الحمد لله الذي أنزل القرآن الكريم وعلّمه، ورفع به من شاء من عباده وكرّمه، وجعله لأوليائه هدى وبشرى، وشفاء وذكرا، وتبياناً لكل شيء، ونجاة لكل ذي قلب حيّ، وصرّف فيه من الآيات والعبر، وضرب فيه من كلّ مثل؛ ليخرج من آمن به من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الشقاء إلى السعادة، ويهديهم به إلى صراطه المستقيم.
والصلاة والسلام على منْ منَّ الله به علينا؛ فبيّنا لنا ما نزّله الله علينا منالكتاب والحكمة، وعلّمنا ما تزكو به نفوسنا، وتتهذب به أخلاقنا، وتصلح به أحوالنا وأعمالنا؛ فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
فإن أسعد الناس بالقرآن الكريم من تلاه حقّ تلاوته فآمن به وتدبّره، وعظّم شأنه فينفسه وأكبره، وتفكّر في آياته وادّكر، واستعبر مما فيه واعتبر؛ حتى أثمرت له تلاوته من المعارف الإيمانية والبصائر السلوكية ما ينير له الطريق، ويبيّن له الحقائق، ويسمو بهمّته، ويشدّ من عزيمته حتى يتحفّز لاستباق الخيرات بسير المشمّرين، واجتهاد المحسنين، {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمنمثله في الظلمات ليس بخارج منها}
{قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}
وإنّ من أعظم نعم الله على عبده المؤمن أن يتلو كتابه بقلب منيب خاشع ، مبتغ للهدى حريص عليه، عارف بمعاني كلام الله، عاقل لما فيه من الأمثال، فيفتح الله له من أبواب الهداية ما لم يكن يخطر له على بال، ويهبه الفهم في كتابه؛ حتى يفهم من الآية الواحدة والآيات اليسيرة فوائد جليلة لا يعقلها ولا يتفطّن لها غيره من سائرالناس؛ فيفهم فهماً لا يفهمه غيره، ويعرف من المعارف ما لا يدركه سواه؛ لما قام فيقلبه من الإنابة وتعظيم هدى الله تعالى؛ فإنّ الله خصّ أهل الإنابة والخشية بخطاب خاصّ في كتابه الكريم لا يشاركهم فيه غيرهم، ووعدهم بالتذكر بكتابه {سيذكّر من يخشى}{وما يتذكر إلا من ينيب} {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} {وأنذر به الذين يخشون ربهم}{إنما تنذر الذين يخشون ربهم} {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعرمنه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهديبه من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد}.
بل بيّن الله أن مقصوده الخاص من إنزال كتابه الكريم تذكير أهل خشيته {طه . ما أنزلنا عليكالقرآن لتشقى . إلا تذكرة لمن يخشى}.
ومن حرص على تدبّر القرآن، وأعطاه حقّه من الاجتهاد والشكر لله بالعمل بما استخلصه بتدبّره، وعظّم قدره في نفسه، واعترف لله فيه بفضله: رُجي له أن يفتح الله له فيفهم القرآن فتحاً عظيما.
وإن من أهمّ ما ينبغي للمفسّر أن يعتني به أن يعقل خطاب الله له، ويستخلص الفوائد السلوكية من الآيات القرآنية التي درس تفسيرها، وعرف معانيها؛ ليزداد بتلاوته علماً وإيمانا وهداية وتبيتاً؛ ولينتقل من المعرفة المجرّدة إلى الاستفادة العلمية والسلوكية من دراسته.
وقد كتب جماعة من أهل العلم في هذا الفنّ من التدبر كتابات نافعة جليلة القدر تدلّ على عنايتهم بهذا الباب ومن ذلك:
- رسالة في تفسير قول الله عز وجل : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وقوله: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} لشيخ الإسلام ابن تيمية بيّن فيها آداب الدعاء المستنبطة من هاتين الآيتين، وهي هنا ( http://goo.gl/kb828S )
- تفسير صدر سورة العنكبوت لشيخ الإسلام ابن تيمية نقله عنه ابن القيّم رحمه الله في كتاب الفوائد.
- تفسير قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} لابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد.
- فصل في الفوائد المستنبطة من قصة أضياف إبراهيم عليه السلام لابن القيم رحمه الله في رسالته التبوكية.
- فصل في الفوائد المستفادة من قول الله تعالى:{فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} لابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان. وقراءة المفسّر وطالب علم التفسير لهذه الأمثلة وتأمّلها مرة بعد مرّة، ومحاولة السير على طريقتها تعينه بإذن الله تعالى على اكتساب الملكة التفسيرية وحسن استنباط الفوائد السلوكية التي هي لبّ التدبّر ومقصد ضرب الأمثال في القرآن.
وسأذكر في هذا الموضوع أمثلة لاستخراج بعض الفوائد السلوكية منالآيات القرآنية من باب تطبيق ما دعوت إليه وتوضيح فكرة التعلّم بالاستفادة من الأمثلة الحسنة، وعامّتها قد نشر من قبل لكن جمعها في موضوع واحد وإعادة النظر فيها وتهذيبها يعين على ما قصدت إليه، وليستفاد منها من أكثر من وجه، والله المستعان وبه التوفيق. - المثال الأول: الفوائد السلوكية المستفادة من قول الله تعالى: {ألابذكر الله تطمئّن القلوب} - المثال الثاني: الفوائد السلوكية المستفادة من قول الله تعالى:{للذين استجابوا لربهم الحسنى} - المثال الثالث: الفوائد السلوكية المستفادة من قول الله تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}
المثال الأول: فوائد سلوكية من قول الله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب}
أصدق علامات الإنابة : طمأنينة القلب المؤمن بذكر الله ، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)}
قال قتادة: (سكنت إلى ذكر الله واستأنست به). رواه ابن جرير.
فطمأنينة القلب بذكر الله: سكونه واستئناسه ورضاه بسبب ذكر الله وما دلَّ عليه.
والباء فسرت بالسببية والمصاحبة والملابسة والاستعانة والتبرك، وكلها معانٍ صحيحة تتسع لها دلالة هذا الحرف.
وهذه العلامة [طمأنينة القلب المؤمن بذكر الله] جامعة لمعانٍ عظيمة، يدلّ عليها ما فسّر به ذِكْر الله هنا؛ فقيل: الذكر: هو القرآن. وقيل: الذكر هو ذكر العبد ربَّه بلسانه. وقيل: الذكر هو ذكر العبد ربَّه في نفسه. وقيل: الذكر هو التذكر الذي ينتفع به العبد من تفكره في آيات الله ومخلوقاته.
وكل هذه المعاني صحيحة وهي من مدلول معنى ذكر الله جلَّ وعلا، وبها تحصل طمأنينة القلب، ؛ فإن القلب إذا دهمه ما يُزْعِجُه ويُجْزِعه ثم ذَكَرَ ربَّه في نفسه وعلم أن له ربّا سميعاً بصيراً رحيماً ودوداً لا يخفى عليه شيء ولا يعجزه شيء ولا يخذل أولياءه ولا يتخلَّى عنهم، بل يهديهم وينصرهم ويحفظهم اطمأنَّ قلبُه لما تذكَّر من أسماء الله وصفاته وآثارها التي لا تتخلف عنها.
- وإذا ذكرَ وَعْدَ الله تعالى لمن اتبع هداه أن لا يخاف ولا يحزن وأن لا يضل ولا يشقى، وأن الله مع عباده المؤمنين المتقين يحبهم ويؤيدهم وينصرهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور: اطمأنَّ قلبه بذكر الله، وصدق وعده.
- وإذا تلا آيات الله وجد من نفسه طمأنينة لها وفرحاً بها ورضا ينشرح به الصدر وتسكن به النفس فيطمئنُّ القلب بذكر الله الذي أنزله على عباده؛ فيتبع العبد ما فيه من الهدى، ويعتبر بما فيه من العبر والمواعظ، ويعقل ما فيه من الأمثال، فيثبت بإذن ربه على الحق والهدى فيزيده الله هدى وفضلاً وثباتاً على الحق.
- وإذا تأمَّل آيات الله الكونية واعتبر بما فيها من العبر العظيمة وتعرَّف بها على أسماء الله وصفاته ، وأن من خلق هذا الكون العظيم فإنه أعظم منه، ومن سيَّر هذه الأفلاك العظيمة بنظام دقيق عجيب محكم حكيم عليم قدير، وأن من يدبّر أمور الكائنات على كثرتها الهائلة وتنوعها العظيم واختلافها وتزامنها لا يشغله شأن عن شأن ، ولا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء.
ولا يزال يتفكر في نفسه وفي الآفاق وفي ما يراه من عجائب خلق الله تعالى للكائنات وتدبيره لأحوالها وتقديره لأوصافها وقسمه لأقواتها وأرزاقها وطبائعها وأخلاقها.
فيكون هذا التفكر دليلاً يذكّره بالله فيطمئنّ قلبه بذكر الله، ويثمر له هذا التفكر والتذكر ما يثمر من خشية الله والإنابة إليه وتعظيمه ومحبته والخضوع لأمره، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له.
ويدلّ على هذا المعنى قول الله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)}
وقول تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}
- وإذا ذَكَرَ العبدُ ربَّه بلسانه مؤمناً بالله جلَّ وعلا عَصَمَه الله من كيد الشيطان الوسواس الخناس الذي يوسوس فإذا ذكر العبد ربَّه خنس، وَوُقِي أيضاً شرَّ وسوسة نفسه الأمارة بالسوء وشر وسوسة شياطين الإنس والجن، وإذا اندفعت هذه الوساوس عن القلب وعُصم العبد من شرها اطمأن القلب لعصمته من الأذى الذي كان يزعجه ويقلقه ؛ فإن ما يحجب الطمأنينة عن القلب راجع إلى معانٍ متقربة من التحزين والتيئيس والتشكيك والتخويف وكلها إنما مصدرها شرور النفوس ووساوس الشياطين؛ فإذا عُصم العبد منها بقي القلب مطمئناً بذكر الله جلَّ وعلا.
وهذه المعاني إذا تأملتها حقَّ التأمل وجدتها من أظهر علامات الإنابة إلى الله تعالى.
وأن الشقي المحروم هو المعرض عن ذكر ربه ، الذي إذا ذكر الله اشْمَأَزَّ قلبه، وإذا تليت عليه آياته أعرض عنها؛ فهذا من المجرمين كما قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}
ومن تأمَّل العقوبات التي جعلها الله لمن أعرض عن ذكره علم شدة انتقام الله جلَّ وعلا ممن لا يُنيب إليه ولا يطمئنّ قلبه بذكره.
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}
فتأمّل شدة هذه العقوبة، وكيف أنها في مقابل ما يمنّ الله به على أهل الإنابة والخشية من فهم القرآن وفقهه والانتفاع به.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}
فانظر حفظني الله وإياك ووقانا أسباب سخطه ونقمته عظم هذا الذنب وهو عمل قلبي وكيف أنه سبب لهذه العقوبات العظيمة من الشقاء والخذلان، وتسلط الشياطين ، والحرمان من الهدى والانتفاع بالقرآن، وسبب ذلك : الإعراض عن ذكر الله. وعلاجه : الإنابة إلى الله تعالى، وطمأنينة القلب بذكره.
وتقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} يدلك على أن القلوب لا طمأنينة لها على الحقيقة إلا بذكر الله جلَّ وعلا؛ الذي هو ربّها وخالقها ومعبودها الحق لا إله إلا هو.
وأنَّ ما يحصل لأهل المعصية والإعراض من الفرح والانبساط إنما هو سكرة نفسية وخفَّة شيطانية كما يسكر صاحب الهمّ بالخمر فيجد لها انبساطاً فإذا صحا من سكرته عاد إليه كَدَرُه، وحضَرَهُ ضيقُه وهمُّه أشد مما كان عليه؛ فيدفع أثر السُّكْرِ بِسُكْرٍ مثلِهِ أو أشد.
المثال الثاني: فوائد سلوكية من تدبر قول الله تعالى: {للذين استجابوا لربهم الحسنى} وبيان ما تضمَّنه من هدايات جليلة القدر عظيمة النفع لمن وفّقه الله.
- تضمنت هذه الآية الكريمة بيان سر السعادة وسبب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وهو الاستجابة لله تعالى؛ فالمستجيب هو السعيد.
- في هذه الآية ضمان كريم ووعد صادق من الله تعالى – والله لا يخلف الميعاد - أن من استجاب له تعالى فسيكون في أحسن حال.
- بناء لفظ "الحُسنى" الصرفي على "فُعْلى" يدل على بلوغ الغاية في الحسن أي الحال والجزاء بالتي لا أحسن منها، كما يقال: المثلى والوثقى والعظمى والكبرى للدلالة على بلوغ منتهى الغاية في ذلك.
- هذا الجزاء منحة خاصة لأهل الاستجابة لا يشاركهم فيها غيرهم؛ فلهم بها أعظم الامتياز عن غيرهم، دل على ذلك تقديم الجار والمجرور {للذين استجابوا لربهم الحسنى}.
- الاستجابة لا تكون إلا بعد دعوة فدل ذلك على سبق بيان الهدى؛ وتكفل الله تعالى به في كل ما يحتاجه العبد وإنما عليه الاستجابة.
- هذا الثواب عام في الدنيا والآخرة، وسيجد المستجيب لربه أحسن ما يُنال وأفضله في الميزان الصحيح.
- اقتران ذكر الاستجابة بوصف الربوبية له دلالات عظيمة:
منها: أنه تعالى هو ربّ المستجيبين ربوبية خاصة تملأ قلوبهم ثقة وطمأنينة بحسن هديه وصدق وعده.
ومنها: أنه تعالى أعلم بما يصلح عبده وأرحم به من نفسه؛ فقد يمنعه ما فيه شهوته المفضية إلى هلاكه؛ فإن استجاب له كانت عاقبته حسنة.
ومنها: أنه تعالى هو الربّ الكفيل ببيان هداه وإنجاز وعده.
- هذه الاستجابة ميسرة غير شاقة وسيجد العبد الصادق العون عليها إذا كانت استجابته خالصة لربه جل وعلا {للذين استجابوا لربهم}.
- استجابة العباد لربّهم على درجات؛ فمنهم المحسن سريع الاستجابة حسن الاستجابة؛ فله أحسن الجزاء والعاقبة، ومنهم المقتصد الذي يستجيب استجابة تبرأ بها عهدته، فينال بذلك حسن ثواب المتّقين، ومنهم الظالم لنفسه الذي في استجابته نقص وتفريط؛ فيستجيب له في أصل الدين وما يحفظ به إسلامه ويقصّر في بعض ما يجب عليه فيما وراء ذلك؛ فله من حسن العاقبة ما وعد الله به أهل الإسلام من النجاة من النار ودخول الجنّة وإن عذّب قبل ذلك ما عذّب.
فهؤلاء كلهم من أهل الاستجابة، والتفاضل بينهم في الجزاء عظيم كما تفاضلوا في الاستجابة.
فتبيّن بذلك أن أسعد الناس بأحسن الأحوال والجزاء أحسنهم استجابة لربه جل وعلا.
وأمّا الذين أخبر الله عنهم بقوله: { وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} فهم الذين لم يستجيبوا له في أصل الدين وهم الكفار والمنافقون، والعياذ بالله.
- لو تأمّل العبد أسباب شقائه وسوء حاله لوجده يرجع إلى أصل واحد هو تقصيره في استجابته لربه فساءت حاله لما أساء.
- كل أمر يعترض العبد يقابله هدى من الله تعالى يُحِبُّ أن يستجاب له فيه؛ فمن استجاب فاز بالحسنى ومن أعرض عرّض نفسه لسوء الحال والعقاب.
- يقين العبد بأن مدار سعادته وفوزه وفلاحه على استجابته لله تعالى يجعله دائم الفكر فيما يرضي ربه وما يحب أن يستجاب له فيه، وهنا سر العبودية.
- من المُحَال شرعا وعقلاً عند أهل العلم والإيمان أن تكون عاقبة المستجيب لربه سيئة ، فمن أيقن بهذا أحسن الظنّ بالله، ورضي به ربّا، وتيسّر له تحقيق التوكل.
- تأمّل بعد ذلك قول الله تعالى في الآية التي تليها: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربّك هو الحقّ كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب}.
- هذا بعض ما تضمنته هذه الآية من الفوائد السلوكية على تقصير في الشرح وقصور في التعبير عن دلائل هذه الكلمة العظيمة، أسأل الله تعالى أن يتقبلها ويبارك فيها إنه حميد مجيد.
المثال الثالث: الفوائد السلوكية المستفادة من قول الله تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}
تضمنت هذه الآية الجليلة على وجازة ألفاظها آداب مجادلة أهل الباطل، وبيان شروط تمام الغلبة، والتنبيه على العلل التي يخذل بها بعض المجادلين، والوعد بكرامة عظيمة لمن التزموا هذه الآداب وحققوا تلك الشروط.
1: فأول هذه الآداب أن يستشعر المجادل أن الذي يقذف هو الله، وأنه مجرد سبب وأداة يُنصر بها الحق، وغاية ما يرجو من الشرف أن يكون سبباً صالحاً؛ فإن الله تعالى أسند القذف إليه، وقال في محاجة إبراهيم لقومه: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه}
ومن ظنَّ أنه هو الذي يستعلي بحجته ودهائه وتفننه في أساليب البلاغة فليشفق على نفسه من الخذلان والاستدراج، وذلك لضعف توكله على الله واستعانته به، ويكثر في هذا الصنف أنهم إذا حصل لهم شيء من العلو الظاهر لضعف الخصم أصابهم من الزهو والعجب ما يذهب الأجر ويجلب المقت.
وهذا الأدب الجليل يحمل العبد على تحقيق التوكل على الله والاستعانة به، والتواضع لجلاله وعظمته، واستلهام هدايته وتوفيقه، وأن يستشعر العبد أنه جندي من جنود الحق؛ يشرف بهذه النسبة، ويطمئن لضمان الله الغلبة لجنده؛ فيعتقد أن الله حسبه وكافيه.
فيكون أكثر ما يخشاه أن يستزله الشيطان ببعض ما كسب؛ فيدفعه ذلك لتحقيق الاستقامة وإتباعها بالاستغفار وتكرار التوبة؛ فالمصاولة العلمية لا تقل عن المصاولة على أرض القتال؛ وقد أثنى الله على المحسنين في الجهاد بقوله: {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين}
فهؤلاء من المحسنين في جهادهم.
2: أن هذا المقام إذا صحّ في قلب المؤمن المجادل بالحق أثمر فيه عبادات قلبية عظيمة من المحبّة والخوف والرجاء والخشية والإنابة والتوكل والاستعانة والاستعاذة وغيرها فتجتمع في قلبه اجتماعاً حسناً، وهذه الأعمال أحبّ إلى الله تعالى من أعمال العبد الظاهرة، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الله ينظر إلى القلوب
كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
3: أن يتمحض المؤمن المجادل للحق ، ويكون رده على محض الباطل؛ ولذلك قد يتجادل خصمان مع أحدهما حق كثير وباطل قليل، والآخر بعكسه ؛ فلا (يدمغ) أحدهما الآخر، وإنما يدمغ حق كل منهما باطل صاحبه؛ فإن في الحق قوة لا تقبل الإزهاق وإن كان مع صاحبه باطل كثير.
وقد قال النبي في الشيطان وهو رأس الباطل: (صدقك وهو كذوب)
ولذلك فإن من الإنصاف اعترافك بالحق الذي قال به خصمك في المجادلة وإن كان قليلاً، ثم ترد باطله، وأما ردك حقه بحجة كثرة باطله فهو نوع مكابرة قد تخذل بسببها، وقد يتأخر النصر.
4: أن يتوجه المجادل بالحجة على أصل الباطل (فيدمغه) ولا ينشغل بالأطراف والقضايا الجانبية التي لو بيَّن بطلانها بقي غيرها ومنبعها الذي يولّد أطرافاً أخرى.
5: الحق فيه علوّ ملازم له، والباطل سافل بذاته، وإنما يرتفع بالإثارة؛ كالغبار والدخان إذا أثيرا آذا وأزكما وربما حجبا رؤية الحق عن الذين لا يعرفون معالمه ؛ فإذا عُرف مصدر إثارة الباطل، ووجهت إليه قذيفة الحق عاد الباطل إلى أصله {إن الباطل كان زهوقاً} .
6: معرفتك بعلوّ الحق وقوته تكسبك طمأنية وثقة وتماسكاً وثباتا يفتقده المجادل بالباطل، فإن المجادل بالباطل متحفّز لنصرة باطله دائب على إثارته حتى لا يخبو فيعود لأصله، فهو ملازم للقلق والاضطراب والتخوف، وأما صاحب الحق فإنه ينظر إلى الباطل من علو فيعرف مصدر إثارته وأصل شبهته فيوجه إليه قذيفة الحق فيدمغه.
7: علو الحق مستلزم لعلوّ صاحبه ، وما الناس إلا فريقان: فريق هم أهل الحق، وفريق هم أهل الباطل، فمن كان من أهل الحق القائمين به كان موعوداً بالعزة والرفعة والعلو كما قال الله تعالى: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}
ولما أَذِن الله تعالى بالقتال في سبيله وحث المؤمنين عليه ووعدهم بالنصر علَّل ذلك بقوله: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير}
فكونه تعالى هو الحق يقتضي أن لا يقر الباطل ؛ بل لا بد أن ينصر الحق ويعليه على الباطل.
وَخَتْم الآية بالاسمين الجليلين (العلي الكبير) لهما أثرهما العظيم في بيان هذا التعليل؛ فهو العلي بذاته وأسمائه وصفاته ، ودينه أعلى الأديان، وعباده المؤمنون هم الأعلون، ومن سواهم فهم الأذلون الأرذلون، ولا يمكن أن يغلب الأذل الأعز، والا الأدنى الأعلى.
وهو (الكبير) الذي لا أكبر منه؛ فهو أكبر من كل شيء بذاته وصفاته، وهذه الصفة الجليلة تستلزم ما تستلزم من صفات جليلة أخرى كالقوة والقدرة والقهر والجبروت والملكوت وشدة البطش وغيرها.
فكونه العلي يقتضي عدم خذلانهم.
وكون الكبير يقتضي عدم عجزه عن نصرتهم.
فتحصل للمؤمن بذلك سكينة وطمأنينة بانتصار الحق وعلوه وغلبة جند الله تعالى.
وهذه التهيئة النفسية لها أثر عظيم في حسن الإعداد للجهاد، وأخذ العدة له ، والتبصر بمواضع قوة الخصم ومصادر إمداده، فيوجه عنايته إليه.
8: أن من تمحّض للحقّ، وكان دفعه لمحض الباطل شرف بالنسبة إلى حزب الله تعالى وكان وليّا من أولياء الله فإنّ الله تعالى هو الحق، وهو يتولّى أهل الحق.