بنت اسكندراني
New member
حين هممتُ بقراءة مقالٍ في الملتقى المفتوح عن نقد أدبيٍّ لأحد أعضاء الملتقى وهو الدكتور إبراهيم عوض ينقد فيه رواية ( أولاد حارتنا ) ـ حاصدة نوبل الغرب بفكرها , وحاصدة حسرة مسلمي الشرق بإلحادها ـ وقبل أن أُكمل قراءة المقال أتتْ مني نقرةً غير مقصودةٍ على جهاز الكاتوب , فإذا بي في مكان غير المكان ,فلما استوعبتُ ما حدث , إذ بي وقد انتقلتُ عبر الشبكة العنكبوتية فأُدخِلْتُ عنوةً إلى بستانٍ خاص , وإذا به موقعٌ قد جُمعتْ فيه مقالات الدكتور إبراهيم عوض , فلازلتُ أتنقل بين زهراته أتأمل العناوين , وأستنشق بعضا من أريج الفكر النير . فنعم النقرة التي من حيث ظننتها قد أضاعتني أوصلتني إلى تلك الرياض الغناء .
وفي أثناء تجولي وقعتُ على مقالٍ بديعٍ في نقد ( ماجدولين ) إحدى رواية الأديب المبدع مصطفى لطفي المنفلوطي , وكم استمتعتُ في قراءة هذا المقال حتى رأيتُني وقد حلّقتُ مرفرفة في آفاق المنفلوطي الأدبية الرحبة , حتى كدتُ أنعزل عن الزمان والمكان , وبعد أن عدتُ أدراجي غانمةً , أحببتُ أن أفرغ ما بجعبتي مما اقتطفته من ذلك المرج المقالي الخصيب , لتحلقوا مع المنفلوطي , الذي لا أظن أن قلما أدبيا مميزا يولد دون أن يمر بطورٍ جنينيٍّ مهم اسمه : طور المنفلوطي , ذلك لما له من سحر خاص يضفيه على قارئه , فتتحسن بها الذائقة الأدبية , وتسمو به المشاعر البشرية , وتنهض به ما دَفن المجتمع الحديث من الأخلاق والمثل الإنسانية .
ورغم أن طبيعة الملتقى المفتوح من ملتقى أهل التفسير يحوي العديد من المقالات الأدبية , نثرية وشعرية ؛ إلا أن ما شجعني واستحفز همتي لإنزال هذا المقال هنا ؛ هو أنني حين رأيتُ حاصد نوبل وكتابه قد اتخذ مكانا في ملتقانا فليس أقل من أن يزاحمه حاصد أوسمة القلوب وحامل نياشين الإبداع مصطفى لطفي المنفلوطي ـ هذا من وجهة نظري ـ .
وهذا المقال لا يلقي الضوء على إحدى روايات المنفلوطي فحسب وإنما يسلط الضوء على المنفلوطي ذاته , فهو يعكس لنا شيئا من ميوله , والكثير من قناعاته وأفكاره ، كل ذلك مجدلا بجوهر إبداعه السبكيِّ الآسر .
وأذكر أنني التهمتُ جميع ما طُبع من نتاج قلم المنفلوطي في مرحلة مبكرة من حياتي , وهي المرحلة المتوسطة , فكان لذلك أشد الأثر على تعمق حبي وتعلقي بالأدب والبلاغة . لذا فأنا حين أمتدحه إنما أعبر عن شيء من الشكر والتقدير الذي أدين به للمنفلوطي , فرحمه الله رحمة واسعة , وجعل الجنة مثواه .
وأذكر أنني التهمتُ جميع ما طُبع من نتاج قلم المنفلوطي في مرحلة مبكرة من حياتي , وهي المرحلة المتوسطة , فكان لذلك أشد الأثر على تعمق حبي وتعلقي بالأدب والبلاغة . لذا فأنا حين أمتدحه إنما أعبر عن شيء من الشكر والتقدير الذي أدين به للمنفلوطي , فرحمه الله رحمة واسعة , وجعل الجنة مثواه .
وقد قام الدكتور إبراهيم العوض في دراسته لرواية ( ماجدولين ) بجهد جبار , حيث قام بنفسه بترجمة الرواية الأصلية التي ترجمها المنفلوطي من الفرنسية إلى العربية , ليقارن بين النص الأصلي والنص المنفلوطيّ , فتوصل إلى الكثير من النتائج , علّ أكثر ما أعجبني فيها هو أن المنفلوطي ـ رحمه الله ـ لم يكن يترجم الرواية ترجمة حرفية , فهو يستمع إلى ما تُرجم إليه فيأخذه كمواد خام , يضعها في إناء عقله لتنضج على نار هادئة , مضيفا إليها بهاراته الخاصة , ليسْكُبُ لنا حساءً شرقياً شهياً يناسب ذائقتنا العربية المميزة . لذا فلا عجب أن وجبة هكذا مطبخها التحضيري أن تتخللها ومضات إسلامية بين الفينة والفينة .
وقبل أن تدلف ـ عزيزي القارئ ـ إلى مختاراتي من مقال الدكتور إبراهيم عوض , أحببتُ أن أنبّه أن مقالي هذا إنما يأتي على بعض جوانب تلك الدراسة , بعد أن أذن لي صاحبه في الاقتصاص من مقاله الطويل , فمن أراد اكتمال الصورة فعليه بالمقال الأم , والمعنون باسم الرواية , على موقع الدكتور إبراهيم عوض . وأحداث هذه الرواية ـ محل الدراسة ـ بإيجاز ( اختصرته من مقال الدكتور ) تحكي علاقة بريئة بين شاب وفتاة لم تتوج بموافقة أهل الفتاة على الزواج بسب وصمة العار التي ألحقها الفقر بالفتى , فزُفتْ لغيره من الأغنياء ليعاني الفتى بعدها . إلى غير ذلك من الأحداث .
وهنا أنسحب لأترككم مع مقتطفات من المقال :
((التعريف بالرواية : إن "ماجدولين" هي في الأصل رواية فرنسية بعنوان "Sous les Tilleuls: تحت أشجار الزيزفون"، وهى أول عمل روائي للأديب والصحافي والناقد الفرنسي المعروف ألفونس كار: Jean-Baptiste Alphonse Karr (1808- 1890م). ويرجع تاريخ صدروها إلى عام 1832م، أيام كان مؤلفها في الرابعة والعشرين من عمره. وهى تنتمي إلى القصص الرومانسي الحاد الذي كان منتشرا على نطاق واسع في فرنسا، بل في أوربا بوجه عام، أثناء القرن التاسع عشر، ويعتمد السرد فيها أسلوب المراسلة معظم الوقت. وقد أُعْجِب المنفلوطي (1876- 1924م) بها وبادر إلى نقلها إلى اللغة العربية لما فيها من نزعة خيالية وجدانية تتبدى في إخلاص بطلها العنيف في حبه، وإن غلبت عليها السذاجة واللامنطقية في أحيان كثيرة. ونشر، رحمه الله، القسط الأول من تلك الرواية سنة 1912م في الجزء الثاني من كتابه: "النظرات"، ثم أكملها وأصدرها في مجلد مستقل عام 1917م.))
((ومؤلف الرواية قد أراد إظهار الخلاف بين مفهومين للسعادة: أحدهما يرى أن السعادة في الحب والوفاء للحبيب، والآخر يرى أنها في المال أيا كانت الوسائل المستخدَمة في الحصول عليه. بَيْدَ أن إغراقها أحيانا كثيرة في الخيال واللامنطقية يضعف تأثيرها في نفوسنا الآن، فكثير من أحداثها ومواقف بعض أبطالها لا يمكن أن يقبلها منطق الحياة السائد على الأقل. ذلك أنها مصطنعة اصطناعا ولا تتسق مع الطبيعة البشرية، بل لا تخطر لأحد في بال إلا على سبيل التوهم والمغالاة في التكلف))
((ولم يكن المنفلوطي يجيد الفرنسية فلم ينقل الرواية مباشرة إلى لسان العرب، بل أعاد صياغتها بعد أن قصها عليه أحد معارفه ممن كانوا على علم بتلك اللغة، وهو محمد فؤاد كمال بك. ولم يلتزم كاتبنا الكبير، رحمه الله، بما جاء فيها، بل كان يخرج في أحيان كثيرة عن الأصل فيلجأ إلى الاستطراد والتطويل والحذف والإضافة والتحوير والاستبدال وفقا لموقفه من الأحداث ورأيه في أحوال الحياة والبشر، أو رغبة في إظهار مقدرته البيانية كما سوف نبين بالتفصيل والشواهد بعد قليل. وقد يكون للنسيان والسهو أو عدم الرغبة في أن يَشُقّ على القراء بنقله لهم تلك الرواية الطويلة كاملة مدخل في ذلك.))
(( وها هي ذي ترجمة النص بقلمي ، وقد حاولتُ جاهدا أن تجيء تلك الترجمة ألصق ما يكون بالأصل الفرنسي: ( يقول بطل الرواية ) : "الوقت الآن متأخر، وأنا في غرفتي بجوار الـمُصْطَلَى، وقد أثار خطاب إدوار عندي الخواطر. ترى هل يمكن حقا أن أشهد يومًا انطفاء شاعرية روحي؟ ترى هل من الممكن أن أرى أحلامي الجميلة وقد اصفرّت وأخذت تتساقط ورقة إثر ورقة؟ آه! لا، لا. إن الله الذي خلقني لا يمكن أن يكتب لي هذا الفشل المرير، كما أنه من غير الممكن أن يكون قد وهبني الرغبة والأمل من أجل أن تقضى عليهما وتحطمهما تلك الإحباطات الحزينة، أو أن يكون قد أعطى روحي ذينك الجناحين اللذين انتزعاني من الأرض وبلغا بي سحب الصباح الوردية من أجل أن يدهورني إلى الأرض من جديد بهذه القوة. إن السعادة التي أحسستُ بها لا يمكن أن تكون مجرد فكرة، بل هي روحٌ تبحث عن روحي، وامرأةٌ تكمل حياتي، وحبٌّ يهبني ذلك النصف منى الذي كنتُ أحس نقصانه في قسوة، والذي من شأنه أن يملأ ذلك الفراغ المؤلم من قلبي. إن ما في الطبيعة لهو أعظم مما نتخيل، فلم يحدث قط أن تخيلت جبلا شامخا على النحو الرائع الذي هو عليه في الحقيقة. ومهما يقل شعراؤنا في وصف شروق الشمس فإن ما شعرتُ به أول مرة طالعتُ فيها ذلك الشروق البديع جعلني أوقن أن خيالي لا يمكن أن يصل في تحليقه إلى سماء الواقع الشاهقة.
إن أحلام الخيال ليست إلا انعكاسا شاحبا لما تصنعه يد الله. ترى أيصح الظن بأن عقلنا، من خلال مثل تلك الموهبة البائسة، يمكنه أن يحتاز قدرة على الخلق أعظم من قدرة الله، وأن لديه القوة على تخيل سعادة لم يجعلها الله له؟ كلا. إن هذه السعادة التي أشعر بالحاجة إليها قد خلقها الله من أجلى مثلما خلق الشمس التي تحيى الأشجار، والريح العاطرة التي ترعش الأوراق. وإذا كان إدوار على حق فإني أدعو الله ألا يطيل أيامي إلى ما بعد تحطم آمالي وألا يُكْتَب علىّ ارتداء ملابس الحداد على روحي وألا أرى نفسي، بعد شعوري بأن رأسي قد بلغ السحاب وأن أنفاس الملائكة تداعبه، قد عدت أزحف في التراب مثل سلحفاة باردة!
وعلى أية حال فلسوف أرى ماذا يحدث، ولا أظنني سأعيش بعد أن يكون عمري قد وَلَّى. وهأنذا أسجل انطباعاتي في كثير من الأحيان وأقارنها. وفى اليوم الذي أتيقن أن ما بقلبي ليس إلا فقاعة صابون براقة سرعان ما تنفثئ وتتلاشى وأن سعادتي سوف تفر منى كما يفر الماء من خلال الأصابع المطبقة عليه فإني سوف أرحل عن هذه الدنيا وأبتهل إلى الله في السماء أن يحقق لي ما كان قد وعدنيه على الأرض، إذ هو أب رحيم، وما من حاجة لنا إلا وتنطوي على وعد بتحقيقها".
هذه ترجمتي للفصل المذكور، ثم ها هي ذي تأدية المنفلوطي له: "مضى الليل إلا أقله، ولم يبق إلا أن تنفرج لمّة الظلام عن جبين الفجر، ولا أزال ساهرا قلق المضجع أطلب الراحة فلا أجدها، وأهتف بالغمض فلا أعرف السبيل إليه. إن إدوار يسخر منى في كتابه ويهزأ بي وينذرني بيوم أرى فيه أوهاما كاذبة وأحلاما باطلة ما كنت أحسبه أمانيّ وآمالا، ويرى أن جميع ما أقدّره لنفسي من سعادةٍ في الحياة وهناءٍ أشبهُ شيءٍ بالخيالات الشعرية التي يسعد الشعراء بتصورها ولا يسعدون بوجودها. فلئن كان ما قال حقا ؛ فما أمرَّ طعم العيش، وما أظلم وجه الحياة! لا لا، إن الذي غرس في قلبي هذه الآمال الحِسَان لا يعجز عن أن يتعهدها بلطفه وعنايته حتى تخرج ثمارها وتتلألأ أزهارها، وإن الذي أنبت في جناحيّ هذه القوادم والخوافي لا يرضى أن يَهِيضني ويتركني في مكاني كسيرا لا أنهض ولا أطير، وإن الذي سلبني كل ما يؤمّل الآخرون في هذه الحياة من سرور وغبطة ولم يُبْقِ لى منها إلا حلاوة الأمل ولذته ؛ لأَجَلُّ من أن يقسو علىّ القسوة كلها فيسلبني تلك الثمالة الباقية التي هي مِلاَك يميني وقِوَام حياتي .
على أنني ما ذهبتُ بعيدا ولا طلبتُ مستحيلا، فكل ما أطمع فيه من جمال هذا العالم وزخرفه رفيقٌ آنَسُ بقربه وجواره، وأجد لذة العيش في الكون معه والسكون إليه. وما الرجال، كما يقولون، إلا أنصافٌ ماثلةٌ تطلب أنصافها الأخرى بين مخادع النساء، فلا يزال أحدهم يشعر في نفسه بذلك النقص الذي كان يشعر به آدم قبل أن تتغير صورة ضلعه الأيسر حتى يعثر بالمرأة التي خُلِقَتْ له فيَقَرّ قرارُه ويُلْقِى عصاه.
وبعد، فأي مقدور من المقدورات تضيق به قوة الله وحيلته؟ وأي عقل من عقول هذه المخلوقات يستطيع أن يبدع في تصوراته وتخيلاته الذهنية فوق ما تبدع يد القدرة في مصنوعاتها وآثارها؟ وهل الصور والخيالات التي تمتلئ بها أذهاننا وتهتف بها عقولنا إلا رسوم ضئيلة لحقائق هذا الكون وبدائعه؟ ولو أن سامعا سمع وصف منظر الشمس عند طلوعها أو مهبط الليل عند نزوله أو جمال غابة من الغابات أو علوّ جبل من الجبال ثم رأى بعد ذلك عيانا ما كان يراه تصورا وخيالا لعلم أن جمال الكائنات فوق جمال التصورات، وحقائق الموجودات فوق هواتف الخيالات. لذلك أعتقد أنى ما تخيلتُ هذه السعادة التي أقدّرها لنفسي إلا لأنها كائن من الكائنات الموجودة وأنها آتية لا ريب فيها. إن اليوم الذي أشعر فيه بخيبة آمالي وانقطاع حبل رجائي يجب أن يكون آخر يوم من أيام حياتي. فلا خير في حياة يحياها المرء بغير قلب، ولا خير في قلب يخفق بغير حب".
والآن، وبعد أن وضعنا كلا النصين بإزاء الآخر، هيا بنا إلى الملاحظات التي يخرج بها المرء من المقارنة المذكورة: فعبارة "الوقت الآن متأخر" صارت عند المنفلوطي: "مضى الليل إلا أقله" مع أنه ليس شرطا أن يكون تأخُّر الوقت قد بلغ هذا المبلغ، فقد يكون الوقت متأخرا عند قوم بدءا من الثانية عشرة مساء مثلا، بل قد يبدأ التأخر قبل ذلك عند آخرين. بل إنه لمن المحتمل أن يكون تأخر الوقت نهارا لا ليلا. لكن المنفلوطي حسم الأمر وجعل الليل يمضى إلا أقله، وهو ما يعنى أن الفجر كان قد أوشك أن يطلع على ستيفن، وهو لم ينم بعد. وهذا ما أكده المنفلوطى حين قال إنه "لم يبق إلا أن تنفرج لِمَّة الظلام عن جبين الفجر". وقد عثرت بهذه العبارة في "العبرات" أكثر من مرة: ممن ذلك قوله في قصة "اليتيم": "فلم أزل واقفًا مكاني لا أبرحه حتى رأيته قد طوى كتابه وفارق مجلسه وأوى إلى فراشه، فانصرفت إلى مخدعي، وقد مضى الليل إلا أقله، ولم يبق في سواده في صفحة هذا الوجود إلا بقايا أسطر يوشك أن يمتد إليها لسان الصباحفيأتي عليها" , مما يومئ إلى أنها واحدة من العبارات الجاهزة في ذهن المنفلوطي، انبجست من شق قلمه دون تريُّث، بغض النظر عن مدى مطابقتها للأصل الفرنسي. كذلك فقول ستيفن إنه لا يزال "قلق المضجع" معناه أنه كان في السرير يحاول النوم فلا يجد النوم إلى جفنه طريقا، وهو ما لا تتحمله العبارة الفرنسية التي ينص فيها ستيفن على أنه كان بجوار المصطلى. أي كان، فيما يغلب على الظن، جالسا على كرسي ذي مساند يستدفئ قرب الموقد على عادة الأجانب في مثل تلك الظروف. ولم يكتف المنفلوطي بهذا، بل زاد فأكد أن ستيفن كان يعالج النوم بكل ما يستطيع فلا يواتيه النوم. ولم يقل المنفلوطي هذا مرة واحدة، بل قاله مرتين بعبارتين مترادفتين: "أطلب الراحة فلا أجدها، وأهتف بالغمض فلا أعرف السبيل إليه". كذلك نرى ستيفن في الطبعة العربية يشير إلى سخرية إدوار منه رغم أن النص الفرنسي هنا يخلو خلوا تاما من هذا. إنني لا أخطّئ المنفلوطي، بل أشير فقط إلى الفروق التي بين العملين. ذلك أن من الممكن جدا أن يقال إن ستيفن قد فهم كلام إدوار على أنه سخرية منه، وأن هذا ما فهمه المنفلوطي. إلا أنني أحاول أن أحصر نفسي وعملي فيما هو أمامي في الأصل دون اعتبار لما يكمن بين السطور، إن كان ثمة فعلا شيء يكمن بينها. وبالمثل يخلو النص المنفلوطي تماما مما يوجد في الأصل الفرنسي من صور مثل: "انطفاء شاعرية روحي" أو "أرى أحلامي الجميلة وقد اصفرت وأخذت تتساقط ورقة إثر ورقة"، إذ اكتفى، رحمه الله، بأداء المعنى هنا عاريا عن الصور البلاغية كما هو واضح.
والآن تعال ننظر كيف تحولت عبارة "الرغبة والأمل" إلى "الآمال الحِسَان" ، مثلما تحول "الجناحان اللذان انتزعاني من الأرض وبلغا بي سحب الصباح الوردية" إلى "أنبتَ في جناحيّ هذه القوادم والخوافي" ، مثلما تحول أيضا "يدهورني إلى الأرض بهذه القوة" إلى "يهيضني ويتركني في مكاني كسيرا لا أنهض ولا أطير"... وهكذا. أما قول المنفلوطي: "على أنى ما ذهبت بعيدا ولا طلبت مستحيلا، فكل ما أطمع فيه من جمال العالم وزخرفه" فلا وجود له في النص الفرنسي. ولكن قوله: "رفيق آنَسُ بقربه وجواره، وأجد لذة العيش في التحدث معه والسكون إليه. وما الرجال، كما يقولون، إلا أنصافٌ ماثلةٌ تطلب أنصافها الأخرى بين مخادع النساء، فلا يزال الرجل يشعر بذلك النقص الذي كان يشعر به آدم قبل أن تتغير صورة ضلعه الأيسر حتى يعثر بالمرأة التي خُلِقَتْ له فيَقَرّ قرارُه" هو نقلٌ لما قال ستيفن من بعيد، وبتصرفٍ واسع لا يأتيه إلا واحد كالمنفلوطي لم يكن يترجم، بل يسمع أو يقرأ ما يقال له فيتذكر خلاصته على وجه الإجمال، ثم يشرع في صياغة ذلك عربيًّا بأسلوب يضع نصب عينيه جمال العبارة قبل دقتها. كذلك لم يكتف المنفلوطي بالمثال الذي ضربه ستيفن للفرق بين الطبيعة والتصور الإنساني لها، وهو وصف الشعراء لشروق الشمس، بل ألحق بذلك وصف هبوط الليل وجمال الغابة، وهو ما لا وجود له في كلام ستيفن، وكذلك وصف شموخ الجبل، الذي جاء ذكره قبلا في سياق جزئي مختلف.
ولنر إلى قول ستيفن في النص الفرنسي: "وإذا كان إدوار على حق فإني أدعو الله ألا يطيل أيامي إلى ما بعد تحطم آمالي وألا يُكْتَب علىّ ارتداء ملابس الحداد على روحي وألا أرى نفسي، بعد شعوري بأن رأسي قد بلغ السحاب وأن أنفاس الملائكة تداعبه، قد عدتُ أزحف في التراب مثل سلحفاة باردة!"، ولنقارن بينه وبين ما جاء عند المنفلوطي من قوله: "إن اليوم الذي أشعر فيه بخيبة آمالي وانقطاع حبل رجائي يجب أن يكون آخر يوم من أيام حياتي. فلا خير في حياة يحياها المرء بغير قلب، ولا خير في قلب يخفق بغير حب"، ولسوف ترى بنفسك بكل سهولة ما صنع المنفلوطي في نقل المعنى إلى العربية، وما لجأ فيه إلى الاختصار أو التحوير ))
(( وإلى جانب ما مضى ثَمّ تأثيرات عربية إسلامية يلقاها الباحث في "ماجدولين" المنفلوطي: منها قوله مثلا (في بدء الفصل السابع عنده، والعاشر عند كار ( مؤلف الرواية الفرنسية ) عن والد الفتاة: "فنظر نظرة فى النجوم وقال: ما أحسب إلا أن السماء ستمطرنا هذه الليلة مطرا غزيرا..."، إذ لا وجود لمثل تلك النظرة في "ماجدولين" كار: لا في النجوم ولا في غير النجوم. وكل ما هنالك هو أن مولر "كان يدخن غليونه ويفرك يديه فقال:...". وواضح أن المنفلوطي قد استجلب العبارة المذكورة استجلابا من القرآن الكريم (الآية 88 من سورة "الصافات") استمتاعا باستعمالها في حد ذاتها دون أن يكون في الرواية الأصلية ما يدعو إلى استخدامها )).
(( ويقول بطل الرواية فيما أنطقه به كاتبنا المصري واصفا مشاعره عند ذكره اسم ماجدولين وهو في الماء يوشك أن يغرق: "فلما ذكرتُك استروحتُ من ذكراك ما استروح يعقوب من قميص يوسف"، وهو ما لا وجود له أيضا في النص الفرنسي. والإشارة هنا إلى ما جاء في سورة "يوسف" عن يعقوب صلى الله عليه وسلم حين ظل يبكى حزنا على ابنه المفقود حتى "ابيضَّتْ عيناه من الحزن فهو كظيم"، إلى أن أتاه البشير في نهاية المطاف بقميص يوسف من مصر ووضعه على وجهه فارتد بصيرا في الحال. وهذه النقطة ليست موجودة في قصة يوسف حسبما نقرأ في الكتاب المقدس (الإصحاح السابع والثلاثين من سفر "التكوين")، بل كل ما فيه أنه عندما أخبر يعقوبَ أبناؤه بأن الذئب افترس يوسف وقدموا إليه قميصه المغموس في الدم صاح قائلا: "«قَمِيصُ ابْنِي! وَحْشٌ رَدِيءٌ أَكَلَهُ، افْتُرِسَ يُوسُفُ افْتِرَاسًا». 34فَمَزَّقَ يَعْقُوبُ ثِيَابَهُ، وَوَضَعَ مِسْحًا عَلَى حَقَوَيْهِ، وَنَاحَ عَلَى ابْنِهِ أَيَّامًا كَثِيرَةً. 35فَقَامَ جَمِيعُ بَنِيهِ وَجَمِيعُ بَنَاتِهِ لِيُعَزُّوهُ، فَأَبَى أَنْ يَتَعَزَّى وَقَالَ: «إِنِّي أَنْزِلُ إِلَى ابْنِي نَائِحًا إِلَى الْهَاوِيَةِ»، وَبَكَى عَلَيْهِ"، وذلك دون أي ذكر لابيضاض عينيه كما جاء في القرآن المجيد، كما أنه لا ذكر مطلقا في رواية الكتاب المقدس لواقعة إلقاء القميص على عيني يعقوب وارتداد بصره إليه.
وفى الفصل الثالث والخمسين من "ماجدولين" العربية، المناظر للفصل الرابع عشرة بعد المائة لَدُنْ كار الفرنسية ، يكتب المنفلوطي على لسان سوزان، التي لم تكن تحبذ زواج صديقتها ماجدولين من ستيفن لفقره وغيرته الشديدة وما تدفعه إليه تلك الغيرة من تضييق عنيف عليها: "والله لو جاء في خِطْبتي مَلَكٌ من ملائكة السماء يحمل على رأسه تاج الملإ الأعلى ويمهرني بالجنة وما فيها من حُورٍ ووِلْدانٍ ورَوْحٍ وريحان ويَعِدني بالخلود الدائم والنعيم الذي لا يفنى على أن يضعني في قفص مثل هذا القفص الذي أعدّه لك هذا الخطيب المأفون لآثَرْتُ موت الفجأة والتغلغل في أعماق السجون والفرار إلى أديرة الصحارى المنقطعة على الرضا به والنزول على شَرْطه". وليس شيء من هذا في الأصل الفرنسي ، ولا يمكن أن يكون . فملكوت السماوات عند النصارى ليس فيه حُورٌ ووِلْدان كالذي في جنتنا، كما أن "الملأ الأعلى" اصطلاح إسلامي لا تعرفه النصرانية. كما أن في تركيب الكلام صدى قويا من رد سيدنا رسول الله على عمه أبى طالب في السيرة النبوية حين اقترح عليه، بناء على إلحاح قريش، أن يلاينهم بعض الشيء، إذ قال له: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظْهِره الله أو أَهْلِك فيه ما تركته". ثم إنه لا صحارى في فرنسا ولا في أي مكان من أوربا، ومن ثم لا يمكن أن تذكر سوزان في كلامها "أديرة الصحارى". إنما هي إضافة منفلوطية تأثر فيها المنفلوطي ـ رحمه الله ـ بعقيدته وبيئته.))
(( نسمع بطل روايتنا يبدى جزعه مما حدث ويقارنه بما يقع يوم القيامة: "هكذا تقوم الساعة، وتَرْجُف الراجفة، وتنتثر كواكب السماء في الفضاء، وتُطْوَى السماء طيَّ السجلّ للكتاب"، وهو كلام مأخوذ من مواضع متفرقة من القرآن الكريم: إما بنصه كما هو، وإما على وجه التقريب، وذلك في سورة "الأنبياء"/ 104، و"الروم"/ 12، و"النازعات"/ 6، و"الانفطار"/ 2. ومع هذا فلا وجود لشيء منه في الأصل الفرنسي. إنما هو زيادة زادها المنفلوطي على عادته في كثير من الأحيان في هذه الرواية بتأثير من ثقافته العربية الإسلامية )).
((وبالمثل لم يجد كاتبنا حرجا فى نقل كلام مؤلف الرواية على لسان البطل تزيينا للانتحار وتسويغا له وهجوما على من دانوه وإيهاما بأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يسخط على من يبخع نفسه بسبب اليأس أو الألم: (( لقد كذب الذين قالوا إن الانتحار ضعف وجبن، وما الضعف والجبن إلا الرضا بحياةٍ كلها آلام وأسقام فرارا من ساعة شدة مهما كابد المرء فيها من الغصص والأوجاع فهي ذاهبة، ولا رجعة فيها من بعد ذلك... إنا لم نأت إلى هذا العالم باختيارنا، فلم لا نخرج منه متى شئنا؟ وإنا لم نكتب على أنفسنا عهدا بين يدي أحد أن نبقى فيه بقاء الدهر، فلم يُسَمَّى سعينا في الخلاص منه خيانة وغدرا أو كفرانا بنعمة الله ومنّته؟ إنها هفوة هفاها شيشرون الروماني في ذلك العهد القديم حينما قال: "إن كان لحامل الراية في الحرب حق في إلقائها عن عاتقه كان للإنسان حق في قتل نفسه"، وجاراه المجتمع الإنساني كله على هفوته هذه حتى اليوم دون أن يخطر على بال فرد من أفراده أن يقول له: إن لحامل الراية الحقَّ كلَّ الحق في إلقائها عن عاتقه إذا ثقل حملها عليه. وأعجب من ذلك أنهم لا يذكرون الانتحار إلا ذكروا اسم الله بجانبه وافتنّوا في تصوير غضبه ونقمته على المنتحرين، والله أعدل وأرحم من أن يبتلى عبدا من عبيده ببليّة لا تطيب معها الحياة ثم يأبى عليه إلا أن يرتبط بجانبها أبد الدهر ولا يبتغى لنفسه طريقا إلى الخلاص منها ))
وسبب استغرابي هو أن المنفلوطي رجل مسلم يحب دينه ، ومقتنع به كل الاقتناع، تبرهن على هذا كتاباته ومواقفه بما لا يدع مجالا للريب في ذلك. فما الذي جعله يبدو وكأنه يدافع عن الانتحار ويسوّغ الإقدام عليه والتعرض من ثَمَّ لنقمة الله ؟ ثم هل ما نعرفه عن غضب الله على من يبخعون أنفسهم هو كلام من كلام البشر لا قيمة له كما يقول ستيفن؟ أم هل هو كلام الرسل عليهم السلام، أمرهم ربهم بتبليغه إلى الناس للالتزام بما فيه؟ قد يقول قائل: إن المنفلوطي لا يعبر هنا عن نفسه، بل عن الكاتب، أو إن شئنا قلنا: إنه إنما ينقل وجهة نظر ستيفن في حالته النفسية الراهنة ليس إلا. لكن اختيار المرء، كما نعرف، هو دليل على عقله، وقد اختار المنفلوطي تعريب هذه الرواية لأنها أعجبته ، فكيف أعجبته ، وفيها عن الانتحار هذا الكلام الذي لا يرضى عنه الله ورسوله؟ ثم إن المنفلوطي قد أضفى على منطق ستيفن الأعوج جاذبيةً قويةً من خلال صياغته الأسلوبية البارعة. خلاصة القول إن الرومانسية لا ينبغي أن تُغَشِّىَ على بصائرنا فنحلّل ما حرم الله .
ومعروف أن المنفلوطي كثيرا ما يتدخل في سياق السرد والوصف كي يدلى برأيه أو يحذف شيئا لا يرضى عنه ضميره أو يحوّر معنى لا يرى رأى المؤلف فيه، فلماذا لم يصنع هذا هنا، والأمر أخطر بكثير من المواقف الأخرى التي كان يتدخل فيها؟ لقد كان يمكنه أن يصنع هذا دون أن يفسد الفن ويخرج على متطلباته، وفى ذكائه وموهبته ما يسعفه بالمطلوب في تلك الحالة، كأن يلمح مثلا إلى أن هذه كانت فورة نفسية عنيفة من ستيفن غطت على عقله فجعلته لا يبصر مواقع أقدامه ولا يتحكم في فلتات لسانه، وذلك بدلا من أن يجند لها أسلوبه المتقد وحماسته النارية وكأنه يشاطر بطل الرواية فيما يرتئيه، مع أنه رحمه الله كتب أكثر من مرة يحمل على الانتحار حملة نارية: كما في مقالة له منشورة في الجزء الأول من كتاب "النظرات" تحت عنوان "الانتحار"، كلها تحذير من غضب الله ممن يبيعون سعادة آخرتهم بخسارتهم سعادة دنياهم فيخسرون السعادتين. وكما في مقالة له أخرى في الجزء الثاني من "النظرات" تحت العنوان ذاته، يعبر فيها ـ رحمه الله ـ عن جزعه وهلعه جَرّاء تقليدنا للغربيين في كل ما يضرنا ويهلكنا، ومنه الإقدام على الانتحار مثلما يفعلون حين يأخذ عليهم اليأسُ الطريقَ من كل وجه، وهو ما لم يكن المسلم يصنعه قبل اتصاله وافتتانه بالحضارة الغربية حسبما يقول. وفى بداية هذه المقالة نراه يبدى شديد استغرابه لإقدام أحد التجار المسلمين على إزهاق روحه رغم اعتقاده بسوء عاقبة المنتحر يوم الحساب، ثم يختمها مؤكدا أن الانتحار "نزغة من نزغات الشيطان وخطرة من خطرات النفس الشريرة". بل إنه، في مقالة ثالثة منشورة في الجزء الأول من "النظرات" أيضا بعنوان "المدنية الغربية"، يحذر تحذيرا شديدا من اتخاذ طريق المدنية الغربية لنا طريقا، وإلا كان هذا الطريق طريقا إلى الهلاك. ومما نعاه على تلك المدنية الإلحاد والانتحار، وهما لا يصلحان للمسلم، ولا المسلم يصلح لهما أو بهما. فما عدا إذن مما بدا؟))
(( لا معنى لقول عبد المحسن بدر أن سِرّ رواج هذه الرواية وغيرها من الأعمال التي عربها المنفلوطي يرجع، فيما يرجع، إلى أنه "كان يخلق الرواية المترجمة خلقا جديدا يتلاءم مع ذوق قراء عصره، هذا الذوق الذي يعجب بالإغراق في العاطفة..."، إذ يدل هذا الكلام على أن المنفلوطي ، رحمه الله، هو الذي أضفى على الرواية هذه العاطفية المسرفة، على حين أن الرواية في أصلها الفرنسي كانت أشد إسرافا عما تبدو عليه في تعريب كاتبنا الكبير يرحمه الله. كما أن الحزن سمة أصيلة في شخصية المنفلوطي جعلته يميل إلى الأدب الحزين شعرا وقصصا وأخبارا كما وضح هو نفسه في مقدمة كتابه: "النظرات"، وإن ذكر أنه لا يدرى السب في ذلك: "لا أدرى ما الذي كان يعجبني في مطالعاتي من شعر الهموم والأحزان ومواقف البؤس والشقاء، وقصص المحزونين والمنكوبين خاصة". ومما يدل على أن الأمر لم يكن مسايرة للاتجاه العام لدى القراء في ذلك الوقت أن المنفلوطي، في الظروف الواقعية المشابهة لتلك التي يصفها في قصه، كان يُتْبِع القول بالعمل، إذ كان رقيق القلب جياش المشاعر يتألم حقيقةً للمساكين والمأزومين والمحتاجين ويمد يده إلى جيبه ويعطى بسخاء رجولي نبيل. وقد أورد الدكتور محمد أبو الأنوار، شفاه الله، في الجزء الأول من كتابه القيم عن المنفلوطي (ص54 وما بعدها) شواهد على ذلك من حياة الرجل وسلوكه تدل على أن المسألة مسألة صدق أخلاقي وعاطفي، وليست متابعة للشعور العام لدى القراء كما يزعم عبد المحسن طه بدر دون تثبت أو محاولة للتحقق مما يقول ))
انتهى ما أردتُ نقله من مقال الدكتور إبراهيم عوض ( ماجدولين ) , متمنيةً أن أكون قد وفقتُ في تقديم وجبة أدبية ماتعة , هي بمثابة استراحة للقارئ الكريم ليس إلا , ليستأنف بعدها التنقل بين أروقة هذا الملتقى الرائع لمدارسة المسائل العلمية والشرعية النافعة والمفيدة .
((ومؤلف الرواية قد أراد إظهار الخلاف بين مفهومين للسعادة: أحدهما يرى أن السعادة في الحب والوفاء للحبيب، والآخر يرى أنها في المال أيا كانت الوسائل المستخدَمة في الحصول عليه. بَيْدَ أن إغراقها أحيانا كثيرة في الخيال واللامنطقية يضعف تأثيرها في نفوسنا الآن، فكثير من أحداثها ومواقف بعض أبطالها لا يمكن أن يقبلها منطق الحياة السائد على الأقل. ذلك أنها مصطنعة اصطناعا ولا تتسق مع الطبيعة البشرية، بل لا تخطر لأحد في بال إلا على سبيل التوهم والمغالاة في التكلف))
((ولم يكن المنفلوطي يجيد الفرنسية فلم ينقل الرواية مباشرة إلى لسان العرب، بل أعاد صياغتها بعد أن قصها عليه أحد معارفه ممن كانوا على علم بتلك اللغة، وهو محمد فؤاد كمال بك. ولم يلتزم كاتبنا الكبير، رحمه الله، بما جاء فيها، بل كان يخرج في أحيان كثيرة عن الأصل فيلجأ إلى الاستطراد والتطويل والحذف والإضافة والتحوير والاستبدال وفقا لموقفه من الأحداث ورأيه في أحوال الحياة والبشر، أو رغبة في إظهار مقدرته البيانية كما سوف نبين بالتفصيل والشواهد بعد قليل. وقد يكون للنسيان والسهو أو عدم الرغبة في أن يَشُقّ على القراء بنقله لهم تلك الرواية الطويلة كاملة مدخل في ذلك.))
(( وها هي ذي ترجمة النص بقلمي ، وقد حاولتُ جاهدا أن تجيء تلك الترجمة ألصق ما يكون بالأصل الفرنسي: ( يقول بطل الرواية ) : "الوقت الآن متأخر، وأنا في غرفتي بجوار الـمُصْطَلَى، وقد أثار خطاب إدوار عندي الخواطر. ترى هل يمكن حقا أن أشهد يومًا انطفاء شاعرية روحي؟ ترى هل من الممكن أن أرى أحلامي الجميلة وقد اصفرّت وأخذت تتساقط ورقة إثر ورقة؟ آه! لا، لا. إن الله الذي خلقني لا يمكن أن يكتب لي هذا الفشل المرير، كما أنه من غير الممكن أن يكون قد وهبني الرغبة والأمل من أجل أن تقضى عليهما وتحطمهما تلك الإحباطات الحزينة، أو أن يكون قد أعطى روحي ذينك الجناحين اللذين انتزعاني من الأرض وبلغا بي سحب الصباح الوردية من أجل أن يدهورني إلى الأرض من جديد بهذه القوة. إن السعادة التي أحسستُ بها لا يمكن أن تكون مجرد فكرة، بل هي روحٌ تبحث عن روحي، وامرأةٌ تكمل حياتي، وحبٌّ يهبني ذلك النصف منى الذي كنتُ أحس نقصانه في قسوة، والذي من شأنه أن يملأ ذلك الفراغ المؤلم من قلبي. إن ما في الطبيعة لهو أعظم مما نتخيل، فلم يحدث قط أن تخيلت جبلا شامخا على النحو الرائع الذي هو عليه في الحقيقة. ومهما يقل شعراؤنا في وصف شروق الشمس فإن ما شعرتُ به أول مرة طالعتُ فيها ذلك الشروق البديع جعلني أوقن أن خيالي لا يمكن أن يصل في تحليقه إلى سماء الواقع الشاهقة.
إن أحلام الخيال ليست إلا انعكاسا شاحبا لما تصنعه يد الله. ترى أيصح الظن بأن عقلنا، من خلال مثل تلك الموهبة البائسة، يمكنه أن يحتاز قدرة على الخلق أعظم من قدرة الله، وأن لديه القوة على تخيل سعادة لم يجعلها الله له؟ كلا. إن هذه السعادة التي أشعر بالحاجة إليها قد خلقها الله من أجلى مثلما خلق الشمس التي تحيى الأشجار، والريح العاطرة التي ترعش الأوراق. وإذا كان إدوار على حق فإني أدعو الله ألا يطيل أيامي إلى ما بعد تحطم آمالي وألا يُكْتَب علىّ ارتداء ملابس الحداد على روحي وألا أرى نفسي، بعد شعوري بأن رأسي قد بلغ السحاب وأن أنفاس الملائكة تداعبه، قد عدت أزحف في التراب مثل سلحفاة باردة!
وعلى أية حال فلسوف أرى ماذا يحدث، ولا أظنني سأعيش بعد أن يكون عمري قد وَلَّى. وهأنذا أسجل انطباعاتي في كثير من الأحيان وأقارنها. وفى اليوم الذي أتيقن أن ما بقلبي ليس إلا فقاعة صابون براقة سرعان ما تنفثئ وتتلاشى وأن سعادتي سوف تفر منى كما يفر الماء من خلال الأصابع المطبقة عليه فإني سوف أرحل عن هذه الدنيا وأبتهل إلى الله في السماء أن يحقق لي ما كان قد وعدنيه على الأرض، إذ هو أب رحيم، وما من حاجة لنا إلا وتنطوي على وعد بتحقيقها".
هذه ترجمتي للفصل المذكور، ثم ها هي ذي تأدية المنفلوطي له: "مضى الليل إلا أقله، ولم يبق إلا أن تنفرج لمّة الظلام عن جبين الفجر، ولا أزال ساهرا قلق المضجع أطلب الراحة فلا أجدها، وأهتف بالغمض فلا أعرف السبيل إليه. إن إدوار يسخر منى في كتابه ويهزأ بي وينذرني بيوم أرى فيه أوهاما كاذبة وأحلاما باطلة ما كنت أحسبه أمانيّ وآمالا، ويرى أن جميع ما أقدّره لنفسي من سعادةٍ في الحياة وهناءٍ أشبهُ شيءٍ بالخيالات الشعرية التي يسعد الشعراء بتصورها ولا يسعدون بوجودها. فلئن كان ما قال حقا ؛ فما أمرَّ طعم العيش، وما أظلم وجه الحياة! لا لا، إن الذي غرس في قلبي هذه الآمال الحِسَان لا يعجز عن أن يتعهدها بلطفه وعنايته حتى تخرج ثمارها وتتلألأ أزهارها، وإن الذي أنبت في جناحيّ هذه القوادم والخوافي لا يرضى أن يَهِيضني ويتركني في مكاني كسيرا لا أنهض ولا أطير، وإن الذي سلبني كل ما يؤمّل الآخرون في هذه الحياة من سرور وغبطة ولم يُبْقِ لى منها إلا حلاوة الأمل ولذته ؛ لأَجَلُّ من أن يقسو علىّ القسوة كلها فيسلبني تلك الثمالة الباقية التي هي مِلاَك يميني وقِوَام حياتي .
على أنني ما ذهبتُ بعيدا ولا طلبتُ مستحيلا، فكل ما أطمع فيه من جمال هذا العالم وزخرفه رفيقٌ آنَسُ بقربه وجواره، وأجد لذة العيش في الكون معه والسكون إليه. وما الرجال، كما يقولون، إلا أنصافٌ ماثلةٌ تطلب أنصافها الأخرى بين مخادع النساء، فلا يزال أحدهم يشعر في نفسه بذلك النقص الذي كان يشعر به آدم قبل أن تتغير صورة ضلعه الأيسر حتى يعثر بالمرأة التي خُلِقَتْ له فيَقَرّ قرارُه ويُلْقِى عصاه.
وبعد، فأي مقدور من المقدورات تضيق به قوة الله وحيلته؟ وأي عقل من عقول هذه المخلوقات يستطيع أن يبدع في تصوراته وتخيلاته الذهنية فوق ما تبدع يد القدرة في مصنوعاتها وآثارها؟ وهل الصور والخيالات التي تمتلئ بها أذهاننا وتهتف بها عقولنا إلا رسوم ضئيلة لحقائق هذا الكون وبدائعه؟ ولو أن سامعا سمع وصف منظر الشمس عند طلوعها أو مهبط الليل عند نزوله أو جمال غابة من الغابات أو علوّ جبل من الجبال ثم رأى بعد ذلك عيانا ما كان يراه تصورا وخيالا لعلم أن جمال الكائنات فوق جمال التصورات، وحقائق الموجودات فوق هواتف الخيالات. لذلك أعتقد أنى ما تخيلتُ هذه السعادة التي أقدّرها لنفسي إلا لأنها كائن من الكائنات الموجودة وأنها آتية لا ريب فيها. إن اليوم الذي أشعر فيه بخيبة آمالي وانقطاع حبل رجائي يجب أن يكون آخر يوم من أيام حياتي. فلا خير في حياة يحياها المرء بغير قلب، ولا خير في قلب يخفق بغير حب".
والآن، وبعد أن وضعنا كلا النصين بإزاء الآخر، هيا بنا إلى الملاحظات التي يخرج بها المرء من المقارنة المذكورة: فعبارة "الوقت الآن متأخر" صارت عند المنفلوطي: "مضى الليل إلا أقله" مع أنه ليس شرطا أن يكون تأخُّر الوقت قد بلغ هذا المبلغ، فقد يكون الوقت متأخرا عند قوم بدءا من الثانية عشرة مساء مثلا، بل قد يبدأ التأخر قبل ذلك عند آخرين. بل إنه لمن المحتمل أن يكون تأخر الوقت نهارا لا ليلا. لكن المنفلوطي حسم الأمر وجعل الليل يمضى إلا أقله، وهو ما يعنى أن الفجر كان قد أوشك أن يطلع على ستيفن، وهو لم ينم بعد. وهذا ما أكده المنفلوطى حين قال إنه "لم يبق إلا أن تنفرج لِمَّة الظلام عن جبين الفجر". وقد عثرت بهذه العبارة في "العبرات" أكثر من مرة: ممن ذلك قوله في قصة "اليتيم": "فلم أزل واقفًا مكاني لا أبرحه حتى رأيته قد طوى كتابه وفارق مجلسه وأوى إلى فراشه، فانصرفت إلى مخدعي، وقد مضى الليل إلا أقله، ولم يبق في سواده في صفحة هذا الوجود إلا بقايا أسطر يوشك أن يمتد إليها لسان الصباحفيأتي عليها" , مما يومئ إلى أنها واحدة من العبارات الجاهزة في ذهن المنفلوطي، انبجست من شق قلمه دون تريُّث، بغض النظر عن مدى مطابقتها للأصل الفرنسي. كذلك فقول ستيفن إنه لا يزال "قلق المضجع" معناه أنه كان في السرير يحاول النوم فلا يجد النوم إلى جفنه طريقا، وهو ما لا تتحمله العبارة الفرنسية التي ينص فيها ستيفن على أنه كان بجوار المصطلى. أي كان، فيما يغلب على الظن، جالسا على كرسي ذي مساند يستدفئ قرب الموقد على عادة الأجانب في مثل تلك الظروف. ولم يكتف المنفلوطي بهذا، بل زاد فأكد أن ستيفن كان يعالج النوم بكل ما يستطيع فلا يواتيه النوم. ولم يقل المنفلوطي هذا مرة واحدة، بل قاله مرتين بعبارتين مترادفتين: "أطلب الراحة فلا أجدها، وأهتف بالغمض فلا أعرف السبيل إليه". كذلك نرى ستيفن في الطبعة العربية يشير إلى سخرية إدوار منه رغم أن النص الفرنسي هنا يخلو خلوا تاما من هذا. إنني لا أخطّئ المنفلوطي، بل أشير فقط إلى الفروق التي بين العملين. ذلك أن من الممكن جدا أن يقال إن ستيفن قد فهم كلام إدوار على أنه سخرية منه، وأن هذا ما فهمه المنفلوطي. إلا أنني أحاول أن أحصر نفسي وعملي فيما هو أمامي في الأصل دون اعتبار لما يكمن بين السطور، إن كان ثمة فعلا شيء يكمن بينها. وبالمثل يخلو النص المنفلوطي تماما مما يوجد في الأصل الفرنسي من صور مثل: "انطفاء شاعرية روحي" أو "أرى أحلامي الجميلة وقد اصفرت وأخذت تتساقط ورقة إثر ورقة"، إذ اكتفى، رحمه الله، بأداء المعنى هنا عاريا عن الصور البلاغية كما هو واضح.
والآن تعال ننظر كيف تحولت عبارة "الرغبة والأمل" إلى "الآمال الحِسَان" ، مثلما تحول "الجناحان اللذان انتزعاني من الأرض وبلغا بي سحب الصباح الوردية" إلى "أنبتَ في جناحيّ هذه القوادم والخوافي" ، مثلما تحول أيضا "يدهورني إلى الأرض بهذه القوة" إلى "يهيضني ويتركني في مكاني كسيرا لا أنهض ولا أطير"... وهكذا. أما قول المنفلوطي: "على أنى ما ذهبت بعيدا ولا طلبت مستحيلا، فكل ما أطمع فيه من جمال العالم وزخرفه" فلا وجود له في النص الفرنسي. ولكن قوله: "رفيق آنَسُ بقربه وجواره، وأجد لذة العيش في التحدث معه والسكون إليه. وما الرجال، كما يقولون، إلا أنصافٌ ماثلةٌ تطلب أنصافها الأخرى بين مخادع النساء، فلا يزال الرجل يشعر بذلك النقص الذي كان يشعر به آدم قبل أن تتغير صورة ضلعه الأيسر حتى يعثر بالمرأة التي خُلِقَتْ له فيَقَرّ قرارُه" هو نقلٌ لما قال ستيفن من بعيد، وبتصرفٍ واسع لا يأتيه إلا واحد كالمنفلوطي لم يكن يترجم، بل يسمع أو يقرأ ما يقال له فيتذكر خلاصته على وجه الإجمال، ثم يشرع في صياغة ذلك عربيًّا بأسلوب يضع نصب عينيه جمال العبارة قبل دقتها. كذلك لم يكتف المنفلوطي بالمثال الذي ضربه ستيفن للفرق بين الطبيعة والتصور الإنساني لها، وهو وصف الشعراء لشروق الشمس، بل ألحق بذلك وصف هبوط الليل وجمال الغابة، وهو ما لا وجود له في كلام ستيفن، وكذلك وصف شموخ الجبل، الذي جاء ذكره قبلا في سياق جزئي مختلف.
ولنر إلى قول ستيفن في النص الفرنسي: "وإذا كان إدوار على حق فإني أدعو الله ألا يطيل أيامي إلى ما بعد تحطم آمالي وألا يُكْتَب علىّ ارتداء ملابس الحداد على روحي وألا أرى نفسي، بعد شعوري بأن رأسي قد بلغ السحاب وأن أنفاس الملائكة تداعبه، قد عدتُ أزحف في التراب مثل سلحفاة باردة!"، ولنقارن بينه وبين ما جاء عند المنفلوطي من قوله: "إن اليوم الذي أشعر فيه بخيبة آمالي وانقطاع حبل رجائي يجب أن يكون آخر يوم من أيام حياتي. فلا خير في حياة يحياها المرء بغير قلب، ولا خير في قلب يخفق بغير حب"، ولسوف ترى بنفسك بكل سهولة ما صنع المنفلوطي في نقل المعنى إلى العربية، وما لجأ فيه إلى الاختصار أو التحوير ))
(( وإلى جانب ما مضى ثَمّ تأثيرات عربية إسلامية يلقاها الباحث في "ماجدولين" المنفلوطي: منها قوله مثلا (في بدء الفصل السابع عنده، والعاشر عند كار ( مؤلف الرواية الفرنسية ) عن والد الفتاة: "فنظر نظرة فى النجوم وقال: ما أحسب إلا أن السماء ستمطرنا هذه الليلة مطرا غزيرا..."، إذ لا وجود لمثل تلك النظرة في "ماجدولين" كار: لا في النجوم ولا في غير النجوم. وكل ما هنالك هو أن مولر "كان يدخن غليونه ويفرك يديه فقال:...". وواضح أن المنفلوطي قد استجلب العبارة المذكورة استجلابا من القرآن الكريم (الآية 88 من سورة "الصافات") استمتاعا باستعمالها في حد ذاتها دون أن يكون في الرواية الأصلية ما يدعو إلى استخدامها )).
(( ويقول بطل الرواية فيما أنطقه به كاتبنا المصري واصفا مشاعره عند ذكره اسم ماجدولين وهو في الماء يوشك أن يغرق: "فلما ذكرتُك استروحتُ من ذكراك ما استروح يعقوب من قميص يوسف"، وهو ما لا وجود له أيضا في النص الفرنسي. والإشارة هنا إلى ما جاء في سورة "يوسف" عن يعقوب صلى الله عليه وسلم حين ظل يبكى حزنا على ابنه المفقود حتى "ابيضَّتْ عيناه من الحزن فهو كظيم"، إلى أن أتاه البشير في نهاية المطاف بقميص يوسف من مصر ووضعه على وجهه فارتد بصيرا في الحال. وهذه النقطة ليست موجودة في قصة يوسف حسبما نقرأ في الكتاب المقدس (الإصحاح السابع والثلاثين من سفر "التكوين")، بل كل ما فيه أنه عندما أخبر يعقوبَ أبناؤه بأن الذئب افترس يوسف وقدموا إليه قميصه المغموس في الدم صاح قائلا: "«قَمِيصُ ابْنِي! وَحْشٌ رَدِيءٌ أَكَلَهُ، افْتُرِسَ يُوسُفُ افْتِرَاسًا». 34فَمَزَّقَ يَعْقُوبُ ثِيَابَهُ، وَوَضَعَ مِسْحًا عَلَى حَقَوَيْهِ، وَنَاحَ عَلَى ابْنِهِ أَيَّامًا كَثِيرَةً. 35فَقَامَ جَمِيعُ بَنِيهِ وَجَمِيعُ بَنَاتِهِ لِيُعَزُّوهُ، فَأَبَى أَنْ يَتَعَزَّى وَقَالَ: «إِنِّي أَنْزِلُ إِلَى ابْنِي نَائِحًا إِلَى الْهَاوِيَةِ»، وَبَكَى عَلَيْهِ"، وذلك دون أي ذكر لابيضاض عينيه كما جاء في القرآن المجيد، كما أنه لا ذكر مطلقا في رواية الكتاب المقدس لواقعة إلقاء القميص على عيني يعقوب وارتداد بصره إليه.
وفى الفصل الثالث والخمسين من "ماجدولين" العربية، المناظر للفصل الرابع عشرة بعد المائة لَدُنْ كار الفرنسية ، يكتب المنفلوطي على لسان سوزان، التي لم تكن تحبذ زواج صديقتها ماجدولين من ستيفن لفقره وغيرته الشديدة وما تدفعه إليه تلك الغيرة من تضييق عنيف عليها: "والله لو جاء في خِطْبتي مَلَكٌ من ملائكة السماء يحمل على رأسه تاج الملإ الأعلى ويمهرني بالجنة وما فيها من حُورٍ ووِلْدانٍ ورَوْحٍ وريحان ويَعِدني بالخلود الدائم والنعيم الذي لا يفنى على أن يضعني في قفص مثل هذا القفص الذي أعدّه لك هذا الخطيب المأفون لآثَرْتُ موت الفجأة والتغلغل في أعماق السجون والفرار إلى أديرة الصحارى المنقطعة على الرضا به والنزول على شَرْطه". وليس شيء من هذا في الأصل الفرنسي ، ولا يمكن أن يكون . فملكوت السماوات عند النصارى ليس فيه حُورٌ ووِلْدان كالذي في جنتنا، كما أن "الملأ الأعلى" اصطلاح إسلامي لا تعرفه النصرانية. كما أن في تركيب الكلام صدى قويا من رد سيدنا رسول الله على عمه أبى طالب في السيرة النبوية حين اقترح عليه، بناء على إلحاح قريش، أن يلاينهم بعض الشيء، إذ قال له: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظْهِره الله أو أَهْلِك فيه ما تركته". ثم إنه لا صحارى في فرنسا ولا في أي مكان من أوربا، ومن ثم لا يمكن أن تذكر سوزان في كلامها "أديرة الصحارى". إنما هي إضافة منفلوطية تأثر فيها المنفلوطي ـ رحمه الله ـ بعقيدته وبيئته.))
(( نسمع بطل روايتنا يبدى جزعه مما حدث ويقارنه بما يقع يوم القيامة: "هكذا تقوم الساعة، وتَرْجُف الراجفة، وتنتثر كواكب السماء في الفضاء، وتُطْوَى السماء طيَّ السجلّ للكتاب"، وهو كلام مأخوذ من مواضع متفرقة من القرآن الكريم: إما بنصه كما هو، وإما على وجه التقريب، وذلك في سورة "الأنبياء"/ 104، و"الروم"/ 12، و"النازعات"/ 6، و"الانفطار"/ 2. ومع هذا فلا وجود لشيء منه في الأصل الفرنسي. إنما هو زيادة زادها المنفلوطي على عادته في كثير من الأحيان في هذه الرواية بتأثير من ثقافته العربية الإسلامية )).
((وبالمثل لم يجد كاتبنا حرجا فى نقل كلام مؤلف الرواية على لسان البطل تزيينا للانتحار وتسويغا له وهجوما على من دانوه وإيهاما بأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يسخط على من يبخع نفسه بسبب اليأس أو الألم: (( لقد كذب الذين قالوا إن الانتحار ضعف وجبن، وما الضعف والجبن إلا الرضا بحياةٍ كلها آلام وأسقام فرارا من ساعة شدة مهما كابد المرء فيها من الغصص والأوجاع فهي ذاهبة، ولا رجعة فيها من بعد ذلك... إنا لم نأت إلى هذا العالم باختيارنا، فلم لا نخرج منه متى شئنا؟ وإنا لم نكتب على أنفسنا عهدا بين يدي أحد أن نبقى فيه بقاء الدهر، فلم يُسَمَّى سعينا في الخلاص منه خيانة وغدرا أو كفرانا بنعمة الله ومنّته؟ إنها هفوة هفاها شيشرون الروماني في ذلك العهد القديم حينما قال: "إن كان لحامل الراية في الحرب حق في إلقائها عن عاتقه كان للإنسان حق في قتل نفسه"، وجاراه المجتمع الإنساني كله على هفوته هذه حتى اليوم دون أن يخطر على بال فرد من أفراده أن يقول له: إن لحامل الراية الحقَّ كلَّ الحق في إلقائها عن عاتقه إذا ثقل حملها عليه. وأعجب من ذلك أنهم لا يذكرون الانتحار إلا ذكروا اسم الله بجانبه وافتنّوا في تصوير غضبه ونقمته على المنتحرين، والله أعدل وأرحم من أن يبتلى عبدا من عبيده ببليّة لا تطيب معها الحياة ثم يأبى عليه إلا أن يرتبط بجانبها أبد الدهر ولا يبتغى لنفسه طريقا إلى الخلاص منها ))
وسبب استغرابي هو أن المنفلوطي رجل مسلم يحب دينه ، ومقتنع به كل الاقتناع، تبرهن على هذا كتاباته ومواقفه بما لا يدع مجالا للريب في ذلك. فما الذي جعله يبدو وكأنه يدافع عن الانتحار ويسوّغ الإقدام عليه والتعرض من ثَمَّ لنقمة الله ؟ ثم هل ما نعرفه عن غضب الله على من يبخعون أنفسهم هو كلام من كلام البشر لا قيمة له كما يقول ستيفن؟ أم هل هو كلام الرسل عليهم السلام، أمرهم ربهم بتبليغه إلى الناس للالتزام بما فيه؟ قد يقول قائل: إن المنفلوطي لا يعبر هنا عن نفسه، بل عن الكاتب، أو إن شئنا قلنا: إنه إنما ينقل وجهة نظر ستيفن في حالته النفسية الراهنة ليس إلا. لكن اختيار المرء، كما نعرف، هو دليل على عقله، وقد اختار المنفلوطي تعريب هذه الرواية لأنها أعجبته ، فكيف أعجبته ، وفيها عن الانتحار هذا الكلام الذي لا يرضى عنه الله ورسوله؟ ثم إن المنفلوطي قد أضفى على منطق ستيفن الأعوج جاذبيةً قويةً من خلال صياغته الأسلوبية البارعة. خلاصة القول إن الرومانسية لا ينبغي أن تُغَشِّىَ على بصائرنا فنحلّل ما حرم الله .
ومعروف أن المنفلوطي كثيرا ما يتدخل في سياق السرد والوصف كي يدلى برأيه أو يحذف شيئا لا يرضى عنه ضميره أو يحوّر معنى لا يرى رأى المؤلف فيه، فلماذا لم يصنع هذا هنا، والأمر أخطر بكثير من المواقف الأخرى التي كان يتدخل فيها؟ لقد كان يمكنه أن يصنع هذا دون أن يفسد الفن ويخرج على متطلباته، وفى ذكائه وموهبته ما يسعفه بالمطلوب في تلك الحالة، كأن يلمح مثلا إلى أن هذه كانت فورة نفسية عنيفة من ستيفن غطت على عقله فجعلته لا يبصر مواقع أقدامه ولا يتحكم في فلتات لسانه، وذلك بدلا من أن يجند لها أسلوبه المتقد وحماسته النارية وكأنه يشاطر بطل الرواية فيما يرتئيه، مع أنه رحمه الله كتب أكثر من مرة يحمل على الانتحار حملة نارية: كما في مقالة له منشورة في الجزء الأول من كتاب "النظرات" تحت عنوان "الانتحار"، كلها تحذير من غضب الله ممن يبيعون سعادة آخرتهم بخسارتهم سعادة دنياهم فيخسرون السعادتين. وكما في مقالة له أخرى في الجزء الثاني من "النظرات" تحت العنوان ذاته، يعبر فيها ـ رحمه الله ـ عن جزعه وهلعه جَرّاء تقليدنا للغربيين في كل ما يضرنا ويهلكنا، ومنه الإقدام على الانتحار مثلما يفعلون حين يأخذ عليهم اليأسُ الطريقَ من كل وجه، وهو ما لم يكن المسلم يصنعه قبل اتصاله وافتتانه بالحضارة الغربية حسبما يقول. وفى بداية هذه المقالة نراه يبدى شديد استغرابه لإقدام أحد التجار المسلمين على إزهاق روحه رغم اعتقاده بسوء عاقبة المنتحر يوم الحساب، ثم يختمها مؤكدا أن الانتحار "نزغة من نزغات الشيطان وخطرة من خطرات النفس الشريرة". بل إنه، في مقالة ثالثة منشورة في الجزء الأول من "النظرات" أيضا بعنوان "المدنية الغربية"، يحذر تحذيرا شديدا من اتخاذ طريق المدنية الغربية لنا طريقا، وإلا كان هذا الطريق طريقا إلى الهلاك. ومما نعاه على تلك المدنية الإلحاد والانتحار، وهما لا يصلحان للمسلم، ولا المسلم يصلح لهما أو بهما. فما عدا إذن مما بدا؟))
(( لا معنى لقول عبد المحسن بدر أن سِرّ رواج هذه الرواية وغيرها من الأعمال التي عربها المنفلوطي يرجع، فيما يرجع، إلى أنه "كان يخلق الرواية المترجمة خلقا جديدا يتلاءم مع ذوق قراء عصره، هذا الذوق الذي يعجب بالإغراق في العاطفة..."، إذ يدل هذا الكلام على أن المنفلوطي ، رحمه الله، هو الذي أضفى على الرواية هذه العاطفية المسرفة، على حين أن الرواية في أصلها الفرنسي كانت أشد إسرافا عما تبدو عليه في تعريب كاتبنا الكبير يرحمه الله. كما أن الحزن سمة أصيلة في شخصية المنفلوطي جعلته يميل إلى الأدب الحزين شعرا وقصصا وأخبارا كما وضح هو نفسه في مقدمة كتابه: "النظرات"، وإن ذكر أنه لا يدرى السب في ذلك: "لا أدرى ما الذي كان يعجبني في مطالعاتي من شعر الهموم والأحزان ومواقف البؤس والشقاء، وقصص المحزونين والمنكوبين خاصة". ومما يدل على أن الأمر لم يكن مسايرة للاتجاه العام لدى القراء في ذلك الوقت أن المنفلوطي، في الظروف الواقعية المشابهة لتلك التي يصفها في قصه، كان يُتْبِع القول بالعمل، إذ كان رقيق القلب جياش المشاعر يتألم حقيقةً للمساكين والمأزومين والمحتاجين ويمد يده إلى جيبه ويعطى بسخاء رجولي نبيل. وقد أورد الدكتور محمد أبو الأنوار، شفاه الله، في الجزء الأول من كتابه القيم عن المنفلوطي (ص54 وما بعدها) شواهد على ذلك من حياة الرجل وسلوكه تدل على أن المسألة مسألة صدق أخلاقي وعاطفي، وليست متابعة للشعور العام لدى القراء كما يزعم عبد المحسن طه بدر دون تثبت أو محاولة للتحقق مما يقول ))
انتهى ما أردتُ نقله من مقال الدكتور إبراهيم عوض ( ماجدولين ) , متمنيةً أن أكون قد وفقتُ في تقديم وجبة أدبية ماتعة , هي بمثابة استراحة للقارئ الكريم ليس إلا , ليستأنف بعدها التنقل بين أروقة هذا الملتقى الرائع لمدارسة المسائل العلمية والشرعية النافعة والمفيدة .
وفق الله الجميع لطاعته , والعمل على مرضاته .