أحمد بن موسى
New member
- إنضم
- 12/07/2003
- المشاركات
- 31
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
[align=center]بقلم صديقنا الأديب الأريب / ماجد البلوشي [/align]
للأدباءِ ذكرى لا تغيبُ، ولإبداعاتهم منزلةٌ لا تعفى ولا تنمحي. كنتُ اليومَ أُقلّبُ كتاباً خالداً من كُتبِ الأدبِ، عرفتهُ مُذ عرفتُ المعرفةَ والقراءةَ في سنيِّ الشبابِ الباسمِ، كتابٌ خلّدَ فيهِ مؤلّفهُ آثاراً كادتْ أن تبيدَ، وفيهِ من بقايا الأخبارِ ما أوشكَ أن ينساهُ أهلُ الزمانِ، ومن رحمةِ اللهِ بالخلقِ أن هيّأ لهم هذه الطروسَ والسطورَ، يجمعونَ فيها روائعَ ما يحفظونَ، ويخطّونَ في أسفارِها بدائعَ ما يقعُ لهم، حتّى صارَ العلمُ والأدبُ مُشاعاً، يملكُ كلُّ مُريدٍ مفاتحهُ. وإن شئتَ – يا قارئي – روضةً أريضةَ من كلامِ البلغاءِ في وصفِ الكتابِ وحالهِ، فلا أظنّكَ تجدُ أوفى وأوفرَ من نعتِ الجاحظِ لهُ، والجاحظُ على شدّةِ انحرافهِ في شأنِ العقيدةِ، إلا أنّهُ كانَ باقعةً في الأدبِ ووعاءً في المعرفةِ، قلَّ أن يقعُ لهُ نظيرٌ في كثرةِ جمعهِ واستيعابهِ وتفنّنهِ. يقولُ الجاحظُ واصفاً الكتابَ : " والكتاب وعاءٌ مُلِئَ علماً وَظَرْفٌ حُشِي ظَرْفاً وإناءٌ شُحِن مُزَاحاً وجِدّاً. إنْ شئتَ كان أبيَنَ من سَحْبانِ وائل، وإن شئت كان أعيا من باقِل، وإن شئتَ ضَحِكْتَ مِنْ نوادِرِهِ، وإن شئتَ عَجِبتَ من غرائبِ فرائِده، وإن شئتَ ألهتْك طرائفُه، وإن شئتَ أشجَتْك مواعِظُه، . وَمَنْ لَكَ بِوَاعِظٍ مُلْهٍ، وبزاجرٍ مُغرٍ، وبناسكٍ فاتِكٍ، وبناطقٍ أخرسَ وبباردِ حارّ ... . وعبتَ الكتابَ، ولا أعلَمُ جاراً أبرَّ، ولا خَليطاً أنصفَ، ولا رفيقاً أطوعَ، ولا معلِّماً أخضعَ، ولا صاحباً أظهرَ كفايةً، ولا أقلَّ جِنَايَة ً، ولا أقلَّ إمْلالاًوإبراماً، ولا أحفَلَ أخلاقاً، ولا أقلَّ خِلافاً وإجراماً، ولا أقلَّ غِيبة ً، ولا أبعدَ من عَضِيهةٍ، ولا أكثرَ أعجوبة ً وتصرُّفاً، ولا أقلّ تصلُّفاً وتكلُّفاً، ولا أبعَدَ مِن مِراءٍ، ولا أتْرَك لشَغَبٍ، ولا أزهَدَ في جدالٍ، ولا أكفَّ عن قتالٍ، من كتاب. ولا أعلَمُ قريناً أحسنَ موَافاة ً، ولا أعجَل مكافأة، ولا أحضَرَ مَعُونة ً، ولا أخفَّ مؤونةً، ولا شجرة ً أطولَ عمراً، ولا أجمعَ أمراً، ولا أطيَبَ ثمرة ً، ولا أقرَبَ مُجتَنى، ولا أسرَعَ إدراكاً، ولا أوجَدَ في كلّ إبَّانٍ، من كتابٍ. ولا أعلَمُ نِتاجاً في حَدَاثة ِ سنِّهِ، وقُرْب ميلادِه، ورُخْص ثمنهِ، وإمكانِ وُجودهِ، يجمَعُ من التدابيرِ العجيبَةِ، والعلومِ الغريبة، ومن آثارِ العقولِ الصحيحةِ، ومحمودِ الأذهانِ اللطيفةِ، ومِنَ الحِكَم الرفيعةِ، والمذاهب القوِيمةِ، والتجارِبِ الحكيمةِ، ومِنَ الإخبارِ عن القرون الماضية، والبلادِ المتنازِحةِ والأمثالِ السائرة، والأممِ البائدةِ، ما يجمَعُ لك الكتابُ ". إلى آخرِ كلامهِ، وهو من نفيسِ ما كتبهُ، انظرهُ وانظرْ أضعافهُ في المجلّدِ الأوّلِ من كتابهِ البديعِ " الحيوان ".
أقولُ: لقد كنتُ اليومَ أقلّبُ كِتاباً بديعاً من كُتبِ التراثِ التي نفخرُ بها، جمعَ مع مادّةِ الأدبِ أخباراً كثيرةً، فهو يسردُ فصولاً ساحرةً من مُتعِ البلاغةِ وأفانينِ الشعرِ ومنثورِ الحِكمِ، ويختالُ مزهّواً بذكرِ أخبارِ العباقرةِ من الأدباءِ المفوّقينَ وسِيَرَ النابهينَ ما بينَ ناثرٍ وشاعرٍ، يجعلُ ذلك كلّهُ في موضعهِ من ترجمةِ الأديبِ، ذلكم الكتابُ هو كتابُ " معجم الأدباءِ " لياقوت الحموي. هذا الكتابُ متعةٌ بحقٍّ، إن شئتهُ عبرةً وعظةً فهو كذلكَ، وإن أردتهُ مكاناً للاستجمامِ وجدتهُ، وإن رغبتَ في البحثِ عن فرائدِ الفوائدِ ومقتنصِ النوادرِ ألفيتهُ بحراً لا ساحلَ لهُ، لا أقولُ ذلكَ تبعيّةً دونَ علمٍ بهِ أو وعْي لما يحويهِ، فلقدُ سبرتُ غورهُ ووقفتُ على مكنونهِ، وهو ما جرّأني نصيحةَ إخواني على قراءتهِ والوقوفِ على مادّتهِ. وعلى ما في هذا الكتابِ من الإمتاعِ والمؤانسةِ، إلا أنَّهُ حفِظَ على النّاسِ وعاءً عظيماً من أوعيةِ البلاغةِ والأدبِ، ذلك الوعاءُ هو أبو حيّان التوحيديُّ، هذا الرّجلُ الذي أذهلَ النقّادَ والمؤرخينَ بسعةِ اطلاعهِ ووفرةِ مخزونهِ وتبحّرهِ في المعرفةِ والعلمِ، وزادهم ذهولاً حينَ أبانَ عن عبقريّةٍ لا مثيلَ لها في التصرّفِ بالكلامِ والتفنّنِ في طرقِ البيانِ والتباهي بأساليبِ البلاغةِ المُطربةِ. فهو فذٌّ نادرُ المثالِ، كادَ أن يهلكَ خبرهُ ويذهبَ في طيِّ النسيانِ، لولا أن تداركَ اللهُ هذا النِتاجَ، فحفِظَ لنا شيئاً من روائعِ أدبهِ وإنشاءهِ، ثمَّ حمانا اللهُ تباركَ وتعالى مرّةً أخرى بضياعِ كُتبهِ الفاسدةِ وآراءهِ الزائغةِ، تلكَ التي تحوي تخليطاً وانحرافاً عن طريقِ الحقِّ ودعوةِ الرسلِ، فالتوحيديُّ على براعتهِ في الأسلوبِ وعلوّهِ في البيانِ كانَ مُخلّطاً في العقيدةِ، يهذي فيها هذيانَ الفلاسفةِ ويهيمُ على طريقةِ الصوفيّةِ المنحرفةِ، كذوباً ذا انتحالٍ لدرجةٍ لا توصفُ، فهو يكذبُ ويعفّي أثرَ كذباتهِ حتّى تخالهُ صدّيقَ العالمينَ، حسوداً حقوداً، مُلئَ قلبهُ بُغضاً وغلاً، بارعاً في التصنّعِ والمنافقةِ والرّوغانِ. وقد سترَ على نفسهِ سوءةَ كلِّ ذلكَ بقلمٍ ملكَ بهِ أزمّةَ البيانِ وأخذَ يُصرّفهُ كيفَ شاءَ، يضعُ نفسهُ تارةً في مكانِ العظماءِ فتخالهُ من بقايا الحكماءِ الأوائلِ، وحيناً يأخذُكَ إلى عوالمِ المجونِ ودوائرِ المتعةِ فلا تشكُّ لحظةً أنّهُ ثملٌ لا عقلَ معهُ، وأخرى يتخاشعُ بينَ يديكَ ويأسرُكَ بأخبارِ الوعّاظِ والنُسّاكِ وأهلِ الزهدِ فيبهتُكَ الحالُ وتبقى واجماً، لشدّةِ ما ترى من المتناقضاتِ، وتكتملُ فصولُ الحيرةِ بكَ حينَ تقرأ كلامهُ في العلومِ التجريبيّةِ والكيمياءِ والهندسةِ والفلكِ، فترى منهُ عجباً يشدهكَ. هذا هو أبو حيّانٍ، رجلٌ كثيرُ الإزراءِ على نفسهِ وعلى الخلقِ، خمولٌ إلى حدٍّ لا يوصفُ، يبحثُ عن ذاتهِ في المالِ والمكانةِ فيُحرمُ ذلك كلّهُ ويعملُ أجيراً عندَ من لا يستحقُّ هو أن يكونَ أجيراً عندَ أبي حيّانٍ، ثمَّ تضيقُ عليهِ دروبُ الزمانِ وتقلّباتِ الدهرِ، حتّى تسلمهُ إلى الجزعِ ومقتِ النّاسِ، ومع أنّهُ لم يحظَ بمكانةٍ أو منزلةٍ إلا أنّهُ يجدُ في نفسهِ نرجسيّةً طاغيةً، وحسّاً بالعظمةِ يتضاعفُ مع مرِّ الوقتِ، وبمقدارِ ما يتضاعفُ ذلكَ في داخلهِ يكونُ سقوطهُ في نظرِ أصحابهِ ونُظراءهِ. هذه سنّةٌ بغيظةٌ جرى عليها بعضُ النّوابغِ، حينَ يُلزمُ أهلَ زمانهِ برعايةِ حالهِ وصيانةِ نفسهِ وتوقيرهِ ومراعاتهِ، وحينَ يستطيلُ عليهم بفضلِ نباهتهِ وعقلهِ، ويرى في نفسهِ مُخلّصاً لهم، وبارعاً بينهم، فإن لم يجدْ فيهم ما كان يبحثُ عنهُ من الإعزازِ والإجلالِ والمكنةِ، قلبَ لهم ظهرَ المجنِّ، وسفّهَ فيهم ونكّلَ ، لاسيّما إن حُرمَ حظّهُ من الدّنيا، وهو يراها تُبذلُ لمن هو دونهُ وأنزلُ منهُ قدراً في نظرهِ، وقد رأيتُ هذا كثيراً في الأدباءِ، كما هو الحالُ مع المتنبيِّ وأبي حيّانٍ وآخرينَ. ثمَّ أنَّ أبا حيّانٍ على كلِّ هذا لم يصُنْ نفسهُ، فعرّضها للابتذالِ بالجشعِ والطمعِ وحبِّ العلوِّ، وبذلَ وجههُ ونفسهُ وعلمهُ بحثاً عن مكانةٍ أو جاهٍ أو طعامٍ، يسألُ هذا، ويستجدي ذاكَ، فحُرمَ ذلك كلّهُ، واستعاضَ عن مطامحهِ ومطامعهِ بحقدٍ عميمٍ ونفسٍ محبطةٍ وعيشةٍ بائسةٍ، جلّلَ بها أهلَ زمانهِ، ولشدّةِ ما بلغَ بهِ حقدهُ عليهم قامَ بإحراقِ كتبهِ وحرمانِ النّاسِ منها، فهم في نظرهِ أحقرُ من النظرِ فيها. ههنا نصٌّ من فاخرِ النصوصِ العربيّةِ وأكثرِها دقّةً في سبكِها ونِظامها، كتبهُ أبو حيّانٍ في آخرِ حياتهِ، آيساً من الخلقِ، ناقماً عليهِ، وقد اختمرتْ قريحتهُ واستوى أدبهُ وتكاملتْ صنعتهُ، فجمعتْ خصائصَ نثرهِ الفنّيّةَ، وفيها أيضاً لمحاتٌ واضحةٌ من حياتهِ ومن نفسيّتهِ المحبطةِ، فهي تصلحُ أن تكونَ – على صغرِها – حكماً فصلاً على أبي حيّانٍ، ومن كلامهِ شخصيّاً، كما أنّها فيصلٌ في إثباتِ نبوغهِ في النثرِ والإنشاءِ، وامتلاكهِ ناصيةَ ذلك دونَ تكلّفٍ أو تزويقٍ. يقولُ أبو حيّانٍ مُلخّصاً بؤسهُ ومنتهى يأسهِ من الخلقِ، ومُعلّلاً سببَ إحراقهِ لكُتبهِ- وهي رسالةٌ كتبها إلى القاضي أبي سهلٍ علي بن محمّدٍ - : " حرسك اللهُ أيّها الشيخُ من سوءِ ظني بمودتك، وطولِ جفائك، وأعاذني من مكافأتك على ذلك، وأجارنا جميعاً مما يسوّدُ وجهَ عهدٍ إن رعيناهُ كنا مستأنسينَ بهِ، وإن أهملناهُ كنّا مستوحشينَ من أجلهِ، وأدامَ اللهُ نعمتهُ عندكَ، وجعلني على الحالات كلها فداكَ. وافاني كتابك غير محتسبٍ، ولا متوقعٍ، على ظمإ برّحَ بي إليهِ، وشكرتُ اللهَ تعالى على النعمةِ بهِ عليَّ، وسألتهُ المزيدَ من أمثالهِ الذي وصفت فيهِ- بعد ذكر الشوقِ إليَّ، والصبابةِ نحوي - ما نالَ قلبكَ والتهبَ في صدركَ، من الخبرِ الذي نمى إليكَ، فيما كان مني من إحراقِ كتبي النفيسة بالنارِ، وغسلها بالماءِ، فعجبتُ من انزواءِ وجهِ العذرِ عنك في ذلك، كأنّك لم تقرأ قوله جل وعز : (( كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجههُ، لهُ الحكمُ وإليهِ ترجعونَ )). وكأنّكَ لم تأبهْ لقولهِ تعالى : (( كلُّ من عليها فانٍ ))، وكأنّك لم تعلم أنّهُ لا ثباتَ لشيءٍ من الدنيا، وإن كان شريفَ الجوهرِ، كريمَ العنصرِ، ما دامَ مقلّباً بيدِ الليلِ والنهارِ، معروضاً على أحداثِ الدهرِ، وتعاودِ الأيامِ. ثم إني أقولُ: إن كان - أيدكَ اللهُ - قد نقبَ خفكَ ما سمعتَ، فقد أدمى أظلي ما فعلتُ، فليهُن عليك ذلك، فما انبريتُ لهُ، ولا اجترأت عليهِ، حتى استخرتُ اللهَ عزَّ وجلَّ فيهِ أياماً ولياليَ، وحتى أوحى إليَّ في المنامِ بما بعثَ راقدَ العزمِ، وأجدَّ فاترَ النيةِ، وأحيى ميتَ الرأي، وحثَّ على تنفيذِ ما وقع في الروعِ، وتريعَ في الخاطرِ. وأنا أجودُ عليكَ الآن بالحجةِ في ذلكَ إن طالبتَ، أو بالعذرِ إن استوضحتَ، لتثقَ بي فيما كان منّي وتعرفَ صنعَ اللهِ تعالى في ثنيهِ لي. إنَّ العلمَ - حاطك اللهُ - يُرادُ للعملِ، كما أنَّ العملَ يُرادُ للنجاةِ، فإذا كان العملُ قاصراً عن العلمِ، كان العلمُ كلاً على العالمِ، وأنا أعوذُ باللهِ من علمٍ عاد كلاً، وأورثَ ذلاً، وصارَ في رقبةِ صاحبهِ غلاً. وهذا ضرب من الاحتجاج المخلوط بالاعتذار. ثم اعلم علمك الله الخير أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سره وعلانيته. فأما ما كان سرا فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغبا وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالبا. على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم ولعقد الرياسة بينهم ولمد الجاه عندهم فحرمت ذلك كله ولاشك في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي وربطه بأمري وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجة علي لا لي. ومما شحذ العزم على ذلك ورفع الحجاب عنه أني فقدت ولدا نجيبا وصديقا حبيبا وصاحبا قريبا وتابعا أديبا ورئيسا منيبا فشق علي أن أدعها لقوم يتلاعبون بها ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها. فإن قلت: ولم تسمهم بسوء الظن وتقرع جماعتهم بهذا العيب؟. فجوابي لك: أن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من أحدهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ، ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة، إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم ويطرح في قلب صاحبه الألم، وأحوال الزمان بادية لعينك بارزة بين مسائك وصباحك، وليس ما قلته بخاف عليك مع معرفتك وفطنتك وشدة تتبعك وتفرغك، وما كان يجب أن ترتاب في صواب ما فعلته وأتيته، بما قدمته ووصفته وبما أمسكت عنه وطويته إما هربا من التطويل وإما خوفا من القال والقيل. وبعد فقد أصبحت هامة اليوم أو غد فإني في عشر التسعين وهل لي بعد الكبرة والعجز أمل في حياة لذيذة أو رجاء لحال جديدة ألست من زمرة من قال القائل فيهم: نروح ونغدو كل يوم وليلة ********** وعما قليل لا نروح ولا نغدو
وكما قال الآخر: تفوقت درات الصبا في ظلاله ******** إلى أن أتاني بالفطام مشيب
وهذا البيت للورد الجعدي وتمامه يضيق عنه هذا المكان. والله يا سيدي لو لم أتعظ إلا بمن فقدته من الإخوان والأخدان في هذا الصقع من الغرباء والأدباء والأحباء لكفى، فكيف بمن كانت العين تقربهم والنفس تستنير بقربهم فقدتهم بالعراق والحجاز والجبل والري وما والى هذه المواضع وتواتر إلي نعيهم واشتدت الواعية بهم فهل أنا إلا من عنصرهم وهل لي محيد عن مصيرهم أسأل الله تعالى رب الأولين أن يجعل اعترافي بما أعرفه موصولا بنزوعي عما أقترفه إنه قريب مجيب. وبعد فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم ويؤخذ بهديهم ويعشى إلى نارهم منهم أبو عمرو بن العلاء وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر . وهذا داود الطائي وكان من خيار عباد الله زهدا وفقها وعبادة ويقال له تاج الأمة طرح كتبه في البحر وقال يناجيها نعم الدليل كنت والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول وبلاء وخمول. وهذا يوسف بن أسباط حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحه فيه وسد بابه فلما عوتب على ذلك قال دلنا العلم في الأول ثم كاد يضلنا في الثاني فهجرناه لوجه من وصلناه وكرهناه من أجل ما أردناه. وهذا أبو سليمان الداراني جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال والله ما احرقتك حتى كدت أحترق بك. وهذا سفيان الثوري مزق ألف جزء وطيرها في الريح وقال ليت يدي قطعت من ها هنا بل من ها هنا ولم أكتب حرفا . وهذا شيخنا أبو سعيد السيرافي سيد العلماء قال لولده محمد قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار . وماذا أقول وسامعي يصدق أن زمانا أحوج مثلي إلى ما بلغك لزمان تدمع له العين حزنا وأسى ويتقطع عليه القلب غيظا وجوى وضنى وشجى وما يصنع بما كان وحدث وبان إن احتجت إلى العلم في خاصة نفسي فقليل والله تعالى شاف كاف وإن احتجت إليه للناس ففي الصدر منه ما يملأ القرطاس بعد القرطاس إلى أن تفي الأنفاس بعد الأنفاس : (( ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون )). فلم تعنى عيني أيدك الله بعد هذا بالحبر والورق والجلد والقراءة والمقابلة والتصحيح وبالسواد والبياض وهل أدرك السلف الصالح في الدين الدرجات العلى إلا بالعمل الصالح وإخلاص المعتقد والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا وخدع بالزبرج وهوى بصاحبه إلى الهبوط. وهل وصل الحكماء القدماء إلى السعادة العظمى إلا بالاقتصاد في السعي وإلا بالرضا بالميسور وإلا ببذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم فأين يذهب بنا وعلى أي باب نحط رحالنا وهل جامع الكتب إلا كجامع الفضة والذهب وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما وهل المغرم بحبها إلا كمكاثرهما؟. هيهات الرحيل والله قريب والثواء قليل والمضجع مقض والمقام ممض والطريق مخوف والمعين ضعيف والاغترار غالب والله من وراء هذا كله طالب نسأل الله تعالى رحمة يظلنا جناحها ويسهل علينا في هذه العاجلة غدوها ورواحها فالويل كل الويل لمن بعد عن رحمته بعد أن حصل تحت قدره. ثم إني أيدك الله ما أردت أن أجيبك عن كتابك لطول جفائك وشدة التوائك عمن لم يزل على رأيك مجتهدا في محبتك على قربك ونأيك مع ما أجده من انكسار النشاط وانطواء الانبساط لتعاود العلل علي وتخاذل الأعضاء مني فقد كل البصر وانعقد اللسان وجمد الخاطر وذهب البيان وملك الوسواس وغلب اليأس من جميع الناس ولكني حرست منك ما أضعته مني ووفيت لك بما لم تف به لي ويعز علي أن يكون لي الفضل عليك أو أحرز المزية دونك وما حداني على مكاتبتك إلا ما أتمثله من تشوقك إلي وتحرقك علي وأن الحديث الذي بلغك قد بدد فكرك وأعظم تعجبك وحشد عليك جزعك والأول يقول:
وقد يجزع المرء الجليد ويبتلي ********* عزيمة رأي المرء نائبة الدهر
تعاوده الأيام فيما ينوبه ******** فيقوى على أمر ويضعف عن أمر
على أني لو علمت في أي حال غلب علي ما فعلته وعند أي مرض وعلى أية عسرة وفاقة لعرفت من عذري أضعاف ما أبديته واحتججت لي بأكثر مما نشرته وطويته وإذا أنعمت النظر تيقنت أن لله جل وعز في خلقه أحكاما لا يعاز عليها ولا يغالب فيها لأنه لا يبلغ كنهها ولا ينال غيبها ولا يعرف قابها ولا يقرع بابها وهو تعالى أملك لنواصينا وأطلع على أدانينا وأقاصينا له الخلق والأمر وبيده الكسر والجبر وعلينا الصمت والصبر إلى أن يوارينا اللحد والقبر والسلام. إن سرك جعلني الله فداك أن تواصلني بخبرك وتعرفني مقر خطابي هذا من نفسك فافعل فإني لا أدع جوابك إلى أن يقضي الله تعالى تلاقيا يسر النفس ويذكر حديثنا بالأمس أو بفراق نصير به إلى الرمس ونفقد معه رؤية هذه الشمس والسلام عليك خاصا بحق الصفاء الذي بيني وبينك وعلى جميع إخوانك عاما بحق الوفاء الذي يجب علي وعليك والسلام . وكتب هذا الكتاب في شهر رمضان سنة أربعمائة . ثُمَّ أمّا بعدُ: فهذهُ درّةٌ يتيمةٌ خالدةٌ، من أروعِ وأبدعِ ما خطّهُ أبو حيّانٍ، بل هو واللهِ من أروعِ فصولِ النثرِ في صناعةِ البيانِ العربيِّ، تصلحُ أن تكونَ مدرسةً في الأسلوبِ، حوتْ خصائصَ نثرِ أبي حيّانٍ، وجمعتْ أصولَ فكرهِ وطريقةَ حياتهِ ونِظامَ عقلهِ، من قرأها ووعاها ولحظها بعينِ التأمّلِ فقد انفتحَ على أبي حيّانٍ وتصوّرَ حالهُ، ومن أعطاها حقّها من العنايةِ وسلكَ على دربِها في الأسلوبِ والمحاكاةِ فقد رُزقَ حظّاً وافراً من صنعةِ الأدباءِ. وشكرنا لأبي حيّانٍ على إخراجِ هذه الصياغةِ المذهلةِ، والتركيبةِ العجيبةِ من الكلامِ، لا يقلُّ عن تقديرِنا وشكرنا لياقوتَ الحمويِّ، فقد حوى في كتابهِ ما تغافلَ عنهُ من قبلهُ من الأدباءِ والمؤرخينَ من ذكرِ سيرةِ هذا الطودِ الشامخِ من أعيانِ الأدباءِ، فقد كانوا يغضونَ الطرفَ عنهُ وعن سيرتهِ ونِتاجهِ، مع أنّهُ أوحدُ الدّنيا في ذلكَ، حتّى جاءَ ياقوتُ من عالمِ الغيبِ فانبرى لجمعِ روائعهِ وروائعِ غيرهِ. هذا هو تراثُنا، وهؤلاءِ هم علماؤنا وأُدباؤنا، وهذه صفحاتٌ ناصعةٌ من ذلك سيرةِ ذلك الجيلِ العظيمِ، نفتحها اليومَ علّها تجدُ همّةً منبعثةً فتفتحُ لها الآفاقَ وتُدني لها السبيلَ.
للأدباءِ ذكرى لا تغيبُ، ولإبداعاتهم منزلةٌ لا تعفى ولا تنمحي. كنتُ اليومَ أُقلّبُ كتاباً خالداً من كُتبِ الأدبِ، عرفتهُ مُذ عرفتُ المعرفةَ والقراءةَ في سنيِّ الشبابِ الباسمِ، كتابٌ خلّدَ فيهِ مؤلّفهُ آثاراً كادتْ أن تبيدَ، وفيهِ من بقايا الأخبارِ ما أوشكَ أن ينساهُ أهلُ الزمانِ، ومن رحمةِ اللهِ بالخلقِ أن هيّأ لهم هذه الطروسَ والسطورَ، يجمعونَ فيها روائعَ ما يحفظونَ، ويخطّونَ في أسفارِها بدائعَ ما يقعُ لهم، حتّى صارَ العلمُ والأدبُ مُشاعاً، يملكُ كلُّ مُريدٍ مفاتحهُ. وإن شئتَ – يا قارئي – روضةً أريضةَ من كلامِ البلغاءِ في وصفِ الكتابِ وحالهِ، فلا أظنّكَ تجدُ أوفى وأوفرَ من نعتِ الجاحظِ لهُ، والجاحظُ على شدّةِ انحرافهِ في شأنِ العقيدةِ، إلا أنّهُ كانَ باقعةً في الأدبِ ووعاءً في المعرفةِ، قلَّ أن يقعُ لهُ نظيرٌ في كثرةِ جمعهِ واستيعابهِ وتفنّنهِ. يقولُ الجاحظُ واصفاً الكتابَ : " والكتاب وعاءٌ مُلِئَ علماً وَظَرْفٌ حُشِي ظَرْفاً وإناءٌ شُحِن مُزَاحاً وجِدّاً. إنْ شئتَ كان أبيَنَ من سَحْبانِ وائل، وإن شئت كان أعيا من باقِل، وإن شئتَ ضَحِكْتَ مِنْ نوادِرِهِ، وإن شئتَ عَجِبتَ من غرائبِ فرائِده، وإن شئتَ ألهتْك طرائفُه، وإن شئتَ أشجَتْك مواعِظُه، . وَمَنْ لَكَ بِوَاعِظٍ مُلْهٍ، وبزاجرٍ مُغرٍ، وبناسكٍ فاتِكٍ، وبناطقٍ أخرسَ وبباردِ حارّ ... . وعبتَ الكتابَ، ولا أعلَمُ جاراً أبرَّ، ولا خَليطاً أنصفَ، ولا رفيقاً أطوعَ، ولا معلِّماً أخضعَ، ولا صاحباً أظهرَ كفايةً، ولا أقلَّ جِنَايَة ً، ولا أقلَّ إمْلالاًوإبراماً، ولا أحفَلَ أخلاقاً، ولا أقلَّ خِلافاً وإجراماً، ولا أقلَّ غِيبة ً، ولا أبعدَ من عَضِيهةٍ، ولا أكثرَ أعجوبة ً وتصرُّفاً، ولا أقلّ تصلُّفاً وتكلُّفاً، ولا أبعَدَ مِن مِراءٍ، ولا أتْرَك لشَغَبٍ، ولا أزهَدَ في جدالٍ، ولا أكفَّ عن قتالٍ، من كتاب. ولا أعلَمُ قريناً أحسنَ موَافاة ً، ولا أعجَل مكافأة، ولا أحضَرَ مَعُونة ً، ولا أخفَّ مؤونةً، ولا شجرة ً أطولَ عمراً، ولا أجمعَ أمراً، ولا أطيَبَ ثمرة ً، ولا أقرَبَ مُجتَنى، ولا أسرَعَ إدراكاً، ولا أوجَدَ في كلّ إبَّانٍ، من كتابٍ. ولا أعلَمُ نِتاجاً في حَدَاثة ِ سنِّهِ، وقُرْب ميلادِه، ورُخْص ثمنهِ، وإمكانِ وُجودهِ، يجمَعُ من التدابيرِ العجيبَةِ، والعلومِ الغريبة، ومن آثارِ العقولِ الصحيحةِ، ومحمودِ الأذهانِ اللطيفةِ، ومِنَ الحِكَم الرفيعةِ، والمذاهب القوِيمةِ، والتجارِبِ الحكيمةِ، ومِنَ الإخبارِ عن القرون الماضية، والبلادِ المتنازِحةِ والأمثالِ السائرة، والأممِ البائدةِ، ما يجمَعُ لك الكتابُ ". إلى آخرِ كلامهِ، وهو من نفيسِ ما كتبهُ، انظرهُ وانظرْ أضعافهُ في المجلّدِ الأوّلِ من كتابهِ البديعِ " الحيوان ".
أقولُ: لقد كنتُ اليومَ أقلّبُ كِتاباً بديعاً من كُتبِ التراثِ التي نفخرُ بها، جمعَ مع مادّةِ الأدبِ أخباراً كثيرةً، فهو يسردُ فصولاً ساحرةً من مُتعِ البلاغةِ وأفانينِ الشعرِ ومنثورِ الحِكمِ، ويختالُ مزهّواً بذكرِ أخبارِ العباقرةِ من الأدباءِ المفوّقينَ وسِيَرَ النابهينَ ما بينَ ناثرٍ وشاعرٍ، يجعلُ ذلك كلّهُ في موضعهِ من ترجمةِ الأديبِ، ذلكم الكتابُ هو كتابُ " معجم الأدباءِ " لياقوت الحموي. هذا الكتابُ متعةٌ بحقٍّ، إن شئتهُ عبرةً وعظةً فهو كذلكَ، وإن أردتهُ مكاناً للاستجمامِ وجدتهُ، وإن رغبتَ في البحثِ عن فرائدِ الفوائدِ ومقتنصِ النوادرِ ألفيتهُ بحراً لا ساحلَ لهُ، لا أقولُ ذلكَ تبعيّةً دونَ علمٍ بهِ أو وعْي لما يحويهِ، فلقدُ سبرتُ غورهُ ووقفتُ على مكنونهِ، وهو ما جرّأني نصيحةَ إخواني على قراءتهِ والوقوفِ على مادّتهِ. وعلى ما في هذا الكتابِ من الإمتاعِ والمؤانسةِ، إلا أنَّهُ حفِظَ على النّاسِ وعاءً عظيماً من أوعيةِ البلاغةِ والأدبِ، ذلك الوعاءُ هو أبو حيّان التوحيديُّ، هذا الرّجلُ الذي أذهلَ النقّادَ والمؤرخينَ بسعةِ اطلاعهِ ووفرةِ مخزونهِ وتبحّرهِ في المعرفةِ والعلمِ، وزادهم ذهولاً حينَ أبانَ عن عبقريّةٍ لا مثيلَ لها في التصرّفِ بالكلامِ والتفنّنِ في طرقِ البيانِ والتباهي بأساليبِ البلاغةِ المُطربةِ. فهو فذٌّ نادرُ المثالِ، كادَ أن يهلكَ خبرهُ ويذهبَ في طيِّ النسيانِ، لولا أن تداركَ اللهُ هذا النِتاجَ، فحفِظَ لنا شيئاً من روائعِ أدبهِ وإنشاءهِ، ثمَّ حمانا اللهُ تباركَ وتعالى مرّةً أخرى بضياعِ كُتبهِ الفاسدةِ وآراءهِ الزائغةِ، تلكَ التي تحوي تخليطاً وانحرافاً عن طريقِ الحقِّ ودعوةِ الرسلِ، فالتوحيديُّ على براعتهِ في الأسلوبِ وعلوّهِ في البيانِ كانَ مُخلّطاً في العقيدةِ، يهذي فيها هذيانَ الفلاسفةِ ويهيمُ على طريقةِ الصوفيّةِ المنحرفةِ، كذوباً ذا انتحالٍ لدرجةٍ لا توصفُ، فهو يكذبُ ويعفّي أثرَ كذباتهِ حتّى تخالهُ صدّيقَ العالمينَ، حسوداً حقوداً، مُلئَ قلبهُ بُغضاً وغلاً، بارعاً في التصنّعِ والمنافقةِ والرّوغانِ. وقد سترَ على نفسهِ سوءةَ كلِّ ذلكَ بقلمٍ ملكَ بهِ أزمّةَ البيانِ وأخذَ يُصرّفهُ كيفَ شاءَ، يضعُ نفسهُ تارةً في مكانِ العظماءِ فتخالهُ من بقايا الحكماءِ الأوائلِ، وحيناً يأخذُكَ إلى عوالمِ المجونِ ودوائرِ المتعةِ فلا تشكُّ لحظةً أنّهُ ثملٌ لا عقلَ معهُ، وأخرى يتخاشعُ بينَ يديكَ ويأسرُكَ بأخبارِ الوعّاظِ والنُسّاكِ وأهلِ الزهدِ فيبهتُكَ الحالُ وتبقى واجماً، لشدّةِ ما ترى من المتناقضاتِ، وتكتملُ فصولُ الحيرةِ بكَ حينَ تقرأ كلامهُ في العلومِ التجريبيّةِ والكيمياءِ والهندسةِ والفلكِ، فترى منهُ عجباً يشدهكَ. هذا هو أبو حيّانٍ، رجلٌ كثيرُ الإزراءِ على نفسهِ وعلى الخلقِ، خمولٌ إلى حدٍّ لا يوصفُ، يبحثُ عن ذاتهِ في المالِ والمكانةِ فيُحرمُ ذلك كلّهُ ويعملُ أجيراً عندَ من لا يستحقُّ هو أن يكونَ أجيراً عندَ أبي حيّانٍ، ثمَّ تضيقُ عليهِ دروبُ الزمانِ وتقلّباتِ الدهرِ، حتّى تسلمهُ إلى الجزعِ ومقتِ النّاسِ، ومع أنّهُ لم يحظَ بمكانةٍ أو منزلةٍ إلا أنّهُ يجدُ في نفسهِ نرجسيّةً طاغيةً، وحسّاً بالعظمةِ يتضاعفُ مع مرِّ الوقتِ، وبمقدارِ ما يتضاعفُ ذلكَ في داخلهِ يكونُ سقوطهُ في نظرِ أصحابهِ ونُظراءهِ. هذه سنّةٌ بغيظةٌ جرى عليها بعضُ النّوابغِ، حينَ يُلزمُ أهلَ زمانهِ برعايةِ حالهِ وصيانةِ نفسهِ وتوقيرهِ ومراعاتهِ، وحينَ يستطيلُ عليهم بفضلِ نباهتهِ وعقلهِ، ويرى في نفسهِ مُخلّصاً لهم، وبارعاً بينهم، فإن لم يجدْ فيهم ما كان يبحثُ عنهُ من الإعزازِ والإجلالِ والمكنةِ، قلبَ لهم ظهرَ المجنِّ، وسفّهَ فيهم ونكّلَ ، لاسيّما إن حُرمَ حظّهُ من الدّنيا، وهو يراها تُبذلُ لمن هو دونهُ وأنزلُ منهُ قدراً في نظرهِ، وقد رأيتُ هذا كثيراً في الأدباءِ، كما هو الحالُ مع المتنبيِّ وأبي حيّانٍ وآخرينَ. ثمَّ أنَّ أبا حيّانٍ على كلِّ هذا لم يصُنْ نفسهُ، فعرّضها للابتذالِ بالجشعِ والطمعِ وحبِّ العلوِّ، وبذلَ وجههُ ونفسهُ وعلمهُ بحثاً عن مكانةٍ أو جاهٍ أو طعامٍ، يسألُ هذا، ويستجدي ذاكَ، فحُرمَ ذلك كلّهُ، واستعاضَ عن مطامحهِ ومطامعهِ بحقدٍ عميمٍ ونفسٍ محبطةٍ وعيشةٍ بائسةٍ، جلّلَ بها أهلَ زمانهِ، ولشدّةِ ما بلغَ بهِ حقدهُ عليهم قامَ بإحراقِ كتبهِ وحرمانِ النّاسِ منها، فهم في نظرهِ أحقرُ من النظرِ فيها. ههنا نصٌّ من فاخرِ النصوصِ العربيّةِ وأكثرِها دقّةً في سبكِها ونِظامها، كتبهُ أبو حيّانٍ في آخرِ حياتهِ، آيساً من الخلقِ، ناقماً عليهِ، وقد اختمرتْ قريحتهُ واستوى أدبهُ وتكاملتْ صنعتهُ، فجمعتْ خصائصَ نثرهِ الفنّيّةَ، وفيها أيضاً لمحاتٌ واضحةٌ من حياتهِ ومن نفسيّتهِ المحبطةِ، فهي تصلحُ أن تكونَ – على صغرِها – حكماً فصلاً على أبي حيّانٍ، ومن كلامهِ شخصيّاً، كما أنّها فيصلٌ في إثباتِ نبوغهِ في النثرِ والإنشاءِ، وامتلاكهِ ناصيةَ ذلك دونَ تكلّفٍ أو تزويقٍ. يقولُ أبو حيّانٍ مُلخّصاً بؤسهُ ومنتهى يأسهِ من الخلقِ، ومُعلّلاً سببَ إحراقهِ لكُتبهِ- وهي رسالةٌ كتبها إلى القاضي أبي سهلٍ علي بن محمّدٍ - : " حرسك اللهُ أيّها الشيخُ من سوءِ ظني بمودتك، وطولِ جفائك، وأعاذني من مكافأتك على ذلك، وأجارنا جميعاً مما يسوّدُ وجهَ عهدٍ إن رعيناهُ كنا مستأنسينَ بهِ، وإن أهملناهُ كنّا مستوحشينَ من أجلهِ، وأدامَ اللهُ نعمتهُ عندكَ، وجعلني على الحالات كلها فداكَ. وافاني كتابك غير محتسبٍ، ولا متوقعٍ، على ظمإ برّحَ بي إليهِ، وشكرتُ اللهَ تعالى على النعمةِ بهِ عليَّ، وسألتهُ المزيدَ من أمثالهِ الذي وصفت فيهِ- بعد ذكر الشوقِ إليَّ، والصبابةِ نحوي - ما نالَ قلبكَ والتهبَ في صدركَ، من الخبرِ الذي نمى إليكَ، فيما كان مني من إحراقِ كتبي النفيسة بالنارِ، وغسلها بالماءِ، فعجبتُ من انزواءِ وجهِ العذرِ عنك في ذلك، كأنّك لم تقرأ قوله جل وعز : (( كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجههُ، لهُ الحكمُ وإليهِ ترجعونَ )). وكأنّكَ لم تأبهْ لقولهِ تعالى : (( كلُّ من عليها فانٍ ))، وكأنّك لم تعلم أنّهُ لا ثباتَ لشيءٍ من الدنيا، وإن كان شريفَ الجوهرِ، كريمَ العنصرِ، ما دامَ مقلّباً بيدِ الليلِ والنهارِ، معروضاً على أحداثِ الدهرِ، وتعاودِ الأيامِ. ثم إني أقولُ: إن كان - أيدكَ اللهُ - قد نقبَ خفكَ ما سمعتَ، فقد أدمى أظلي ما فعلتُ، فليهُن عليك ذلك، فما انبريتُ لهُ، ولا اجترأت عليهِ، حتى استخرتُ اللهَ عزَّ وجلَّ فيهِ أياماً ولياليَ، وحتى أوحى إليَّ في المنامِ بما بعثَ راقدَ العزمِ، وأجدَّ فاترَ النيةِ، وأحيى ميتَ الرأي، وحثَّ على تنفيذِ ما وقع في الروعِ، وتريعَ في الخاطرِ. وأنا أجودُ عليكَ الآن بالحجةِ في ذلكَ إن طالبتَ، أو بالعذرِ إن استوضحتَ، لتثقَ بي فيما كان منّي وتعرفَ صنعَ اللهِ تعالى في ثنيهِ لي. إنَّ العلمَ - حاطك اللهُ - يُرادُ للعملِ، كما أنَّ العملَ يُرادُ للنجاةِ، فإذا كان العملُ قاصراً عن العلمِ، كان العلمُ كلاً على العالمِ، وأنا أعوذُ باللهِ من علمٍ عاد كلاً، وأورثَ ذلاً، وصارَ في رقبةِ صاحبهِ غلاً. وهذا ضرب من الاحتجاج المخلوط بالاعتذار. ثم اعلم علمك الله الخير أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سره وعلانيته. فأما ما كان سرا فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغبا وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالبا. على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم ولعقد الرياسة بينهم ولمد الجاه عندهم فحرمت ذلك كله ولاشك في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي وربطه بأمري وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجة علي لا لي. ومما شحذ العزم على ذلك ورفع الحجاب عنه أني فقدت ولدا نجيبا وصديقا حبيبا وصاحبا قريبا وتابعا أديبا ورئيسا منيبا فشق علي أن أدعها لقوم يتلاعبون بها ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها. فإن قلت: ولم تسمهم بسوء الظن وتقرع جماعتهم بهذا العيب؟. فجوابي لك: أن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من أحدهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ، ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة، إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم ويطرح في قلب صاحبه الألم، وأحوال الزمان بادية لعينك بارزة بين مسائك وصباحك، وليس ما قلته بخاف عليك مع معرفتك وفطنتك وشدة تتبعك وتفرغك، وما كان يجب أن ترتاب في صواب ما فعلته وأتيته، بما قدمته ووصفته وبما أمسكت عنه وطويته إما هربا من التطويل وإما خوفا من القال والقيل. وبعد فقد أصبحت هامة اليوم أو غد فإني في عشر التسعين وهل لي بعد الكبرة والعجز أمل في حياة لذيذة أو رجاء لحال جديدة ألست من زمرة من قال القائل فيهم: نروح ونغدو كل يوم وليلة ********** وعما قليل لا نروح ولا نغدو
وكما قال الآخر: تفوقت درات الصبا في ظلاله ******** إلى أن أتاني بالفطام مشيب
وهذا البيت للورد الجعدي وتمامه يضيق عنه هذا المكان. والله يا سيدي لو لم أتعظ إلا بمن فقدته من الإخوان والأخدان في هذا الصقع من الغرباء والأدباء والأحباء لكفى، فكيف بمن كانت العين تقربهم والنفس تستنير بقربهم فقدتهم بالعراق والحجاز والجبل والري وما والى هذه المواضع وتواتر إلي نعيهم واشتدت الواعية بهم فهل أنا إلا من عنصرهم وهل لي محيد عن مصيرهم أسأل الله تعالى رب الأولين أن يجعل اعترافي بما أعرفه موصولا بنزوعي عما أقترفه إنه قريب مجيب. وبعد فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم ويؤخذ بهديهم ويعشى إلى نارهم منهم أبو عمرو بن العلاء وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر . وهذا داود الطائي وكان من خيار عباد الله زهدا وفقها وعبادة ويقال له تاج الأمة طرح كتبه في البحر وقال يناجيها نعم الدليل كنت والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول وبلاء وخمول. وهذا يوسف بن أسباط حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحه فيه وسد بابه فلما عوتب على ذلك قال دلنا العلم في الأول ثم كاد يضلنا في الثاني فهجرناه لوجه من وصلناه وكرهناه من أجل ما أردناه. وهذا أبو سليمان الداراني جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال والله ما احرقتك حتى كدت أحترق بك. وهذا سفيان الثوري مزق ألف جزء وطيرها في الريح وقال ليت يدي قطعت من ها هنا بل من ها هنا ولم أكتب حرفا . وهذا شيخنا أبو سعيد السيرافي سيد العلماء قال لولده محمد قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار . وماذا أقول وسامعي يصدق أن زمانا أحوج مثلي إلى ما بلغك لزمان تدمع له العين حزنا وأسى ويتقطع عليه القلب غيظا وجوى وضنى وشجى وما يصنع بما كان وحدث وبان إن احتجت إلى العلم في خاصة نفسي فقليل والله تعالى شاف كاف وإن احتجت إليه للناس ففي الصدر منه ما يملأ القرطاس بعد القرطاس إلى أن تفي الأنفاس بعد الأنفاس : (( ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون )). فلم تعنى عيني أيدك الله بعد هذا بالحبر والورق والجلد والقراءة والمقابلة والتصحيح وبالسواد والبياض وهل أدرك السلف الصالح في الدين الدرجات العلى إلا بالعمل الصالح وإخلاص المعتقد والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا وخدع بالزبرج وهوى بصاحبه إلى الهبوط. وهل وصل الحكماء القدماء إلى السعادة العظمى إلا بالاقتصاد في السعي وإلا بالرضا بالميسور وإلا ببذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم فأين يذهب بنا وعلى أي باب نحط رحالنا وهل جامع الكتب إلا كجامع الفضة والذهب وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما وهل المغرم بحبها إلا كمكاثرهما؟. هيهات الرحيل والله قريب والثواء قليل والمضجع مقض والمقام ممض والطريق مخوف والمعين ضعيف والاغترار غالب والله من وراء هذا كله طالب نسأل الله تعالى رحمة يظلنا جناحها ويسهل علينا في هذه العاجلة غدوها ورواحها فالويل كل الويل لمن بعد عن رحمته بعد أن حصل تحت قدره. ثم إني أيدك الله ما أردت أن أجيبك عن كتابك لطول جفائك وشدة التوائك عمن لم يزل على رأيك مجتهدا في محبتك على قربك ونأيك مع ما أجده من انكسار النشاط وانطواء الانبساط لتعاود العلل علي وتخاذل الأعضاء مني فقد كل البصر وانعقد اللسان وجمد الخاطر وذهب البيان وملك الوسواس وغلب اليأس من جميع الناس ولكني حرست منك ما أضعته مني ووفيت لك بما لم تف به لي ويعز علي أن يكون لي الفضل عليك أو أحرز المزية دونك وما حداني على مكاتبتك إلا ما أتمثله من تشوقك إلي وتحرقك علي وأن الحديث الذي بلغك قد بدد فكرك وأعظم تعجبك وحشد عليك جزعك والأول يقول:
وقد يجزع المرء الجليد ويبتلي ********* عزيمة رأي المرء نائبة الدهر
تعاوده الأيام فيما ينوبه ******** فيقوى على أمر ويضعف عن أمر
على أني لو علمت في أي حال غلب علي ما فعلته وعند أي مرض وعلى أية عسرة وفاقة لعرفت من عذري أضعاف ما أبديته واحتججت لي بأكثر مما نشرته وطويته وإذا أنعمت النظر تيقنت أن لله جل وعز في خلقه أحكاما لا يعاز عليها ولا يغالب فيها لأنه لا يبلغ كنهها ولا ينال غيبها ولا يعرف قابها ولا يقرع بابها وهو تعالى أملك لنواصينا وأطلع على أدانينا وأقاصينا له الخلق والأمر وبيده الكسر والجبر وعلينا الصمت والصبر إلى أن يوارينا اللحد والقبر والسلام. إن سرك جعلني الله فداك أن تواصلني بخبرك وتعرفني مقر خطابي هذا من نفسك فافعل فإني لا أدع جوابك إلى أن يقضي الله تعالى تلاقيا يسر النفس ويذكر حديثنا بالأمس أو بفراق نصير به إلى الرمس ونفقد معه رؤية هذه الشمس والسلام عليك خاصا بحق الصفاء الذي بيني وبينك وعلى جميع إخوانك عاما بحق الوفاء الذي يجب علي وعليك والسلام . وكتب هذا الكتاب في شهر رمضان سنة أربعمائة . ثُمَّ أمّا بعدُ: فهذهُ درّةٌ يتيمةٌ خالدةٌ، من أروعِ وأبدعِ ما خطّهُ أبو حيّانٍ، بل هو واللهِ من أروعِ فصولِ النثرِ في صناعةِ البيانِ العربيِّ، تصلحُ أن تكونَ مدرسةً في الأسلوبِ، حوتْ خصائصَ نثرِ أبي حيّانٍ، وجمعتْ أصولَ فكرهِ وطريقةَ حياتهِ ونِظامَ عقلهِ، من قرأها ووعاها ولحظها بعينِ التأمّلِ فقد انفتحَ على أبي حيّانٍ وتصوّرَ حالهُ، ومن أعطاها حقّها من العنايةِ وسلكَ على دربِها في الأسلوبِ والمحاكاةِ فقد رُزقَ حظّاً وافراً من صنعةِ الأدباءِ. وشكرنا لأبي حيّانٍ على إخراجِ هذه الصياغةِ المذهلةِ، والتركيبةِ العجيبةِ من الكلامِ، لا يقلُّ عن تقديرِنا وشكرنا لياقوتَ الحمويِّ، فقد حوى في كتابهِ ما تغافلَ عنهُ من قبلهُ من الأدباءِ والمؤرخينَ من ذكرِ سيرةِ هذا الطودِ الشامخِ من أعيانِ الأدباءِ، فقد كانوا يغضونَ الطرفَ عنهُ وعن سيرتهِ ونِتاجهِ، مع أنّهُ أوحدُ الدّنيا في ذلكَ، حتّى جاءَ ياقوتُ من عالمِ الغيبِ فانبرى لجمعِ روائعهِ وروائعِ غيرهِ. هذا هو تراثُنا، وهؤلاءِ هم علماؤنا وأُدباؤنا، وهذه صفحاتٌ ناصعةٌ من ذلك سيرةِ ذلك الجيلِ العظيمِ، نفتحها اليومَ علّها تجدُ همّةً منبعثةً فتفتحُ لها الآفاقَ وتُدني لها السبيلَ.