إن الصنم لم يكن ينطق أو يسمع أو يبصر . . (وقفات مع سورة إبراهيم ) عليه الصلاة والسلام

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع شـاكـر
  • تاريخ البدء تاريخ البدء

شـاكـر

New member
إنضم
22/02/2009
المشاركات
87
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
(هذا بلاغ للناس , ولينذروا به , وليعلموا أنما هو إله واحد , وليذكر أولو الألباب). إبراهيم:52

إن الغاية الأساسية من ذلك البلاغ وهذا الإنذار ,
هي أن يعلم الناس (أنما هو إله واحد). .
فهذه هي قاعدة دين الله التي يقوم عليها منهجه في الحياة .


وليس المقصود بطبيعة الحال مجرد العلم ,
إنما المقصود هو إقامة حياتهم على قاعدة هذا العلم . .
المقصود هو الدينونة لله وحده , ما دام أنه لا إله غيره .

فالإله هو الذي يستحق أن يكون ربا
- أي حاكما وسيدا ومتصرفا ومشرعا وموجها -
وقيام الحياة البشرية على هذه القاعدة يجعلها تختلف اختلافا جوهريا
عن كل حياة تقوم على قاعدة ربوبية العباد للعباد
- أي حاكمية العباد للعباد ودينونة العباد للعباد -
وهو اختلاف يتناول الاعتقاد والتصور ,
ويتناول الشعائر والمناسك ;
كما يتناول الأخلاق والسلوك , والقيم والموازين ;
وكما يتناول الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ,
وكل جانب من جوانب الحياة الفردية والجماعية على السواء .


إن الاعتقاد بالألوهية الواحدة قاعدة لمنهج حياة متكامل ;
وليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمائر .

وحدود العقيدة أبعد كثيرا من مجرد الاعتقاد الساكن . .
إن حدود العقيدة تتسع وتترامى حتى تتناول كل جانب من جوانب الحياة . .
وقضية الحاكمية بكل فروعها في الإسلام هي قضية عقيدة .
كما أن قضية الأخلاق بجملتها هي قضية عقيدة .
فمن العقيدة ينبثق منهج الحياة الذي يشتمل الأخلاق والقيم ;
كما يشتمل الأوضاع والشرائع سواء بسواء . .

ونحن لا ندرك مرامي هذا القرآن قبل أن ندرك حدود العقيدة في هذا الدين ,
وقبل أن ندرك مدلولات:"شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"
على هذا المستوى الواسع البعيد الآماد .
وقبل أن نفهم مدلول:العبادة لله وحده ; ونحدده بأنه الدينونة لله وحده ;
لا في لحظات الصلاة , ولكن في كل شأن من شؤون الحياة !


إن عبادة الأصنام التي دعا إبراهيم - عليه السلام - ربه أن يجنبه هو وبنيه إياها ,
لا تتمثل فقط في تلك الصورة الساذجة التي كان يزاولها العرب في جاهليتهم ,
أو التي كانت تزاولها شتى الوثنيات في صور شتى ,
مجسمة في أحجار أو أشجار , أو حيوان أو طير , أو نجم أو نار ,
أو أرواح أو أشباح . . .


إن هذه الصور الساذجة كلها لا تستغرق كل صور الشرك بالله ,
ولا تستغرق كل صور العبادة للأصنام من دون الله .

والوقوف بمدلول الشرك عند هذه الصور الساذجة
يمنعنا من رؤية صور الشرك الأخرى التي لا نهاية لها ;
ويمنعنا من الرؤية الصحيحة لحقيقة ما يعتور البشرية من صور الشرك والجاهلية الجديدة !


ولا بد من التعمق في إدراك طبيعة الشرك وعلاقة الأصنام بها ;
كما أنه لا بد من التعمق في معنى الأصنام ,
وتمثل صورها المتجددة مع الجاهليات المستحدثة !


إن الشرك بالله - المخالف لشهادة أن لا إله إلا الله -
يتمثل في كل وضع وفي كل حالة لا تكون فيها الدينونة
في كل شأن من شؤون الحياة خالصة لله وحده .

ويكفي أن يدين العبد لله في جوانب من حياته ,
بينما هو يدين في جوانب أخرى لغير الله ,
حتى تتحقق صورة الشرك وحقيقته . .
وتقديم الشعائر ليس إلا صورة واحدة من صور الدينونة الكثيرة . .

والأمثلة الحاضرة في حياة البشر اليوم تعطينا المثال الواقعي للشرك في أعماق طبيعته . .
إن العبد الذي يتوجه لله بالاعتقاد في ألوهيته وحده ;
ثم يدين لله في الوضوء والطهارة والصلاة والصوم والحج وسائر الشعائر .
بينما هو في الوقت ذاته يدين في حياته الاقتصادية و السياسية والاجتماعيةلشرائع من عند غير الله .
ويدين في قيمه وموازينه الاجتماعية لتصورات واصطلاحات من صنع غير الله .
ويدين في أخلاقه وتقاليده وعاداته وأزيائه لأرباب من البشر تفرض عليه هذه الأخلاق والتقاليد والعادات والأزياء - مخالفة لشرع الله وأمره -
إن هذا العبد يزاول الشرك في أخص حقيقته ;
ويخالف عن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله في أخص حقيقتها . .
وهذا ما يغفل عنه الناس اليوم فيزاولونه في ترخص وتميع ,
وهم لايحسبونه الشرك الذي كان يزاوله المشركون في كل زمان ومكان !


والأصنام . .
ليس من الضروري أن تتمثل في تلك الصور الأولية الساذجة . .
فالأصنام ليست سوى شعارات للطاغوت ,
يتخفى وراءها لتعبيد الناس باسمها , وضمان دينونتهم له من خلالها . .


إن الصنم لم يكن ينطق أو يسمع أو يبصر . .
إنما كان السادن أو الكاهن أو الحاكم يقوم من ورائها ;
يتمتم حولها بالتعاويذ والرقي . .
ثم ينطق باسمها بما يريد هو أن ينطق لتعبيد الجماهير وتذليلها !

فإذا رفعت في أي أرض وفي أي وقت شعارات ينطق باسمها الحكام والكهان ,
ويقررون باسمها ما لم يأذن به الله من الشرائع والقوانين والقيم والموازين والتصرفات والأعمال . . .
فهذه هي الأصنام في طبيعتها وحقيقتها ووظيفتها !


إذا رفعت "القومية " شعارا , أو رفع "الوطن" شعارا ,
أو رفع "الشعب" شعارا , أو رفعت "الطبقة " شعارا . . .
ثم أريد الناس على عبادة هذه الشعارات من دون الله ;
وعلى التضحية لها بالنفوس والأموال والأخلاق والأعراض .
بحيث كلما تعارضت شريعة الله وقوانينه وتوجيهاته وتعليماته
مع مطالب تلك الشعارات ومقتضياتها , نحيت شريعة الله وقوانينه وتوجيهاته وتعاليمه ,
ونفذت إرادة تلك الشعارات - أو بالتعبير الصحيح الدقيق:إرادة الطواغيت الواقفة وراء هذه الشعارات -
كانت هذه هي عبادة الأصنام من دون الله . .
فالصنم ليس من الضروري أن يتمثل في حجر أو خشبة ;
ولقد يكون الصنم مذهبا أو شعارا !

إن الإسلام لم يجيء لمجرد تحطيم الأصنام الحجرية والخشبية !
ولم تبذل فيه تلك الجهود الموصولة , من موكب الرسل الموصول ;
ولم تقدم من أجله تلك التضحيات الجسام وتلك العذابات والآلام ,
لمجرد تحطيم الأصنام من الأحجار والأخشاب !


إنما جاء الإسلام
ليقيم مفرق الطريق بين الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن ;
وبين الدينونة لغيره في كل هيئة وفي كل صورة . .

ولا بد من تتبع الهيئات والصور في كل وضع وفي كل وقت لإدراك طبيعة الأنظمة والمناهج القائمة ,
وتقرير ما إذا كانت توحيدا أم شركا ؟
دينونة لله وحده أم دينونة لشتى الطواغيت والأرباب والأصنام !


(في ظلال القرآن)
 
فأما الحقيقتان اللتان تظللان جو السورة ,
وتتسقان مع ظل إبراهيم: أبي الأنبياء . الشكور الأواه المنيب ,
وهما حقيقة وحدة الرسالة والرسل , ووحدة دعوتهم , ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة .

وحقيقة نعمة الله على البشر كافة وعلى المختارين منهم بصفة خاصة . . فنفردهما هنا بالحديث .


فأما الحقيقة الأولى فيبرزها السياق في معرض فريد في طريقة الأداء .
لقد أبرزها سياق بعض السور الماضية في صورة توحيد الدعوة التي يجيء بها كل رسول ,
فيقول كلمته لقومه ويمضي , ثم يجيء رسول ورسول .
كلهم يقولون الكلمة ذاتها , ويلقون الرد ذاته ,
ويصيب المكذبين ما يصيبهم في الدنيا ,
وينظر بعضهم ويمهل إلى أجل في الأرض أو إلى أجل في يوم الحساب .
ولكن السياق هناك كان يعرض كل رسول في مشهد , كالشريط المتحرك منذ الرسالات الأولى .
وأقرب مثل لهذا النسق سورة الأعراف وسورة هود .

فأما سورة إبراهيم - أبي الأنبياء –
فتجمع الأنبياء كلهم في صف .. وتجمع الجاهليين كلهم في صف .
وتجري المعركة بينهم في الأرض , ثم لا تنتهي هنا , بل تتابع خطواتها كذلك في يوم الحساب !
ونبصر فنشهد أمة الرسل , وأمة الجاهلية , في صعيد واحد , على تباعد الزمان والمكان .
فالزمان والمكان عرضان زائلان ,
أما الحقيقة الكبرى في هذا الكون - حقيقة الإيمان والكفر - فهي أضخم وأبرز من عرضي الزمان والمكان.

***

فها هنا تتجمع الأجيال من لدن نوح وتتجمع الرسل ; ويتلاشى الزمان والمكان ; وتبرز الحقيقة الكبرى:
حقيقة الرسالة وهي واحدة .
واعتراضات الجاهليين عليها وهي واحدة .
وحقيقة نصر الله للمؤمنين وهي واحدة .
وحقيقة استخلاف الله للصالحين وهي واحدة .
وحقيقة الخيبة والخذلان للمتجبرين وهي واحدة .
وحقيقة العذاب الذي ينتظرهم هناك وهي واحدة . .
وذلك إلى التماثل بين قول الله لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ]:
(كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور).
وحكاية قوله لموسى - عليه السلام -:
(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور).

ولا تنتهي المعركة بين الكفر والإيمان هنا بل يتابع السياق خطواته بها إلى ساحة الآخرة .
فتبرز معالمها في مشاهد القيامة المتنوعة التي تتضمنها السورة .

***
وهي كلها تشير إلى أنها معركة واحدة تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة ,
وتكمل إحداهما الأخرى بلا انقطاع ولا انفصال .
وتكمل الأمثال التي تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة كذلك إبراز معالم المعركة بين الفريقين ,
ونتائجها الأخيرة:مثل الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة:شجرة النبوة , وشجرة الإيمان , وشجرة الخير .
والكلمة الخبيثة:كالشجرة الخبيثة:شجرة الجاهلية والباطل والتكذيب والشر والطغيان .

وأما الحقيقة الثانية المتعلقة بالنعمة والشكر والبطر فتطبع جو السورة كله , وتتناثر في سياقها .
يعدد الله نعمه على البشر كافة , مؤمنهم وكافرهم , صالحهم وطالحهم , برهم وفاجرهم , طائعهم وعاصيهم .
وإنها لرحمة من الله وسماحة وفضل أن يتيح للكافر والفاجر والعاصي نعمة في هذه الأرض ,
كالمؤمن والبار والطائع:لعلهم يشكرون .
ويعرض هذه النعمة في أضخم مجالي الكون وأبرزها , ويضعها داخل إطار من مشاهد الوجود العظيمة:
(الله الذي خلق السماوات والأرض , وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ; وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره , وسخر لكم الأنهار . وسخر لكم الشمس والقمر دائبين , وسخر لكم الليل والنهار . وآتاكم من كل ما سألتموه , وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . إن الإنسان لظلوم كفار). .
وفي إرسال الرسل للناس نعمة تعدل تلك أو تربو عليها:
(كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور). .


نفس المصدر السابق بتصرف
 
(وقال الذين كفروا لرسلهم:لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا)!

هنا تتجلى حقيقة المعركة وطبيعتها بين الإسلام والجاهلية . .
إن الجاهلية لا ترضى من الإسلام أن يكون له كيان مستقل عنها .
ولا تطيق أن يكون له وجود خارج عن وجودها .
وهي لا تسالم الإسلام حتى لو سالمها .

فالإسلام لا بد أن يبدو في صورة تجمع حركي مستقل بقيادة مستقلة وولاء مستقل , وهذا ما لا تطيقه الجاهلية .
لذلك لا يطلب الذين كفروا من رسلهم مجرد أن يكفوا عن دعوتهم ;
ولكن يطلبون منهم أن يعودوا في ملتهم ,
وأن يندمجوا في تجمعهم الجاهلي ,
وأن يذوبوا في مجتمعهم فلا يبقى لهم كيان مستقل .
وهذا ما تأباه طبيعة هذا الدين لأهله , وما يرفضه الرسل من ثم ويأبونه ,
فما ينبغي لمسلم أن يندمج في التجمع الجاهلي مرة أخرى . .

وعندما تسفر القوة الغاشمة عن وجهها الصلد لا يبقى مجال لدعوة , ولا يبقى مجال لحجة ;
ولا يسلم الله الرسل إلى الجاهلية . .

إن التجمع الجاهلي - بطبيعة تركيبه العضوي - لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله ,
إلا أن يكون عمل المسلم وجهده وطاقته لحساب التجمع الجاهلي , ولتوطيد جاهليته !

والذين يخيل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرب في المجتمع الجاهلي ,
والتميع في تشكيلاته وأجهزته هم ناس لا يدركون الطبيعة العضوية للمجتمع .
هذه الطبيعة التي ترغم كل فرد داخل المجتمع أن يعمل لحساب هذا المجتمع ولحساب منهجه وتصوره . .
لذلك يرفض الرسل الكرام أن يعودوا في ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها . .

وهنا تتدخل القوة الكبرى فتضرب ضربتها المدمرة القاضية التي لا تقف لها قوة البشر المهازيل ,
وإن كانوا طغاة متجبرين:

(فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين . ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد).

ولا بد أن ندرك أن تدخل القوة الكبرى للفصل بين الرسل وقومهم إنما يكون دائما بعد مفاصلة الرسل لقومهم . .
بعد أن يرفض المسلمون أن يعودوا إلى ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها . .
وبعد أن يصروا على تميزهم بدينهم وبتجمعهم الإسلامي الخاص بقيادته الخاصة .
وبعد أن يفاصلوا قومهم على أساس العقيدة فينقسم القوم الواحد إلى أمتين مختلفتين عقيدة ومنهجا وقيادة وتجمعا . .
عندئذ تتدخل القوة الكبرى لتضرب ضربتها الفاصلة , ولتدمر على الطواغيت الذين يتهددون المؤمنين ,
ولتمكن للمؤمنين في الأرض , ولتحقق وعد الله لرسله بالنصر والتمكين . . .

ولا يكون هذا التدخل أبدا والمسلمون متميعون في المجتمع الجاهلي , عاملون من خلال أوضاعه وتشكيلاته ,
غير منفصلين عنه ولا متميزين بتجمع حركي مستقل وقيادة إسلامية مستقلة . .

(فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين). .
نون العظمة ونون التوكيد . . كلتاهما ذات ظل وإيقاع في هذا الموقف الشديد .
لنهلكن المتجبرين المهددين , المشركين الظالمين لأنفسهم وللحق وللرسل وللناس بهذا التهديد . .

(ولنسكننكم الأرض من بعدهم). .
لا محاباة ولا جزافا , إنما هي السنة الجارية العادلة:

(ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد). .
ذلك الإسكان والاستخلاف لمن خاف مقامي , فلم يتطاول ولم يتعال ولم يستكبر ولم يتجبر .
وخاف وعيد , فحسب حسابه , واتقى أسبابه , فلم يفسد في الأرض , ولم يظلم في الناس .
فهو من ثم يستحق الاستخلاف , ويناله باستحقاق .

وهكذا تلتقي القوة الصغيرة الهزيلة - قوة الطغاة الظالمين - بالقوة الجبارة الطامة - قوة الجبار المهيمن المتكبر –
فقد انتهت مهمة الرسل عند البلاغ المبين والمفاصلة التي تميز المؤمنين من المكذبين .

ووقف الطغاة المتجبرون بقوتهم الهزيلة الضئيلة في صف ,
ووقف الرسل الداعون المتواضعون ومعهم قوة الله - سبحانه - في صف .
ودعا كلاهما بالنصر والفتح . .

وكانت العاقبة كما يجب أن تكون:

(واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد . يتجرعه ولا يكاد يسيغه , ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت , ومن ورائه عذاب غليظ). .

والمشهد هنا عجيب . إنه مشهد الخيبة لكل جبار عنيد . مشهد الخيبة في هذه الأرض .
ولكنه يقف هذا الموقف , ومن ورائه تخايل جهنم وصورته فيها , وهو يسقى من الصديد السائل من الجسوم .
يسقاه بعنف فيتجرعه غصبا وكرها , ولا يكاد يسيغه , لقذارته ومرارته ,
والتقزز والتكره باديان نكاد نلمحها من خلال الكلمات !
ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان , ولكنه لا يموت , ليستكمل عذابه .
ومن ورائه عذاب غليظ . .
إنه مشهد عجيب , يرسم الجبار الخائب المهزوم ووراءه مصيره يخايل له على هذا النحو المروع الفظيع .
وتشترك كلمة(غليظ)في تفظيع المشهد , تنسيقا له مع القوة الغاشمة التي كانوا يهددون بها دعاة الحق والخير والصلاح واليقين .
 
وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)

لقد انتقلت الرواية . . رواية الدعوة والدعاة , والمكذبين والطغاة . .
انتقلت من مسرح الدنيا إلى مسرح الآخرة:
(وبرزوا لله جميعا). .
الطغاة المكذبون وأتباعهم من الضعفاء المستذلين . ومعهم الشيطان . .
ثم الذين آمنوا بالرسل وعملوا الصالحات . .
برزوا(جميعا)مكشوفين . وهم مكشوفون لله دائما .
ولكنهم الساعة يعلمون ويحسون أنهم مكشوفون
لا يحجبهم حجاب , ولا يسترهم ساتر , ولا يقيهم واق . .

برزوا وامتلأت الساحة ورفع الستار , وبدأ الحوار:
(فقال الضعفاء للذين استكبروا:إنا كنا لكم تبعا . فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ؟). .

والضعفاء هم الضعفاء .
هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم على الله
حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه ;
وجعلوا أنفسهم تبعا للمستكبرين والطغاة .
ودانوا لغير الله من عبيده واختاروها على الدينونة لله .

والضعف ليس عذرا , بل هو الجريمة ;
فما يريد الله لأحد أن يكون ضعيفا ,
وهو يدعو الناس كلهم إلى حماه يعتزون به والعزة لله .

وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعا عن نصيبه في الحرية - التي هي ميزته ومناط تكريمه - أو أن ينزل كارها .
والقوة المادية - كائنة ما كانت - لا تملك أن تستعبد إنسانا يريد الحرية , ويستمسك بكرامته الآدمية .
فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد , تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه .
اما الضمير . أما الروح . أما العقل .
فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها , إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال !


من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعا للمستكبرين في العقيدة , وفي التفكير , وفي السلوك ؟
من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله , والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه ؟
لا أحد . لا أحد إلا أنفسهم الضعيفة .
فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة , ولا لأنهم أقل جاها أو مالا أو منصبا أو مقاما . . كلا ,
إن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفا يلحق صفة الضعف بالضعفاء . .
إنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان !

إن المستضعفين كثرة , والطواغيت قلة .
فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة ؟ وماذا الذي يخضعها ؟
إنما يخضعها ضعف الروح , وسقوط الهمة , وقلة النخوة ,
والتنازل الداخلي عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان !

إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير .
فهي دائما قادرة على الوقوف لهم لو أرادت . فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان !

إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء . . وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطغاة !!
والأذلاء هنا على مسرح الآخرة في ضعفهم وتبعيتهم للذين استكبروا يسألونهم:
(إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء) ؟ . .
وقد اتبعناكم فانتهينا إلى هذا المصير الأليم ؟!
أم لعلهم وقد رأوا العذاب يهمون بتأنيب المستكبرين على قيادتهم لهم هذه القيادة , وتعريضهم إياهم للعذاب ؟
إن السياق يحكي قولهم وعليه طابع الذلة على كل حال !
ويرد الذين استكبروا على ذلك السؤال:
(قالوا:لو هدانا الله لهديناكم ! سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص !). .
وهو رد يبدو فيه البرم والضيق:
(لو هدانا الله لهديناكم). .
فعلام تلوموننا ونحن وإياكم في طريق واحد إلى مصير واحد ؟ إننا لم نهتد ونضللكم .
ولو هدانا الله لقدناكم إلى الهدى معنا , كما قدناكم حين ضللنا إلى الضلال !
وهم ينسبون هداهم وضلالهم إلى الله . فيعترفون الساعة بقدرته وكانوا من قبل ينكرونه وينكرونها ,
ويستطيلون على الضعفاء استطالة من لا يحسب حسابا لقدرة القاهر الجبار .
وهم إنما يتهربون من تبعة الضلال والإضلال برجع الأمر لله . .
والله لا يأمر بالضلال كما قال سبحانه: إن الله لا يأمر بالفحشاء . .
ثم هم يؤنبون الضعفاء من طرف خفي , فيعلنونهم بأن لاجدوى من الجزع كما أنه لا فائدة من الصبر .
فقد حق العذاب , ولا راد له من صبر أو جزع ,
وفات الأوان الذي كان الجزع فيه من العذاب يجدي فيرد الضالين إلى الهدى ;
وكان الصبر فيه على الشدة يجدي فتدركهم رحمة الله . لقد انتهى كل شيء , ولم يعد هنالك مفر ولا محيص:
(سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص)!


لقد قضي الأمر , وانتهى الجدل , وسكت الحوار . . وهنا نرى على المسرح عجبا ونرى الشيطان . .
هاتف الغواية , وحادي الغواة . . نراه الساعة يلبس مسوح الكهان , أو مسوح الشيطان !
ويتشيطن على الضعفاء والمستكبرين سواء , بكلام ربما كان أقسى عليهم من العذاب:
(وقال الشيطان - لما قضي الأمر - إن الله وعدكم وعد الحق , ووعدتكم فأخلفتكم . وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي . فلا تلوموني ولوموا أنفسكم . ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي . إني كفرت بما أشركتمون من قبل . إن الظالمين لهم عذاب أليم .)

الله ! الله !
أما إن الشيطان حقا لشيطان !
وإن شخصيته لتبدو هنا على أتمها كما بدت شخصية الضعفاء وشخصية المستكبرين في هذا الحوار . .
إنه الشيطان الذي وسوس في الصدور , وأغرى بالعصيان , وزين الكفر , وصدهم عن استماع الدعوة . .
هو هو الذي يقول لهم وهو يطعنهم طعنة أليمة نافذة ,
حيث لا يملكون أن يردوها عليه - وقد قضي الأمر - هو الذي يقول الآن , وبعد فوات الأوان:
(إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) !
ثم يخزهم وخزة أخرى بتعييرهم بالاستجابة له , وليس له عليهم من سلطان ,
سوى أنهم تخلوا عن شخصياتهم , ونسوا ما بينهم وبين الشيطان من عداء قديم ,
فاستجابوا لدعوته الباطلة وتركوا دعوة الحق من الله:
(وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) !

ثم يؤنبهم , ويدعوهم لتأنيب أنفسهم . يؤنبهم على أن أطاعوه !:
(فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)!
ثم يخلي بهم , وينفض يده منهم , وهو الذي وعدهم من قبل ومناهم ,
ووسوس لهم أن لا غالب لهم ; فأما الساعة فما هو بملبيهم إذا صرخوا , كما أنهم لن ينجدوه إذا صرخ:
(ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي). .
وما بيننا من صلة ولا ولاء !

ثم يبرأ من إشراكهم به ويكفر بهذا الإشراك:
(إني كفرت بما أشركتمون من قبل)!

ثم ينهي خطبته الشيطانية بالقاصمة يصبها على أوليائه:
(إن الظالمين لهم عذاب أليم)!
فيا للشيطان !
ويا لهم من وليهم الذي هتف بهم إلى الغواية فأطاعوه , ودعاهم الرسل إلى الله فكذبوهم وجحدوه !

وقبل أن يسدل الستار نبصر على الضفة الأخرى بتلك الأمة المؤمنة , الأمة الفائزة , الأمة الناجية:
(وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار , خالدين فيها بإذن ربهم , تحيتهم فيها سلام). .
 
عودة
أعلى