د. جمال القرش
Member
ارتِبَاطُ التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيّ بِالمَعْنى وأثره على الوقف والابتداء
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد
لما كان الإعراب هو الإفصاح والبيان وغَايَةُ المُعْرِبِ هو إيضاح المعنى، فكان لزاما على المعرب أن أَنْ يَرْتَكِزَ عَلَى أَسَاس المَعْنى، وهو التَّفْسِيْرُ.
ومن يتأمل تَوْجِيْهَاتِ النُّحَاةِ وأَقْوالهم يلاحظ أنها تَرْجَمَةٌ لأَقْوَالِ المفسرين، بل إن تَعَدُّدَ الآرَاءِ النَّحْوِيّة مُرْتَبِطٌ ارتباط وثيق بِتَعَدُّدِ آرَاءِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، مثال ذلك :
1- قوله تعالى: ] وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مّلُوكاً وَآتَاكُمْ مّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن الْعَالَمِينَ [ المائدة: 30].
أقوال النحاة:
اختلف النحاة في جملة (وَآتَاكُمْ) على قولين:
الأول: أنها مستأنفة باعتبار انفصال المعنى عما سبق.
الثاني: أنها في محلّ جرّ معطوفة على جملة جعل فيكم باعتبار اتصال المعنى بما سبق[1].
أقول أهل التفسير:
إذا تأملنا الأقوال السابقة وربطنها بأقول أهل التفسير سنعرف أن ذلك الاختلاف ناتج عن اختلاف المفسرين في توجيه المقصود بقوله: (وَآتَاكُمْ مّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن الْعَالَمِينَ) على قولين:
الأول: أن الكلام موجه لأمة محمد r وهو قول سعيد بن جبير[2]
الثاني: أن الكلام موجه لأمة موسى، وهو قول مجاهد .. يعنى: المن والسلوى. [3]
واستدل اصحاب الرأي الأول بما روي عن أبي مالك وسعيد بن جبير: "وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين"، قالا أمة محمد صلى الله عليه وسلم [4]
واستدل أصحاب الرأي الثاني بما روي عن قال مجاهد فِي قَوْلِهِ: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20] قَالَ: «يَعْنِي الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَالْحَجَرَ وَالْغَمَامَ»[5]
أقوال أهل الوقف والابتداء:
وبناء على اختلاف أهل اللغة والتفسير في التوجيه اختلف أهل الوقف والابتداء على قولين:
الأول: أن الوقف تام: إن كان ما بعده لأمة محمد r، وهو قول الداني عن نافع .
الثاني: لا وقف إن كان ما بعده لأمة موسى يعنى: المن والسلوى، وهو قول السجاوندي.
الثالث: الوقف صالح، أي كاف وهو قول الأنصاري.
الرابع: التفصيل بين التمام وعدم الوقف، وهو قول النحاس، والأنصاري والأشموني.
قال الداني-رحمه الله- [ت:444 هـ] : « قال نافع: {وجعلكم ملوكاً} تام. وهذا إذا جعل [ما] بعده لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول أبي مالك وسعيد بن جبير» [6]
قال النحاس -رحمه الله-[ت:338 هـ]: « قال نافع: ( وجعلكم ملوكا) تم، وقال غيره: ليس بتمام ولكنه قطع صالح وما بعده معطوف عليه» [7].
وقال السجاوندي-رحمه الله- [ت:560 هـ]: « ق: قد قيل ولا يصح إلا ضرورة للعطف »[8].
وقال الأنصاري -رحمه الله-[ت:926 هـ]: « وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا)ً صالح. وقال أبو عمرو: تام » ([9])
وقال الأشموني -رحمه الله-[ت:111 هـ]: « {مُلُوكًا} [20]: حسن، إن جعل ما بعد لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول سعيد بن جبير، وليس بوقف لمن قال: إنَّه لقوم موسى، وهو قول مجاهد، يعني بذلك: المنِّ، والسلوى، وانفلاق البحر، وانفجار الحجر، والتظليل بالغمام، وعليه فلا يوقف على ملوكًا؛ لأنَّ ما بعده معطوف على ما قبله » ([10])
ترجيح الأقوال:
بعد عرض أقوال النحاة والتفسير والوقف والابتداء يتضح أن ترجيح الخلاف يكون من خلال التفسير، والذي عليه جمهور المفسرين كالطبري وابن كثير، والشوكاني وغيرهم أن قوله تعالى: (وَآتَاكُمْ مّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن الْعَالَمِينَ) لأمة موسى عليه السلام، وأن المقصود بقوله: ( وأتاكم) هو تفضيلهم على أهل زمانهم، وعللوا ذلك بأنه لا ينبغي العدول عن الظاهر لغير مُوجِبٍ، وبدون دليل، فالظاهر أن سياق الكلام كله عن بني إسرائيل فلا يعدل عنه إلا بدليل.
قال أبو جعفر-رحمه الله- : « وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: (وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين)، في سياق قوله: "اذكروا نعمة الله عليكم"، ومعطوفٌ عليه. ولا دلالة في الكلام تدلّ على أن قوله: " وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ " مصروف عن خطاب الذين ابتدئَ بخطابهم في أوّل الآية. فإذ كان ذلك كذلك، فأنْ يكون خطابًا لهم، أولى من أن يقال: هو مصروف عنهم إلى غيرهم»[11]
وقال ابن كثير-رحمه الله-: « وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ مَنَّ مُوسَى لِقَوْمِهِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} يَعْنِي بِذَلِكَ: مَا كَانَ تَعَالَى نَزَّلَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وتَظلَّلهم مِنَ الْغَمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا كَانَ تَعَالَى يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ »[12]
وقال الشوكاني-رحمه الله-: « وَالصَّوَابُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مُوسَى لِقَوْمِهِ، وَخَاطَبَهُمْ بِهَذَا الْخِطَابِ تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ مِنْ أَمَرِهِ لَهُمْ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ » [13].
وخلاصة القول: أن الراجح في المسألة هو أن الكلام يعود على أمة موسى عليه السلام، لعدم العدول عن الظاهر بغير موجب، وبناء عليه تكون جملة ( وأتاكم..) في محلّ جرّ معطوفة على جملة جعل فيكم باعتبار اتصال المعنى بما سبق، ويترتب على ذلك في الوقف والابتداء: أن الأولى هو عدم الوقف على ( ملوكا) للتعلق اللفظي بينها وبين ما بعدها ، والله تعالى أعلى وأعلم.
[1] انظر البحر المحيط: 216
[2] تفسير الطبري: 10/ 166
[3] انظر: البحر المحيط: 216
[4] تفسير الطبري: 10/ 166
[5] تفسير مجاهد: 305، ومعاني القرآن للزجاج: 2/162
[6] المكتفى: 58.
[7] القطع: 199
[8] علل الوقوف: 449
([9]) المنار مع المقصد/ 244
([10]) المنار مع المقصد/ 244
[11] تفسير الطبري: 10/ 166
[12]ابن كثير: 3 / 74
[13] فتح القدير / 2/32
أعد هذا المبحث / من كتاب / (مسك الختام في معرفة الوقف والابتداء) لـ جمال القرش تحت الإعداد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد
لما كان الإعراب هو الإفصاح والبيان وغَايَةُ المُعْرِبِ هو إيضاح المعنى، فكان لزاما على المعرب أن أَنْ يَرْتَكِزَ عَلَى أَسَاس المَعْنى، وهو التَّفْسِيْرُ.
ومن يتأمل تَوْجِيْهَاتِ النُّحَاةِ وأَقْوالهم يلاحظ أنها تَرْجَمَةٌ لأَقْوَالِ المفسرين، بل إن تَعَدُّدَ الآرَاءِ النَّحْوِيّة مُرْتَبِطٌ ارتباط وثيق بِتَعَدُّدِ آرَاءِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، مثال ذلك :
1- قوله تعالى: ] وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مّلُوكاً وَآتَاكُمْ مّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن الْعَالَمِينَ [ المائدة: 30].
أقوال النحاة:
اختلف النحاة في جملة (وَآتَاكُمْ) على قولين:
الأول: أنها مستأنفة باعتبار انفصال المعنى عما سبق.
الثاني: أنها في محلّ جرّ معطوفة على جملة جعل فيكم باعتبار اتصال المعنى بما سبق[1].
أقول أهل التفسير:
إذا تأملنا الأقوال السابقة وربطنها بأقول أهل التفسير سنعرف أن ذلك الاختلاف ناتج عن اختلاف المفسرين في توجيه المقصود بقوله: (وَآتَاكُمْ مّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن الْعَالَمِينَ) على قولين:
الأول: أن الكلام موجه لأمة محمد r وهو قول سعيد بن جبير[2]
الثاني: أن الكلام موجه لأمة موسى، وهو قول مجاهد .. يعنى: المن والسلوى. [3]
واستدل اصحاب الرأي الأول بما روي عن أبي مالك وسعيد بن جبير: "وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين"، قالا أمة محمد صلى الله عليه وسلم [4]
واستدل أصحاب الرأي الثاني بما روي عن قال مجاهد فِي قَوْلِهِ: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20] قَالَ: «يَعْنِي الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَالْحَجَرَ وَالْغَمَامَ»[5]
أقوال أهل الوقف والابتداء:
وبناء على اختلاف أهل اللغة والتفسير في التوجيه اختلف أهل الوقف والابتداء على قولين:
الأول: أن الوقف تام: إن كان ما بعده لأمة محمد r، وهو قول الداني عن نافع .
الثاني: لا وقف إن كان ما بعده لأمة موسى يعنى: المن والسلوى، وهو قول السجاوندي.
الثالث: الوقف صالح، أي كاف وهو قول الأنصاري.
الرابع: التفصيل بين التمام وعدم الوقف، وهو قول النحاس، والأنصاري والأشموني.
قال الداني-رحمه الله- [ت:444 هـ] : « قال نافع: {وجعلكم ملوكاً} تام. وهذا إذا جعل [ما] بعده لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول أبي مالك وسعيد بن جبير» [6]
قال النحاس -رحمه الله-[ت:338 هـ]: « قال نافع: ( وجعلكم ملوكا) تم، وقال غيره: ليس بتمام ولكنه قطع صالح وما بعده معطوف عليه» [7].
وقال السجاوندي-رحمه الله- [ت:560 هـ]: « ق: قد قيل ولا يصح إلا ضرورة للعطف »[8].
وقال الأنصاري -رحمه الله-[ت:926 هـ]: « وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا)ً صالح. وقال أبو عمرو: تام » ([9])
وقال الأشموني -رحمه الله-[ت:111 هـ]: « {مُلُوكًا} [20]: حسن، إن جعل ما بعد لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول سعيد بن جبير، وليس بوقف لمن قال: إنَّه لقوم موسى، وهو قول مجاهد، يعني بذلك: المنِّ، والسلوى، وانفلاق البحر، وانفجار الحجر، والتظليل بالغمام، وعليه فلا يوقف على ملوكًا؛ لأنَّ ما بعده معطوف على ما قبله » ([10])
ترجيح الأقوال:
بعد عرض أقوال النحاة والتفسير والوقف والابتداء يتضح أن ترجيح الخلاف يكون من خلال التفسير، والذي عليه جمهور المفسرين كالطبري وابن كثير، والشوكاني وغيرهم أن قوله تعالى: (وَآتَاكُمْ مّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن الْعَالَمِينَ) لأمة موسى عليه السلام، وأن المقصود بقوله: ( وأتاكم) هو تفضيلهم على أهل زمانهم، وعللوا ذلك بأنه لا ينبغي العدول عن الظاهر لغير مُوجِبٍ، وبدون دليل، فالظاهر أن سياق الكلام كله عن بني إسرائيل فلا يعدل عنه إلا بدليل.
قال أبو جعفر-رحمه الله- : « وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: (وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين)، في سياق قوله: "اذكروا نعمة الله عليكم"، ومعطوفٌ عليه. ولا دلالة في الكلام تدلّ على أن قوله: " وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ " مصروف عن خطاب الذين ابتدئَ بخطابهم في أوّل الآية. فإذ كان ذلك كذلك، فأنْ يكون خطابًا لهم، أولى من أن يقال: هو مصروف عنهم إلى غيرهم»[11]
وقال ابن كثير-رحمه الله-: « وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ مَنَّ مُوسَى لِقَوْمِهِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} يَعْنِي بِذَلِكَ: مَا كَانَ تَعَالَى نَزَّلَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وتَظلَّلهم مِنَ الْغَمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا كَانَ تَعَالَى يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ »[12]
وقال الشوكاني-رحمه الله-: « وَالصَّوَابُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مُوسَى لِقَوْمِهِ، وَخَاطَبَهُمْ بِهَذَا الْخِطَابِ تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ مِنْ أَمَرِهِ لَهُمْ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ » [13].
وخلاصة القول: أن الراجح في المسألة هو أن الكلام يعود على أمة موسى عليه السلام، لعدم العدول عن الظاهر بغير موجب، وبناء عليه تكون جملة ( وأتاكم..) في محلّ جرّ معطوفة على جملة جعل فيكم باعتبار اتصال المعنى بما سبق، ويترتب على ذلك في الوقف والابتداء: أن الأولى هو عدم الوقف على ( ملوكا) للتعلق اللفظي بينها وبين ما بعدها ، والله تعالى أعلى وأعلم.
[1] انظر البحر المحيط: 216
[2] تفسير الطبري: 10/ 166
[3] انظر: البحر المحيط: 216
[4] تفسير الطبري: 10/ 166
[5] تفسير مجاهد: 305، ومعاني القرآن للزجاج: 2/162
[6] المكتفى: 58.
[7] القطع: 199
[8] علل الوقوف: 449
([9]) المنار مع المقصد/ 244
([10]) المنار مع المقصد/ 244
[11] تفسير الطبري: 10/ 166
[12]ابن كثير: 3 / 74
[13] فتح القدير / 2/32
أعد هذا المبحث / من كتاب / (مسك الختام في معرفة الوقف والابتداء) لـ جمال القرش تحت الإعداد