بسم الله الرحمن الرحيم
إيضاح قول الجويني في مسألة عدد أهل الاختيار في عقد الإمامة
من الاعتراضات العصريَّةِ الشهيرة على التراث الفقهي والكلامي في باب الإمامة : عدم إعطائه مسألة الشورى حقها من تأصيل القواعد وبيان الآليات التي تتيح تفعيل الشورى في نظام الحكم .إيضاح قول الجويني في مسألة عدد أهل الاختيار في عقد الإمامة
ويقولون : إن تراث المسلمين في باب الإمامة يُنظِّر للاستبداد .
وفي هذا السياق : يضرب هؤلاء المعترضون قول إمام الحرمين أبي المعالي الجويني رحمه الله تعالى في الاكتفاء برجل واحد في عقد الإمامة ؛ يضربونه مثالًا على تكريس التراث الفقهي للاستبداد وسلب الأمة حقها في اختيار من يحكمها ، وربما يعرضونه في قالب من التهكم والسخرية ، حتى يخيل للناظر أن الاستهتار والحمق قد وصل بالجويني غايته عندما قال قوله هذا !!
فما حقيقة قول الجويني ؟ وما أصله ؟
من المعلوم لدى الدارسين لكتب الاعتقاد أن باب الإمامة هو أحد الأبواب الأصليَّة فيها ، إذ لما كان مقصود علم الاعتقاد تقرير العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه ، وكان لطوائف المبتدعة من الخوارج والشيعة مخالفات في هذه المسألة ، احتاج العلماء أن يفردوا بابًا لتحقيق ذلك المقصود في هذه المسألة .
وقد صنف إمام الحرمين كتاب النظامي ( العقيدة النظامية ) وضمنه أبواب الاعتقاد عدا باب الإمامة ، ثم أتبعه بكتاب الغياثي ( غياثُ الأمم في التِيَاث الظُّلَم ) وجعله خاصًّا بباب الإمامة ، وبحث فيه بعض المسائل الجديدة التي احتيج إليها في وقته ، مثل مسألة الوظائف السلطانية المرصودة للجهاد ، وشغور الزمان عن الأئمة ، وكلا الكتابين صنفهما للوزير السلجوقي نظام الملك رحمه الله تعالى .
ومن عادة المتكلمين أنهم يقررون القول بوجوب الإمامة وجوبًا شرعيًّا ، ويبطلون قول من أوجبها بالعقل ، ثم يحصرون مسالك إثباتها في النص والاختيار ، ثم يبطلون القول بالنص ، فينحصر طريق إثباتها بالاختيار ، فيحتاجون إلى الكلام عن أهل الاختيار وعددهم .
وقد ذكر إمام الحرمين وظيفة أهل الاختيار وحاصلها : النظر في من يستحق الإمامة ، ثم تعيين واحد من الذين اجتمعت فيهم الصفات المشروطة شرعًا في الإمام حتى يقعدوا له عقد الإمامة ، وخلع الإمام إذا استحق الخلع .
وهذا ينبغي التفطن له ، إذ قد يُتوَهَّم أن أهل الاختيار - أو أهل الحل والعقد – الذين يتحدث عنهم الجويني وغيره تقوم وظيفتهم في النظام الإسلامي مقام السلطة التشريعية في الدولة الحديثة ، وهذا غلط جلي ، بل قد قرر الجويني أن أهل الاختيار يمكن الاستغناء عنهم في العقد عندما ينفرد في الزمان متأهل للإمامة مستجمع لشروطها ذو شوكة يحصل بها مقصود الإمامة .
ثم ذكر الجويني صفات أهل الاختيار : كالذكورة والحرية والعلم وخلافًا في اشتراط الاجتهاد ، ومن أهم الصفات التي ذكرها : أن " يستعقب عقده منعة وشوكة للإمام المعقود له ، بحيث لا يبعد من الإمام أن يصادم بها من نابذه وناواه، ويقارع من خالفه وعاداه " .
يقول الجويني : " فالوجه عندي في ذلك أن يُعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع تحصل بهم شوكة ظاهرة ومنعة قاهرة ، بحيث لو فُرِض ثوران خلاف ، لما غلب على الظن أن يُصطَلَم أتباع الإمام ، فإذا تأكدت البيعة ، وتأطَّدَت بالشوكة والعدد والعدد ، واعتضدت وتأيدت بالمنة ، واستظهرت بأسباب الاستيلاء والاستعلاء ، فإذ ذاك تثبت الإمامة وتستقر ، وتتأكد الولاية وتستمر " .
[ الغياثي (ص250-251) ] .
وهذه الصفة حاصلةٌ في الإمامة القهرية كما هو معلوم ، لكنها مشروطة أيضًا في الإمامة الاختيارية - التي يعقدها أهل الاختيار - ؛ يشترط فيهم أن يكون وراءهم من الشوكة والعدة ما يحصل به مقصود الإمامة من إقامة الدين وسياسة الدنيا به ، وإلا لم تكن إمامةً .
ولما جاء إمام الحرمين إلى ذكر عدد أهل الاختيار قال : " وأقرب المذاهب ما ارتضاه القاضي أبو بكر (الباقلاني) ، وهو المنقول عن شيخنا أبي الحسن (الأشعري) رضي الله عنهما وهو أن الإمامة تثبت بمبايعة رجل واحد من أهل العقد .
ووجه هذا المذهب : أنه تقرر أن الإجماع ليس شرطًا في عقد الإمامة ، ثم لم يثبت توقيف في عدد مخصوص ، والعقود في الشرع مولاها عاقد واحد ، وإذا تعدى المتعدي الواحد فليس عدد أولى من عدد ، ولا وجه للتحكم في إثبات عدد مخصوص ، فإذا لم يقم دليل على عدد لم يثبت العدد ، وقد تحققنا أن الإجماع ليس شرطًا ، فانتفى الإجماع بالإجماع ، وبطل العدد بانعدام الدليل عليه ، فلزم المصير إلى الاكتفاء بعقد الواحد .
وظاهر قول القاضي يشير إلى أن ذلك مقطوع به ، وهذا وإن كان أظهر المذاهب في ذلك، فلسنا نراه بالغا مبلغ القطع " [ الغياثي (ص249-250) ] .
فهذا القول هو قول أئمة الأشعرية ، وقد نصب القاضي أبو يعلى الحنبلي رحمه الله تعالى الخلاف معهم فيه في كتاب المعتمد في أصول الدين (ص239) ، واختار أنه لا بد من اتفاق أهل الحل والعقد جميعًا ، واستدل عليهم بأن الله أمرنا بلزوم الجماعة وهذا لا يصدق على الواحد ، وبحديث : " إن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد " .
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هذه المسألة في منهاج السنة (1 / 526 -527) فقال ردًا لقول الرافضي : " إنهم يقولون: إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، بمبايعة عمر، برضا أربعة " : " ليس هذا قول أئمة أهل السنة ، وإن كان بعض أهل الكلام يقولون : إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة ، كما قال بعضهم : تنعقد ببيعة اثنين ، وقال بعضهم : تنعقد ببيعة واحد ، فليست هذه أقوال أئمة السنة .
بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها ، ولا يصير الرجل إمامًا حتى يوافقه أهل الشوكة عليها ، الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة ، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إمامًا .
ولهذا قال أئمة السلف : من صار له قدرة وسلطان يفعل بهما مقصود الولاية ، فهو من أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فالإمامة ملك وسلطان ، والملك لا يصير ملكًا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة ، إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم بحيث يصير ملكًا بذلك " .
وحقيقة الأمر أن هذا الاستثناء الذي ذكره ابن تيمية في آخر كلامه : " إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم بحيث يصير ملكًا بذلك " هو مذهب الجويني ، فليس بين قول ابن تيمية وقوله كبير خلاف إذًا .
وقد استدلَّ الأشعرية لمذهبهم بسنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، قال أبو بكر ابن فورك في مقالات الأشعري (ص191) : " وكان أبو الحسن الأشعري يقول في عدد المُختارِين : أن ليس لذلك حد في العدد لا يزاد فيه ولا ينقص منه ، بل يجب أن يكونوا ممن يصلحون لذلك إذا كانوا جماعة ، وأقلهم واحد ، وكان يستشهد على ذلك بعقد أبي بكر لعمر ، وإجماع الأمة عليه ، وتركهم النكير عليه في تفرده بالاختيار والعقد له " .
وقال أبو الحسن الآمدي في أبكار الأفكار (5/188) : " وإذا ثبت ما قررناه إلى هنا وجوب ثبوت الإمامة بالاختيار دون التنصيص ؛ فذلك مما لا يفتقر إلى الإجماع من كُلِّ أهل الحل والعقد ، فإنه مما لم يقم عليه دليل عقلي ولا سمع نقلي ، بل الواحد أو الاثنين من أهل الحل والعقد كاف في ذلك ، ووجوب الطاعة والانقياد للإمام المختار ، وذلك لعلمنا بأن السلف والصحابة رضوان الله عليهم مع ما كانوا عليه من الصلابة في الدين والمحافظة على أمور الدين ؛ اكتفوا في عقد الإمامة بالواحد والاثنين من أهل والعقد ، كعقد عمر لأبي بكر وعبد الرحمن بن عوف لعثمان ، ولم يشترطوا إجماع من في المدينة من أهل الحل والعقد ، فضلا عن إجماع من عداهم من أهل الأمصار ، وعلماء الأقطار ، وكانوا على ذلك متفقين ، وله مجوزين من غير مخالف ولا نكير ، وعلى هذا انطوت الأعصار في عقد الإمامة إلى يومنا هذا " .
وبصرف النظر عن الترجيح بين ما اختاره أبو يعلى ونحوه وبين قول الأشعرية ، فإنه خلاف من جنس الخلافات الفقهية ، وليس قولا مبتدعًا عجيبًا ، بل هم يستدلون له بصنيع الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم .
فإذا تبين هذا ؛ فلماذا يتعجب المعاصرون من قول الجويني والأشعرية في هذه المسألة ويشنعون عليه ؟
والجواب : أن هؤلاء المتعجبين صنفان :
الأول : الاتجاه التنويري ، وهؤلاء خلافهم مع الجويني بل مع أئمة المسلمين ليس في هذه المسألة فحسب ، وإنما في غاية النظام السياسي ، فالواجب البحث في ذلك أولًا ، وشرح هذا : أنهم لا يرون الغاية من النظام السياسي سياسة الدنيا بالدين ، وإنما هو نظام يتجه نحو تحقيق الغايات واللذائذ المادية الليبرالية ، ولذا منعوا تعيين حاكم دون موافقة الأغلبية من الناس ، لأن هذا مصادم لقيمة الحرية التي هي أولى القيم بالرعاية لديهم .
الثاني : بعض الباحثين في السياسة الشرعية من الإسلاميين ، وهؤلاء يشترطون موافقة أغلبية الشعب في اختيار الحاكم ، ولذا يتعجبون ممن يرى انعقادها بعدد قليل من الشعب فضلًا عن أن يكون رجلا واحدًا .
وهؤلاء يبحث معهم في التكييف الفقهي لعقد الإمامة ، ولو افتُرِض أن الأمة طرف فيه ، فما هو مفهوم الأمة في هذا المحل وعلى من يصدُق ؟ ، ثم يبحث في أدلتهم على اشتراط الأغلبية .
وأرجو أن يتيسر لي بحث ذلك في مقال آخر .
مجلة حراس الشريعة - عدد شهر رمضان المبارك