عبدالرحيم بن عبدالرحمن آل حمودة
New member
قوله تعالى
( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) التوبة (37)
هذه الآية - على قصرها - حوت علما كثيرا طيبا مباركا فيه.
وستجد تفسيرا لهذه الآية "من أحسن ما أنت قارء " ( إن شاء الله ).
وقد بيت في ثناياها شيئا من عقيدة السلف في مسائل مهمة؛ خالفت فيها أهل البدع كالجبرية والقدرية، والمعتزلة، والمرجئة - بحمد الله - بصدد تفسير قوله تعالى ( إنما النسيء زيادة في الكفر )، وقوله ( يضل به الذين كفروا )، وقوله ( والله لا يهدي الكافرين )، ولو استوفيت ما ذكره أهل العقائد لطال الأمر جدا؛ لكن اقتصرت على ما ستراه.
•تنبيه، ومدخل لفهم الآية:
قال الجرجاني، والراغب الأصفهاني- في هذه الآية: فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية.
قال محيي الدين درويش:
العرب في الجاهلية كانت تعتقد حرمة الأشهر الحرم وتعظيمها وكانت عامة معايش العرب من الصيد والغارة وكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية وربما وقعت حروب في بعض الأشهر الحرم فكانوا يكرهون تأخير حروبهم الى الأشهر الحلال فنسئوا يعني: أخروا تحريم شهر الى شهر آخر فنزلت. انتهى
قال البغوي: حتى استدار التحريم على السنة كلها. فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله عز وجل فيه، وذلك بعد دهر طويل...
قوله {إنما النسيء}: هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر.
قاله الإيجي، والبغوي، وبنحوه قال السيوطي.
وزاد الإيجي: ذلك لأنه إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا بدله شهرا من أشهر الحل حتى رفضوا خصوص الأشهر الحرم واعتبروا مجرد العدد.
ومعنى النسيء: هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر.
قال البقاعي: أي الشهر الذي تؤخر العرب حرمته من الأشهر الحرم عن وقتها.
قال السمعاني: والنسيء: هو التأخير، يقال نسأ الله في أجلك أي: أخر.
قال الأخفش: هو التأخير. وتقول "أنسأته الدَّيْنَ " إذا جعلته اليه يؤخره هو. و: "نسأت عنه دَيْنَهُ " أي: أخرته عنه. وإنما قلت: "أنسأته الدَّيْنَ " لأنك تقول: "جعلته له يؤخره" و"نسأت عنه دينه" "فأنا أنسؤه" أي: أوخره.
قال ابن قتيبة، وأبو بكر السجستاني، وابن الهائم، وأبو حيان، وغيرهم: تأخير تحريم المُحرم.
قاله ابن قتيبة النسيء في الشهور: إنما هو تأخير تحريم المُحرم.
قال أبو حيان: النسيء تأخير تحريم المحرم، وكانوا يؤخرون تحريمه لحاجتهم ويحرمون غيره مكانه.
قال ابن كثير: يقول: يتركون المحرم عاما، وعاما يحرمونه.
قال أبو بكر السجستاني: النسيء تأخير تحريم المحرم، وكانوا يؤخرون تحريمه سنة، ويحرمون غيره مكانه، لحاجتهم إلى القتال فيه، ثم يردونه إلى التحريم في سنة أخرى، كأنهم يستنسئونه ذلك، ويستقرضونه.
قال بيان الحق النيسابوري: وكانوا يؤخرون تحريم المحرم سنة؛ لحاجتهم إلى القتال فيه.
قوله {زيادة في الكفر}: لأنه تحليل ما حرمه الله وتحريم ما حلله فهو كفر آخر مضمون إلى كفرهم.
قاله أبو السعود.
قال البقاعي: لأنه على خلاف ما شرعه الله، ستر تحريم ما أظهر الله تحريمه.
قال السيوطي: لكفرهم بحكم الله فيه.
قال السمرقندي: يعني: تأخير المحرم إلى صفر زيادة الإثم في كفرهم.
قال الإيجي الشافعي: تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه كفر ضموه إلى كفرهم.
قال الزمخشري: جعل النسيء زيادة في الكفر، لأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفراً، فزادتهم رجساً إلى رجسهم.
قال البغوي، والسمعاني: زيادة كفر على كفرهم.
قلت ( عبدالرحيم ): فكما أن الكفر يذيد "فإن الإيمان كذلك" يزيد وينقص وبهذا تديَّن السلف؛ خلافا للمرجئة. والأدلة كثيرة؛ كقوله (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا )،
وقوله ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ )،
وقوله (وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)،
وقوله ( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ )،
وقوله ( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا )،
وفي الحديث: ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن»، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل» قلن: بلى، قال: «فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم» قلن: بلى، قال: «فذلك من نقصان دينها» شطر من حديث رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري.
انتهى
قوله {يضل به الذين كفروا}: ضلالا زائدا.
قاله الإيجي.
قال أبو السعود: ضلالا على ضلالهم القديم.
قال السيوطي: بضم الياء وفتحها.
قال مكي في الهداية: فمعناه: أنهم يضلون بتأخير شهر الحج وتقديمهم غيره.
قوله { يحلونه عاما ويحرمونه عاما}: أي النسيء.
قاله الإيجي، والبغوي، والسيوطي، وغيرهم.
وزاد الإيجي: من الأشهر الحرم.
قال الزمخشري: والضمير في: يحلونه، ويحرمونه للنسيء. أي إذا أحلوا شهراً من الأشهر الحرم عاما، رجعوا فحرموه في العام القابل.
قال البغوي: يريد أنهم لم يحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام، لئلا يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر، كما حرم الله فيكون موافقة العدد.
قال الإيجي: إذا قاتلوا فيه أحلوه وإذا لم يقاتلوا فيه حرموه.
قال مكي: هو أنه يحلون صفرا، ثم يحتاجون إلى تحريمه فيحرمونه، ويحلون ما قبله، ثم يحتاجون إلى تحليل صفر، فيحلونه، ويحرمون ما بعده، كذا يصنعون.
نكتة، واستطراد:
قلت ( عبدالرحيم ): ولعل هذا ما حمل مجاهد – رحمه الله – على تأويل قوله تعالى ( ولا جدال في الحج ): قال : قد علم وقت الحج فلا جدال فيه, ولا شك ؛ وليس معناه – على هذا القول – لا مراء في الحج. وعنه في لفظ قال: لا شك في الحج . وعنه أيضا: هو شهر معلوم لا تنازع فيه . رواه – الألفاظ الثلاثة - عنه الطبري؛
ثم قال ( أعني الطبري ): وأولى هذه الأقوال في قوله ( ولا جدال في الحج ) بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: قد بطل الجدال في الحج ووقته، واستقام أمره ووقته على وقت واحد، ومناسك متفقة غير مختلفة، ولا تنازع فيه ولا مراء وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أن وقت الحج أشهر معلومات، ثم نفى عن وقته الاختلاف الذي كانت الجاهلية في شركها تختلف فيه. انتهى كلام الطبري.
قال مكي في الهداية: وقال مجاهد: كانت العرب تحج عامين في ذي القعدة، وعامين في ذي الحجة، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم، كان الحج تلك السنة في ذي الحجة، فهو معنى: ( ولا جدال في الحج )، أي: استقر في ذي الحجة. انتهى
قوله {ليواطئوا}: أي ليوافقوا.
قاله ابن قتيبة. وبه قال أبو بكر السجستاني، والواحدي، والنسفي، والخطيب الشربيني، والسيوطي، وغيرهم.
وزاد السيوطي: بتحليل شهر وتحريم آخر بدله.
قال الإيجي: أي حرموا مكانه شهرا آخر ليوافقوا.
قال النسفي: ليوافقوا العدة التي هي الأربعة.
قلت ( عبد الرحيم ) معناه: ليوافقوا عدد الأشهر الأربعة ذا القعدة، وذا الحجة، ومحرم، ورجب. التي حرَّمها الله كما سلف في قوله ( منها أربعة حرم ). الآية. والتي ذكرها النبي – عليه السلام - في حديثه؛ حيث قال: السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب، شهر مُضر، الذي بين جمادى وشعبان. شطر من حديث متفق عليه من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
قال نجم الدين النيسابوري: يجعلوا غير الأشهر الحرم كالحرم في العدة بأن هذه أربعة كتلك.
قال الزجاج: فيجعلوا صفرا كالمحرم في العدة، ويقولوا: إن هذه أربعة بمنزلة أربعة. والمواطأة المماثلة والاتفاق على الشيء.
قال الواحدي: وهو أنه لم يحلوا شهرا من الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرم لئلا تكون الحرم أكثر من الأربعة كما حرم الله، فتكون موافقة للعدد.
قوله {عدة}: أي: عدد.
قاله السمعاني، والخطيب الشربيني، وغيرهما.
وزاد السمعاني: ما حرم الله.
قوله { ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله}: إذا حرموا من الشهور عدد الشهور المحرمة لم يبالوا أن يحلوا الحرام ويحرموا الحلال.
قاله ابن قتيبة، وابن الهائم.
قال الواحدي في الوجيز: وهو أنهم لم يحلوا شهرا من الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرم لئلا يكون الحرم أكثر من الأربعة كما حرم الله فيكون موافقة للعدد.
قوله { زين لهم سوء أعمالهم}: فظنوه حسنا.
قاله السيوطي.
قال ابن عباس: زين لهم الشيطان.
حكاه البغوي، وغيره.
قال عبدالرحمن بن ناصر السعدي: زينت لهم الشياطين الأعمال السيئة، فرأوها حسنة، بسبب العقيدة المزينة في قلوبهم.
قال الإيجي: فإن الشيطان يغويهم.
قال الواحدي، والنسفي: زين لهم الشيطان ذلك.
وزاد النسفي: فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة.
وقيل: زين لهم الله.
قاله جماعة من السلف كما سيأتي.
قال الزمخشري: وقرئ: زين لهم سوء أعمالهم، على البناء للفاعل، وهو الله عزّ وجل.
قلت ( عبدالرحيم ): وبضميمة قوله تعالى
( يضل به الذين كفروا ) على قراءة الضم أو الفتح . قال أبو السعود: وقرئ على البناء للفاعل من الأفعال على أن الفعل لله سبحانه أي يخلق فيهم الضلال عند مباشرتهم لمباديه وأسبابه وهو المعني على القراءة الأولى أيضا.
قال الطبري: فقرأته عامة الكوفيين: يضل به الذين كفروا ): بمعنى: يضل الله بالنسيء الذين ابتدعوه وأحدثوه، الذين كفروا.
ثم قال- الطبري: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هما قراءتان مشهورتان، قد قرأت بكل واحدة القرأة أهل العلم بالقرآن والمعرفة به، وهما متقاربتا المعنى. لأن من أضله الله فهو "ضال"، ومن ضل فبإضلال الله إياه وخذلانه له ضلّ. فبأيتهما قرأ القارئ فهو للصواب في ذلك مصيبٌ.
انتهى كلامه
فلا منافاة بين القول بأن الله هو الذي زين لهم، أو الشيطان كما سيأتي؛ فهو يضل من شاء بعدله، ويهدي من شاء بفضله؛ و الشر ليس إليه وإن أذن فيه، فلا يكون في سلطانه إلا ما يريد الملك الأعظم - تقدس اسمه - بخلاف ما ذهب إليه المعتزلة، ونظيره قوله تعالى عن إبليس ( قال ربي بما أغويتني ): قال الطبري: فبما أضللتني. ثم رواه عن ابن عباس. وقال الطبري: وفي هذا بيان واضح على فساد ما يقول القدرية...
وقوله تعالى ( إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ): قال عبدالرحمن بن زيد: أنت فتنتهم. رواه الطبري.
قال الطبري: وأضاف إضلالهم وهدايتهم إلى الله، إذ كان ما كان منهم من ذلك عن سببٍ منه جل ثناؤه.
وقوله ( إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم ): قال ابن كثير : أي حَسَّنَّا لهم ما هم فيه، ومددنا لهم في غيهم فهم يتيهون في ضلالهم.
وقوله ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ): قال النحاس: أي كما جعلنا لك ولأمتك أعداء.
وقوله ( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ ): قال الطبري: وهكذا زين الله لفرعون حين عتا عليه وتمرد، قبيح عمله، حتى سولت له نفسه بلوغ أسباب السموات، ليطلع إلى إله موسى.
وقال السعدي: فزين له العمل السيئ، فلم يزل الشيطان يزينه، وهو يدعو إليه ويحسنه.
انتهى كلامه.
وقوله ( كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ): قال الخطيب الشربيني: أي: كما زين للمؤمنين إيمانهم ( زين للكافرين ما كانوا يعملون ) أي: من الكفر والمعاصي، قال أهل السنة: المزين هو الله تعالى ويدل عليه قوله تعالى: زينا لهم أعمالهم. وقالت المعتزلة: المزين هو الشيطان؛ وردّ بالآية المذكورة.
انتهى كلامه.
قال صديق حسن خان: المزين هو الله سبحانه ويدل عليه قوله: ( زينا لهم أعمالهم ) ولأن حصول الفعل يتوقف على حصول الدواعي وحصولها لا يكون إلا بخلق الله، فدل ذلك على أن المزين هو الله سبحانه، وقالت المعتزلة: المزين هو الشيطان ويرده ما تقدم.
قلت: صدقا - رحمهما الله - لكن ليس بالضرورة أن من قال بهذا أنه تعمد قول المعتزلة، وإلا فهو وراد عن ابن عباس نفسه، والحسن وغيرهما كما سبق، ومن يأتي ذكره من أهل السنة، لكن المعتزلة لهم مأرب بقولهم معروف.
فلا تعارض في مثل هذه النصوص، سيان قولنا زين له الله- على ما يليق به، أو زين له الشيطان؛ الذي هو شر محض. فالخلق فاعلون حقيقة، والله خالقهم وخالق أفعالهم. كما قال ( والله خلقكم وما تعملون ). ولأنه لا يقع شيء في سلطانه إلا بإذنه تعالى، وعقيدة السلف في هذا المقام وغيره بيِّن ووسط بين الفرق؛ فهم وسط في: باب أفعال الله تعالى. بين القدرية والجبرية.
ولقد سجدت لله شكرا لما وجدت من سبقني من أهل العلم - بالقول بعدم التعارض - لما اطلعت على قول ابن جزي الغرناطي – رحمه الله – حيث قال في قوله تعالى: ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حب الشهوات ) قيل: المزين هو الله وقيل الشيطان. ولا تعارض بينهما فتزيين الله بالإيجاد والتهيئة للانتفاع، وإنشاء الجبلة على الميل إلى الدنيا. وتزيين الشيطان بالوسوسة والخديعة.
انتهى كلام ابن جزي.
قال أبو العباس البسيلي في التقييد وقيل: المزين هو الله. وقيل: الشيطان. فعلى الأول هو تزيين خلق، وعلى الثاني تزيين وسوسة، فهو مشترك فإن قلنا: بتعميم المشترك صح حمله على الأمرين، وإلَّا فنجعله، للقدر المشترك بينهما، وهو مطلق الحمل على حب الشهوات خلقًا، وإبداعًا، أو وسوسة، وكسبًا.
انتهى كلامه.
فلما أعرض الله عنهم وخذلهم كما قال ( الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ): قال السعدي: وهذا جزاء لهم، على استهزائهم بعباده، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثة.
انتهى كلامه
فتركهم الله لهواهم لما استحبوا العمى على الهدى، وتركهم إلى نفوسهم الأمارة بالسوء، والشيطان" فزين لهم الهوى، والشيطان" فأطاعوا مختارين،
كما في قوله ( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ )،
وقال ( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ): ففي هذه الآية بيان أنهم اتبعوا أهوائهم، وهذا موضح في آية أخرى حيث عبدوا هواهم كما قال ( أفرأيت من اتخذا إلهه هواه ): قال ابن كثير: أي: إنما يأتمر بهواه، فمهما رآه حسنا فعله، ومهما رآه قبيحا تركه.
ونظير ما تقرر في القرآن كثير ومن ذلك قوله تعالى ( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ):قال القرطبي: وهذا التزيين يجوز أن يكون من الله، ويجوز أن يكون من الشيطان. ورى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: زين لهم الشيطان.
وقوله ( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ): قال الزجاج: المزين هو الشيطان. فإن الله تعالى قد زهد الخلق في الدنيا، ورغبهم في الآخرة. وقال البغوي، والسمعاني: الأكثرون على أن المزين هو الله تعالى.
وقوله ( زين للناس حب الشهوات ): قال النسفي: المزين هو الله عند الجمهور للابتلاء كقوله ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم ).
وقوله ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا )، قال قتادة والحسن: الشيطان زين لهم الضلالات. رواه عنهما ابن أبي حاتم.
وقوله ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ): قال ابن كثير: أي: زين لهم ذلك وحسنه، {وأملى لهم} أي: غرهم.
وقوله ( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ): أي زين الشيطان للكفار أعمالهم من الكفر والانهماك في الشهوات، وإنهم لأتقن من يبدع ويولغ في معصية.
روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن الحسن قال: زين لهم الشيطان.
قال القرطبي: وهذا التزيين يجوز أن يكون من الله، ويجوز أن يكون من الشيطان.
قال النسفي: للمجاوزين الحد في الكفر زين الشيطان بوسوسته.
قال: الواحدي في الوسيط: يريد المشركين. وبه قال القرطبي، والخطيب الشربيني.
وقوله ( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ): قال ابن كثير: أي حَسَّنَّا لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة، قدرا من الله وحكمة بالغة لا إله إلا هو وحده لا شريك له.
وقوله (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ): قال السمرقندي: من يخذله الله عن دينه الإسلام، ولا يوفقه فَما لَهُ مِنْ هادٍ يعني: ما له من مرشد إلى دينه غير الله تعالى.
وقال مكي في الهداية: ومن قرأ بضم الصاد، فمعناه: أن الله أعلمنا أن صدهم عن الهدى عقوبة لهم. ودل على ذلك قوله: ( ومن يضلل الله فما له من هاد ) أي: من أضله الله عز وجل عن إصابة الحق، فلا يقدر أحد على هدايته.
وقوله ( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ ): قال السمرقندي: فزين لهم الشيطان قتل أولادهم. وقال الواحدي في الوجيز: يعني: الشياطين أمروهم بأن يئدوا أولادهم خشية العيلة.
انتهى
قوله {والله لا يهدي القوم الكافرين}: أي: لا يوفقهم للهدى.
قاله مكي في الهداية.
قال أبو السعود: هداية موصلة إلى المطلوب البتة وإنما يهديهم إلى ما يوصل إليه عند سلوكه وهم قد صدوا عنه بسوء اختيارهم فتاهوا في تيه الضلال.
قلت ( عبدالرحيم ): والمراد بنفي الهداية هنا " هداية التوفيق" ليست هداية الدلالة؛ وهي المعنية في قوله ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ). إذ من عدله، ومنه – تقدس اسمه – أنه دلهم عليه، بإرسال الرسل ( مبشرين ومنذرين لكي لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ). وهي ما يسمى بهداية الدلالة، والإرشاد ؛ كما في قوله ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ). وعليه فلا حجة لأهل الكفر على ربهم بهذه الآية ولا بغيرها مثقال ذرة، ولا من تنطع بالسؤال عنهم؛ بأن الله جبرهم على الضلال - حشاه – وهذا ضلال في الفهم مبين؛ فالعبد له خيرة في قوله وفعله؛ فلو سرق مال أحدهم أو انتهك عرضه؛ فقيل له إنه مجبور على هذا لاستنكر عليه؛ فكيف يرضاه لربه؟! وكيف يكون لهم حجة وقد استحبوا العمى على الهدى؛ كما قال تعالى ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ). وهو الذي قال ( ولا يرضى لعباده الكفر ). وتدبر هذه الآية ( لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ). وقال (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ). انتهى
والحمد لله رب العالمين.
المصدر:
المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، غريب القرآن لابن قتيبة، غريب القرآن لأبي بكر السجستاني، تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب لأبي حيان، معاني القرآن للزجاج، معاني القرآن للأخفش، معاني القرآن للنحاس، الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي القيسي، إيجاز البيان عن معاني القرآن لنجم الدين النيسابوري، باهر البرهان في توضيح مشكلات القرآن لبيان الحق النيسابوري، تفسير ابن أبي حاتم، تفسير السمرقندي، الوسيط للواحدي، الوجيز للواحدي، تفسير البغوي، تفسير الطبري، تفسير النسفي، تفسير السمعاني، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي، الكشاف للزمخشري، تفسير أبي السعود، التقييد الكبير للبسيلي، جامع البيان للإيجي الشافعي، تفسير ابن كثير، تفسير القرطبي، السراج المنير للخطيب الشربيني، فتح البيان في مقاصد القرآن لصديق حسن خان، تفسير الجلالين، تفسير السعدي، إعراب القرآن وبيانه لمحي الدين درويش.
كتبه: عبدالرحيم بن عبدالرحمن آل حمودة المصري المكي. 00966509006424
( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) التوبة (37)
هذه الآية - على قصرها - حوت علما كثيرا طيبا مباركا فيه.
وستجد تفسيرا لهذه الآية "من أحسن ما أنت قارء " ( إن شاء الله ).
وقد بيت في ثناياها شيئا من عقيدة السلف في مسائل مهمة؛ خالفت فيها أهل البدع كالجبرية والقدرية، والمعتزلة، والمرجئة - بحمد الله - بصدد تفسير قوله تعالى ( إنما النسيء زيادة في الكفر )، وقوله ( يضل به الذين كفروا )، وقوله ( والله لا يهدي الكافرين )، ولو استوفيت ما ذكره أهل العقائد لطال الأمر جدا؛ لكن اقتصرت على ما ستراه.
•تنبيه، ومدخل لفهم الآية:
قال الجرجاني، والراغب الأصفهاني- في هذه الآية: فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية.
قال محيي الدين درويش:
العرب في الجاهلية كانت تعتقد حرمة الأشهر الحرم وتعظيمها وكانت عامة معايش العرب من الصيد والغارة وكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية وربما وقعت حروب في بعض الأشهر الحرم فكانوا يكرهون تأخير حروبهم الى الأشهر الحلال فنسئوا يعني: أخروا تحريم شهر الى شهر آخر فنزلت. انتهى
قال البغوي: حتى استدار التحريم على السنة كلها. فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله عز وجل فيه، وذلك بعد دهر طويل...
قوله {إنما النسيء}: هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر.
قاله الإيجي، والبغوي، وبنحوه قال السيوطي.
وزاد الإيجي: ذلك لأنه إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا بدله شهرا من أشهر الحل حتى رفضوا خصوص الأشهر الحرم واعتبروا مجرد العدد.
ومعنى النسيء: هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر.
قال البقاعي: أي الشهر الذي تؤخر العرب حرمته من الأشهر الحرم عن وقتها.
قال السمعاني: والنسيء: هو التأخير، يقال نسأ الله في أجلك أي: أخر.
قال الأخفش: هو التأخير. وتقول "أنسأته الدَّيْنَ " إذا جعلته اليه يؤخره هو. و: "نسأت عنه دَيْنَهُ " أي: أخرته عنه. وإنما قلت: "أنسأته الدَّيْنَ " لأنك تقول: "جعلته له يؤخره" و"نسأت عنه دينه" "فأنا أنسؤه" أي: أوخره.
قال ابن قتيبة، وأبو بكر السجستاني، وابن الهائم، وأبو حيان، وغيرهم: تأخير تحريم المُحرم.
قاله ابن قتيبة النسيء في الشهور: إنما هو تأخير تحريم المُحرم.
قال أبو حيان: النسيء تأخير تحريم المحرم، وكانوا يؤخرون تحريمه لحاجتهم ويحرمون غيره مكانه.
قال ابن كثير: يقول: يتركون المحرم عاما، وعاما يحرمونه.
قال أبو بكر السجستاني: النسيء تأخير تحريم المحرم، وكانوا يؤخرون تحريمه سنة، ويحرمون غيره مكانه، لحاجتهم إلى القتال فيه، ثم يردونه إلى التحريم في سنة أخرى، كأنهم يستنسئونه ذلك، ويستقرضونه.
قال بيان الحق النيسابوري: وكانوا يؤخرون تحريم المحرم سنة؛ لحاجتهم إلى القتال فيه.
قوله {زيادة في الكفر}: لأنه تحليل ما حرمه الله وتحريم ما حلله فهو كفر آخر مضمون إلى كفرهم.
قاله أبو السعود.
قال البقاعي: لأنه على خلاف ما شرعه الله، ستر تحريم ما أظهر الله تحريمه.
قال السيوطي: لكفرهم بحكم الله فيه.
قال السمرقندي: يعني: تأخير المحرم إلى صفر زيادة الإثم في كفرهم.
قال الإيجي الشافعي: تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه كفر ضموه إلى كفرهم.
قال الزمخشري: جعل النسيء زيادة في الكفر، لأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفراً، فزادتهم رجساً إلى رجسهم.
قال البغوي، والسمعاني: زيادة كفر على كفرهم.
قلت ( عبدالرحيم ): فكما أن الكفر يذيد "فإن الإيمان كذلك" يزيد وينقص وبهذا تديَّن السلف؛ خلافا للمرجئة. والأدلة كثيرة؛ كقوله (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا )،
وقوله ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ )،
وقوله (وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)،
وقوله ( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ )،
وقوله ( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا )،
وفي الحديث: ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن»، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل» قلن: بلى، قال: «فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم» قلن: بلى، قال: «فذلك من نقصان دينها» شطر من حديث رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري.
انتهى
قوله {يضل به الذين كفروا}: ضلالا زائدا.
قاله الإيجي.
قال أبو السعود: ضلالا على ضلالهم القديم.
قال السيوطي: بضم الياء وفتحها.
قال مكي في الهداية: فمعناه: أنهم يضلون بتأخير شهر الحج وتقديمهم غيره.
قوله { يحلونه عاما ويحرمونه عاما}: أي النسيء.
قاله الإيجي، والبغوي، والسيوطي، وغيرهم.
وزاد الإيجي: من الأشهر الحرم.
قال الزمخشري: والضمير في: يحلونه، ويحرمونه للنسيء. أي إذا أحلوا شهراً من الأشهر الحرم عاما، رجعوا فحرموه في العام القابل.
قال البغوي: يريد أنهم لم يحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام، لئلا يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر، كما حرم الله فيكون موافقة العدد.
قال الإيجي: إذا قاتلوا فيه أحلوه وإذا لم يقاتلوا فيه حرموه.
قال مكي: هو أنه يحلون صفرا، ثم يحتاجون إلى تحريمه فيحرمونه، ويحلون ما قبله، ثم يحتاجون إلى تحليل صفر، فيحلونه، ويحرمون ما بعده، كذا يصنعون.
نكتة، واستطراد:
قلت ( عبدالرحيم ): ولعل هذا ما حمل مجاهد – رحمه الله – على تأويل قوله تعالى ( ولا جدال في الحج ): قال : قد علم وقت الحج فلا جدال فيه, ولا شك ؛ وليس معناه – على هذا القول – لا مراء في الحج. وعنه في لفظ قال: لا شك في الحج . وعنه أيضا: هو شهر معلوم لا تنازع فيه . رواه – الألفاظ الثلاثة - عنه الطبري؛
ثم قال ( أعني الطبري ): وأولى هذه الأقوال في قوله ( ولا جدال في الحج ) بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: قد بطل الجدال في الحج ووقته، واستقام أمره ووقته على وقت واحد، ومناسك متفقة غير مختلفة، ولا تنازع فيه ولا مراء وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أن وقت الحج أشهر معلومات، ثم نفى عن وقته الاختلاف الذي كانت الجاهلية في شركها تختلف فيه. انتهى كلام الطبري.
قال مكي في الهداية: وقال مجاهد: كانت العرب تحج عامين في ذي القعدة، وعامين في ذي الحجة، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم، كان الحج تلك السنة في ذي الحجة، فهو معنى: ( ولا جدال في الحج )، أي: استقر في ذي الحجة. انتهى
قوله {ليواطئوا}: أي ليوافقوا.
قاله ابن قتيبة. وبه قال أبو بكر السجستاني، والواحدي، والنسفي، والخطيب الشربيني، والسيوطي، وغيرهم.
وزاد السيوطي: بتحليل شهر وتحريم آخر بدله.
قال الإيجي: أي حرموا مكانه شهرا آخر ليوافقوا.
قال النسفي: ليوافقوا العدة التي هي الأربعة.
قلت ( عبد الرحيم ) معناه: ليوافقوا عدد الأشهر الأربعة ذا القعدة، وذا الحجة، ومحرم، ورجب. التي حرَّمها الله كما سلف في قوله ( منها أربعة حرم ). الآية. والتي ذكرها النبي – عليه السلام - في حديثه؛ حيث قال: السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب، شهر مُضر، الذي بين جمادى وشعبان. شطر من حديث متفق عليه من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
قال نجم الدين النيسابوري: يجعلوا غير الأشهر الحرم كالحرم في العدة بأن هذه أربعة كتلك.
قال الزجاج: فيجعلوا صفرا كالمحرم في العدة، ويقولوا: إن هذه أربعة بمنزلة أربعة. والمواطأة المماثلة والاتفاق على الشيء.
قال الواحدي: وهو أنه لم يحلوا شهرا من الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرم لئلا تكون الحرم أكثر من الأربعة كما حرم الله، فتكون موافقة للعدد.
قوله {عدة}: أي: عدد.
قاله السمعاني، والخطيب الشربيني، وغيرهما.
وزاد السمعاني: ما حرم الله.
قوله { ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله}: إذا حرموا من الشهور عدد الشهور المحرمة لم يبالوا أن يحلوا الحرام ويحرموا الحلال.
قاله ابن قتيبة، وابن الهائم.
قال الواحدي في الوجيز: وهو أنهم لم يحلوا شهرا من الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرم لئلا يكون الحرم أكثر من الأربعة كما حرم الله فيكون موافقة للعدد.
قوله { زين لهم سوء أعمالهم}: فظنوه حسنا.
قاله السيوطي.
قال ابن عباس: زين لهم الشيطان.
حكاه البغوي، وغيره.
قال عبدالرحمن بن ناصر السعدي: زينت لهم الشياطين الأعمال السيئة، فرأوها حسنة، بسبب العقيدة المزينة في قلوبهم.
قال الإيجي: فإن الشيطان يغويهم.
قال الواحدي، والنسفي: زين لهم الشيطان ذلك.
وزاد النسفي: فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة.
وقيل: زين لهم الله.
قاله جماعة من السلف كما سيأتي.
قال الزمخشري: وقرئ: زين لهم سوء أعمالهم، على البناء للفاعل، وهو الله عزّ وجل.
قلت ( عبدالرحيم ): وبضميمة قوله تعالى
( يضل به الذين كفروا ) على قراءة الضم أو الفتح . قال أبو السعود: وقرئ على البناء للفاعل من الأفعال على أن الفعل لله سبحانه أي يخلق فيهم الضلال عند مباشرتهم لمباديه وأسبابه وهو المعني على القراءة الأولى أيضا.
قال الطبري: فقرأته عامة الكوفيين: يضل به الذين كفروا ): بمعنى: يضل الله بالنسيء الذين ابتدعوه وأحدثوه، الذين كفروا.
ثم قال- الطبري: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هما قراءتان مشهورتان، قد قرأت بكل واحدة القرأة أهل العلم بالقرآن والمعرفة به، وهما متقاربتا المعنى. لأن من أضله الله فهو "ضال"، ومن ضل فبإضلال الله إياه وخذلانه له ضلّ. فبأيتهما قرأ القارئ فهو للصواب في ذلك مصيبٌ.
انتهى كلامه
فلا منافاة بين القول بأن الله هو الذي زين لهم، أو الشيطان كما سيأتي؛ فهو يضل من شاء بعدله، ويهدي من شاء بفضله؛ و الشر ليس إليه وإن أذن فيه، فلا يكون في سلطانه إلا ما يريد الملك الأعظم - تقدس اسمه - بخلاف ما ذهب إليه المعتزلة، ونظيره قوله تعالى عن إبليس ( قال ربي بما أغويتني ): قال الطبري: فبما أضللتني. ثم رواه عن ابن عباس. وقال الطبري: وفي هذا بيان واضح على فساد ما يقول القدرية...
وقوله تعالى ( إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ): قال عبدالرحمن بن زيد: أنت فتنتهم. رواه الطبري.
قال الطبري: وأضاف إضلالهم وهدايتهم إلى الله، إذ كان ما كان منهم من ذلك عن سببٍ منه جل ثناؤه.
وقوله ( إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم ): قال ابن كثير : أي حَسَّنَّا لهم ما هم فيه، ومددنا لهم في غيهم فهم يتيهون في ضلالهم.
وقوله ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ): قال النحاس: أي كما جعلنا لك ولأمتك أعداء.
وقوله ( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ ): قال الطبري: وهكذا زين الله لفرعون حين عتا عليه وتمرد، قبيح عمله، حتى سولت له نفسه بلوغ أسباب السموات، ليطلع إلى إله موسى.
وقال السعدي: فزين له العمل السيئ، فلم يزل الشيطان يزينه، وهو يدعو إليه ويحسنه.
انتهى كلامه.
وقوله ( كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ): قال الخطيب الشربيني: أي: كما زين للمؤمنين إيمانهم ( زين للكافرين ما كانوا يعملون ) أي: من الكفر والمعاصي، قال أهل السنة: المزين هو الله تعالى ويدل عليه قوله تعالى: زينا لهم أعمالهم. وقالت المعتزلة: المزين هو الشيطان؛ وردّ بالآية المذكورة.
انتهى كلامه.
قال صديق حسن خان: المزين هو الله سبحانه ويدل عليه قوله: ( زينا لهم أعمالهم ) ولأن حصول الفعل يتوقف على حصول الدواعي وحصولها لا يكون إلا بخلق الله، فدل ذلك على أن المزين هو الله سبحانه، وقالت المعتزلة: المزين هو الشيطان ويرده ما تقدم.
قلت: صدقا - رحمهما الله - لكن ليس بالضرورة أن من قال بهذا أنه تعمد قول المعتزلة، وإلا فهو وراد عن ابن عباس نفسه، والحسن وغيرهما كما سبق، ومن يأتي ذكره من أهل السنة، لكن المعتزلة لهم مأرب بقولهم معروف.
فلا تعارض في مثل هذه النصوص، سيان قولنا زين له الله- على ما يليق به، أو زين له الشيطان؛ الذي هو شر محض. فالخلق فاعلون حقيقة، والله خالقهم وخالق أفعالهم. كما قال ( والله خلقكم وما تعملون ). ولأنه لا يقع شيء في سلطانه إلا بإذنه تعالى، وعقيدة السلف في هذا المقام وغيره بيِّن ووسط بين الفرق؛ فهم وسط في: باب أفعال الله تعالى. بين القدرية والجبرية.
ولقد سجدت لله شكرا لما وجدت من سبقني من أهل العلم - بالقول بعدم التعارض - لما اطلعت على قول ابن جزي الغرناطي – رحمه الله – حيث قال في قوله تعالى: ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حب الشهوات ) قيل: المزين هو الله وقيل الشيطان. ولا تعارض بينهما فتزيين الله بالإيجاد والتهيئة للانتفاع، وإنشاء الجبلة على الميل إلى الدنيا. وتزيين الشيطان بالوسوسة والخديعة.
انتهى كلام ابن جزي.
قال أبو العباس البسيلي في التقييد وقيل: المزين هو الله. وقيل: الشيطان. فعلى الأول هو تزيين خلق، وعلى الثاني تزيين وسوسة، فهو مشترك فإن قلنا: بتعميم المشترك صح حمله على الأمرين، وإلَّا فنجعله، للقدر المشترك بينهما، وهو مطلق الحمل على حب الشهوات خلقًا، وإبداعًا، أو وسوسة، وكسبًا.
انتهى كلامه.
فلما أعرض الله عنهم وخذلهم كما قال ( الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ): قال السعدي: وهذا جزاء لهم، على استهزائهم بعباده، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثة.
انتهى كلامه
فتركهم الله لهواهم لما استحبوا العمى على الهدى، وتركهم إلى نفوسهم الأمارة بالسوء، والشيطان" فزين لهم الهوى، والشيطان" فأطاعوا مختارين،
كما في قوله ( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ )،
وقال ( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ): ففي هذه الآية بيان أنهم اتبعوا أهوائهم، وهذا موضح في آية أخرى حيث عبدوا هواهم كما قال ( أفرأيت من اتخذا إلهه هواه ): قال ابن كثير: أي: إنما يأتمر بهواه، فمهما رآه حسنا فعله، ومهما رآه قبيحا تركه.
ونظير ما تقرر في القرآن كثير ومن ذلك قوله تعالى ( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ):قال القرطبي: وهذا التزيين يجوز أن يكون من الله، ويجوز أن يكون من الشيطان. ورى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: زين لهم الشيطان.
وقوله ( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ): قال الزجاج: المزين هو الشيطان. فإن الله تعالى قد زهد الخلق في الدنيا، ورغبهم في الآخرة. وقال البغوي، والسمعاني: الأكثرون على أن المزين هو الله تعالى.
وقوله ( زين للناس حب الشهوات ): قال النسفي: المزين هو الله عند الجمهور للابتلاء كقوله ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم ).
وقوله ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا )، قال قتادة والحسن: الشيطان زين لهم الضلالات. رواه عنهما ابن أبي حاتم.
وقوله ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ): قال ابن كثير: أي: زين لهم ذلك وحسنه، {وأملى لهم} أي: غرهم.
وقوله ( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ): أي زين الشيطان للكفار أعمالهم من الكفر والانهماك في الشهوات، وإنهم لأتقن من يبدع ويولغ في معصية.
روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن الحسن قال: زين لهم الشيطان.
قال القرطبي: وهذا التزيين يجوز أن يكون من الله، ويجوز أن يكون من الشيطان.
قال النسفي: للمجاوزين الحد في الكفر زين الشيطان بوسوسته.
قال: الواحدي في الوسيط: يريد المشركين. وبه قال القرطبي، والخطيب الشربيني.
وقوله ( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ): قال ابن كثير: أي حَسَّنَّا لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة، قدرا من الله وحكمة بالغة لا إله إلا هو وحده لا شريك له.
وقوله (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ): قال السمرقندي: من يخذله الله عن دينه الإسلام، ولا يوفقه فَما لَهُ مِنْ هادٍ يعني: ما له من مرشد إلى دينه غير الله تعالى.
وقال مكي في الهداية: ومن قرأ بضم الصاد، فمعناه: أن الله أعلمنا أن صدهم عن الهدى عقوبة لهم. ودل على ذلك قوله: ( ومن يضلل الله فما له من هاد ) أي: من أضله الله عز وجل عن إصابة الحق، فلا يقدر أحد على هدايته.
وقوله ( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ ): قال السمرقندي: فزين لهم الشيطان قتل أولادهم. وقال الواحدي في الوجيز: يعني: الشياطين أمروهم بأن يئدوا أولادهم خشية العيلة.
انتهى
قوله {والله لا يهدي القوم الكافرين}: أي: لا يوفقهم للهدى.
قاله مكي في الهداية.
قال أبو السعود: هداية موصلة إلى المطلوب البتة وإنما يهديهم إلى ما يوصل إليه عند سلوكه وهم قد صدوا عنه بسوء اختيارهم فتاهوا في تيه الضلال.
قلت ( عبدالرحيم ): والمراد بنفي الهداية هنا " هداية التوفيق" ليست هداية الدلالة؛ وهي المعنية في قوله ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ). إذ من عدله، ومنه – تقدس اسمه – أنه دلهم عليه، بإرسال الرسل ( مبشرين ومنذرين لكي لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ). وهي ما يسمى بهداية الدلالة، والإرشاد ؛ كما في قوله ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ). وعليه فلا حجة لأهل الكفر على ربهم بهذه الآية ولا بغيرها مثقال ذرة، ولا من تنطع بالسؤال عنهم؛ بأن الله جبرهم على الضلال - حشاه – وهذا ضلال في الفهم مبين؛ فالعبد له خيرة في قوله وفعله؛ فلو سرق مال أحدهم أو انتهك عرضه؛ فقيل له إنه مجبور على هذا لاستنكر عليه؛ فكيف يرضاه لربه؟! وكيف يكون لهم حجة وقد استحبوا العمى على الهدى؛ كما قال تعالى ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ). وهو الذي قال ( ولا يرضى لعباده الكفر ). وتدبر هذه الآية ( لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ). وقال (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ). انتهى
والحمد لله رب العالمين.
المصدر:
المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، غريب القرآن لابن قتيبة، غريب القرآن لأبي بكر السجستاني، تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب لأبي حيان، معاني القرآن للزجاج، معاني القرآن للأخفش، معاني القرآن للنحاس، الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي القيسي، إيجاز البيان عن معاني القرآن لنجم الدين النيسابوري، باهر البرهان في توضيح مشكلات القرآن لبيان الحق النيسابوري، تفسير ابن أبي حاتم، تفسير السمرقندي، الوسيط للواحدي، الوجيز للواحدي، تفسير البغوي، تفسير الطبري، تفسير النسفي، تفسير السمعاني، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي، الكشاف للزمخشري، تفسير أبي السعود، التقييد الكبير للبسيلي، جامع البيان للإيجي الشافعي، تفسير ابن كثير، تفسير القرطبي، السراج المنير للخطيب الشربيني، فتح البيان في مقاصد القرآن لصديق حسن خان، تفسير الجلالين، تفسير السعدي، إعراب القرآن وبيانه لمحي الدين درويش.
كتبه: عبدالرحيم بن عبدالرحمن آل حمودة المصري المكي. 00966509006424