إلهام قلم رصاص

إنضم
09/08/2011
المشاركات
162
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
العمر
38
الإقامة
مصر
بسم الله والحمد لله وصلى الله على نبينا محمد المبلغ عن ربه كلام ربه وعلى آل بيته وأصحابه الأطهار الأبرار.
أما بعد: فهذه سلسلة من خواطرقلم رصاص جاد الله به على صاحبه وأجرى مداده بإذنه سبحانه وتعالى والله أسأل أن يتقبله منه وأن يلهمني فيه رشده.


[مرحلة إنشاء الأبكار]
ما فرحت بشيء مما أكتبُ أشدّ فرحًا من إنشاء عدة أسطر من وحي الخواطر ومن إلهام قلم رصاص قد أذِن اللهُ له بالحديث عن مكنون النفس، حينها أكون كأنما خاويتُ الزهراءَ وعققتُ لها بشاة وخاويتُ أخاه وعققتُ له بشاتين.
هو كإحساس رجل جاهلي النخوة، قرشي القبيلة إذا بُشّر بولدٍ وُلد لتِمام إلى أن يكبر هذا الولد فيصير شابًا يافعًا فيشدو من الشعر ما يشدو، فيباهي به هذا الجاهلي في مقامات الناس وأنديتهم.
حين يذحج (يرمى به) هذا المولود الصالح أكون أنا مسقط رأسه لا أحد يشهد معي مخاضه (وجع ولادته)، هو مخاض قلم رصاص وصاحبه، ولا أحد يسمع طلقه ونزغة الشيطان له إلا أنا.
حينما يستهل صارخًا أعاجله بالتكبير في أذنه وبسؤالي الله أن يكون من المخلصين له، وأن لا يكون للشيطان في حظه منه شيء.
كيف لا وهو ابني البكر!
وكل ُّكلام السّفرة في نظر بعضهم أبكار.
وإن من الكلام البكر لما يفتن صاحبه كما إن من الولد لما يفتن أباه.
فحقّ لصاحبه بأن يعق عنه حتى لا يعقه كلامه إذا هرم وكبر.
وحقّ لصاحبه بأن يعوّذه بالله حتى لا يُعان صاحبُه بأن يقول مثله فيما بعد.
وحق له بأن يُؤذن في أذنيه بالتكبير لله حتى يأذن الله لنجاة صاحبه.


[مرحلة الاقتباس]
وحينما أقتبس من غيري وأكثر من ذلك هو نفسه إحساس الرجل الجاهلي إذا بشّر بالأنثى يمتعض إذا أكثرت بعلُه من ذلك ولم تلد له الرجال الأبكار، ويسود وجهه عند قَرَأَته وهو يعلم انتقاصهم له ومع هذا هو كظيم لا يستطيع أن يدفع عن نفسه نظرة الناظرين له ولكلامه.
وأي سعادة يسعد بها المرء حينما يلد قلمه أحرفا ليس فيها لغيره منها شيءٌ، لم يشرك قلمه فيها لأحد سواه، عند ذلك تكون هذه الأحرف خالصة لصاحبها مدى الدهر.
كيف لا! وهي التي كانت سببا في ترحم ودعاء الناس له حينما يطالعونها، فتسلّ دعوة من قارئها لا يستطيع دفعها عن نفسه ولا إيصالها إلا لصاحب كلامها الأول.
وإن القلم ليحزن، وإن الخاطر ليفجع إذا أماته صاحبه بثجِّه (الصبّ بكثرة) مدار غيره.
 
[نشء الكتبة كنشء الأطفال]
حينما يفعل ولدك النشء الصغير فعلاً حسنًا فإنه يحب أن يفعله أمامك أو ينتظر حضورك بعد أوبةٍ؛ لكي يعرضه عليك، فإذا أخذ صنيعه هذا منك مأخذًا حسنًا، فالحكمة تقتضي أن تثني عليه ثناء يدفعه إلى فعل الحسان، وإذا أساء وأخطأ فالحكمة تقتضي أيضا أن لا تسوؤه سوء الإسفاف بل الصواب أن يُقوّم خطؤه بالحلم والقول الحسن.
وإن من الثناء لما يدفع بالنشء الصغير من حضيض الأرض إلى أعالي السماء، وهذا ليس نفاقًا بل مرحلته تقتضي الثناء عليه لدفعه من الحسن إلى الأحسن، ومن الخطأ إلى الصواب.
وهكذا ناشئة الكتبة (الذين يستشفّ منهم حذق هذه الصنعة) في أوائل ما يكتبون يحتاجون إلى بعض الثناء الحسن وبعض التقويم البعيد كل البعد عن الإسفاف لهم، وهذا مجرّب فبحصول الناشيء على مدحة له من كاتب كبير أو متقدم عنه في الكتابة؛ تجعله يواصل العمل الدؤوب في المطالعة والتحصيل لكي يثبت له ولغيره من كبار الكتبة أنه يحسن ما يحسنون بل أحيانا يفوقهم.
وإن من الشحّ والضنانة أن يبيت الرجل شبعان وجاره جائع، فكذلك من الشح أن يعلم متقدمو الكتبة في نشئهم خيرًا، ثم يضنّون بثنائهم عليهم، ويحجرون عليهم كل وصف حسن يدفعهم دفعًا إلى الإمام.
 
[لا تخرج كراريسك الغريرة]
إن النفس قد جعلت في شِرَّة الشباب لها قابلية للإقدام على جِسام الأمور الكبار التي يوقف لها مخلع الأضراس ومسقط الثنايا = جوامعَ عقله ولُمَّةَ شعثِه، ويظل يمجُّ خاطره بلحم نواجذه، ويعرضه على مصفاة حِجاه (عقله) حتى تستوي له القالة والمقالة على مِنَصَّة المذياع فيكشف عنها الحجب وينفض عنها تراب القِدم، فيتهيأ الجلساء والمارَّة عن غير سابقة معاد؛ للإصغاء إليه وتعطل الأسواق والبيوع؛ فترسل الأبصار والأسماع إلى منصة حديثه؛ لتقبل رأسه ولتبأبئه نفوسهم ولتكمل حديثه فوق مصنته. وإذا كتب دار مزبوره في محاريب الناس ومقاماتهم، يتلذذون بمكتوبه كما يتلذذ المحب بالنظر إلى محبوبه.
وإن من طراوة الشباب وإقدامه أن يخرج الغرير (غير المجرب) كراريسه ومداد أقلامه القديمة غير المنقحة على منصة أكابر الناس -وهي عورة مكتملة الأركان- فيلقي أمامَ محفلٍ محاطٍ بلفيف من السادة العلماء والأدباء = مدادَ قلمٍ قديمٍ قد كُتب في غرارة أيام الطلب الأولى على بزَّته القديمة، أو يذيعه في الناس بأي صورة كانت، دون إعادة النظر فيه بالإصلاح وحسن المعارضة والمقابلة والحذف والإبقاء، ولقد كان لأسلافنا في كتبهم إخراجتان: مسودة ومبيضة، أو أكثر كما فعل ابن دريد في جمهرة اللغة. وعرفت ظاهرة غسل مداد الكتب الغريرة وسلخ أسماء مؤلفيها، أو حرقها وذرّ رمادها في الهواء، وهكذا كان صنيع كبار الشعراء فيما قرضوا من شعرهم تمنى أحدهم أن يصفو له من ذلك قدرٌ مصقول ويغسل ما أنكرته قريحته بعد كبر ورسوخ علم واستقرار نفس.
 
[أحب الكتب إلى قلبي وحالي إذا فقدته]
وألصق كتاب إلى نفسي هو كتاب أكثرت من وشمه بحبر مدادي وعشتُ معه في ورق الشباب وبلّته فمضينا من غيسان شبابنا أطيب العمر وأزهره فبعدما كنّا طريرين تَبَبْنا (شِخْنا) معًا في صندوق غرفتنا، يحدّق أحدنا إلى رفيق دربه كما تحدق المرأة إلى زوجها وقد طعنت وزوجها في العمر وأحدهما على فراش الموت ينتظر أحدهما الآخر أن يعدد نعم صاحبه ومحاسنه عليه.
فيعلوني وصاحبي الخبوت والسكينة، فأذكّره بدَرَجان مشيتنا وتأبط أحدنا الآخر يوم أن عتقته من أحد أروقة الكتبية وصار الولاء لي، وأقول له معدّدًا نعمه عليّ: والله لقد نعِمتْ عيني وطاب ماؤها بالنظر إليك طيلة اجتماعنا في ظلال غرفتنا ولقد صرتَ أنت قرةَ العين وقريرها، وأنت تعلم أني ما طال نظري إلى أحد مثلما طال نظري إليك حتى ذهب مني صفاء الكريمتين والله لنعم الرفيق أنت! ولنعم النديم أنت!.
فيقول لي: ما لي أرى من أزيز كلامك ولحن قولك إلا وقد أذنت بالبين.
فأقول له: إذا مليء الكوب فقد فاض وإذا طمّ البئر فلا ماء.
فيجهش كلانا بالبكاء وتنسكب منا العبرات حتى لا يكاد أحدنا يجرض ريقه من جريض (غُصّة) الفراق، فيقول لي مصبرًا إياي: والله لأنت سيدي إن الولاء لمن أعتق، إن الولاء لمن أعتق.
 
[لا تبع كتابا وضعت فيه قلمك]
وإذا ألجأتك الضرورة لبيع بعض كتبك فنحّ من قائمتك كتابًا وضعت فيه قلمك وسطرتَ فيه سوانحك واعترضت فيه على صاحبه واستدركت فيه على مؤلفه، أو كتبت في طرته اسمك أو أرّخت فيه مبتدأ قرائتك له، ووقت انتهائك منه، أو أكثرت فيه من البلاغات والتصحيحات والمقابلات على أصل أحد الأشياخ الثقات، ولا تبع كتابا شُرح لك، أو كنت شارحه أنت، أو كان رفيقك في سفر، أو ضجيعك على أريكة، أو أهداه إليك أحد الأعلام الكبار ووقع لك عليه بخطه = حتى لا تولول عليه وتقرع سنَّ نادم إليه، وتهيم في كل وادٍ لكي تحصل عليه إلى أن تلبس الوبر والصوف ويقذفك الأطفال بالحجارة واللوف ويدعي عدم معرفتهم بك ذووك ويضحك عليك كتائب الكتبية الأشرار ومناسرهم ويجعلونك سمر حديثهم وفاكهة أنسهم.
 
[أبيت اللعن يا بحرُ]
يا لك من ملك متوّج -أبيت اللعن- يا بحر، وهل لك نظير على هذه البسيطة ؟!
يا بحر إن الناس يتوجون الحيوانات والطيور فيجعلون لها ملكًا وقد غفلت أعينهم عنك يا بحر.
ماذا أقول لك -أبيت اللعن- يا بحر، لقد توّجك قلبي وسوّدك عليهم وحلّاك بأحلى الحلى.
يا بحر إني أنظر إليك فأستعبر الشجن والحنين والأشواق.
يا بحر إن لكل شيء قلبا، انظر إلى اضطراب نبض قلبك إنه يتقلب مثل قلوبنا لكنّك فُقْتَ الأنام فلا ينقص إيمانُك بربك شيئا، تسبحه بالغدو والآصال، بالليل والنهار، تطيع أمره وتغضب لغضبه.
الغرو كله في أمرك يا بحر -أبيت اللعن- إنك تجمع بين الأضداد إنك لمجلبة للأحزان والأفراح.
إن الناس ينظرون إليك وكل منهم يحمل من لجَّتك على قدر معرفتهم بك، فلا يُنزلكَ قدرك إلا سائرٌ في الأرض، ناظرٌ عقبةَ المتقين.
فهذا ينظر إليك فيتذكر أيام الصبا والملاعب الأولى، وهذا ينظر إليك فتذرف مآقي عينيه وتحمر أهدابها لذكريات حبيب جمعته مرآة قلبك النابض بالألفة والسعادة.
وآخر ينظر إليك فيتفكر ويعتبر في مخلوق من مخلوقات الله العظام فيزدد إيمانه بربه الذي لا ينقصُ في قلبِك الزاخرِ منه شيءٌ.
-أبيت اللعن- يا بحرُ جعلك الله مقبرةً للطغاة والظلمة فأغرقت بإذنه تعالى قوم نوح، وفرعون الذي طغى، جعلتَ الكافرَ بربك يتضرع إليه إذا ظنّكَ مغرقَه، فإذا اضطربت نبضات قلبك دعى ربه مخلصا إليه؛ تاركًا كلَّ ما كان يعبد في بره وكل متعلق بقلبه فيطلب منه النجاة منك يا ملك الأفلاك.
الغرو كله فيك يا بحر، أبيت اللعن يا بحر.
انظر إلى تراب شاطئك يا بحر، لا يساوي عند من يقف عليه شيئا، لكنّه يساوي عند غريقك ملء الأرض ذهبًا؛ ليفتدي به نفسه. لكنّه يساوي مالاً لبدًا عند مهاجر متعلق بشعار فلكه يترقب اللحظة التي ترسو فيه سفينته مرسى شاطئك؛ ليرجع إلى أهله وملاعب صباه، قل لي بربك يا بحرُ -أبيت اللعن- ما هو السر الذي أودعك ربك كل هذه الحسان؟
ما هذا الكبرياء الذي يظهر على مرآة قلبك النابض! إنهم لا يستطيعون أن ينظروا إليك إلا وهم ناكسو رؤوسهم إليك، لا يرفع أحد رأسه في حضرتك، أأنت سماؤهم أم هم أرضك؟ !
أبيت اللعن يا بحر، الغرو كله في أرض بحرك النابض المضطرب.
لا أدري أي شيء أفضل؟ ! السماء التي رفعها الله بغير عمد، أم مرآة وجهك الذي لا يأتي إلا بالخير للمؤمنين، البادي جبهة ضيغم للمعتدين، المكفهر على الكافرين؛ أنك لمطأطئ رؤوسهم إليكَ إلا إذا غضبتَ وزمجرتَ وجهك لهم، حينئذ بأمرك ترفع وجوهم وأيديهم إلى خالقهم بالدعاء الصالح.
ليت شعري من أفضّل السماء أم أنت يا بحر الخير؟
لا لا لن أفضّل على هذه البسيطة أحدًا سواكَ يا بحر فأنت المتوّج فلتكن ملك البسيطة، فلتكن ملك البسيطة، أبيت اللعن يا بحر، أبيت اللعن يا بحر.
 
[الشباب والهرم]
قال لي القلم: إني أريد أن أكتب؟ قلت: عن أي شيء تريد أن تكتب؟
قال: عن الشباب والهرم، عن الحداثة والكبر، فحدّثني عنهما بعدما بترتَ عقدك الثالث من عمرك.
قلت له: ائتِ بالصحيفة وإني مُمْليكَ فاكتبْ وأحسن الإملاء. قال: أفعلُ إن قدر الله.
قلت: أما الشباب فهو رأس ممتلئة بالآمال والأحلام، وقلبٌ ينبض فيه الصفاء فتجري فيه الدماء الحمراء فلا يعكر نعمانَها (حمارها) سؤرُ بغضاء ولا آجِنَةُ حسداء.
هو الذي يستنطق بقلمه وحسّه ما تراه عينه وما لا تراه (خياله).
يعيش في رأسه القرون ويبيت عنده العبر والدهور فيحادث الأعلام، ويشافه الآنام وقد بليتْ عظامهم وبقيت آثارهم، لكنه يستحضر منهم ما يريد ويجالسهم فيستفيد.
فمن كان كذلك فهو الشاب اليافع ولو أَمْأَى عمرَه ولو جاءه النذير واكتسى كساء المقت ولو ذرأت مجاليه واحدودب ظهره وتأبط يدَه غيرُه ولو جعل العصا تُكأةً له.
أما الشائخ يا خليلي: هو الذي لا يعرف غده من أمسه، هو الذي لا يعرف الصفاء فكلامُه مكدَّر، ولسانُه محجَّر، وقلبُه منكَّت.
الشائخ: هو الذي لا يروي شجرةً أظلته. وشجرتُه ذاتُه، وظلُّه عمرُه، ورويُه عقلُه.
الشائخ: هو الذي لا يجالس ويشافه قرونًا وحقبًا قد مضت وانصهرت.
ولو لمع سواد شعره ولو كان أسيل الخدين، أحمر الديباجة مُعتدِل القَناةِ، سَوِيّ العصا، يتأبط غيرَه.
 
[نحِّ قلمَك قلمَ غيرِك]
لا تكثر بثجِّ (الصب الكثير) مدادِ غيرك فيما تكتب، فحبرك أولى وأغلى من حبره.
لا تكثر من النقل إذا نقلتَ، وحاول تعلق عليه بكلام لك، وتكلم حتى نعرف من أنت فالصواب تُحمد عليه والخطأ تُقوّم فيه.
إذا نقلتَ فاكتبْ الجزء والصفحة مع الناشر.
ولو نقلت بالمعنى قلْ بتصرف أو بتصريف مني، ولو نقلت نقلا حرفيا ضعْ علامة التنصيص «».
درِّبْ نفسَك على الإنشاء والكتابة فيما أنت مشغولٌ به.
اجعلْ معك مفكّرة صغيرة أو عدة أوراق وقلمًا واكتب ما يعنّ لك من خواطر في طريقك، واستيقظ لو كنت نائما واكتب ما خطر لك لا تدري متى تأتي الإغارة على الجهل.
فبعض الناس يريدون منا أن لا نستخدم من المعجم العربي إلا مادة (قول) قال يقولون، حتى الزعم إياك أن تستعمله فيما تكتب إلا إذا كان المقصود به القول كما في لغة بعض العرب، إياك أن تتيمم به التشكيك أو التخطئة.
أما أن تسند القول إلا تاء الفاعل (قلتُ) فقولك مطلولٌ عليك. غير مقبول منك !
تريدون أن تقتلوا فينا القول بعلم وعدل وإنصاف
اطمئنوا سوف نستخدم كل مواد المعجم العربي وتقاليبها بتاء الفاعلية وغيرها، ما أتى علينا تباشير صبح بعد سبات بليل.
 
[حالي مع الكتب الجديدة في مكتبتي]
ومن لوازمي قبل أن يأتيني النوم أصفف مجموعة كبيرة من الكتب الحديثة والتي لم أتصفحها بعد على أريكة نومي، فلا يزال تناول أطراف الحديث بيننا حتى يحضرنا السبات والوسن معا فيعانق كلانا الآخر ونذهب في نومة قليلة لأن كتابي لا ينام إلا غِرارًا، وفي حضوره لا أمضمض عيني بنوم إلا لماما، وهو مع ذلك لا يفارقني حلم نومي فلا يزال يعارضني وأعارضه ويجادلني وأجادله حتى أؤب من موتتي الصغرى وأنا أحمله على يدي كما تحمل الأم طفلها الرضيع التي لا ترى في الدنيا أحسن منه منظرًا ولا أبهى منه صورةً، إلى أن أنزله من يدي منزلاً محفوفًا بأبهة الملك والأمراء؛ لأسطر ما دار بيننا من تناول الأحاديث والقصص وأنا أمين كل الإمانة في نسبة كلامي إلى كلامه فأعزو في كراريسي ما له عما هو لي، صريح مع قلمي إذا كانت غلبة سجال الحديث له فأنصفه في ذلك كل الإنصاف إلى أن تأتيه نوبة غلبتي له فأذكره بها وأقول له: هذه بتلك، فيضحك كلانا قائلين قالة أبي سفيان بن حرب: الحرب سجال، يوم لك ويوم عليك.
 
[الحمار المنفوج الذي لا يكف عن النهيق]
«لقد أغرب حمارك وأشرق أتانك». هو مثل لي.
ومن الناس من تحتاج إلى أن تقول له: لقد أغرب حمارك، وأشرق أتانك حتى يعضّ أضراسه ويشحذ عقله وينصب ظهره؛ ليوقظ راكبه (شيطانه) والحمار الذي بداخلة إزاره، ويلبسه إكافه وسرجه، وهو مع حماره المغرّب وأتانه المشرّق لا يفرغ من نهقٍ، ألبتة؛ لأنه بصحبة شيطان وحماره إلى أن يشهد أذانَ صلاةٍ قد حضر وقتها، فيكف عن النهق قليلا، وحين يفرغ المؤذن من أذانه يعود مرة أخرى إلى نهقه وهكذا دواليك، فيألّب الساهرة كلها عليك ويذيع في الناس اعوجاج فكرك وطراوة نضجك حتى تصير أنت عمله الدارب. فإن قلت له: بلَّ ريقك، اخفض صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير فلا يلتفت ويعلي أجراس النهيق، وكأنّه في مسابقة: (أفضل ناهق لا يفرغ من نهقه)! فلا تقع عينه إلا على أقذار الناس وما غفلت أعينهم عنه ولا يستنشق وحماره إلا دَفَر (نتن) الناس، ولو نظر إلى خروق ثوبه ورفأها وأحسن التئامها لكان خيرا له وأصلح، ولكنَّ الحمارَ المغرّب والأتان المشرّق لا يكف عن النهيق إذا حضره شيطانه.
 
[بغال الكلام وأبقاره]

إنَّ النقد لثقيلٌ جدا على نفس المنقود فلا تجعل إمامَ كلامك ذواتُ الأربعة من بغال الكلام وأبقار الألفاظ، بل قدم قبله للإمامة ألطف الألفاظ واكْسُها أحلى العبارات حتى يسكن جرح النقد على صاحبه، ويلتئم بلا ألم نفس يؤذيك، أو نزيف إحن يقليك.
 
[المشيوخاء العالية]
ومن الناس من تمنعه كبرياء نفسه، ومَشْيوخاء ذاته وعظمة إزاره، وزهو قلبه من أن يثني على الحسن الذي رآه، وتحجره جوامع ذاته من أن يشكر صاحبه ذا القول غير الذائع، الذي إذا قال فلن يشارك، وإذا أبدع فلن يُبدَّع (أي لن يقال له أبدعتَ) ما أعظم أنفه! يذكرني بصعاليك الجاهلية الذين إذا قالوا فلن يسمع لهم، وإذا خطبوا الأبكار فلن يزوجوا، وينظر صاحبنا هذا ذو المشيوخاء العالية إلى كلام غيره ممن غُمر ذكرُه كالذبابة يطلق عليها رياحَ فمِه حتى تنصرف من وجهه الحسن الذي لا يرى حسنًا إلّاه.
 
[قهر الرجال وكيد النساء]

أما قهر الرجال فيبحث في الأرض ليُواريك
أما كيد النساء فتبحث في الأرض لتَسبيك
أما قهر الرجال فيصنع لك النامرة
أما كيد النساء فيصنع لك الفاقرة
ماذا أقول في حضرة بني الأصفر وأبي ساسان؟ !
هل سيحضرني النخيب؟
هل سيعلوني النذير؟
كلاهما من عوائق الطريق وما رأيت أحدهما سالكا فجّا إلا سلكت فجًّا آخر فحينما ترى قاهرا غير الله فاعلم أنك قد رأيت الشيطان الرجيم، وحينما ترى كيد النساء فاعلم أنك قد رأيت الأثم العظيم.
يا ربي أين الفرار منهما، فقد جعلتَ للرجال قهرًا وجعلتَ القاهر اسمًا لك فقلت (وهو القاهر فوق عباده) وجعلت للنساء كيدا ولم تجعله اسمًا لك، بل جعلته في مقابلة كيد الكافرين ! فقلتَ (إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا).
أما أنت يا قهر الرجال فقد استعاذ منك رسولنا الحبيب فقال: اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين ومن قهر الرجال.
أما أنتِ يا كيد النساء فقد طلب يوسف عليه السلام من الله أن تنصرف عنه.
سبحان من سوّى بينهما في الأوزان فــ (قهر) يقابلها (كيد)، و(رجال)، يقابلها (نساء) !! أفي ذلك دلالة على المساواة بينهم في الدنيا، لا لا قد أتت النصوص بتفضيل الرجال على النساء.
أسوّى بينهما في الأوزان لدلالة الاقتران والالتحام؟ فتجمع نفسٌ القهر والكيد معا،
وأيهما قهر وكاد الآخر، هل كيدها أم قهره؟
ما رأيت نفسي واقفا أمام جبت قهر الرجال ولا طاغوت كيد النساء إلا عاجزا فلا أستطيع الخلاص منهما إلا بسؤالي الله ذلك.

[الحل والعلاج]
أسلم علاج نعالج به قهر الرجال وكيد النساء أن يتزوج كلاهما الآخر وندعو الله جميعا أن تكون (كيد النساء): الممصل، والمعضل، والمقلات وأن تتمخض الأعشى والأعمش والسقط والمسخ، والأجذم والأبرص وغير التمام. وأن يكون (قهر الرجال): العنين، والآدر، والمجبوب.
وأن يكون الولد -إن كان- السقيط واللقيط، والأريط (الأحمق).
حينها نكون قد أحللنا السلام على العالم بأسره ونعيش سالمين مسالمين ونكون قد قضينا على قهر الرجال وكيد النساء وذريتهم أجمعين، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
------
النامرة: مصيدة يربط فيها شاة، للذئب.
الفاقرة: الداهية.
بنو الأصفر: ملوك الروم أو الروم.
أبو ساسان: كنية كسرى.
النخيب هو الهالك الفؤاد جبنا، أو الذي لا فؤاده له.
الممصل: التي تلقي ولدها وهو مضغة. يقال: أمصلت.
المعضل: التي يعسر عليها خروج ولدها حتى تموت.
المقلات (التي لا يعيش لها ولد).
 
[كتابة الخواطر]
اكتبْ خواطرك
اكتبْ تاريخك
أرّخ لأفكارك
قلت عنه: «الخاطر هو تاريخك، ووعيك ونظرتك في الحياة التي تعيشها، الخاطر هو عقلك وماضيك وتراثك؛ فأكرمْ نزله وأفسحْ له وَسائدَ فكرِك، واعطِه بعض يومك، فهذا هو أنت، خاطرك هو نفسك والكتاب خاطر غيرك».

[إعمال الخاطر أولى من إهماله]

وددت لو أني أطلقت لنفسي العنان؛ لأكتب ما يمليه عليَّ خاطري بعد إعمال فكر وتصفية ذهن، فأتركه يعمل حِجاه فيما بدى له فيبحث عن الصورة والظاهرة، ثم أسجد أنا وقلمي الرصاص لله رب العالمين سائلين إياه حسنَ رسمِ حروفِها، ثم أنيب قلمي بمحو ما أراد، وتعديل ونقش ما أراد، فكثيرا ما تعنُّ لي الخاطرة وأنا أقرأ بعض الأسفار غزيرة الملح، متشعبة الأطراف، فأترك الكتاب ووجهه إلى السماء، باسطًا دفتيه كداعٍ يرجو إجابة سؤله؛ لاستميحه عذرًا قليلا فأسطو على خاطري فيما أبداه لي من إضاءات على كتاب مؤلفه، إلى أن يملّني الكتاب ويسأم صحبتي، ولسان حاله يقول لي: ضعْ القلم، وأكمل قراءتي، متى تنتهي من القراءة؟ ما هذا وقت قلمك دعْهُ إلى أن تفرغ من القراءة، ولسان حال قلمي يقول لي: إن خاطرك كطارق ليل، خفيف الظل، سريع الانصراف لا يأخذ حق القِرى (ثلاثة أيام) بل لا تأمن عليه أن يجلس معك ساعة من عد زماننا، فأحار وأبلس وحالي كحال مصلح بين ضرتين أو بين زوجين (إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما) إلى أن أحكم بأن أبيت عند كتابي ليلة وعند قلمي ليلة أخرى، أو عند هذا سبعا إذا كان بكرًا، والآخر ثلاثا إذا كان ثيبًا، وبهذا أكون قوّمتُ ظهري يوم القيامة فلا يأتي أعوجَ.


 
[سأعلمك مما علمني ربي]
إن من أساليب الصد عن سبيل الله في موطن المُشارَّة والمَحْك (اللجاجة) أن يتمثل المرء قول يوسف عليه السلام للفتيَيْنِ في السجن (ذلكما مما علمني ربي) فيقول للمجادل له: (سأعلمك مما علمني ربي)، أو يتمثل قول موسى عليه السلام للخضر (هل أتبعك على أن تعلمنِ مما علمت رشدا) فيقول للمماحك له: (سوف أعلمك مما علمت رشدا) وكأنه عُلِّم من لدن الله علما، ولو تأملتَ هاتينِ الآيتين وصنوها لوجدتها من مقالات الأنبياء، وليس كل ما كان في كتاب الله يصح أن تتمثل به لنفسك دعاء أو اقتباسا، فيصح أن تقول قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عند بناء البيت العتيق (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) فتقوله عند كل عمل صالح بعد الفراغ منه ترجو أن يتقبله الله منك، لكن لا يصح أن تدعو بدعاء سليمان عليه السلام لربه (هبْ لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب)، أو تدعو الله بأن يعلمك منطق الطير وأن تؤتى من كل شيء. فهذا من التعدي في الدعاء وقد نهينا عنه. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا. ثم إن هذه الكلمة فيها تزكية للنفس، فمن في هذه الآية تبعيضية، أي سوف أعلمك بعض ما علَّمني ربي، وأدخر وأترك الكثير، وفيها تزكية للعلم بالرَّشَد.
فتجد صاحبنا البَجْبَاج النَّفَّاج يستخدم هذه الكلمة (الجملة المفيدة في لسان العرب) مع مماحكه وكأنه يوسف عليه السلام أو موسى مع الخضر، ومثل هذا ينفر منه الناس ولا يقبلونه، فلا تحرّك شيطان خصمك بكلام ما أريد به وجه الله. فما أجمل أن يقول المعلم لتلميذه: اجلس نتذاكر العلوم، أو نتدارس الفنون!. وصيغة (نتفاعل) هنا للمشاركة أي ليشارك كلانا الآخر العلم والمعرفة.
فلا تستخدم من الكلام دوابه مما يمشي على أربع من بغال الألفاظ، وأبقار المعاني وثيرانها، فهذا يقبح جدا إذا بلغ الجدال منزلة اللَّدَد وهي أشد الخصام. ولا تحرص على أن ترى خصيمك مصروعًا جزرًا للسباع. ولا يكون هدفك أن تراه حَصِرًا، ألكنَ، لا ينبس ببنت شَفَة، بل ارجُ له الخير وادعُ له بالصلاح. ليكن هدفك هداية الناس لا غوايتهم.
هذا وصلى الله على نبينا محمد خليل الله وأحب من اصطفاه، وعلى آله وصحبه وسلم.
 
[سكينة المظلوم: حسبنا الله ونعم الوكيل]
ومن غرائب ولطائف كلمة الحسبلة (حسبنا الله ونعم الوكيل) أن المظلوم إذا قرن ظالمه مع ظلمه البُهْت والفِرى لا يكاد المظلوم يضبط نفسه إذا رجم ظالمه في وجهه بالحسبلة ولا يستطيع أن يمنع مجرى عيونه من أنهار الدموع الحارَّة التي تنزل عليه كالسكينة وكأنَّ الله أنزل معها ملائكته؛ لتبرد هذه المياه الحارَّة وتبشر صاحبها بنصر الله له إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة.
وإن ضبط نفسه ومنع مجرى أنهار دموعه أمام وجه ظالمه وحبسها، فلا يستطيع أن يمنعها في ساعة خلاء بينه وبين ربه، فإذا تذكر ظالمه أغرق أرضه ومحرابه بدموع السكينة الحارَّة، ولأشفقت عليه جدران غرفته، وهذه الدموع دموع مغفرة لصاحبها وبشرى له يوم القيامة، وحسرة على من تسبَّب بها في الدنيا والآخرة.
أما حال الظالم المتكبر في الأرض إذا سمع حسبلة المظلوم، فهو دائر بين أمرين:
الأول: أنه يتمنى لو أنه كان أصمَّ لا يسمع شيئا، أو لو حال بينه وبين سماعها حائل منيع لا يظهر صداها، فإن لها وقعًا شديدًا على الأذن، ولو أخفى الظالم وقع الكلمة عليه، وكتم صداها أمام مظلومه، فلا يزال صداها يقلق يقظته، ويفزع منامه.
الثانية: أنه إذا سمعها أوقعت فيه حالة من مس الجنون، فيزداد في ظلمه وطغيانه، وتمنى أن لو كان صاحبها أبكمَ لا ينبسُ (يتكلم) ببنت شَفَة (كلمة).
ولقد رأيت من الصالحين من إذا قيل له هذه الكلمة العظيمة لا يكاد تحمله قدمه على الأرض، فلا يزال يرضِّي قائلها حتى يرضى.
فأبشروا يا عباد الله بنصر الله لكم، وأكثروا من الحسبلة في وجوه الظالمين؛ فإنها سكينة لكم، وجهنم هذه الحياة الدنيا لهم فاقذفوهم فيها، وارغبوا فيما عند الله وقولوا: إنا إلى الله راغبون.
 
عودة
أعلى