أبو فهر السلفي
New member
- إنضم
- 26/12/2005
- المشاركات
- 770
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..
يخطئ من يظن أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد وعى الحق كله حتى لم يفته منه شيء، ويُشبهه في الخطأ من يظن أن جلالة الشيخ ومكانته في الأمة وحظه من الإسلام يماثله حظ آخر أو تساويه مكانة أخرى؛ غافلاً عن أن الشيخ وإن فاقه من يفوقه من السلف = إلا أن له في زمانه ومكانه وأثره في هداية الأمة بعده؛ ما يمنع التسوية والمماثلة ويجعله نسيجاً وحده بقطع النظر عن أبواب المفاضلات.
نعم.فلم يكن الشيخ –رحمه الله- من أفذاذ هذه الأمة فحسب، بل هو من أفذاذ الدنيا مذ ذرأها الله إلى أن يفنيها ومن عليها.
والحديث عن جوانب عظمة هذا الرجل حديث معجب آسر بقدر ما هو متباعد الأطراف كالقاموس الهادر لا ساحل له، وكالبحر أيضاً فمن أي جوانبه أتيته أصبته ولكنك أبداً لا تحيط به.
وإنما أردتُ أن أقبض يدي على قطرة من أثر هذا الأشم، تمثل شعبة من شُعَبِ عظمة هذا الرجل وسمو نفسه، وعلو خلقه، ونصاعة مروءته.
لقد تصدى الشيخ لِما كان في عصره من بدع، وشركيات، وضلالات عن الهدي الأول الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، تصدى لها بلسانه وبنانه وأحياناً بسنانه، وجَبَهَ الشيخُ بالحق وجوهَ مخالفيه وهم في زمانه جماهير علماء الأمة وفقهائها، فلم تأخذه في الله لومة لائم، ولا قعد به عن بيان الحق الذي معه سجن ولا إرهاب ولا تهديد، فكان أبداً كمن وضع عنقه على كفه فليس يعبأ على أي جنب يكون في الله مصرعه.
وقد عودتنا طباع الناس التي قرأنا عنها والتي نعالجها في مجتمعاتنا = أن من وقف مواقف الشيخ مجابهاً أهل الباطل بالحق الذي معه = أنه يؤذى ويُضار، وأنه ربما أداه الأذى والضر الذي يصيبه مع إحساسه بأنه ناطق بالحق وقائم بالحجة لتبيين كلمة الله = ربما دفعه كل ذلك لتجانف البغي على مخالفيه واستحلال ما يرى أنه يجوز له أن يستحله بكلمة الله التي معه.
وتلك سنة سائرة في الناس اليوم حتى إنك لترى بعض المجاهدين بكلمة الحق جهاد السيف أو جهاد الحجة لا أقول يبغي على من يجاهدهم من الكفار أو المنافقين أو المبتدعة، بل ربما يكرُ راجعاً على بعض إخوانه من مجتهدي أهل السنة المخالفين له في تأصيل أو تفريع = خلافاً لا يمتنع وقوعه مع اتساع الأُقْضية، وكثرة الاجتهادات، وقلة العلماء، ومع ذلك يكر عليهم غافلاً عن معركته الأصلية ثانياً عَطِفَ سيفِه ليجعل المعركة داخلية، ويشتد البأسُ بين الذين آمنوا من أهل الصف الواحد..
وهنا تقف النفس إعجاباً وينحني القلم إكباراً لتلك النفس التيمية القوية كيف تبصرت لتلك الشهوة الغضبية، وكيف فطنت لتلك الروح الحلولية التي تظن أن الحق المطلق قد حل في جسدها لمجرد قيامها ببعض شُعَبِه فتظن أنها والحق قد حلا في مسلاخ واحد فلا يتصور لهذا التجسد انفصاماً في الجسد أو الأحكام.
تنبه الشيخ لهذه الهوة المهلكة فبين خطرها وحذر من مغبتها، ولم يغفل في معركته الجهادية الكبرى عن أن للجهاد شرف وللمجاهد مروءة، ولم يذهل قلبه عن أنّ لإحقاق الحق آداب وأخلاق من أعلاها رحمة الخلق وإنصافهم والعدل مع المخالف منهم مهما بلغ خلافه، فلم يغفل وهو يُبطل أقوال مخالفيه عن أن ينصفَهم ويبرَهم ويتقي الله فيهم، وانتصب مدافعاً مراراً، ودافعاً تكراراً الظلم عن أقوام من أهل الضلال والبدع، واتسع فقهه لهذا المعنى الجليل الذي قوامه: أن إبطال الباطل وبيان ضلال المبطل لا يقتضي أن نبغي ونتعدى ونظلم هذا المبطل، واتسع فقهه لشعبة من الحق عطرة نضرة أن إنصاف المخالفين والعدل معهم ليس دفاعاً عن باطلهم، ولا مجادلة عن ظلمهم كما يتصور بعض ناقصي الفقه، وإنما هو من تمام عدل المجاهد بل هو من تمام شرف النفس ومروءة المسلم..
ولنبحر معاً في تلك المعاني الجليلة التي سطرها الشيخ في بيان شعب الحق الشريفة هذه..
1- قال الشيخ : ((الرَّادُّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مُجَاهِدٌ، وَالْمُجَاهِدُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي سِيَاسَتِهِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ فُجُورٌ)) [مجموع الفتاوى 4/13].
2- وقال الشيخ : ((وَكَمَا قَدْ يَبْغِي بَعْضُ الْمُسْتَنَّةِ إمَّا عَلَى بَعْضِهِمْ وَإِمَّا عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ بِزِيَادَةِ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ الْإِسْرَافُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِمْ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا})). [السابق 14/483].
3- وقال الشيخ :((فهذا موضع يجب النظر والعمل فيه بالحق؛ فإن كثيراً من أهل العلم والدين والزهد والورع والإمارة والسياسة والعامة وغيرهم، [يوجد] إما في نظرائهم أو غير نظرائهم من نوع الظلم والسيئات، إما بدعة، وإما فجور، وإما مركب منهما = فأخذوا يُعاقبونهم بغير القسط، إما في أعراضهم، وإما في حقوقهم، وإما في دمائهم وأموالهم، وإما في غير ذلك، مثل أن ينكروا لهم حقاً واجباً، أو يعتدوا عليهم بفعل محرم، مع أن الفاعلين لذلك (أي البغي على المبتدعة والمخطئين) متأولون، معتقدون أن عملهم هذا عمل صالح، وأنهم مثابون على ذلك، ويتعلقون بباب قتال أهل العدل والبغي، وهم الخارجون بتأويل سائغ، فقد تكون الطائفتان جميعاً باغيتين بتأويل أو بغير تأويل، فتدبر هذا الموضع ففيه يدخل جمهور الفتن الواقعة بين الأمة، كما قال تعالى: {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم؟} فأخبر أن التفرق بينهم كان بغياً، والبغي: الظلم.
وهكذا التفرق الموجود في هذه الأمة، مثل الفتن الواقعة بينها في المذاهب والاعتقادات والطرائق والعبادات والممالك والسياسات والأموال، فإنما تفرقوا بغياً بينهم من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، والباغي قد يكون متأولاً وقد لا يكون متأولاً، فأهل الصلاح منهم هم المتأولون في بغيهم، وذلك يوجب عذرهم لا اتباعهم.
فتدبر العدل والبغي، واعلم أن عامة الفساد من جهة البغي، ولو كان كل باغٍ يعلم أنه باغٍ إذاً لهانت القضية، بل كثير منهم أو أكثرهم لا يعلمون أنهم بغاة، بل يعتقدون أن العدل منهم، أو يعرضون عن تصور بغيهم، ولولا هذا لم تكن البغاة متأولين، بل كانوا ظلمة ظلماً صريحاً، وهم البغاة الذين لا تأويل معهم.
وهذا القدر من البغي بتأويل وأحياناً بغير تأويل، يقع فيه الأكابر من أهل العلم، ومن أهل الدين؛ فإنهم ليسوا أفضل من السابقين الأولين.
والفتن التي يقع فيها التهاجر والتباغض والتطاعن والتلاعن ونحو ذلك هي فتن، وإن لم تبلغ السيف، وكل ذلك تفرق بغياً، فعليك بالعدل والاعتدال والاقتصاد في جميع الأمور، ومتابعة الكتاب والسنة، ورد ما تنازعت فيه الأمة إلى الله والرسول، وإن كان المتنازعون أهل فضائل عظيمة ومقامات كريمة، والله يوفقنا لما يحبه ويرضاه،ولا حول ولا قوة إلا بالله)) [جامع المسائل 6/40]
4- وقال الشيخ: ((الخوارج كانوا عبادا متورعين كما قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم..)) الحديث.
فأين هؤلاء الرافضة من الخوارج، والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد؛ لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء؛ فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأدين والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة، والزيدية من الشيعة خير منهم وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم، وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج.
ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم؛ فإن الظلم حرام مطلقا كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضا.
وهذا؛ لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبنى علي جهل وظلم وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس، ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض.
والخوارج تكفر أهل الجماعة، وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم، وكذلك أكثر الرافضة، ومن لم يُكَفِرْ فَسَّقْ. وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأيا ويكفرون من خالفهم فيه.
وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول، ولا يُكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق كما وصف الله به المسلمين بقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس})). [منهاج السنة 5/103].
5- وقال الشيخ: ((وَلَوْ كَانَ الْمُجِيبُ مُخْطِئًا لَمَا جَازَ ذَلِكَ (أي الكذب والافتراء عليه)؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ وَالِافْتِرَاءَ حَرَامٌ مُطْلَقًا. وَاَللَّهُ أَوْجَبَ الصِّدْقَ وَالْعَدْلَ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ)).
6- قال الشيخ: ((لَا أُحِبُّ أَنْ يُنْتَصَرَ مِنْ أَحَدٍ بِسَبَبِ كَذِبِهِ عَلَيَّ أَوْ ظُلْمِهِ وَعُدْوَانِهِ فَإِنِّي قَدْ أَحْلَلْت كُلَّ مُسْلِمٍ. وَأَنَا أُحِبُّ الْخَيْرَ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ وَأُرِيدُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ الْخَيْرِ مَا أُحِبُّهُ لِنَفْسِي. وَاَلَّذِينَ كَذَبُوا وَظَلَمُوا فَهُمْ فِي حِلٍّ مِنْ جِهَتِي.. هَذَا وَأَنَا فِي سِعَةِ صَدْرٍ لِمَنْ يُخَالِفُنِي، فَإِنَّهُ وَإِنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فِيَّ بِتَكْفِيرِ أَوْ تَفْسِيقٍ أَوْ افْتِرَاءٍ أَوْ عَصَبِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ. فَأَنَا لَا أَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فِيهِ. بَلْ أَضْبُطُ مَا أَقُولُهُ وَأَفْعَلُهُ وَأَزِنُهُ بِمِيزَانِ الْعَدْلِ وَأَجْعَلُهُ مُؤْتَمًّا بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ هُدًى لِلنَّاسِ حَاكِمًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)).
أكتفي بهذا القدر ولولا ضيق المقام لنقلتُ أضعاف هذا من كلام الشيخ، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
وإذن :
فليس من نفى الكفر عن من لم يترجح لديه بالأدلة والحجج كفرُه بمدافع عن الذين كفروا، وليس من رفض أن يُزاد في ضلالة رجل عن الواقع بمجادل عن الذين ظلموا، ولكن يفعل الرجل ذلك ويكون ذلك منه عدلاً وإنصافاً يطلبه ويكون ضده بغياً يتباعد المنصف منه ويتنزه هو عنه.
الآن
آتي لموضع العظمة حقاً في شخصية هذا الرجل الفذ؛ ذلك أن ما تقدم من الكلام عظيم ولا شك، ولكن تطبيقه والعمل به هو موضع المحنة ومحل الفتنة؛ ذلك أن حمل النفس على العدل مع خصومها، والصبر على أذى من يؤذيه هو مقام جليل، فإذا كان المُؤذي ناطقاً بكلمة الله قائماً بحجة الحق = كان صبرُه على الأذى وعدلُه مع مخالفه وإنصافُه له حينها من مقامات الأنبياء، و لا يلحق بشعبة منه إلا الكملة من ورثتهم وكذلك كان الشيخ..
والآن أترككم مع هذا الموقف الدال على ذلك و الذي يأبى جلاله أن أعود عليه بتعليق فأختم به إن شاء الله .
قال ابن عبد الهادي: ((فلما كان في رابع شهر رجب من سنة إحدى عشرة وسبعمائة جاء رجل فيما بلغني إلى أخيه الشيخ شرف الدين وهو في مسكنه بالقاهرة فقال له إن جماعة بجامع مصر قد تعصبوا على الشيخ وتفردوا به وضربوه
فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل !
وكان بعض أصحاب الشيخ جالسا عند شرف الدين قال: فقمت من عنده وجئت إلى مصر فوجدت خلقا كثيرا من الحسينية وغيرها رجالا وفرسانا يسألون عن الشيخ، فجئت فوجدته بمسجد الفخر كاتب المماليك على البحر واجتمع عنده جماعة وتتابع الناس وقال له بعضهم يا سيدي قد جاء خلق من الحسينية ولو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا
فقال لهم الشيخ: لأي شيء (؟)
قالوا: لأجلك
فقال لهم: هذا ما يحق
فقالوا: نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك، فنقتلهم ونخرب دورهم؛ فإنهم شوشوا على الخلق وأثاروا هذه الفتنة على الناس.
فقال لهم: هذا ما يحل.
قالوا: فهذا الذي قد فعلوه معك يحل هذا شيء لا نصبر عليه ولا بد أن نروح إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا
والشيخ ينهاهم ويزجرهم.
فلما أكثروا في القول قال لهم: إما أن يكون الحق لي أو لكم أو لله فإن كان الحق لي فهم في حل منه، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني ولا تستفتوني = فافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه إن شاء كما يشاء.
قالوا: فهذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم؟
قال: هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه.
قالوا: فتكون أنت على الباطل وهم على الحق فإذا كنت تقول إنهم مأجورين فاسمع منهم ووافقهم على قولهم.
فقال لهم: ما الأمر كما تزعمون فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين ففعلوا ذلك باجتهادهم والمجتهد المخطىء له أجر)).
رحم الله الشيخ ما كان أحسن عدله وأروع إنصافه، وإنا لندعو الناس للعدل والإنصاف مع جميع أجناس المخالفين ولا يصدهم عنه أن سماه قليل الفقه دفاعاً عن الباطل وجدالاً عن الظالمين، فإن إنصاف المخالفين والعدل معهم شعبة إيمانية ثقيلة ليس يدركها إلا من عظم فقهه ووفق إلى العمل بعلمه..
يخطئ من يظن أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد وعى الحق كله حتى لم يفته منه شيء، ويُشبهه في الخطأ من يظن أن جلالة الشيخ ومكانته في الأمة وحظه من الإسلام يماثله حظ آخر أو تساويه مكانة أخرى؛ غافلاً عن أن الشيخ وإن فاقه من يفوقه من السلف = إلا أن له في زمانه ومكانه وأثره في هداية الأمة بعده؛ ما يمنع التسوية والمماثلة ويجعله نسيجاً وحده بقطع النظر عن أبواب المفاضلات.
نعم.فلم يكن الشيخ –رحمه الله- من أفذاذ هذه الأمة فحسب، بل هو من أفذاذ الدنيا مذ ذرأها الله إلى أن يفنيها ومن عليها.
والحديث عن جوانب عظمة هذا الرجل حديث معجب آسر بقدر ما هو متباعد الأطراف كالقاموس الهادر لا ساحل له، وكالبحر أيضاً فمن أي جوانبه أتيته أصبته ولكنك أبداً لا تحيط به.
وإنما أردتُ أن أقبض يدي على قطرة من أثر هذا الأشم، تمثل شعبة من شُعَبِ عظمة هذا الرجل وسمو نفسه، وعلو خلقه، ونصاعة مروءته.
لقد تصدى الشيخ لِما كان في عصره من بدع، وشركيات، وضلالات عن الهدي الأول الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، تصدى لها بلسانه وبنانه وأحياناً بسنانه، وجَبَهَ الشيخُ بالحق وجوهَ مخالفيه وهم في زمانه جماهير علماء الأمة وفقهائها، فلم تأخذه في الله لومة لائم، ولا قعد به عن بيان الحق الذي معه سجن ولا إرهاب ولا تهديد، فكان أبداً كمن وضع عنقه على كفه فليس يعبأ على أي جنب يكون في الله مصرعه.
وقد عودتنا طباع الناس التي قرأنا عنها والتي نعالجها في مجتمعاتنا = أن من وقف مواقف الشيخ مجابهاً أهل الباطل بالحق الذي معه = أنه يؤذى ويُضار، وأنه ربما أداه الأذى والضر الذي يصيبه مع إحساسه بأنه ناطق بالحق وقائم بالحجة لتبيين كلمة الله = ربما دفعه كل ذلك لتجانف البغي على مخالفيه واستحلال ما يرى أنه يجوز له أن يستحله بكلمة الله التي معه.
وتلك سنة سائرة في الناس اليوم حتى إنك لترى بعض المجاهدين بكلمة الحق جهاد السيف أو جهاد الحجة لا أقول يبغي على من يجاهدهم من الكفار أو المنافقين أو المبتدعة، بل ربما يكرُ راجعاً على بعض إخوانه من مجتهدي أهل السنة المخالفين له في تأصيل أو تفريع = خلافاً لا يمتنع وقوعه مع اتساع الأُقْضية، وكثرة الاجتهادات، وقلة العلماء، ومع ذلك يكر عليهم غافلاً عن معركته الأصلية ثانياً عَطِفَ سيفِه ليجعل المعركة داخلية، ويشتد البأسُ بين الذين آمنوا من أهل الصف الواحد..
وهنا تقف النفس إعجاباً وينحني القلم إكباراً لتلك النفس التيمية القوية كيف تبصرت لتلك الشهوة الغضبية، وكيف فطنت لتلك الروح الحلولية التي تظن أن الحق المطلق قد حل في جسدها لمجرد قيامها ببعض شُعَبِه فتظن أنها والحق قد حلا في مسلاخ واحد فلا يتصور لهذا التجسد انفصاماً في الجسد أو الأحكام.
تنبه الشيخ لهذه الهوة المهلكة فبين خطرها وحذر من مغبتها، ولم يغفل في معركته الجهادية الكبرى عن أن للجهاد شرف وللمجاهد مروءة، ولم يذهل قلبه عن أنّ لإحقاق الحق آداب وأخلاق من أعلاها رحمة الخلق وإنصافهم والعدل مع المخالف منهم مهما بلغ خلافه، فلم يغفل وهو يُبطل أقوال مخالفيه عن أن ينصفَهم ويبرَهم ويتقي الله فيهم، وانتصب مدافعاً مراراً، ودافعاً تكراراً الظلم عن أقوام من أهل الضلال والبدع، واتسع فقهه لهذا المعنى الجليل الذي قوامه: أن إبطال الباطل وبيان ضلال المبطل لا يقتضي أن نبغي ونتعدى ونظلم هذا المبطل، واتسع فقهه لشعبة من الحق عطرة نضرة أن إنصاف المخالفين والعدل معهم ليس دفاعاً عن باطلهم، ولا مجادلة عن ظلمهم كما يتصور بعض ناقصي الفقه، وإنما هو من تمام عدل المجاهد بل هو من تمام شرف النفس ومروءة المسلم..
ولنبحر معاً في تلك المعاني الجليلة التي سطرها الشيخ في بيان شعب الحق الشريفة هذه..
1- قال الشيخ : ((الرَّادُّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مُجَاهِدٌ، وَالْمُجَاهِدُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي سِيَاسَتِهِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ فُجُورٌ)) [مجموع الفتاوى 4/13].
2- وقال الشيخ : ((وَكَمَا قَدْ يَبْغِي بَعْضُ الْمُسْتَنَّةِ إمَّا عَلَى بَعْضِهِمْ وَإِمَّا عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ بِزِيَادَةِ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ الْإِسْرَافُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِمْ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا})). [السابق 14/483].
3- وقال الشيخ :((فهذا موضع يجب النظر والعمل فيه بالحق؛ فإن كثيراً من أهل العلم والدين والزهد والورع والإمارة والسياسة والعامة وغيرهم، [يوجد] إما في نظرائهم أو غير نظرائهم من نوع الظلم والسيئات، إما بدعة، وإما فجور، وإما مركب منهما = فأخذوا يُعاقبونهم بغير القسط، إما في أعراضهم، وإما في حقوقهم، وإما في دمائهم وأموالهم، وإما في غير ذلك، مثل أن ينكروا لهم حقاً واجباً، أو يعتدوا عليهم بفعل محرم، مع أن الفاعلين لذلك (أي البغي على المبتدعة والمخطئين) متأولون، معتقدون أن عملهم هذا عمل صالح، وأنهم مثابون على ذلك، ويتعلقون بباب قتال أهل العدل والبغي، وهم الخارجون بتأويل سائغ، فقد تكون الطائفتان جميعاً باغيتين بتأويل أو بغير تأويل، فتدبر هذا الموضع ففيه يدخل جمهور الفتن الواقعة بين الأمة، كما قال تعالى: {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم؟} فأخبر أن التفرق بينهم كان بغياً، والبغي: الظلم.
وهكذا التفرق الموجود في هذه الأمة، مثل الفتن الواقعة بينها في المذاهب والاعتقادات والطرائق والعبادات والممالك والسياسات والأموال، فإنما تفرقوا بغياً بينهم من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، والباغي قد يكون متأولاً وقد لا يكون متأولاً، فأهل الصلاح منهم هم المتأولون في بغيهم، وذلك يوجب عذرهم لا اتباعهم.
فتدبر العدل والبغي، واعلم أن عامة الفساد من جهة البغي، ولو كان كل باغٍ يعلم أنه باغٍ إذاً لهانت القضية، بل كثير منهم أو أكثرهم لا يعلمون أنهم بغاة، بل يعتقدون أن العدل منهم، أو يعرضون عن تصور بغيهم، ولولا هذا لم تكن البغاة متأولين، بل كانوا ظلمة ظلماً صريحاً، وهم البغاة الذين لا تأويل معهم.
وهذا القدر من البغي بتأويل وأحياناً بغير تأويل، يقع فيه الأكابر من أهل العلم، ومن أهل الدين؛ فإنهم ليسوا أفضل من السابقين الأولين.
والفتن التي يقع فيها التهاجر والتباغض والتطاعن والتلاعن ونحو ذلك هي فتن، وإن لم تبلغ السيف، وكل ذلك تفرق بغياً، فعليك بالعدل والاعتدال والاقتصاد في جميع الأمور، ومتابعة الكتاب والسنة، ورد ما تنازعت فيه الأمة إلى الله والرسول، وإن كان المتنازعون أهل فضائل عظيمة ومقامات كريمة، والله يوفقنا لما يحبه ويرضاه،ولا حول ولا قوة إلا بالله)) [جامع المسائل 6/40]
4- وقال الشيخ: ((الخوارج كانوا عبادا متورعين كما قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم..)) الحديث.
فأين هؤلاء الرافضة من الخوارج، والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد؛ لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء؛ فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأدين والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة، والزيدية من الشيعة خير منهم وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم، وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج.
ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم؛ فإن الظلم حرام مطلقا كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضا.
وهذا؛ لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبنى علي جهل وظلم وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس، ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض.
والخوارج تكفر أهل الجماعة، وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم، وكذلك أكثر الرافضة، ومن لم يُكَفِرْ فَسَّقْ. وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأيا ويكفرون من خالفهم فيه.
وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول، ولا يُكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق كما وصف الله به المسلمين بقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس})). [منهاج السنة 5/103].
5- وقال الشيخ: ((وَلَوْ كَانَ الْمُجِيبُ مُخْطِئًا لَمَا جَازَ ذَلِكَ (أي الكذب والافتراء عليه)؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ وَالِافْتِرَاءَ حَرَامٌ مُطْلَقًا. وَاَللَّهُ أَوْجَبَ الصِّدْقَ وَالْعَدْلَ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ)).
6- قال الشيخ: ((لَا أُحِبُّ أَنْ يُنْتَصَرَ مِنْ أَحَدٍ بِسَبَبِ كَذِبِهِ عَلَيَّ أَوْ ظُلْمِهِ وَعُدْوَانِهِ فَإِنِّي قَدْ أَحْلَلْت كُلَّ مُسْلِمٍ. وَأَنَا أُحِبُّ الْخَيْرَ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ وَأُرِيدُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ الْخَيْرِ مَا أُحِبُّهُ لِنَفْسِي. وَاَلَّذِينَ كَذَبُوا وَظَلَمُوا فَهُمْ فِي حِلٍّ مِنْ جِهَتِي.. هَذَا وَأَنَا فِي سِعَةِ صَدْرٍ لِمَنْ يُخَالِفُنِي، فَإِنَّهُ وَإِنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فِيَّ بِتَكْفِيرِ أَوْ تَفْسِيقٍ أَوْ افْتِرَاءٍ أَوْ عَصَبِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ. فَأَنَا لَا أَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فِيهِ. بَلْ أَضْبُطُ مَا أَقُولُهُ وَأَفْعَلُهُ وَأَزِنُهُ بِمِيزَانِ الْعَدْلِ وَأَجْعَلُهُ مُؤْتَمًّا بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ هُدًى لِلنَّاسِ حَاكِمًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)).
أكتفي بهذا القدر ولولا ضيق المقام لنقلتُ أضعاف هذا من كلام الشيخ، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
وإذن :
فليس من نفى الكفر عن من لم يترجح لديه بالأدلة والحجج كفرُه بمدافع عن الذين كفروا، وليس من رفض أن يُزاد في ضلالة رجل عن الواقع بمجادل عن الذين ظلموا، ولكن يفعل الرجل ذلك ويكون ذلك منه عدلاً وإنصافاً يطلبه ويكون ضده بغياً يتباعد المنصف منه ويتنزه هو عنه.
الآن
آتي لموضع العظمة حقاً في شخصية هذا الرجل الفذ؛ ذلك أن ما تقدم من الكلام عظيم ولا شك، ولكن تطبيقه والعمل به هو موضع المحنة ومحل الفتنة؛ ذلك أن حمل النفس على العدل مع خصومها، والصبر على أذى من يؤذيه هو مقام جليل، فإذا كان المُؤذي ناطقاً بكلمة الله قائماً بحجة الحق = كان صبرُه على الأذى وعدلُه مع مخالفه وإنصافُه له حينها من مقامات الأنبياء، و لا يلحق بشعبة منه إلا الكملة من ورثتهم وكذلك كان الشيخ..
والآن أترككم مع هذا الموقف الدال على ذلك و الذي يأبى جلاله أن أعود عليه بتعليق فأختم به إن شاء الله .
قال ابن عبد الهادي: ((فلما كان في رابع شهر رجب من سنة إحدى عشرة وسبعمائة جاء رجل فيما بلغني إلى أخيه الشيخ شرف الدين وهو في مسكنه بالقاهرة فقال له إن جماعة بجامع مصر قد تعصبوا على الشيخ وتفردوا به وضربوه
فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل !
وكان بعض أصحاب الشيخ جالسا عند شرف الدين قال: فقمت من عنده وجئت إلى مصر فوجدت خلقا كثيرا من الحسينية وغيرها رجالا وفرسانا يسألون عن الشيخ، فجئت فوجدته بمسجد الفخر كاتب المماليك على البحر واجتمع عنده جماعة وتتابع الناس وقال له بعضهم يا سيدي قد جاء خلق من الحسينية ولو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا
فقال لهم الشيخ: لأي شيء (؟)
قالوا: لأجلك
فقال لهم: هذا ما يحق
فقالوا: نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك، فنقتلهم ونخرب دورهم؛ فإنهم شوشوا على الخلق وأثاروا هذه الفتنة على الناس.
فقال لهم: هذا ما يحل.
قالوا: فهذا الذي قد فعلوه معك يحل هذا شيء لا نصبر عليه ولا بد أن نروح إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا
والشيخ ينهاهم ويزجرهم.
فلما أكثروا في القول قال لهم: إما أن يكون الحق لي أو لكم أو لله فإن كان الحق لي فهم في حل منه، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني ولا تستفتوني = فافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه إن شاء كما يشاء.
قالوا: فهذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم؟
قال: هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه.
قالوا: فتكون أنت على الباطل وهم على الحق فإذا كنت تقول إنهم مأجورين فاسمع منهم ووافقهم على قولهم.
فقال لهم: ما الأمر كما تزعمون فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين ففعلوا ذلك باجتهادهم والمجتهد المخطىء له أجر)).
رحم الله الشيخ ما كان أحسن عدله وأروع إنصافه، وإنا لندعو الناس للعدل والإنصاف مع جميع أجناس المخالفين ولا يصدهم عنه أن سماه قليل الفقه دفاعاً عن الباطل وجدالاً عن الظالمين، فإن إنصاف المخالفين والعدل معهم شعبة إيمانية ثقيلة ليس يدركها إلا من عظم فقهه ووفق إلى العمل بعلمه..