بلس• (بلس):
﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٣٤]
"البَلَس - محركة: ثمر التين إذا أدرك، واحدته بتاء، وبضمتين: العَدَسُ، وهو البُلْسُن أيضًا. والبَلَسان: شجر له دهن حار يتنافس فيه " [تاج].
المعنى المحوري هو: اشتمال باطن الشيء على حدَّة لا تظهر: كما تحتوي ثمرة التين على حُبَيبات دقيقة صُلْبة في جَوفها، وكما تحتوي جُبَّة العَدَس على حبته الصلبة الدقيقة، وكما يحتوي حب البَلَسان على دُهْن حارٍّ خَفِيٍّ فيه، وهذه الحرارة حدة تناسب الخشونة والصلابة.
ومنه: "أبلَسَتْ الناقةُ: لم تَرغُ من شدة الضَبَعة، أي الشهوة للقاح، والناقةُ مِبْلاس " (فالشهوة الشديدة تسبب لها نوعًا من الألم الحادّ أو التوتُّر ينتشر في باطنها فلا ترغو). ومنه أيضًا: "أبلس الرجل: سكت غمًّا، أو حُزنًا، أو يأسًا وحيرة، أو ندمًا، أو لانقطاع حجته .. " (فالحزن وغيره من المشاعر الحادة القاسية التي تعتمل في جوفه تمنعه من الكلام يأسًا من جدواه). وهذا كما يقولون: سكت على مَضَض، أي على حُرقة وألم لاذع في الجوف .. وربما قيل في هذا: "ضَمِدَ ": ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الروم: ١٢]، ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤]، ﴿لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ [الزخرف: ٧٥] ومثلها ما في [المؤمنون: ٧٧]، ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾ [الروم: ٤٨, ٤٩] ففي كل ذلك هناك حُرْقة في الجوف تحسُّرًا أو ندمًا أو يأسًا. وفي الآية الأخيرة يجوز أن تكون الحرقة حقيقيةً من شدة الجفاف، كما قالوا: عام الرَمادة، من الرَماد: دُقَاق الفَحْم من حُراقة النار.
بقى من هذا الجذر كلمة إبليس وهي عند الكثيرين معرَّبة [الجواليقي شاكر ٧١، ف عبد الرحيم ١٢٢)، دائرة المعارف الإسلامية ١/ ١٨٥] لكننا نتبين بوضوح أن اللفظ والتسمية هي من المعنى الذي ذكرناه: فقد ذكر القرآن الكريم إبليس في مواضع ذكره (أَحَدَ عَشَر موضعًا) - عارضًا إباءه السجود لآدم استكبارًا لأنه - في زعمه - خير من آدم، إذ هو خُلِق من نار وآدمُ من طين. ولما لُعن وطُرد قال: ﴿لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٣٩] فهذه طبائع مخلوق يُكنّ في طويته فسادًا وكفرًا بعصيانه ربه - وهذه محادّة وخشونة، ويكنّ كِبْرًا وهو غلظ ومشاعر حادّة نحو غيره، وحِقدًا جعله يُقسم أن يغوي ذرية آدم، والحقد غلّ وحرارةُ جوف. ثم إنه لقى من جزاء تكبره ما أمضّه وأحرق قلبه غيظًا ومزيد حقد وعجرًا - وهذا تأويل اسمه على الفاعلية والمفعولية معًا. وعلى الوجهين فاللفظ مأخوذ بوضوح من المعنى الذي ذكرنا.
وهنا وجه آخر لتسميته قد يكون أوجه مما سبق وهو أنه مسمىَّ بعمله وهو الوسوسة، وهي الكلام الخفيّ، وحديث النفس، والحديث إلى النفس "وسوس في صدره الشيطان: حدّثه في نفسه "والتركيب أصيل في التعبير عن عدم التصويت وعدم إظهار صوت كما في "أبلس الرجل، وأبلست الناقة "وقد ذكرناهما.
بقى من ركائز القائلين إن اللفظ معرّب أنه ورد في القرآن ممنوعًا من الصرف، ولا علة لذلك مع العَلَمية إلّا العُجمة - على دعواهم. وهذا مردود بأن العَلَمية وحدها تكفي علّةً لمنع الصرف عند كثيرين؛ لأن للعَلَمية من القوة ما ليس لغيرها، ولورود السماع (أي سياع منع العَلَم من الصرف لعلة العَلَمية وحدها) في العَلَمية دون غيرها. ثم إنهم قالوا في جواز منع المصروف أربعة مذاهب أحدها الجواز مطلقًا ... والرابع جواز ذلك في العَلَم خاصة [شرح الأشموني وحاشية الصبان جـ ٣/ ٢٧٦]، ثم عللوا منع الصرف بثقل الاسم الممنوع من الصرف، وأن منعه يخففه [المصدر السابق ص ٢٢٧ الحاشية] حيث وصف الذي لا ينصرف بالثقيل [وص ٢٢٩/ الشرح] حيث قال إن المفرد الجامد النكرة/ كرجل وفرس/ خفيف فاحتمل زيادة التنوين. والذي يُشْبه الفِعلَ ثَقُل ثِقَله فلم يَدْخله التنوين. وأيضًا [ص ٢٣٧/ الحاشية]، حيث قال إن فائدة منع العَلَم المعدول تخفيف اللفظ وتمحضه للعلمية). ولذلك قال [طب ١/ ٥١٠] تُرِك إجراؤُه (يقصد صَرْفه) استثقالًا، إذ كان اسمًا لا نظير له من أساء العرب (يقصد أنه نادر لا أنه منقطع النظير فسيأتي أن له نظائر) فشبهتْه العرب بأسماء العجم التي لا تُجْرَى اهـ. ونظير إبليس في المنع استثقالًا قولهم: نار إجْبيرَ - غير مصروفة، وهي نار الحُباحِب [ل جبر ١٨٦/ ١٢]. ثم إن للكلمة من حيث صيغتها نظائر في العربية مثل إبريق، وإبريج (الممخضة)، وإجفيل (: الجبان، والظليم ينفر من كل شيء، والقوس البعيدة السهم)، وإخريط (نبات من الحَمْض يُغْسل به)، وإبريز (الخالص من الذهب) وغيرهن .. فليست هناك أية حجة قائمة لزاعمي تعريب لفظ إبليس. ويضاف الآن أنه يؤخذ مما أورده د. ف. عبد الرحيم في تحقيقه لمعرب الجواليقي أن للكلمة صيغة سريانية غير مبدوءه بحرف (د) وهو نفس الحال في العربية، في حين أن ما يُدَّعَي أنه الأصل اليوناني مبدوء بالدال وكذلك الحال في أربع لغات أوربية. فهذا وجه جديد لإضعاف ادعاء تعريب الكلمة، ثم إذا كانت في السريانية فهي من المشترك السامي (= الأعرابي = الجزري). والعربية أصل الساميات (: الأعرابيات = الجزريات).
(المعجم الاشتقاقي المؤصل — محمد حسن جبل (١٤٣٦ هـ))