أبو أحمد عبدالمقصود
New member
- إنضم
- 12/08/2005
- المشاركات
- 84
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
د. حكمت الحريري
عن صهيب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها، ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ. وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من ردّ عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني، قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل؟ فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلَّ على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمئشار فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته؛ فإن رجع عن دينه؛ وإلا فاطرحوه. فذهبوا به، فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بمَ شئت. فرجف بهم الجبل، فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بمَ شئت. فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذعٍ، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه، فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام. فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك. قد آمن الناس. فأمر بالأخدود في أفواه السكك فَخُدَّت وأضرم النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فاحموه فيها أو قيل له: اقتحم. ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق. [رواه مسلم]
معاني الألفاظ:
- الأكمه: الذي خلق أعمى.
- المئشار أو المنشار: لغتان صحيحتان آلة معروفة يقطع بها.
- ذروة الجبل: أعلاه.
- القرقور: السفينة الصغيرة.
- انكفأت بهم السفينة: انقلبت بهم.
- كبد القوس: مقبضها.
- الأخدود: جمع خد وهو الشق في الأرض طويلاً.
أحكام فقهية ودروس مستفادة من الحديث:
1 - في الحديث دلالة على صدق النبي وإثبات نبوته حيث إنه لم يعاصر أحداث القصة ولم يتعلمها من معلم.
2 - أهمية ورود القصص في الأحاديث والخطب والمواعظ وأثرها على المدعوين وضرورة الاهتمام بقصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية واعتمادها كوسيلة هامة لتثقيف المسلمين وتربية الأجيال عليها، والتنبه والحذر من القصص والأفلام التي تبثها وسائل الأعلام المعاصرة لصرف المسلمين عن ثقافتهم وإبعادهم عن دينهم.
3 - فظاعة أساليب الملوك في التعذيب والبطش والإرهاب وحرصهم على مناصبهم ولو كلفهم ذلك القضاء على الأمة بكاملها.
4 - التشابه بين نفوس الملوك وأساليبهم في القديم والحديث ورغبتهم في إخضاع الرعية واستعباد الناس واستنفارهم إذا أحسّوا بأدنى خطر يزيل ملكيتهم واستعبادهم للخلق.
5 - من سنة الأنبياء والمرسلين البعد عن الملوك والسلاطين ووجود العداوة بينهم، ومن هدي السلف عدم قربهم من الحكام أو الدخول عليهم لأنه يكون على حساب الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإبراهيم - عليه السلام - والنمرود، وموسى - عليه السلام - وفرعون، ويوسف - عليه السلام - وملك مصر حيث رفض عرض الملك عليه أن يكون من أصفيائه، … وسعيد بن جبير والحكام في عصره، وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة والبخاري، والعز بن عبد السلام، … وسيد قطب… وغيرهم من أتباع المرسلين…
6 - التباين والاختلاف بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وعدم إمكانية الالتقاء، فالملوك وحاشيتهم من السحرة وغيرهم من هذا الصنف، والصنف الآخر أولياء الرحمن يتمثل بالراهب والغلام ومن كان على مسلكهم من المؤمنين في كل عصر وحين.
7 - الابتلاء والامتحان سنة إلهية ثابتة تحصل للأنبياء والمرسلين ولعباد الله الصالحين.
8 - إثبات كرامات الأولياء وإجراء خوارق العادات على أيدي الصالحين.
9 - وجود الثبات على مبادئ الحق والدين الصحيح وأن الأخذ بالعزيمة أولى من الأخذ بالرخصة خصوصاً في حق العلماء ومن هم قادة الناس.
10 - وجوب اللجوء إلى الله - تعالى - والتضرع والدعاء والاستعانة به - سبحانه -؛ خاصة في الأمور المهمة وعند حصول الشدائد والملمات "اللهم اكفنيهم بما شئت" "حسبنا الله ونعم الوكيل" "رب نجني من القوم الظالمين" "ربنا أفرغ علينا صبراً…".
11 - اعتراف العالم بالفضل لمن هو أفضل منه.
12 - العمل على إنقاذ النفس من الهلاك.
13 - ثقة المؤمن بنصر الله له وإظهار دينه رغم كيد الملوك الجبابرة وبطشهم بالدعاة ورغم كيدهم وتدبيرهم للنيل من العلماء والدعاة والقضاء عليهم بل إن شدة طغيان الجبابرة واستضعافهم للمؤمنين دليل على قرب زوال ملكهم ونصر الله لعباده الصالحين {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا أتاهم نصرنا}.
14 - في الحديث دلالة على كفر السحرة وعداوتهم للدعاة والرسل وعباد الله الصالحين وكفر من يتعلم السحر أو يعمل به أو يصدقه لوجود الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على كونه من فعل الكفرة، قال - تعالى -: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} [البقرة: 102] {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق} {ولا يفلح الساحر حيث أتى}. وفي الحديث قال - عليه الصلاة والسلام -: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئاً وكل إليه".
من الدروس المستفادة من الحديث:
إنك أيها المسلم كلما قرأت سورة البروج مررت في أثناء مطالعتك لتفسيرها على قصة الملك وأصحاب الأخدود وقد تناولها المفسرون ما بين مقلّ أو مكثر مستدلاً بهذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه إلا أن جانباً مهماً في الحديث وهو "الملك" لم يولوه العناية اللازمة والبحث الكافي لبيان صورة "الملك" في القرآن والحديث، وقد يكونو فعلوا ذلك تجنباً ووقاية لشرورهم وخوفاً من أذيتهم، كفانا الله شرهم وسلمنا من أذيتهم، أو أن الملوك والسلاطين كفوا أذاهم عن أولئك والله أعلم.
لكن الأحداث والوقائع التي تجري من حولنا والأدلة التي نقرؤها في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - تؤذن بانتهاء هذه الفترة العصيبة النكدة التي مرت على أمة الإسلام وتبشر بانبلاج فجر جديد نسأل الله العظيم أن يعز فيها أهل طاعته ويمكن لهم، ويذل فيها أهل المعصية ويخزيهم.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة… ثم تكون ملكاً عاضاً… ثم تكون ملكاً جبرياً… ثم تكون خلافة على منهاج النبوة".
على أن بعض الملوك المعاصرين أدرك قبح هذا اللقب فطلب من الناس ألا ينادوه ولا يلقبوه بهذا اللقب، ولاشك أن هذا من فطنتهم وذكائهم، "ولله الأمر من قبل ومن بعد".
العبرة في القصص:
ما من قصة تذكر في القرآن الكريم أو في السنة النبوية إلا لنعتبر بها، لما في الاعتبار بها من حاجتنا إليه فقد قال - تعالى -: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}، وقال - تعالى -: {فاعتبروا يا أولي الأبصار}.
ولما كان القرآن الكريم هو الدستور الإلهي الذي تصلح به حياة البشرية جمعاء، وهو المعجزة الخالدة، كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء به هو خاتم الأنبياء ورسول الله إلى الناس جميعاً - عليه الصلاة والسلام -، فإنه ما من بدعة وقعت فيها الأمم السابقة وكانت سبباً في هلاكها إلا ويمكن أن يقع فيها الناس اليوم، فإن في نفوس كثير من الناس من جنس ما كان في نفوس المكذبين للرسل كفرعون وغيره من الجبابرة.
ولذلك قال - تعالى - في تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم -: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} [فصلت: 43]. وقال - تعالى -: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم}.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك؟! "[1].
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جُحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "[2].
ومن أعظم السيئات وأقبح البدع والمنكرات هو الشرك بالله وجحود الخالق - سبحانه وتعالى-، وقد وقعت فيها كثير من الأمم السابقة بزعامة الملوك الجبابرة، كفرعون وغيره ممن اغتروا بقوتهم وسلطانهم، ففرعون طلب أن يكون إلهاً معبوداً دون الله - تعالى - فقال: {أنا ربكم الأعلى}. وقال: {وما علمت لكم من إله غيري}.
لكن فرعون لم يكن مطلبه أن يكون إلهاً منذ أول وهلة، إنما مهّد لهذا وقدم له بمقدمات منها زعمه أن الأنهار تجري من تحته وسعة ملكه وفقر الآخرين، لمّا وصل إلى الحد الذي ذكره الله - تعالى - عنه: {فاستخف قومه فأطاعوه} عندها ادعى الألوهية، وقال: أنا ربكم الأعلى.
ولو تأملت حالة حكام البلاد الإسلامية اليوم وما فعلوه من إقدامهم على صلح اليهود وتطبيع العلاقات معهم ومؤاخاتهم، لعرفت أن هذه النـزعة الفرعونية لم يقدموا عليها إلا بعد أن استخفوا شعوبهم، لقد صرح أحد الملوك بملء فيه عن علاقاته مع زعيم من زعماء اليهود منذ أكثر من عشرين عاماً، فهل صرح وأعلن عن وجود هذه العلاقات الوطيدة إلا بعد أن عرف حال الشعب الذي يحكمه.
والذي فعله فرعون هو غاية الظلم والجهل، وما في نفس فرعون هو في سائر النفوس و {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}. ولذلك قال بعض العارفين: ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون غير أن فرعون قدر فأظهر وغيره عجز فأضمر[3].
والذي يحد من جماح النفس وخروجها عن جادة الحق هو طاعة الله وخشيته في السر والعلن وعدم إتباع الشهوات وتجنب ما يزينه الشيطان. قال - تعالى -: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} [النحل: 98 - 100].
ولما أمهل الله - تعالى - إبليس قال: {لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} [الحجر: 39 - 40].
وإغواء إبليس إنما يكون عن طرق كثيرة منهم السحرة ومنهم الملوك الظلمة. ولكن من فضل الله ومنه أنه لم يجعل لإبليس سلطاناً على عباد الله المخلصين قال - تعالى -: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42].
فوائد القصص:
ورد في القرآن الكريم قصص كثير عن الأمم والأنبياء والمرسلين وحال كثير من الجبابرة والمتمردين وكيف فعل الله بهم مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعاصر تلك الوقائع والأحداث، ولم يقرأ عنها كتاباً وهذا وجه من وجوه إعجاز الكتاب الكريم ودليل صدق على ما جاء به هذا النبي العظيم - صلى الله عليه وسلم -،
فمن فوائد القصص ما يلي:
1 - تثبيت فؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن معه، قال - تعالى -: {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} [هود: 120].
2 - الدلالة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث إنه لم يعاصر أحداث القصة ولم يتعلمها من معلم. قال - تعالى -: {وما كنت بحانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} [القصص: 44]، وقال - تعالى -: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} [هود: 49].
3 - تصديق الأنبياء السابقين فيما دعوا إليه الناس، قال - تعالى -: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه} [يوسف: 111].
4 - بيان الحق فيما اختلفوا فيه والتحذير من كيد الأعداء. قال - تعالى -: {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين}.
الملوك في القرآن الكريم:
لقد تأملت في سور القرآن الكريم وأمعنت النظر في الآيات التي ذكرت فيها كلمة "الملك أو الملوك" ورجعت إلى بعض كتب التفسير لمعرفة ما كتبوه في هذا الصدد، فما ذكر الملك أو الملوك إلا في موضع الذم والفساد. فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم:
لا خلاف بين المفسرين على كون الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة. إنما الخلاف في قوله - تعالى -: {وكذلك يفعلون} هل هو من كلام الله أم من كلام المرأة؟!.
أما فساد الملوك فيكون بالقتل والأسر ونهب الأموال وتخريب الديار. {وجعلوا أعزة أهلها أذلة} جعل الرؤساء السادة الأشراف من الأرذلين[4].
- وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً:
في قصة موسى - عليه السلام - والعبد الصالح "الخضر".
{قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً. قال إنك لن تستطيع معي صبراً، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً. قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً. قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك ذكراً. فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً… قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً. أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً} [الكهف: 66 - 79].
فالملك كان قاطعاً للطريق وينهب أموال المساكين. أنانية الملوك "ائتوني به استخلصه لنفسي".
رأى ملك مصر رؤيا هالته وأفظعته وجمع لها كل من حوله لتأويلها والتعبير عنها فما استطاعوا فرجعوا إلى يوسف - عليه السلام - وعبر عن تلك الرؤيا أصدق تعبير.
{وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون. قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون. وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم. قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاشا لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم. وقال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم. وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكان يتقون} [يوسف: 43 - 57].
لقد كان الملك أنانياً محباً لنفسه ومصلحته الشخصية الخاصة {ائتوني به استخلصه لنفسي} وهل يمكن اعتبار الأنانية وحب الذات من الأمور التي يمدح عليها الرجل؟!.
ومع ذلك هل قبل نبي الله يوسف - عليه السلام - العرض الذي قدمه الملك أن يكون من حاشيته المقربين إليه ومن خاصته؟ إن هذا المنصب لا يليق بالرجال العظماء، فضلاً عن الأنبياء… أن تكون فائدته قاصرة على شخص أو على أشخاص معدودين هذا ما لا يليق بالرجال العظماء. ولذلك فإن نبي الله يوسف - عليه السلام - اختار المكانة التي تليق به تلك المكانة التي يستطيع من خلالها أن يفيد الأمة جميعاً صغيرها وكبيرها ملكها ومملوكها، المقام الذي من خلاله يفيد أكبر عدد من الناس {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}.
هذا هو منهج الأنبياء ومسلك الدعاة والعلماء إنه مجانبة السلاطين والملوك والأمراء. وقد استعرضت لك من سيرة السلف الصالح وأقوال العلماء عدة أمثلة في مقالة سابقة بعنوان (بطانة الخير وبطانة الشر) وما لم أذكره أكثر من ذلك بكثير.
وما أحسن ما قاله سيد قطب في ظلال هذه الآيات من سورة يوسف: "فيا ليت رجالاً يمرغون كرامتهم على أقدام الحكام وهم أبرياء مطلقو السراح فيضعوا النير في أعناقهم بأيديهم ويتهافتوا على نظرة رضا وكلمة ثناء وعلى حظوة الأتباع لا مكانة الأصفياء… يا ليت رجالاً من هؤلاء يقرأون هذا القرآن ويقرأون قصة يوسف - عليه السلام - ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح حتى المادي أضعاف ما يدره التمرغ والتزلف والانحناء! …
إنه لم يسجد شكراً كما يسجد رجال الحاشية المتملقون للطواغيت ولم يقل له: عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين كما يقول المتملقون للطواغيت! كلا، إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أوّل بها رؤيا الملك، خيراً مما ينهض بها أحد في البلاد، وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحاً من الموت وبلاداً من الخراب ومجتمعاً من الفتنة - فتنة الجوع - فكان قوياً في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وكفايته وأمانته، قوته في الاحتفاظ بكرامته وإبائه: {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}" اهـ[5].
وفي الختام أعود فأذكر وأكرر القول إن عهد الملوك الجبابرة قد أذن بالانتهاء والرحيل إن شاء الله وسيتحقق وعد الله بنصر عباده الصالحين {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}، وما جاء في حديث الصادق المصدوق - عليه الصلاة والسلام - "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"، وسيتم ذلك إن شاء الله بعز عزيز أو بذل ذليل ولكن لكل شيء ثمناً وسيكون ثمن التغيير باهظاً، والواقع خير شاهد ودليل، ألم يكن الحكم في أفغانستان ملكياً… ألم تنته الشيوعية بعد أن جثمت على صدور المسلمين في بقاع مختلفة من الأرض ما يزيد على السبعين سنة؟ إلا أننا نهيب بالمسلمين والدعاة المخلصين وجميع عباد الله الصالحين أن يكونوا أهلاً لتحمل المسؤولية والسعي لتغيير الوضع نحو الأفضل لا كما حدث في البلاد التي ذكرناها آنفاً. فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فاعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ولا تنازعوا فتفشلوا:
قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
----------------------------------------
[1] - صحيح البخاري. كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لتتبعن سنن من كان قبلكم" رقم الحديث: 7319.
[2] - صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، رقم الحديث: 7320.
[3] - انظر كتاب (الحسنة والسيئة) لابن تيمية، ص 72 - 73.
[4] - انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي الآية (34) من سورة النمل.
[5] - في ظلال القرآن: 4/2005، الطبعة الثالثة عشرة.
عن صهيب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها، ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ. وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من ردّ عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني، قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل؟ فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلَّ على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمئشار فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته؛ فإن رجع عن دينه؛ وإلا فاطرحوه. فذهبوا به، فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بمَ شئت. فرجف بهم الجبل، فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بمَ شئت. فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذعٍ، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه، فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام. فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك. قد آمن الناس. فأمر بالأخدود في أفواه السكك فَخُدَّت وأضرم النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فاحموه فيها أو قيل له: اقتحم. ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق. [رواه مسلم]
معاني الألفاظ:
- الأكمه: الذي خلق أعمى.
- المئشار أو المنشار: لغتان صحيحتان آلة معروفة يقطع بها.
- ذروة الجبل: أعلاه.
- القرقور: السفينة الصغيرة.
- انكفأت بهم السفينة: انقلبت بهم.
- كبد القوس: مقبضها.
- الأخدود: جمع خد وهو الشق في الأرض طويلاً.
أحكام فقهية ودروس مستفادة من الحديث:
1 - في الحديث دلالة على صدق النبي وإثبات نبوته حيث إنه لم يعاصر أحداث القصة ولم يتعلمها من معلم.
2 - أهمية ورود القصص في الأحاديث والخطب والمواعظ وأثرها على المدعوين وضرورة الاهتمام بقصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية واعتمادها كوسيلة هامة لتثقيف المسلمين وتربية الأجيال عليها، والتنبه والحذر من القصص والأفلام التي تبثها وسائل الأعلام المعاصرة لصرف المسلمين عن ثقافتهم وإبعادهم عن دينهم.
3 - فظاعة أساليب الملوك في التعذيب والبطش والإرهاب وحرصهم على مناصبهم ولو كلفهم ذلك القضاء على الأمة بكاملها.
4 - التشابه بين نفوس الملوك وأساليبهم في القديم والحديث ورغبتهم في إخضاع الرعية واستعباد الناس واستنفارهم إذا أحسّوا بأدنى خطر يزيل ملكيتهم واستعبادهم للخلق.
5 - من سنة الأنبياء والمرسلين البعد عن الملوك والسلاطين ووجود العداوة بينهم، ومن هدي السلف عدم قربهم من الحكام أو الدخول عليهم لأنه يكون على حساب الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإبراهيم - عليه السلام - والنمرود، وموسى - عليه السلام - وفرعون، ويوسف - عليه السلام - وملك مصر حيث رفض عرض الملك عليه أن يكون من أصفيائه، … وسعيد بن جبير والحكام في عصره، وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة والبخاري، والعز بن عبد السلام، … وسيد قطب… وغيرهم من أتباع المرسلين…
6 - التباين والاختلاف بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وعدم إمكانية الالتقاء، فالملوك وحاشيتهم من السحرة وغيرهم من هذا الصنف، والصنف الآخر أولياء الرحمن يتمثل بالراهب والغلام ومن كان على مسلكهم من المؤمنين في كل عصر وحين.
7 - الابتلاء والامتحان سنة إلهية ثابتة تحصل للأنبياء والمرسلين ولعباد الله الصالحين.
8 - إثبات كرامات الأولياء وإجراء خوارق العادات على أيدي الصالحين.
9 - وجود الثبات على مبادئ الحق والدين الصحيح وأن الأخذ بالعزيمة أولى من الأخذ بالرخصة خصوصاً في حق العلماء ومن هم قادة الناس.
10 - وجوب اللجوء إلى الله - تعالى - والتضرع والدعاء والاستعانة به - سبحانه -؛ خاصة في الأمور المهمة وعند حصول الشدائد والملمات "اللهم اكفنيهم بما شئت" "حسبنا الله ونعم الوكيل" "رب نجني من القوم الظالمين" "ربنا أفرغ علينا صبراً…".
11 - اعتراف العالم بالفضل لمن هو أفضل منه.
12 - العمل على إنقاذ النفس من الهلاك.
13 - ثقة المؤمن بنصر الله له وإظهار دينه رغم كيد الملوك الجبابرة وبطشهم بالدعاة ورغم كيدهم وتدبيرهم للنيل من العلماء والدعاة والقضاء عليهم بل إن شدة طغيان الجبابرة واستضعافهم للمؤمنين دليل على قرب زوال ملكهم ونصر الله لعباده الصالحين {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا أتاهم نصرنا}.
14 - في الحديث دلالة على كفر السحرة وعداوتهم للدعاة والرسل وعباد الله الصالحين وكفر من يتعلم السحر أو يعمل به أو يصدقه لوجود الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على كونه من فعل الكفرة، قال - تعالى -: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} [البقرة: 102] {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق} {ولا يفلح الساحر حيث أتى}. وفي الحديث قال - عليه الصلاة والسلام -: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئاً وكل إليه".
من الدروس المستفادة من الحديث:
إنك أيها المسلم كلما قرأت سورة البروج مررت في أثناء مطالعتك لتفسيرها على قصة الملك وأصحاب الأخدود وقد تناولها المفسرون ما بين مقلّ أو مكثر مستدلاً بهذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه إلا أن جانباً مهماً في الحديث وهو "الملك" لم يولوه العناية اللازمة والبحث الكافي لبيان صورة "الملك" في القرآن والحديث، وقد يكونو فعلوا ذلك تجنباً ووقاية لشرورهم وخوفاً من أذيتهم، كفانا الله شرهم وسلمنا من أذيتهم، أو أن الملوك والسلاطين كفوا أذاهم عن أولئك والله أعلم.
لكن الأحداث والوقائع التي تجري من حولنا والأدلة التي نقرؤها في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - تؤذن بانتهاء هذه الفترة العصيبة النكدة التي مرت على أمة الإسلام وتبشر بانبلاج فجر جديد نسأل الله العظيم أن يعز فيها أهل طاعته ويمكن لهم، ويذل فيها أهل المعصية ويخزيهم.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة… ثم تكون ملكاً عاضاً… ثم تكون ملكاً جبرياً… ثم تكون خلافة على منهاج النبوة".
على أن بعض الملوك المعاصرين أدرك قبح هذا اللقب فطلب من الناس ألا ينادوه ولا يلقبوه بهذا اللقب، ولاشك أن هذا من فطنتهم وذكائهم، "ولله الأمر من قبل ومن بعد".
العبرة في القصص:
ما من قصة تذكر في القرآن الكريم أو في السنة النبوية إلا لنعتبر بها، لما في الاعتبار بها من حاجتنا إليه فقد قال - تعالى -: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}، وقال - تعالى -: {فاعتبروا يا أولي الأبصار}.
ولما كان القرآن الكريم هو الدستور الإلهي الذي تصلح به حياة البشرية جمعاء، وهو المعجزة الخالدة، كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء به هو خاتم الأنبياء ورسول الله إلى الناس جميعاً - عليه الصلاة والسلام -، فإنه ما من بدعة وقعت فيها الأمم السابقة وكانت سبباً في هلاكها إلا ويمكن أن يقع فيها الناس اليوم، فإن في نفوس كثير من الناس من جنس ما كان في نفوس المكذبين للرسل كفرعون وغيره من الجبابرة.
ولذلك قال - تعالى - في تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم -: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} [فصلت: 43]. وقال - تعالى -: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم}.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك؟! "[1].
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جُحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "[2].
ومن أعظم السيئات وأقبح البدع والمنكرات هو الشرك بالله وجحود الخالق - سبحانه وتعالى-، وقد وقعت فيها كثير من الأمم السابقة بزعامة الملوك الجبابرة، كفرعون وغيره ممن اغتروا بقوتهم وسلطانهم، ففرعون طلب أن يكون إلهاً معبوداً دون الله - تعالى - فقال: {أنا ربكم الأعلى}. وقال: {وما علمت لكم من إله غيري}.
لكن فرعون لم يكن مطلبه أن يكون إلهاً منذ أول وهلة، إنما مهّد لهذا وقدم له بمقدمات منها زعمه أن الأنهار تجري من تحته وسعة ملكه وفقر الآخرين، لمّا وصل إلى الحد الذي ذكره الله - تعالى - عنه: {فاستخف قومه فأطاعوه} عندها ادعى الألوهية، وقال: أنا ربكم الأعلى.
ولو تأملت حالة حكام البلاد الإسلامية اليوم وما فعلوه من إقدامهم على صلح اليهود وتطبيع العلاقات معهم ومؤاخاتهم، لعرفت أن هذه النـزعة الفرعونية لم يقدموا عليها إلا بعد أن استخفوا شعوبهم، لقد صرح أحد الملوك بملء فيه عن علاقاته مع زعيم من زعماء اليهود منذ أكثر من عشرين عاماً، فهل صرح وأعلن عن وجود هذه العلاقات الوطيدة إلا بعد أن عرف حال الشعب الذي يحكمه.
والذي فعله فرعون هو غاية الظلم والجهل، وما في نفس فرعون هو في سائر النفوس و {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}. ولذلك قال بعض العارفين: ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون غير أن فرعون قدر فأظهر وغيره عجز فأضمر[3].
والذي يحد من جماح النفس وخروجها عن جادة الحق هو طاعة الله وخشيته في السر والعلن وعدم إتباع الشهوات وتجنب ما يزينه الشيطان. قال - تعالى -: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} [النحل: 98 - 100].
ولما أمهل الله - تعالى - إبليس قال: {لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} [الحجر: 39 - 40].
وإغواء إبليس إنما يكون عن طرق كثيرة منهم السحرة ومنهم الملوك الظلمة. ولكن من فضل الله ومنه أنه لم يجعل لإبليس سلطاناً على عباد الله المخلصين قال - تعالى -: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42].
فوائد القصص:
ورد في القرآن الكريم قصص كثير عن الأمم والأنبياء والمرسلين وحال كثير من الجبابرة والمتمردين وكيف فعل الله بهم مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعاصر تلك الوقائع والأحداث، ولم يقرأ عنها كتاباً وهذا وجه من وجوه إعجاز الكتاب الكريم ودليل صدق على ما جاء به هذا النبي العظيم - صلى الله عليه وسلم -،
فمن فوائد القصص ما يلي:
1 - تثبيت فؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن معه، قال - تعالى -: {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} [هود: 120].
2 - الدلالة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث إنه لم يعاصر أحداث القصة ولم يتعلمها من معلم. قال - تعالى -: {وما كنت بحانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} [القصص: 44]، وقال - تعالى -: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} [هود: 49].
3 - تصديق الأنبياء السابقين فيما دعوا إليه الناس، قال - تعالى -: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه} [يوسف: 111].
4 - بيان الحق فيما اختلفوا فيه والتحذير من كيد الأعداء. قال - تعالى -: {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين}.
الملوك في القرآن الكريم:
لقد تأملت في سور القرآن الكريم وأمعنت النظر في الآيات التي ذكرت فيها كلمة "الملك أو الملوك" ورجعت إلى بعض كتب التفسير لمعرفة ما كتبوه في هذا الصدد، فما ذكر الملك أو الملوك إلا في موضع الذم والفساد. فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم:
لا خلاف بين المفسرين على كون الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة. إنما الخلاف في قوله - تعالى -: {وكذلك يفعلون} هل هو من كلام الله أم من كلام المرأة؟!.
أما فساد الملوك فيكون بالقتل والأسر ونهب الأموال وتخريب الديار. {وجعلوا أعزة أهلها أذلة} جعل الرؤساء السادة الأشراف من الأرذلين[4].
- وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً:
في قصة موسى - عليه السلام - والعبد الصالح "الخضر".
{قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً. قال إنك لن تستطيع معي صبراً، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً. قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً. قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك ذكراً. فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً… قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً. أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً} [الكهف: 66 - 79].
فالملك كان قاطعاً للطريق وينهب أموال المساكين. أنانية الملوك "ائتوني به استخلصه لنفسي".
رأى ملك مصر رؤيا هالته وأفظعته وجمع لها كل من حوله لتأويلها والتعبير عنها فما استطاعوا فرجعوا إلى يوسف - عليه السلام - وعبر عن تلك الرؤيا أصدق تعبير.
{وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون. قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون. وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم. قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاشا لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم. وقال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم. وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكان يتقون} [يوسف: 43 - 57].
لقد كان الملك أنانياً محباً لنفسه ومصلحته الشخصية الخاصة {ائتوني به استخلصه لنفسي} وهل يمكن اعتبار الأنانية وحب الذات من الأمور التي يمدح عليها الرجل؟!.
ومع ذلك هل قبل نبي الله يوسف - عليه السلام - العرض الذي قدمه الملك أن يكون من حاشيته المقربين إليه ومن خاصته؟ إن هذا المنصب لا يليق بالرجال العظماء، فضلاً عن الأنبياء… أن تكون فائدته قاصرة على شخص أو على أشخاص معدودين هذا ما لا يليق بالرجال العظماء. ولذلك فإن نبي الله يوسف - عليه السلام - اختار المكانة التي تليق به تلك المكانة التي يستطيع من خلالها أن يفيد الأمة جميعاً صغيرها وكبيرها ملكها ومملوكها، المقام الذي من خلاله يفيد أكبر عدد من الناس {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}.
هذا هو منهج الأنبياء ومسلك الدعاة والعلماء إنه مجانبة السلاطين والملوك والأمراء. وقد استعرضت لك من سيرة السلف الصالح وأقوال العلماء عدة أمثلة في مقالة سابقة بعنوان (بطانة الخير وبطانة الشر) وما لم أذكره أكثر من ذلك بكثير.
وما أحسن ما قاله سيد قطب في ظلال هذه الآيات من سورة يوسف: "فيا ليت رجالاً يمرغون كرامتهم على أقدام الحكام وهم أبرياء مطلقو السراح فيضعوا النير في أعناقهم بأيديهم ويتهافتوا على نظرة رضا وكلمة ثناء وعلى حظوة الأتباع لا مكانة الأصفياء… يا ليت رجالاً من هؤلاء يقرأون هذا القرآن ويقرأون قصة يوسف - عليه السلام - ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح حتى المادي أضعاف ما يدره التمرغ والتزلف والانحناء! …
إنه لم يسجد شكراً كما يسجد رجال الحاشية المتملقون للطواغيت ولم يقل له: عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين كما يقول المتملقون للطواغيت! كلا، إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أوّل بها رؤيا الملك، خيراً مما ينهض بها أحد في البلاد، وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحاً من الموت وبلاداً من الخراب ومجتمعاً من الفتنة - فتنة الجوع - فكان قوياً في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وكفايته وأمانته، قوته في الاحتفاظ بكرامته وإبائه: {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}" اهـ[5].
وفي الختام أعود فأذكر وأكرر القول إن عهد الملوك الجبابرة قد أذن بالانتهاء والرحيل إن شاء الله وسيتحقق وعد الله بنصر عباده الصالحين {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}، وما جاء في حديث الصادق المصدوق - عليه الصلاة والسلام - "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"، وسيتم ذلك إن شاء الله بعز عزيز أو بذل ذليل ولكن لكل شيء ثمناً وسيكون ثمن التغيير باهظاً، والواقع خير شاهد ودليل، ألم يكن الحكم في أفغانستان ملكياً… ألم تنته الشيوعية بعد أن جثمت على صدور المسلمين في بقاع مختلفة من الأرض ما يزيد على السبعين سنة؟ إلا أننا نهيب بالمسلمين والدعاة المخلصين وجميع عباد الله الصالحين أن يكونوا أهلاً لتحمل المسؤولية والسعي لتغيير الوضع نحو الأفضل لا كما حدث في البلاد التي ذكرناها آنفاً. فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فاعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ولا تنازعوا فتفشلوا:
قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
----------------------------------------
[1] - صحيح البخاري. كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لتتبعن سنن من كان قبلكم" رقم الحديث: 7319.
[2] - صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، رقم الحديث: 7320.
[3] - انظر كتاب (الحسنة والسيئة) لابن تيمية، ص 72 - 73.
[4] - انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي الآية (34) من سورة النمل.
[5] - في ظلال القرآن: 4/2005، الطبعة الثالثة عشرة.