمل الصالح.
وختاما إذا كانت الآية تحمل معنى صحيحا لم يتكلم به السلف فلا أرى مانعا من القول بذلك المعنى لمجرد أن السلف لم يقولوا به.
والله أعلم
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.
 
إشكال في جوابٍ على استشكال

إشكال في جوابٍ على استشكال

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين

...
مع أن هذا التفسير الذي اتفق عليه المفسرون كما قال الرازي هو أيضا الموافق لآية الأنفال والموافق للسياق؛ فـ"ما" في الآية مجملةلكن كيف نفصل إجمالها؟ نفصله من القرآن؛ فنجد آية الأنفال قد فصلته، والمجمل يطلب تفصيله من القرآن أولا، كما قال السيوطي في الاستشهاد أعلاه، وقد مثل العلماء لذلك بآية الزخرف: "وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم"، فـ"ما" في هذه الآية مجملة، لكن فسرتها آية النحل: "وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم"، وكذلك آياتنا التي هي موضوع هذا الكلام؛ فـ"ما" فيها مجملة فصلتها آية الأنفال. وإذا كان المجمل مفصلا في الكتاب أو في السنة فلا يصح العدول عنهما إلى الاحتمالات اللغوية والعقلية
...
وعلى كل حال فغاية ما يدل عليه الحديث المذكور – على ضعفه – أن المغيَّر قد يكون خيرا وقد يكون شرا، وكذلك كلام القشيري والبقاعي، أما التفسير المحدث فلا يجعل المغيَّر إلا شرا. والله أعلم.
سلام الله عليكم
و جزاكم الله خيراً
إضافةً إلى ما ذكره مشكوراً أخي ( أبو سعد الغامدي ) ، هناك بعض الإشكالات على هذا الرأي في الاقتباس أعلاه ؛ أذكرها على سبيل المدارسة و المراجعة :
أوّلها : القول بأن آية سورة الرعد {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} مُجْمَلةٌ ، ومُفسَّرةٌ بآية سورة الأنفال {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} : يقتضي بُطلان تلك التفاسير القديمة و الحديثة ، القائلة باشتمال كلمة { ما بقومٍ } على النعمة و النقمة ؛ لكونها - أي تلك التفاسير - جاءت بغيْر ما فسرته آية الأنفال ، المُبيّنة لِما أُجمَل في آية الرعد ، أو جاءت بشيء زائد عليه ، و كلاهما لا يجوز فيما بَيّنه الشرع .
و هذا على تقدير صحة القول بأنها مجملة و مفسرةٌ بما ذُكِر .
و مثل ذلك يُقال في كلمة { ما بأنفسهم }
[ ؟ ]
 
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وجزاكم الله خيرا على الاهتمام والإفادة والمشاركة في مدارسة القرآن، جعلنا الله وإياكم من من "نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده".
المقصود بالتفسير المحدث هو ما شاع في عناوين السلاسل والكتب والمقالات التي يدل سياقها على أن المقصود بها أن المغيَّر هو شر فقط. وهو المعنى الذي بدأ يتسرب إلى بعض التفاسير. وإذا كان بعض المعاصرين يستشهد بالآية على أن المغيَّر هو خير فلا إشكال في هذه الحالة، وأنا كنت هنا نافيا، والمثبت مقدم على النافي. ولا شك أن هذا التفسير المحدث الذي يحصر المغير في الشر هو صحيح المعنى، لكن موضوعنا هو هل تدل عليه هذه الآية أم لا، وصحة المدلول لا تستلزم صحة الاستدلال.
وإذا أجمع المفسرون على تفسير فقد صار حجة سواء أكان ذلك في عهد السلف أم بعدهم، فالإجماع في التفسير كالإجماع في الفقه والعقائد، وأدلة حجية الإجماع معروفة. ولا يعقل أن تمضي قرون طويلة على الأمة – ومنها الصحابة والتابعون - وهي لا تعرف تفسير كتاب ربها، حتى يأتي بعض المتأخرين فيستكشف هذا التفسير الصحيح في رأيه. ثم إن فتح باب التفسير المخالف لما كان عند السلف يفتح الباب أمام العلمانيين وغيرهم من الملحدين الذين صاروا يؤلفون التفاسير ويحشونها بالإلحاد في آيات الله، ويفتخرون بأنهم لا يقيمون وزنا لكلام المفسرين المتقدمين، وإنما يعتمدون التفسير "الصحيح" فقط، ولو لم يقل به أحد قبلهم!! وهذا شيخ المفسرين الإمام الطبري لم يتجرأ على تفسير لم يسبق إليه، مع أنه تفسير صحيح معنى ولغة، كما قال: "ولولا أن أقوال أهل التأويل مضت بما ذكرت عنهم من التأويل، وأنا لا نستجيز خلافهم في ما جاء عنهم، لكان وجها يحتمله التأويل أن يقال: ولا تجهر بصلاتك التي أمرناك بالمخافتة بها، وهي صلاة النهار لأنها عجماء، لا يجهر بها، ولا تخافت بصلاتك التي أمرناك بالجهر بها، وهي صلاة الليل، فإنها يجهر بها، وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بالتي أمرناك بالجهر بها، وتخافت بالتي أمرناك بالمخافتة بها، لا تجهر بجميعها، ولا تخافت بكلها، فكان ذلك وجها غير بعيد من الصحة، ولكنا لا نرى ذلك صحيحا لإجماع الحجة من أهل التأويل على خلافه". ويقول الألوسي في تفسير الآية: 34، من سورة البقرة: "ولو أن قائلا قال بهذا لقلت به، لكن للتفرد في مثل هذه المطالب آفات".
أما خطأ بعض المفسرين فلا شك أنه واقع؛ ولذلك نرى بعضهم يرد على بعض، لأن أفرادهم غير معصومين وإنما المعصوم إجماع الأمة، وعلامة الخطإ في التفسير مخالفة القطعيات كالكتاب والسنة والإجماع، وقد أشار السيوطي إلى الخطإ الذي وقع فيه بعض المفسرين حين فسروا "غير المغضوب عليهم ولا الضالين"، برأيهم فذكروا فيها نحو عشرة أوجه، مع أن تفسير هذه الآية منصوص في الحديث وأجمع عليه المفسرون، كما تقدم في قوله في الإتقان (في النوع الثمانين في طبقات المفسرين): "ثم صار كل من يسنح له قول يورده، ومن يخطر بباله شيء يعتمده، ثم ينقل ذلك عنه من يجيء بعده ظانا أن له أصلا غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ومن يرجع إليهم في التفسير، حتى رأيت من حكى في تفسير قوله تعالى: "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" نحو عشرة أقوال، وتفسيرها باليهود والنصارى هو الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجميع الصحابة والتابعين وأتباعهم، حتى قال ابن أبي حاتم: "لا أعلم في ذلك اختلافا بين المفسرين".
وقد نص ابن كثير على الربط بين آية الرعد وآية الأنفال؛ فقال في تفسير آية الأنفال: "يخبر تعالى عن تمام عدله، وقسطه في حكمه، بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه، كما قال تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، وقال الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي في أضواء البيان في تفسير آية الرعد: "بين تعالى في هذه الآية الكريمة، أنه لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية، حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة الله جل وعلا. والمعنى: أنه لا يسلب قوما نعمة أنعمها عليهم، حتى يغيروا ما كانوا عليه من الطاعة والعمل الصالح، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: "ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". ولا داعي لجلب نصوص المفسرين الذين نصوا على أن المغيَّر هو خير، لكثرة هذه النصوص وشهرتها، ويكفي منها قول ابن عاشور الذي رد على التفسير المحدث في قوله: "والتغيير: التبديل بالمغاير؛ فلا جرم أنه تهديد لأولى النعمة من المشركين بأنهم قد تعرضوا لتغيرها. فماصدقُ "ما" الموصولة: "حالة"، والباء للملابسة، أي: حالة ملابسة لقوم: أي: حالة نعمة؛ لأنها محل التحذير من التغير، وأما غيرها فتغييره مطلوب".
 
إجماع المفسرين على معنى لآية لا يمنع من القول بمعنى زائد دلت عليه الآية كما هو في هذه الآية التي نحن بصددها ، وهذا المعنى الصحيح الذي تحتمله الآية قد دلت عليه آيات أخرى من كتاب الله ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أين الإجماع في المسألة ؟
الطبري قال:
وقوله:(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) يقول تعالى ذكره:(إن الله لا يغير ما بقوم) ، من عافية ونعمة، فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم (حتى يغيروا ما بأنفسهم) من ذلك بظلم بعضهم بعضًا، واعتداء بعضهم على بعض،فَتَحلَّ بهم حينئذ عقوبته وتغييره ."
وهذا القول لم نر الطبري يستدل عليه بآية أخرى تدل على أن هذا المعنى الوحيد الذي يجب أن تحمل عليه الآية ، ولا بحديث عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ، ولا بقول صحابي.
نعم أخرج السيوطي في الدر المنثور :
"وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } لا يغير ما بهم من النعمة حتى يعملوا بالمعاصي ، فيرفع الله عنهم النعم ."
وهذا القول إذا صح عن بن عباس فلا يقيد الآية بهذا المعنى المذكور.
فالقول أن المفسرين أجمعوا قول يفتقر إلى الدقة.
 
شُكر و توضيح

شُكر و توضيح

...
التفسير المحدث الذي يحصر المغير في الشر هو صحيح المعنى، لكن موضوعنا هو هل تدل عليه هذه الآية أم لا، وصحة المدلول لا تستلزم صحة الاستدلال.
وإذا أجمع المفسرون على تفسير فقد صار حجة سواء أكان ذلك في عهد السلف أم بعدهم، فالإجماع في التفسير كالإجماع في الفقه والعقائد، وأدلة حجية الإجماع معروفة. ولا يعقل أن تمضي قرون طويلة على الأمة – ومنها الصحابة والتابعون - وهي لا تعرف تفسير كتاب ربها، حتى يأتي بعض المتأخرين فيستكشف هذا التفسير الصحيح في رأيه. ثم إن فتح باب التفسير المخالف لما كان عند السلف يفتح الباب
...
وقد نص ابن كثير على الربط بين آية الرعد وآية الأنفال؛ فقال في تفسير آية الأنفال: "يخبر تعالى عن تمام عدله، وقسطه في حكمه، بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه، كما قال تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
نَعَم أخي الكريم
نِعْمَ العمل الاشتغال بالقرآن و علومه ؛ فعن أبى هريرة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال « ما من قوم يجتمعون فى بيت من بيوت الله عز وجل يقرءون ويتعلمون كتاب الله عز وجل يتدارسونه بينهم ، إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده ، وما من رجل يسلك طريقا يلتمس به العلم إلا سهل الله له به طريقا إلى الجنة ، ومن يبطئ به عمله لا يسرع به نسبه ». رواه أحمد و غيره .
و هذا الفضل من الله و الرحمة غيْر مُقَيّديْن بالاجتماع في المساجد ؛ لِما أخرجه أحمد أيضا ( عن الأغر أبي مسلم ، قال : أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " ما جلس قوم يذكرون الله ، إلا حفت بهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، وذكرهم الله فيمن عنده " . اهـ
و أحسب أننا - في ملتقانا هذا - داخلون في عموم هؤلاء ؛ إن شاء الله
و جزاكم الله خيرا .
و بخصوص موضوعنا المذكور في الاقتباس أعلاه :
1 - ذِكْر المُغَيّر بالشَرّ - في بعض تفاسير المعاصرين - لا يعني حَصره فيه .
و عليه ، فلا بأس بما ذُكِر من ذلك في تلك التفاسير .
و هو صحيحٌ من ناحية الاستدلال الأصولي ؛ فقد جاءت الآية بلفظ العموم ، المستفاد من " ما " الموصولة : { ما بقومٍ }؛ فتشمل الخير و الشر ، و النعمة و النقمة .
2 - القول بإجماع المفسرين على أن المراد بالمُغَيَّر في آية سورة الرعد هو الخَير و النعمة ، منقوضٌ بما ذكرتموه عن القشيري و البقاعي ، و السيوطي أيضا ؛ بما ذكره في " الدُر المنثور في التأويل بالمأثور " ؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما . و قد تقدم
3 - و ربْط ابن كثير و غيره بين الآيتيْن استدلالٌ صحيح على أنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه . و لكنه لا يفيد الحصر ؛ إذ لا دلالة فيها عليه .
هذا و الله تعالى أعلم
* * *
و الغَرَض : بيان عدم وجود مخالفة لآية سورة الأنفال في تلك التفاسير القديمة و الحديثة - فيما ذكرته في تفسير آية سورة الرعد - ؛ لعدم ورود الحصر فيها أو في غيرها من الآيات ، بل جاءت الآية الثانية بلفظ العموم ، المستفاد من " ما " الموصولة { ما بقومٍ }، فتشمل الخير و الشر ، و النعمة و النقمة .
و الله وليّ التوفيق
 
شكرا لكم على المشاركة والإفادة، وجزاكم الله خير الجزاء وبارك فيكم ونفع بعلمكم.
لقد اعتمدت في إثبات الإجماع المذكور على الرازي في قوله في تفسير هذه الآية - كما تقدم -: "فكلام جميع المفسرين يدل على أن المراد لا يغير ما هم فيه من النعم بإنزال الانتقام إلا بأن يكون منهم المعاصي والفساد". ولم أقف في كلام المفسرين المتقدمين على الرازي أو المعاصرين له على ما ينقض هذا الإجماع، وكلام البقاعي لا ينقض هذا الإجماع؛ لأن البقاعي (ت: 885هـ) متأخر عن الرازي (ت: 606هـ)، ثم إن البقاعي في آخر كلامه رجح تفسير المتقدمين كما يقول: "لا يغير ما بقوم، أي: خيرا كان أو شرا، حتى يغيروا ما، أي: الذي بأنفسهم من ما كانوا يزينونها به من التحلي بالأعمال الصالحة والتخلي عن أخلاق المفسدين، فإذا غيروا ذلك غير ما بهم إذا أراد، وإن كانوا في غاية القوة"، فآخر كلامه يضعف احتمال أن المغير شر. أما القشيري (ت: 465هـ) فقد اعتمد المنهج الإشاري، وهو لا يسمى تفسيرا اصطلاحا كما تقدم، ولذلك نجد في كلامه ما لا نجده عند أحد من المفسرين المتقدمين؛ لأنه لم يقصد بكلامه التفسير وإنما قصد الإشارة كما تقدم عن السيوطي وابن عطاء الله، ومن ذلك الوجوه الكثيرة التي ذكر في هذه الآية فمن الصعب نسبتها إلى التفسير الاصطلاحي؛ فهو يقول: "وإذا غيروا ما بهم إلى الطاعات غير الله ما بهم منه من الإحسان والنعمة، وإذا كانوا في نعمة فغيروا ما بهم من الشكر لله تغير عليهم ما من به من الإنعام فيسلبهم ما وهبهم من ذلك، وإذا كانوا في شدة لا يغير ما بهم من البلاء حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أخذوا في التضرع، وأظهروا العجز غير ما بهم من المحنة بالتبديل والتحويل. ويقال: إذا غيروا ما بألسنتهم من الذكر غير الله ما بقلوبهم من الحظوظ فأبدلهم به النسيان والغفلة، فإذا كان العبد في بسطة وتقريب، وكشف بالقلب وترقب، فالله لا يغير ما بأنفسهم بترك أدب، أو إخلال بحق، أو إلمام بذنب. ويقال: لا يكف ما أتاحه للعبد من النعمة الظاهرة أو الباطنة حتى يترك ويغير ما هو به من الشكر والحمد. فإذا قابل النعمة بالكفران، وأبدل حضور القلب بالنسيان وما يطيح به من العصيان، أبدل الله تعالى ما به من النعمة بالحرمان والخذلان، وسلبه ما كان يعطيه من الإحسان. ويقال: إذا توالت المحن وأراد العبد زوالها فلا يصل إليه النفض منها إلا بأن يغير ما هو به؛ فيأخذ في السؤال بعد السكوت، وفي إظهار الجزع بعد السكون، فإذا أخذ في التضرع غير ما به من الصبر".
وأما السيوطي (ت: 911هـ) فهو متأخر أيضا عن الرازي، ثم إن السيوطي لم يفسر هذه الآية بأن المغير فيها شر، وإنما روى الحديث فقط بلا تعليق عليه، وهذه هي منهجيته في كتابه "الدر المنثور" فهو لا يزيد على الرواية بلا تعليق عليها، كما يقول في مقدمته: "وبعد: فلما ألفت كتاب "ترجمان القرآن" وهو التفسير المسند عن رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم وتم بحمد الله في مجلدات، فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرج منها واردات، رأيت قصور أكثر الهمم عن تحصيله، ورغبتهم في الاقتصار على متون الأحاديث دون الإسناد وتطويله، فخلصت منه هذا المختصر مقتصرا فيه على متن الأثر، مصدرا بالعزو والتخريج إلى كل كتاب معتبر". وكذلك من نقل عنهم السيوطي وهم ابن أبي شيبة وأبو الشيخ وابن مردويه؛ فمنهجية هذين الأخيرين أنهما ينقلان فقط الأحاديث والآثار بدون تعليق عليها، كما يقول السيوطي في الإتقان (في النوع الثمانين في طبقات المفسرين): "وبعدهم ابن جرير الطبري وكتابه أجل التفاسير وأعظمها، ثم ابن أبي حاتم وابن ماجه والحاكم وابن مردويه وأبو الشيخ بن حيان وابن المنذر في آخرين، وكلها مسندة إلى الصحابة والتابعين وأتباعهم، وليس فيها غير ذلك، إلا ابن جرير فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض والإعراب والاستنباط فهو يفوقها بذلك". فلا يصح أن ينسب لواحد من هؤلاء قول في المسألة لمجرد أنه نقل هذا الحديث في كتابه، وقد تقدم ما في الاستدلال بهذا الحديث.
وتقدم أيضا الكلام على حجية الإجماع في التفسير، وتقدم أن صحة المدلول لا تستلزم صحة الاستدلال؛ فالتفسير المحدث صحيح تدل عليه آيات وأحاديث، لكن صحته لا تستلزم أن آية الرعد تدل عليه، ولو كانت صحة المدلول تستلزم صحة الاستدلال لصح الاستدلال بكل آية من القرآن على هذا المعنى، لمجرد أنه صحيح.
وعموم "ما" في هذه الآية ليس دليلا؛ لأنها مجملة أو مبهمة حسب تعبير أبي حيان لا يتبين المراد بها إلا بالسياق أو بتبيينها بآية الأنفال، يقول أبو حيان: "و"ما" موصولة صلتها "بقوم"، وكذا "ما بأنفسهم". وفي "ما" إبهام لا يتغير (كذا بالأصل، ولعل الصواب: يتميز) المراد منها إلا بسياق الكلام، واعتقاد محذوف يتبين به المعنى، والتقدير: "لا يغير ما بقوم من نعمة وخير إلى ضد ذلك، حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعته إلى توالي معصيته، (..) ولما كان سياق الكلام في الانتقام من العصاة اقتصر على قوله: "سوء". وقد نص ابن عاشور أيضا على أن السياق يمنع إرادة هذا التفسير المحدث، ونص سيد قطب على أن السياق يرجح تفسير المتقدمين، كما تقدم. ونص ابن كثير على الربط بين الآيتين، ونص الشنقيطي على أن آية الأنفال مبينة لآية الرعد، أي: أن آية الرعد مجملة، وإلا لما احتاجت إلى بيان. والله أعلم.
 
هذا ما ذكره ابن كثير في تفسير آية سورة الرعد

هذا ما ذكره ابن كثير في تفسير آية سورة الرعد

... ونص ابن كثير على الربط بين الآيتين .
و هذا ما ذكره ابن كثير في تفسير آية سورة الرعد :
قال : وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن جَهْم، عن إبراهيم قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا تحول لهم مما يحبون إلى ما يكرهون، ثم قال: إن مصداق ذلك في كتاب الله: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }
وقد ورد هذا في حديث مرفوع، فقال الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه "صفة العرش": حدثنا الحسن بن علي، حدثنا الهيثم بن الأشعث السلمي، حدثنا أبو حنيفة اليمامي الأنصاري، عن عمير بن عبد الله قال: خطبنا علي بن أبي طالب على منبر الكوفة، قال: كنت إذا سكتُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأني، وإذا سألته عن الخبر أنبأني، وإنه حدثني عن ربه، عز وجل، قال: "قال الرب: وعزتي وجلالي، وارتفاعي فوق عرشي، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهتُ من معصيتي، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي" ([1]) .
________________
[1]) صفة العرش برقم (19) والهيثم مجهول وشيخه لم أجد له ترجمة. [ محقق الكتاب ]

و هنا نجد أن ابن كثير استشهد بالأثر و بالحديث المرفوع في تفسير الآية ،
و في أولهما : أن المُغَيَّر – الذي كان بالقوم فتحولوا عنه – هو الطاعة ،
و في الحديث القدسي الثاني : أن المُغَيَّر – الذي كان بالقوم فتحولوا عنه – هو المعصية .​

و إذا كانت آية سورة الأنفال مُفَسِّرة لآية سورة الرعد ، فهي ليست مُخَصِّصة لها ،
و بهذا يستقيم الربط بين الآيتيْن ، و لا يكون هناك تعارض بين قوليّ ابن كثير .
* * *
و لفظ الحديث في " الدر المنثور " للسيوطي أَتَمّ ؛ قال :
وأخرج ابن أبي شيبة في كتاب العرش ، وأبو الشيخ وابن مردويه ، عن علي - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله « وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ، ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية ، كانوا على ما كرهته من معصيتي ، ثم تحوّلوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي ، إلا تحوّلت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي؛ وما من أهل بيت ولا قرية ولا رجل ببادية كانوا على ما أحببت من طاعتي ، ثم تحولوا عنها إلى ما كرهت من معصيتي ، إلا تحولت لهم عما يحبون من رحمتي إلى ما يكرهون من غضبي » . اهـ
و فيه : أن المُغَيَّر – الذي يكون بالقوم ، فيتحولون عنه - يشمل المعاصي و الطاعات .
و آخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين .
 
عودة
أعلى