د. أبو عائشة
New member
ثالثاً : أبنية الأفعال :
[color=FF0000]أ - الفعل بين التجرد والزيادة : [/color]
قال تعالى : ( ثمَّ أماته فأقبره )( عبس : 21 ) ولم يقل فقبره فما الفارق بين ( فقبره وأقبره ) ولماذا عُدِلَ عن فقبره إلى الفعل المزيد فأقبره ، عُدل هنا لأن فعل ( قبره ) يدلَ على الذي يواري بالفعل (1) ، أما أقبره فجعله ذا قبر وهو أخص من معنى قبره أي أن الله سبب له أن يُقبر وكذلك فإن الإقبار تهيئة القبر ويقال :أقبره أيضاً إذا أمـــر بأن يدفن (2) ، أو علّم الموجــودين أن يقبروه (3) ،وأقبر الميت إذا أمر غيره بأن يجعله في القبر (4) ، قال تعالى : ( فبعثَ اللهُ غراباً يبحثُ في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه ) ( المائدة : 31 ) ، ولا يليق أن يقال : ( فقبره ) وينسب فعل القبر إلى الله تعالى فضلاً عن مخالفته للحقيقة ، فتعين قوله تعالى ( فأقبره ) لما دلت عليه الزيادة من معنى ، ومثل هذا قوله تعالى : ( ثم إذا شاء أنشره .. )( عبس : 22 ) فالانشار هو المناسب هنا لأنه خاص بإخراج الميت من الأرض حياً وهو البعث أما نشر فيقال نشر الثوب إذا أزال طيّه وينشر الصحيفة إذا فتحها ليقرأها (5).
أما بالنسبة للتجرد فالقرآن قد يحذف أحد حروف بنية المفردة كما تفعل العرب غير أنه يوظف هذا التجريد توظيفاً عجيباً وبما يتلائم مع حاجة السياق تماماً ، وهذا واضح جداً في ( كان ) في القرآن كله فكل ما جاء في القرآن منها محذوف حرفٍ مثل ( أكُ أو تكُ أو نكُ ) إنما جاء بعد نفيٍ وهو الغالب أو بعد شرطٍ بـ ( إن ) أحياناً (6) ، ومما ورد من هذا قوله تعالى : ( قالوا لم نكُ من المصلين ولم نكُ نُطعم المسكين )( المدثر : 43 – 44 ) وقوله تعالى : ( ألم يَكُ نطفةً من منيٍ يُمنى ) ( القيامة : 37 ) فالمشركون في سورة المدثرنفوا أنهم كانوا من المصلين وأتو بـ ( نَكُ ) وكان في القول متسعٌ لـ ( نَكُن ) ، وكأنهم نفوا عن أنفسهم أي صلاةٍ مهما كان حجمها وكذلك في إطعام المسكين ، ولما كانت آية القمر مما تدل على تقليل اصل الإنسان الذي خلق منه (7) ناسب أن يؤتى معها بالفعل على هذه الصورة من التجريد ، لا سيما وقد جاءت ( من ) التبعيضية في كلا الآيتين ، ومن تجريد الفعل من الزيادة قوله تعالى : ( عَبَسَ وتولّى أن جاءَهُ الأعمى )( عبس : 1 - 2 ) فلم يقل تعالى : عبَستَ وتوَليتَ ؛ لأن هذه الزيادة ستحدد الفاعل حتى لا يعرض الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى ضمير المواجهة (8) ، وفي هذا ملاطفة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الخطاب وهو كثير في القرآن .
[color=FF0000]ب - اختلاف أحرف الزيادة : [/color]
قد تختار المفردة بأحرفِ زيادةٍ معينة لتكون مصدرة في صيغة واحدة لأكثر من معنى وصورة قال تعالى : ( عمَّ يتساءلون )( النبأ : 1 ) فالتساؤل :تفاعل وحقيقة صيغة التفاعل أن تفيد صدور معنى المادة المشتقة منها من الفاعل إلى المفعول وصدور مثله من المفعول إلى الفاعل ، وترد كثيراً لإفادة تكرر وقوع ما اشتقت منه نحو قولهم : سَاءَل بمعنى سأل قال النابغة (9) :
[color=FF0000][align=center]أسَائِل عن سُعْدى وقد مرّ بعدَنا على عرصاتِ الدارِ سَبْعٌ كوامِلٌ[/align][/color]
وتجيء صيغة ( فاعَل ) كذلك لإفادة قوة صدور الفعل من الفاعل نحو قولهم : عافاك الله وذلك إما كنايةً أو مجازاً ، ومحمله في الآية على جواز الاحتمالات الثلاثة وذلك من إرادة المعنى الكنائي مع المعنى الصريح أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه وكلا الاعتبارين صحيح في الكلام البليغ فلا وجه لمنعه ، فيجوز أن تكون مستعملةً في حقيقتها بأن يسأل بعضهم بعضاً سؤال متطلع للعلم لأنهم حينئذٍ لم يزالوا في شكٍ من صحة ما أُخبروا به ثم ظل إنكارهم على هذا ، ويجوز أن تكون هذه الصيغة مستعملة في المجاز الصوري فهم يتظاهرون بالسؤال وهم موقنون بانتفاء ما يتساءلون عنه وعلى هاتين الطريقتين كانت مذاهب المفسرين والوجه أن تُحمل الآية على كليهما لأن المشركين كانوا متفاوتين في التكذيب بين مصدّق ومكذب عندما كانوا يتحدثون بينهم كما يقول ابن عباس (10) وغيره (11) ، فجاءت هذه اللفظة مصورة لأحوال الناس بكل دقةٍ وشمول وبأوجز لفظٍ وأعذبه وهذا غاية الفصاحة والبلاغة . ومن الزيادات التي دلت على معنى التشارك والتفاعل أيضاً ما جاء في قوله تعالى :( وتواصوا بالحقِ وتواصوا بالصبرِ ) ( العصر : 3 ) فقد عُدِلَ عن ( أوصوا ) إلى ( تواصوا ) لما تحققه هذه المفردة بزيادتها من بيان إن النجاة من الخسران إنما تناط بحرص كل من أفراد الأمة على الحق ونزوع كلٍ منهم إلى أن يوصي به قومه ومن يهمه أمر الحق ليوصي صاحبَه بطلبه ويهمه أن يرى الحق فيقبله ، فكأنه تعالى في هذه العبارة الجزلة قد نصّ على تواصيهم بالحق وقبولهم الوصية به إذا وجهت إليهم (12) ومن هذا الباب أي باب الزيادة قوله تعالى : ( إذ انبعثَ أشقاها )( الشمس : 12 ) فانبعث ( مطاوع بَعَثَ فالمعنى : إذ بعثوا أشقاهم فانبعث وانتدب لذلك )(13) فيكون تعالى بهذه الزيادة قد أدانهم جميعاً حيث بيّن الفعل بهذه الزيادة أنهم حرّضوه وأنه أجاب ، لذلك جاء الضمير جمعاً في قوله تعالى: ( فكذبوه فعقروها )(الشمس : ) لأنهم مشتركون في الأمر جميعاً ، والله تعالى أعلم .
[color=FF0000]ج - الفعل بين الإدغام وعدمه : [/color]
وقد جاء التعبير القرآني تارةً بالإدغام وأخرى من غيره وهذا حال التعبير القرآني الذي يستفيد من كل ظاهرة أسلوبية في كلام العرب وبحسب حاجة السياق وقد وظفت هذه الظاهرة الصوتية في التعبير القرآني بصورةٍ أعطت للنص القرآني خصوصيةً في الاستعمال من ذلك : استخدام الفعل يشاقّ ويشاقق بالفك والإدغام ، فالإدغام يكون طالما ذُكِرَ الله وحده فإذا ذُكِرَ معه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فُكَّ الإدغام قال تعالى : ( ذلك بأنهم شاقّوا اللهَ ورسولَهُ ومن يشاقّ الله فإن اللهَ شديدُ العقابِ ) ( الحشر : 4 ) وقال تعالى : ( ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ) ( الأنفال : 13 ) ، وقد تنبه لهذا الدكتور فاضل السامرائي وحاول تعليل هذا الاستخدام حيث ذكر ( ولعله وَحَّدَ الحرفين وأدغمهما في حرفٍ واحد لأنه ذكر الله وحده وفكّهما وأظهرهما لأنه ذكر الله والرسول فكانا اثنين )(14) ، وهذا التعليل غير مُطّرد مع أطّراد هذا الاستخدام في القرآن فقد قال تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ) ( النساء : 115 ) فورد الفك دون ذكر الله ورسوله معاً وكان ابن الزبير قد علّلَ الفك في هذه الآية فقال : ( إن الإدغام تخفيف وليس بالأصل فورد في النساء على الأصل ولم يقترن به ما يستدعي تخفيفه ولا سؤال في ذلك )(15) وعلل الآيتين الأخريين فقال عن آية الحشر ( ذلك بأنهم شاقّوا الله ورسوله ومن يشاقّ الله .. ) بأن الماضي تقدم مُدغماً ولم يُسمع في الماضي إلا تلك اللغة ، فجيء بـ ( يشاقّ الله ) بعدها مدغماً ليناسب بإدغامه الإدغام الأول في ( شاقّوا الله ) ، وذكر أن قوله تعالى ( … ومن يشاقق الله ورسوله ) استدعاه داعيان :
أحدهما ما قبله من الإدغام
والثاني ما بعده من العطف المشبه للفك
فروعي البَعْدي ففكّوا الإدغام لأنّ البعدي أقوى في المراعاة ، كما فعلوا في الإمالة ، فلم يميلوا نحو مناشيط وما كان مثله مما تأخر فيه حرف الاستعلاء ، وإن حالَ بينه وبين الألف حرفان ومع ذلك فإنه يمنع الإمالة ، وليس كذلك في قوته المنع إذا تقدّم مع مائل . فكذا فعلوا فيما تقدّم فراعوا ما بَعُدَ فلم يدغموا ؛ لأنّ مراعاة الأبعد عندهم أقوى من مراعاة المتقدم (16) ، وعلى الرغم مما هذا التعليل من دقة نظرٍ إلا أن كلام الخطيب الإسكافي يبدو أقرب في تعليله الذي قال فيه : ( إنّ الأصل في ذلك إذا قويت الحركة في القاف أن تُدغم ألا ترى أنّ من جوّز أردد مكان ردّ ، وكانت لغته الإظهار متى حرَك الدال الأخيرة في قوله للاثنين رُدَا ، وقوله للجميع ردّوا لم يبق إلا الإدغام ولم يجز أردوا ولا أرددوا ولا أرددي )(16) ، وأضـاف إن الحركة إنما قويت في القاف الأخيرة لتحركها بعد ملاقاتها ساكنٍ ( اللام الأولى في الله ) مثل إعْبُدِ الله ، ولأن القاف لا يلاقي غير لفظة ( الله ) ساكنة الأول لذلك قويت الحركة لأنها لا تلاقي سواه مما علق الفعل به ، أما في قوله تعالى : ( ومن يشاقق الله ورسوله ) فليس الأمر كذلك لأن القاف قد تلاقي ما يتعلق بها متحركاً ، وهو ( رسوله ) لأنّ التقدير ... ومن يشاقق رسول الله فلم يخلص ( القاف ) - لما يتعلق به - للحركة ، كما خلصت له في الأول ، أما في قوله تعالى ( ومن يشاقق الرسول ... ) فليس الساكن هنا في ( الرسول ) كمثله في ( الله ) لأنه قد يحذف فيصح لملاقاة القاف متحركاً منه نحو ( ومن يشاقق رسول الله ) فالذي أوجب الإدغام في سورة الحشر هو قوة الحركة في القاف ، وقوتها أنها لا يصح أن تلاقي الاسم الذي بعدها إلا ساكناً لا يقوم مقامه متحركٌ في حالٍ والله أعلم (17).
[color=FF0000]الحواشي:[/color]
1) ينظر : المختار من تفسير القرآن 1 / 109 ، والقابر : الدافن بيده ، معاني القرآن 3 / والطبري 30 / 56 .
2) ينظر التحرير 30 / 124 .
3) ينظر : المختار 1 / 109 .
4) ينظر : تفسير القاسمي 17 / 6063 .
5) ينظر : التحرير والتنوير 30 / 126 .
6) ينظر : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن 637 – 639 .
7) على أحد قولين وسيأتي هذا .
8) ينظر : المختار 1 / 94 – 95 .
9) الديوان 61 .
10) ينظر : ابن كثير 4 وهو قول الحسن وقتادة .
11) ينظر : التحرير والتنوير 30 / 7 – 8 .
12) ينظر تفسير القاسمي 17 / 6252 ونسبه بقوله ( قال الإمام ) .
13) التحرير 30 / 373 .
14) التعبير القرآني 19 .
15) ملاك التأويل 1 / 353 .
16) ينظر : ملاك التأويل 1 / 353 .
17) درّة التنزيل 475 .
18) ينظر : دّرة التنزيل 474 – 475 .[/align]
[align=center]د. عامر مهدي العلواني
مدرس البلاغة والنقد في قسم اللغة العربية
جامعة الأنبار[/align][/size][/font]
[color=FF0000]أ - الفعل بين التجرد والزيادة : [/color]
قال تعالى : ( ثمَّ أماته فأقبره )( عبس : 21 ) ولم يقل فقبره فما الفارق بين ( فقبره وأقبره ) ولماذا عُدِلَ عن فقبره إلى الفعل المزيد فأقبره ، عُدل هنا لأن فعل ( قبره ) يدلَ على الذي يواري بالفعل (1) ، أما أقبره فجعله ذا قبر وهو أخص من معنى قبره أي أن الله سبب له أن يُقبر وكذلك فإن الإقبار تهيئة القبر ويقال :أقبره أيضاً إذا أمـــر بأن يدفن (2) ، أو علّم الموجــودين أن يقبروه (3) ،وأقبر الميت إذا أمر غيره بأن يجعله في القبر (4) ، قال تعالى : ( فبعثَ اللهُ غراباً يبحثُ في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه ) ( المائدة : 31 ) ، ولا يليق أن يقال : ( فقبره ) وينسب فعل القبر إلى الله تعالى فضلاً عن مخالفته للحقيقة ، فتعين قوله تعالى ( فأقبره ) لما دلت عليه الزيادة من معنى ، ومثل هذا قوله تعالى : ( ثم إذا شاء أنشره .. )( عبس : 22 ) فالانشار هو المناسب هنا لأنه خاص بإخراج الميت من الأرض حياً وهو البعث أما نشر فيقال نشر الثوب إذا أزال طيّه وينشر الصحيفة إذا فتحها ليقرأها (5).
أما بالنسبة للتجرد فالقرآن قد يحذف أحد حروف بنية المفردة كما تفعل العرب غير أنه يوظف هذا التجريد توظيفاً عجيباً وبما يتلائم مع حاجة السياق تماماً ، وهذا واضح جداً في ( كان ) في القرآن كله فكل ما جاء في القرآن منها محذوف حرفٍ مثل ( أكُ أو تكُ أو نكُ ) إنما جاء بعد نفيٍ وهو الغالب أو بعد شرطٍ بـ ( إن ) أحياناً (6) ، ومما ورد من هذا قوله تعالى : ( قالوا لم نكُ من المصلين ولم نكُ نُطعم المسكين )( المدثر : 43 – 44 ) وقوله تعالى : ( ألم يَكُ نطفةً من منيٍ يُمنى ) ( القيامة : 37 ) فالمشركون في سورة المدثرنفوا أنهم كانوا من المصلين وأتو بـ ( نَكُ ) وكان في القول متسعٌ لـ ( نَكُن ) ، وكأنهم نفوا عن أنفسهم أي صلاةٍ مهما كان حجمها وكذلك في إطعام المسكين ، ولما كانت آية القمر مما تدل على تقليل اصل الإنسان الذي خلق منه (7) ناسب أن يؤتى معها بالفعل على هذه الصورة من التجريد ، لا سيما وقد جاءت ( من ) التبعيضية في كلا الآيتين ، ومن تجريد الفعل من الزيادة قوله تعالى : ( عَبَسَ وتولّى أن جاءَهُ الأعمى )( عبس : 1 - 2 ) فلم يقل تعالى : عبَستَ وتوَليتَ ؛ لأن هذه الزيادة ستحدد الفاعل حتى لا يعرض الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى ضمير المواجهة (8) ، وفي هذا ملاطفة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الخطاب وهو كثير في القرآن .
[color=FF0000]ب - اختلاف أحرف الزيادة : [/color]
قد تختار المفردة بأحرفِ زيادةٍ معينة لتكون مصدرة في صيغة واحدة لأكثر من معنى وصورة قال تعالى : ( عمَّ يتساءلون )( النبأ : 1 ) فالتساؤل :تفاعل وحقيقة صيغة التفاعل أن تفيد صدور معنى المادة المشتقة منها من الفاعل إلى المفعول وصدور مثله من المفعول إلى الفاعل ، وترد كثيراً لإفادة تكرر وقوع ما اشتقت منه نحو قولهم : سَاءَل بمعنى سأل قال النابغة (9) :
[color=FF0000][align=center]أسَائِل عن سُعْدى وقد مرّ بعدَنا على عرصاتِ الدارِ سَبْعٌ كوامِلٌ[/align][/color]
وتجيء صيغة ( فاعَل ) كذلك لإفادة قوة صدور الفعل من الفاعل نحو قولهم : عافاك الله وذلك إما كنايةً أو مجازاً ، ومحمله في الآية على جواز الاحتمالات الثلاثة وذلك من إرادة المعنى الكنائي مع المعنى الصريح أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه وكلا الاعتبارين صحيح في الكلام البليغ فلا وجه لمنعه ، فيجوز أن تكون مستعملةً في حقيقتها بأن يسأل بعضهم بعضاً سؤال متطلع للعلم لأنهم حينئذٍ لم يزالوا في شكٍ من صحة ما أُخبروا به ثم ظل إنكارهم على هذا ، ويجوز أن تكون هذه الصيغة مستعملة في المجاز الصوري فهم يتظاهرون بالسؤال وهم موقنون بانتفاء ما يتساءلون عنه وعلى هاتين الطريقتين كانت مذاهب المفسرين والوجه أن تُحمل الآية على كليهما لأن المشركين كانوا متفاوتين في التكذيب بين مصدّق ومكذب عندما كانوا يتحدثون بينهم كما يقول ابن عباس (10) وغيره (11) ، فجاءت هذه اللفظة مصورة لأحوال الناس بكل دقةٍ وشمول وبأوجز لفظٍ وأعذبه وهذا غاية الفصاحة والبلاغة . ومن الزيادات التي دلت على معنى التشارك والتفاعل أيضاً ما جاء في قوله تعالى :( وتواصوا بالحقِ وتواصوا بالصبرِ ) ( العصر : 3 ) فقد عُدِلَ عن ( أوصوا ) إلى ( تواصوا ) لما تحققه هذه المفردة بزيادتها من بيان إن النجاة من الخسران إنما تناط بحرص كل من أفراد الأمة على الحق ونزوع كلٍ منهم إلى أن يوصي به قومه ومن يهمه أمر الحق ليوصي صاحبَه بطلبه ويهمه أن يرى الحق فيقبله ، فكأنه تعالى في هذه العبارة الجزلة قد نصّ على تواصيهم بالحق وقبولهم الوصية به إذا وجهت إليهم (12) ومن هذا الباب أي باب الزيادة قوله تعالى : ( إذ انبعثَ أشقاها )( الشمس : 12 ) فانبعث ( مطاوع بَعَثَ فالمعنى : إذ بعثوا أشقاهم فانبعث وانتدب لذلك )(13) فيكون تعالى بهذه الزيادة قد أدانهم جميعاً حيث بيّن الفعل بهذه الزيادة أنهم حرّضوه وأنه أجاب ، لذلك جاء الضمير جمعاً في قوله تعالى: ( فكذبوه فعقروها )(الشمس : ) لأنهم مشتركون في الأمر جميعاً ، والله تعالى أعلم .
[color=FF0000]ج - الفعل بين الإدغام وعدمه : [/color]
وقد جاء التعبير القرآني تارةً بالإدغام وأخرى من غيره وهذا حال التعبير القرآني الذي يستفيد من كل ظاهرة أسلوبية في كلام العرب وبحسب حاجة السياق وقد وظفت هذه الظاهرة الصوتية في التعبير القرآني بصورةٍ أعطت للنص القرآني خصوصيةً في الاستعمال من ذلك : استخدام الفعل يشاقّ ويشاقق بالفك والإدغام ، فالإدغام يكون طالما ذُكِرَ الله وحده فإذا ذُكِرَ معه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فُكَّ الإدغام قال تعالى : ( ذلك بأنهم شاقّوا اللهَ ورسولَهُ ومن يشاقّ الله فإن اللهَ شديدُ العقابِ ) ( الحشر : 4 ) وقال تعالى : ( ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ) ( الأنفال : 13 ) ، وقد تنبه لهذا الدكتور فاضل السامرائي وحاول تعليل هذا الاستخدام حيث ذكر ( ولعله وَحَّدَ الحرفين وأدغمهما في حرفٍ واحد لأنه ذكر الله وحده وفكّهما وأظهرهما لأنه ذكر الله والرسول فكانا اثنين )(14) ، وهذا التعليل غير مُطّرد مع أطّراد هذا الاستخدام في القرآن فقد قال تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ) ( النساء : 115 ) فورد الفك دون ذكر الله ورسوله معاً وكان ابن الزبير قد علّلَ الفك في هذه الآية فقال : ( إن الإدغام تخفيف وليس بالأصل فورد في النساء على الأصل ولم يقترن به ما يستدعي تخفيفه ولا سؤال في ذلك )(15) وعلل الآيتين الأخريين فقال عن آية الحشر ( ذلك بأنهم شاقّوا الله ورسوله ومن يشاقّ الله .. ) بأن الماضي تقدم مُدغماً ولم يُسمع في الماضي إلا تلك اللغة ، فجيء بـ ( يشاقّ الله ) بعدها مدغماً ليناسب بإدغامه الإدغام الأول في ( شاقّوا الله ) ، وذكر أن قوله تعالى ( … ومن يشاقق الله ورسوله ) استدعاه داعيان :
أحدهما ما قبله من الإدغام
والثاني ما بعده من العطف المشبه للفك
فروعي البَعْدي ففكّوا الإدغام لأنّ البعدي أقوى في المراعاة ، كما فعلوا في الإمالة ، فلم يميلوا نحو مناشيط وما كان مثله مما تأخر فيه حرف الاستعلاء ، وإن حالَ بينه وبين الألف حرفان ومع ذلك فإنه يمنع الإمالة ، وليس كذلك في قوته المنع إذا تقدّم مع مائل . فكذا فعلوا فيما تقدّم فراعوا ما بَعُدَ فلم يدغموا ؛ لأنّ مراعاة الأبعد عندهم أقوى من مراعاة المتقدم (16) ، وعلى الرغم مما هذا التعليل من دقة نظرٍ إلا أن كلام الخطيب الإسكافي يبدو أقرب في تعليله الذي قال فيه : ( إنّ الأصل في ذلك إذا قويت الحركة في القاف أن تُدغم ألا ترى أنّ من جوّز أردد مكان ردّ ، وكانت لغته الإظهار متى حرَك الدال الأخيرة في قوله للاثنين رُدَا ، وقوله للجميع ردّوا لم يبق إلا الإدغام ولم يجز أردوا ولا أرددوا ولا أرددي )(16) ، وأضـاف إن الحركة إنما قويت في القاف الأخيرة لتحركها بعد ملاقاتها ساكنٍ ( اللام الأولى في الله ) مثل إعْبُدِ الله ، ولأن القاف لا يلاقي غير لفظة ( الله ) ساكنة الأول لذلك قويت الحركة لأنها لا تلاقي سواه مما علق الفعل به ، أما في قوله تعالى : ( ومن يشاقق الله ورسوله ) فليس الأمر كذلك لأن القاف قد تلاقي ما يتعلق بها متحركاً ، وهو ( رسوله ) لأنّ التقدير ... ومن يشاقق رسول الله فلم يخلص ( القاف ) - لما يتعلق به - للحركة ، كما خلصت له في الأول ، أما في قوله تعالى ( ومن يشاقق الرسول ... ) فليس الساكن هنا في ( الرسول ) كمثله في ( الله ) لأنه قد يحذف فيصح لملاقاة القاف متحركاً منه نحو ( ومن يشاقق رسول الله ) فالذي أوجب الإدغام في سورة الحشر هو قوة الحركة في القاف ، وقوتها أنها لا يصح أن تلاقي الاسم الذي بعدها إلا ساكناً لا يقوم مقامه متحركٌ في حالٍ والله أعلم (17).
[color=FF0000]الحواشي:[/color]
1) ينظر : المختار من تفسير القرآن 1 / 109 ، والقابر : الدافن بيده ، معاني القرآن 3 / والطبري 30 / 56 .
2) ينظر التحرير 30 / 124 .
3) ينظر : المختار 1 / 109 .
4) ينظر : تفسير القاسمي 17 / 6063 .
5) ينظر : التحرير والتنوير 30 / 126 .
6) ينظر : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن 637 – 639 .
7) على أحد قولين وسيأتي هذا .
8) ينظر : المختار 1 / 94 – 95 .
9) الديوان 61 .
10) ينظر : ابن كثير 4 وهو قول الحسن وقتادة .
11) ينظر : التحرير والتنوير 30 / 7 – 8 .
12) ينظر تفسير القاسمي 17 / 6252 ونسبه بقوله ( قال الإمام ) .
13) التحرير 30 / 373 .
14) التعبير القرآني 19 .
15) ملاك التأويل 1 / 353 .
16) ينظر : ملاك التأويل 1 / 353 .
17) درّة التنزيل 475 .
18) ينظر : دّرة التنزيل 474 – 475 .[/align]
[align=center]د. عامر مهدي العلواني
مدرس البلاغة والنقد في قسم اللغة العربية
جامعة الأنبار[/align][/size][/font]