أبو صفوت
فريق إشراف الملتقى العلمي
فائدة في الفرق بين قولك : أفعلت ، وأأنت فعلت تجدها في نهاية الكلام المنقول : قال عبد القاهر في باب التقديم والتأخير ، " ...إلا أن الشأن في أنه ينبغي أن يعرف في كل شيء قدم في موضع من الكلام مثل هذا المعنى، ويفسر وجه العناية فيه هذا التفسير. وقد وقع في ظنون الناس يكفي أن يقال: إنه قدم للعناية، ولأن ذكره أهم، من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية؟ وبم كان أهم؟ ولتخيلهم ذلك قد صغر أمر التقديم والتأخير في نفوسهم، وهونوا الخطب فيه. حتى إنك لترى أكثرهم يرى تتبعه، والنظر فيه ضرب من التكلف. ولم تر ظناً أزرى على صاحبه من هذا وشبهه.
وكذلك صنعوا في سائر الأبواب، فجعلوا لا ينظرون في الحذف والتكرار، والإظهار والإضمار، والفصل والوصل، ولا في نوع من أنواع الفروق والوجوه، إلا نظرك فيما غيره أهم لك، بل فيما إن لم تعلمه لم يضرك. لا جرم أن ذلك قد ذهب بهم عن معرفة البلاغة ومنعهم أن يعرفوا مقاديرها، وصد أوجههم عن الجهة التي هي فيها، والشق الذي يحويها، والمداخل التي تدخل منها الآفة على الناس في شأن العلم. ويبلغ الشيطان مراده منهم في الصد عن طلبه، وإحراز فضيلته كثيرة. وهذه من أعجبها إن وجدت متعجباً وليت شعري إن كانت هذه أموراً هينة، وكان المدى فيها قريباً، والجدا يسيراً، من أين كان نظم أشرف من نظم؟ وبم عظم التفاوت؟ واشتد التباين؟ وترقى الأمر إلى الإعجاز؟ وإلى أن يقهر أعناق الجبابرة؟ أو هاهنا أمور أخر نحيل في المزية عليها، ونجعل الإعجاز كان بها، فتكون تلك الحوالة لنا عذراً في ترك النظر في هذه التي معنا، والإعراض عنها، وقلة المبالاة بها؟ أو ليس هذا التهاون إن نظر العاقل خيانة منه لعقله ودينه؟ ودخولاً فيما يزري بذي الخطر. ويغض من قدر ذوي القدر؟ وهل يكون أضعف رأياً، وأبعد من حسن التدبر منك إذا أهمك أن تعرف الوجوه في " أأنذرتهم " والإمالة في " رأى القمر " وتعرف الصراط والزراط، وأشباه ذلك مما لا يعدو علمك فيه اللفظ وجرس الصوت، ولا يمنعك إن لم تعلمه بلاغة، ولا يدفعك عن بيان، ولا يدخل عليك شكاً، ولا يغلق دونك باب معرفة، ولا يفضي بك إلى تحريف وتبديل، وإلى الخطأ في تأويل، وإلى ما يعظم المعاب عليك، ويطيل لسان القادح فيك، ولا يعنيك ولا يهمك أن تعرف ما إذا جهلته عرضت نفسك لكل ذلك، وحصلت فيما هنالك. وكان أكثر كلامك في التفسير، وحيث تخوض في التأويل، كلام من لا يبني الشيء على أصله، ولا يأخذه من مأخذه، ومن ربما وقع في الفاحش من الخطأ الذي يبقى عاره، وتشنع آثاره. ونسأل الله العصمة من الزلل والتوفيق لما هو أقرب إلى رضاه من القول والعمل.
واعلم أن من الخطأ أن يقسم الأمر في تقديم الشيء وتأخيره قسمين، فيجعل مفيداً في بعض الكلام، وغير مفيد في بعض. وأن يعلل تارة بالعناية، وأخرى بأنه توسعة علم الشاعر والكاتب، حتى تطرد. لهذا قوافيه، ولذاك سجعه. ذاك لأن من البعيد أن يكون في جملة النظم ما يدل تارة ولا يدل أخرى. فمتى ثبت في تقديم المفعول مثلاً على الفعل في كثير من الكلام أنه قد اختص بفائدة لا تكون تلك الفائدة مع التأخير، فقد وجب أن تكون تلك قضية في كل شيء وكل حال. ومن سبيل من يجعل التقديم وترك التقديم سواء أن يدعي أنه كذلك في عموم الأحوال. فأما أن يجعله بين بين، فيزعم أنه للفائدة في بعضها وللتصرف في اللفظ من غير معنى في بعض، فمما ينبغي أن يرغب عن القول به.وهذه مسائل لا يستطيع أحد أن يمتنع من التفرقة بين تقديم ما قدم فيها، وترك تقديمه.
ومن أبين شيء في ذلك الاستفهام بالهمزة، فإن موضع الكلام على أنك إذا قلت: أفعلت؟ فبدأت بالفعل كان الشك في الفعل نفسه، وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده. وإذا قلت: أأنت فعلت؟ فبدأت بالاسم كان الشك في الفاعل من هو، وكان التردد فيه. ومثال ذلك أنك تقول: أبنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟ أقلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟ أفرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟ تبدأ في هذا ونحوه بالفعل لأن السؤال عن الفعل نفسه والشك فيه، لأنك في جميع ذلك متردد في وجود الفعل وانتفائه، مجوز أن يكون قد كان، وأن يكون لم يكن. وتقول:
أأنت بنيت هده الدار؟ أ أنت قلت هذا الشعر؟ أ أنت كتبت هذا الكتاب؟ فتبدأ في ذلك كله بالاسم. ذلك لأنك لم تشك في الفعل أنه كان وكيف، وقد أشرت إلى الدار مبنية، والشعر مقولاً، والكتاب مكتوباً؟ وإنما شككت في الفاعل من هو. فهذا من الفرق لا يدفعه دافع، ولا يشك فيه شاك.
ولا يخفى فساد أحدهما في موضع الآخر. فلو قلت: أ أنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟ أ أنت قلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟ أأنت فرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟ خرجت من كلام الناس. وكذلك لو قلت: أبنيت هذه الدار؟ أقلت هذا الشعر؟ أكتبت هذا الكتاب؟ قلت ما ليس بقول ذاك، لفساد أن تقول في الشيء المشاهد الذي هو نصب عينيك: أموجود أم لا؟ ومما يعلم به ضرورة أنه لا تكون البداية بالفعل كالبداية بالاسم أنك تقول: أقلت شعراً قط؟ أرأيت اليوم إنساناً؟ فيكون كلاماً مستقيماً؟ ولو قلت: أ أنت قلت شعراً قط؟ أ أنت رأيت إنساناً؟ أخطأت، وذاك أنه لا معنى للسؤال عن الفاعل من هو في مثل هذا، لأن ذلك إنما يتصور إذا كانت الإشارة إلى فعل مخصوص، نحو أن تقول: من قال هذا الشعر. ومن بنى هذه الدار؟ ومن أتاك اليوم؟ ومن أذن لك في الذي فعلت؟ وما أشبه ذلك مما يمكن أن ينص فيه على معين. فأما قيل شعر على الجملة، ورؤية إنسان على الإطلاق، فمحال ذلك فيه، لأنه ليس مما يختص بهذا دون ذاك حتى يسأل، عن عين فاعله. ولو كان تقديم الاسم لا يوجب ما ذكرنا من أن يكون السؤال عن الفاعل من هو، وكان يصح أن يكون سؤالاً عن الفعل أكان أم لم يكن، لكان ينبغي أن يستقيم ذلك.
واعلم أن هذا الذي ذكرت لك في الهمزة وهي للاستفهام قائم فيها إذا كانت هي للتقرير. فإذا قلت: أأنت فعلت ذاك؟ كان غرضك أن تقرره بأنه الفاعل. يبين ذلك قوله تعالى حكاية عن قول نمرود: " أ أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم " لا شبهة في أنهم لم يقولوا ذلك له عليه السلام وهم يريدون أن يقر لهم بأن كسر الأصنام قد كان، ولكن أن يقر بأنه منه كان. وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم: أ أنت فعلت هذا؟. وقال هو عليه السلام في الجواب: " بل فعله كبيرهم هذا " . ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب: فعلت أو لم أفعل. فإن قلت: أو ليس إذا قال: أفعلت فهو يريد أيضاً أن يقرره بأن الفعل كان منه بأنه كان على الجملة. فأي فرق بين الحالين؟ فإنه إذا قال: أفعلت؟ فهو يقرره بالفعل من غير أن يردده بينه وبين غيره، وكان كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أن ذلك الفعل كان على الحقيقة. وإذا قال: أأنت فعلت؟ كان قد ردد الفعل بينه وبين غيره، ولم يكن منه في نفي الفعل تردد. ولم يكن كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أكان الفعل أم لم يكن، بدلالة أنك تقول ذلك، والفعل ظاهر موجود مشار إليه كما رأيت في الآية... " دلائل الإعجاز .
وكذلك صنعوا في سائر الأبواب، فجعلوا لا ينظرون في الحذف والتكرار، والإظهار والإضمار، والفصل والوصل، ولا في نوع من أنواع الفروق والوجوه، إلا نظرك فيما غيره أهم لك، بل فيما إن لم تعلمه لم يضرك. لا جرم أن ذلك قد ذهب بهم عن معرفة البلاغة ومنعهم أن يعرفوا مقاديرها، وصد أوجههم عن الجهة التي هي فيها، والشق الذي يحويها، والمداخل التي تدخل منها الآفة على الناس في شأن العلم. ويبلغ الشيطان مراده منهم في الصد عن طلبه، وإحراز فضيلته كثيرة. وهذه من أعجبها إن وجدت متعجباً وليت شعري إن كانت هذه أموراً هينة، وكان المدى فيها قريباً، والجدا يسيراً، من أين كان نظم أشرف من نظم؟ وبم عظم التفاوت؟ واشتد التباين؟ وترقى الأمر إلى الإعجاز؟ وإلى أن يقهر أعناق الجبابرة؟ أو هاهنا أمور أخر نحيل في المزية عليها، ونجعل الإعجاز كان بها، فتكون تلك الحوالة لنا عذراً في ترك النظر في هذه التي معنا، والإعراض عنها، وقلة المبالاة بها؟ أو ليس هذا التهاون إن نظر العاقل خيانة منه لعقله ودينه؟ ودخولاً فيما يزري بذي الخطر. ويغض من قدر ذوي القدر؟ وهل يكون أضعف رأياً، وأبعد من حسن التدبر منك إذا أهمك أن تعرف الوجوه في " أأنذرتهم " والإمالة في " رأى القمر " وتعرف الصراط والزراط، وأشباه ذلك مما لا يعدو علمك فيه اللفظ وجرس الصوت، ولا يمنعك إن لم تعلمه بلاغة، ولا يدفعك عن بيان، ولا يدخل عليك شكاً، ولا يغلق دونك باب معرفة، ولا يفضي بك إلى تحريف وتبديل، وإلى الخطأ في تأويل، وإلى ما يعظم المعاب عليك، ويطيل لسان القادح فيك، ولا يعنيك ولا يهمك أن تعرف ما إذا جهلته عرضت نفسك لكل ذلك، وحصلت فيما هنالك. وكان أكثر كلامك في التفسير، وحيث تخوض في التأويل، كلام من لا يبني الشيء على أصله، ولا يأخذه من مأخذه، ومن ربما وقع في الفاحش من الخطأ الذي يبقى عاره، وتشنع آثاره. ونسأل الله العصمة من الزلل والتوفيق لما هو أقرب إلى رضاه من القول والعمل.
واعلم أن من الخطأ أن يقسم الأمر في تقديم الشيء وتأخيره قسمين، فيجعل مفيداً في بعض الكلام، وغير مفيد في بعض. وأن يعلل تارة بالعناية، وأخرى بأنه توسعة علم الشاعر والكاتب، حتى تطرد. لهذا قوافيه، ولذاك سجعه. ذاك لأن من البعيد أن يكون في جملة النظم ما يدل تارة ولا يدل أخرى. فمتى ثبت في تقديم المفعول مثلاً على الفعل في كثير من الكلام أنه قد اختص بفائدة لا تكون تلك الفائدة مع التأخير، فقد وجب أن تكون تلك قضية في كل شيء وكل حال. ومن سبيل من يجعل التقديم وترك التقديم سواء أن يدعي أنه كذلك في عموم الأحوال. فأما أن يجعله بين بين، فيزعم أنه للفائدة في بعضها وللتصرف في اللفظ من غير معنى في بعض، فمما ينبغي أن يرغب عن القول به.وهذه مسائل لا يستطيع أحد أن يمتنع من التفرقة بين تقديم ما قدم فيها، وترك تقديمه.
ومن أبين شيء في ذلك الاستفهام بالهمزة، فإن موضع الكلام على أنك إذا قلت: أفعلت؟ فبدأت بالفعل كان الشك في الفعل نفسه، وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده. وإذا قلت: أأنت فعلت؟ فبدأت بالاسم كان الشك في الفاعل من هو، وكان التردد فيه. ومثال ذلك أنك تقول: أبنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟ أقلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟ أفرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟ تبدأ في هذا ونحوه بالفعل لأن السؤال عن الفعل نفسه والشك فيه، لأنك في جميع ذلك متردد في وجود الفعل وانتفائه، مجوز أن يكون قد كان، وأن يكون لم يكن. وتقول:
أأنت بنيت هده الدار؟ أ أنت قلت هذا الشعر؟ أ أنت كتبت هذا الكتاب؟ فتبدأ في ذلك كله بالاسم. ذلك لأنك لم تشك في الفعل أنه كان وكيف، وقد أشرت إلى الدار مبنية، والشعر مقولاً، والكتاب مكتوباً؟ وإنما شككت في الفاعل من هو. فهذا من الفرق لا يدفعه دافع، ولا يشك فيه شاك.
ولا يخفى فساد أحدهما في موضع الآخر. فلو قلت: أ أنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟ أ أنت قلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟ أأنت فرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟ خرجت من كلام الناس. وكذلك لو قلت: أبنيت هذه الدار؟ أقلت هذا الشعر؟ أكتبت هذا الكتاب؟ قلت ما ليس بقول ذاك، لفساد أن تقول في الشيء المشاهد الذي هو نصب عينيك: أموجود أم لا؟ ومما يعلم به ضرورة أنه لا تكون البداية بالفعل كالبداية بالاسم أنك تقول: أقلت شعراً قط؟ أرأيت اليوم إنساناً؟ فيكون كلاماً مستقيماً؟ ولو قلت: أ أنت قلت شعراً قط؟ أ أنت رأيت إنساناً؟ أخطأت، وذاك أنه لا معنى للسؤال عن الفاعل من هو في مثل هذا، لأن ذلك إنما يتصور إذا كانت الإشارة إلى فعل مخصوص، نحو أن تقول: من قال هذا الشعر. ومن بنى هذه الدار؟ ومن أتاك اليوم؟ ومن أذن لك في الذي فعلت؟ وما أشبه ذلك مما يمكن أن ينص فيه على معين. فأما قيل شعر على الجملة، ورؤية إنسان على الإطلاق، فمحال ذلك فيه، لأنه ليس مما يختص بهذا دون ذاك حتى يسأل، عن عين فاعله. ولو كان تقديم الاسم لا يوجب ما ذكرنا من أن يكون السؤال عن الفاعل من هو، وكان يصح أن يكون سؤالاً عن الفعل أكان أم لم يكن، لكان ينبغي أن يستقيم ذلك.
واعلم أن هذا الذي ذكرت لك في الهمزة وهي للاستفهام قائم فيها إذا كانت هي للتقرير. فإذا قلت: أأنت فعلت ذاك؟ كان غرضك أن تقرره بأنه الفاعل. يبين ذلك قوله تعالى حكاية عن قول نمرود: " أ أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم " لا شبهة في أنهم لم يقولوا ذلك له عليه السلام وهم يريدون أن يقر لهم بأن كسر الأصنام قد كان، ولكن أن يقر بأنه منه كان. وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم: أ أنت فعلت هذا؟. وقال هو عليه السلام في الجواب: " بل فعله كبيرهم هذا " . ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب: فعلت أو لم أفعل. فإن قلت: أو ليس إذا قال: أفعلت فهو يريد أيضاً أن يقرره بأن الفعل كان منه بأنه كان على الجملة. فأي فرق بين الحالين؟ فإنه إذا قال: أفعلت؟ فهو يقرره بالفعل من غير أن يردده بينه وبين غيره، وكان كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أن ذلك الفعل كان على الحقيقة. وإذا قال: أأنت فعلت؟ كان قد ردد الفعل بينه وبين غيره، ولم يكن منه في نفي الفعل تردد. ولم يكن كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أكان الفعل أم لم يكن، بدلالة أنك تقول ذلك، والفعل ظاهر موجود مشار إليه كما رأيت في الآية... " دلائل الإعجاز .