عبدالله بن بلقاسم
New member
- إنضم
- 26/04/2003
- المشاركات
- 112
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فقد بحثت ليلتي هذه مسألةَ الإمساك عن الشَّعَرِ والبشر والأظافر لأهل بيت المضحي، وكتبت فيها ورقات أحببت أن يكون ملتقى أحبائنا من طلبة العلم في التفسير من أول من يراها ، وسامحوني لكونها بعيدة عن موضوع الملتقى
وقد سميتها : إعلان الخبر
في المقصود بالمضحي المتوجه إليه خطاب النهي عن أخذ الشعر والبشر.
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حكم أخذ شيء من الشعر والبشر والأظافر لمن أراد أن يضحي على ثلاثة أقوال:
القول الأول : التحريم.
وبه قال سعيد بن المسيب وربيعة وأحمد وإسحاق وداود وبعض أصحاب الشافعي ورواية لمالك واختيار ابن القيم ، وسماحة الشيخ ابن باز رحمه الله والشيخ العثيمين ، والألباني.
واستدل أصحاب هذا القول بالأدلة التالية:
1- مارواه مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة رضي الله عنها: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا أهل هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره).
والأمر يقتضي الوجوب ولا صارف له عن الوجوب . وفي رواية:(فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي). والنهي يقتضي التحريم ولا صارف له عن تحريم الأخذ.
القول الثاني :الكراهة .
وبه قال الشافعي وأصحابه ورواية في مذهب مالك.
واستدلوا على صرف ظاهر الحديث عن التحريم إلىالكراهية يحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين :(لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث هديه إلى الكعبة فما يحرم عليه مما حل للرجل من أهله حتى يرجع الناس).
القول الثالث: الجواز .
الجواز وبه قال أبو حنيفة ورواية في مذهب مالك .
واستدلوا بالقياس على عدم تحريم اللباس والوطء عليه . وأجابوا عن الحديث بأنه موقوف.
والراجح والعلم عند الله تعالى هو القول الأول لظاهر الحديث .
وقد أجاب جماعة من العلماء كالبهوتي، وابن قدامة عن استدلال الشافعية ومن وافقهم بحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين :(لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث هديه إلى الكعبة فما يحرم عليه مما حل للرجل من أهله حتى يرجع الناس) بثلاثة أجوبة:
الجواب الأول: أن حديث عائشة رضي الله عنها في إرسال الهدي لا في الأضحية .
الجواب الثاني: حديث عائشة عام وحديث أم سلمة خاص ، فيجب تقديمه .
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:(حديثهم عام وهذا خاص يجب تقديمه، وتنزيل العام على ما عدا ما تناوله الحديث الخاص. ولأنه يجب حمل حديثهم على غير محل النزاع لوجوه منها :
- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليفعل ما نهي عنه، و إن كان مكروها؛ قال الله تعالى إخباراً عن شعيب:(وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه).
- ولأن أقل أحوال النهي أن يكون مكروها، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليفعله، فيتعين حمل ما فعله في حديث عائشة على غيره.
- ولأن عائشة تعلم ظاهراً ما يباشرها به من المباشرة، أوما يفعله دائماً كاللباس والطيب ، فأما ما يفعله نادراً كقص الشعر، وقلم الأظفار مما لا يفعله في الأيام إلا مرة فالظاهر أنها لم ترده بخبرها بخبرها وإن احتمل إرادتها إياه فهو احتمال بعيد وما كان هكذا فاحتمال تخصيصه قريب فيكفي فيه أدنى دليل وخبرنا دليل فكان أولى بالتخصيص.
قال ابن القيم رحمه الله: (وأما حديث عائشة فهو إنما يدل على أن من بعث بهديه وأقام في أهله فإنه يقيم حلالاً ولا يكون محرماً بإرسال الهدي رداً على من قال من السلف يكون بذلك محرماً).
الجواب الثالث: عند الترجيح يقدم حديث أم سلمة لأنه من قوله صلى الله عليه وسلم ، وحديث عائشة من فعله وقوله مقدم على فعله لاحتمال الخصوصية.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: خبر أم سلمة صريح في النهي فلا يجوز تعطيله أيضاً فأم سلمة تخبر عن قوله وشرعه لأمته فيجب امتثاله ، وعائشة تخبر عن نفي مستند إلى رؤيتها وهي إنما رأت أنه لا يصير بذلك محرماً يحرم عليه ما يحرم على المحرم ولم تخبر عن قوله إنه لا يحرم على أحدكم بذلك شيء وهذا لا يعارض صريح لفظه).
وأما الجواب عن أدلة القول الثالث:
فأما استدلالهم بالقياس ففاسد الاعتبار لكونه مقابل النص.
قال ابن القيم رحمه الله :(وأما رد الحديث بالقياس فلو لم يكن فيه إلا أنه قياس فاسد مصادم للنص لكفى ذلك في رد القياس ومعلوم أن رد القياس بصريح السنة أولى من رد السنة بالقياس وبالله التوفيق. كيف وأن تحريم النساء والطيب واللباس أمر يختص بالإحرام لا يتعلق بالضحية وأما تقليم الظفر وأخذ الشعر فإنه من تمام التعبد بالأضحية ).
وأماقولهم بأنه حديث أم سلمة موقوف ، فقد أجيب بأن الحديث ثبت رفعه.
قال ابن القيم رحمه الله في الحاشية :(وقد اختلف الناس في هذا الحديث وفي حكمه فقالت طائفة لا يصح رفعه وإنما هو موقوف ، قال الدارقطني في (كتاب العلل): ووقفه عبد الله بن عامر الأسلمي ويحيى القطان وأبو ضمرة عن عبدالرحمن بن حميد عن سعيد . ووقفه عقيل على سعيد قوله. ووقفه يزيد بن عبد الله بن قسيط عن سعيد عن أم سلمة قولها. ووقفه ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبدالرحمن عن أبي سلمة عن أم سلمة قولها. ووقفه عبدالرحمن بن حرملة وقتادة وصالح بن حسان عن سعيد قوله. والمحفوظ عن مالك موقوف ، قال الدارقطني:( والصحيح عندي قول من وقفه).
ونازعه في ذلك آخرون فصححوا رفعه منهم مسلم بن الحجاج ورواه في صحيحه مرفوعاً ومنهم أبو عيسى الترمذي قال : هذا حديث حسن صحيح. ومنهم ابن حبان خرجه في صحيحه ومنهم أبو بكر البيهقي قال هذا حديث قد ثبت مرفوعاً من أوجه لا يكون مثلها غلطا. وأودعه مسلم في كتابه ، وصححه غير هؤلاء وقد رفعه سفيان بن عيينة عن عبدالرحمن بن حميد عن سعيد عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ورفعه شعبة عن مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس شعبة وسفيان يدون هؤلاء الذين وقفوه ولا مثل هذا اللفظ من ألفاظ الصحابة بل هو المعتاد من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المباركفوري في التحفة :(لا شك في أن بعض الرواة روى حديث أم سلمة موقوفا لكن أكثرهم رووه بأسانيد صحيحة مرفوعاً.
- فمنها ما رواه الطحاوي في شرح الاثار من طريق شعبة عن مالك بن أنس عن عمرو بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من رأى منكم هلال ذي الحجة الحديث..
- ومنها ما رواه الطحاوي أيضا من طريق الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن عمرو بن مسلم أنه قال أخبرني سعيد بن المسيب أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله.
- ومنها ما رواه مسلم في صحيحه من طريق سفيان عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف سمع سعيد بن المسيب يحدث عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا دخلت العشر الحديث قيل لسفيان قال بعضهم لا يرفعه فقال لكني أرفعه.
- ومنها ما رواه مسلم من طريق محمد بن عمرو الليثي عن عمر بن مسلم عن عمار بن أكيمة الليثي قال سمعت سعيد بن المسيب يقول سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له ... الحديث.
- وقد أخرج مسلم أيضا في صحيحه من الطريقين الذين ذكرناهما عن شرح الاثار.
وهذه الطرق المرفوعة كلها صحيحة فكيف يصح القول بأن حديث أم سلمة الموقوف هو أصل الحديث بل الظاهر أن أصل الحديث هو المرفوع وقد أفتت أم سلمة على وفق حديثها المرفوع فروى بعضهم عنها موقوفا عليها من قولها.
قلت: ومن الجواب قول من قال بتقديم الرفع على الوقف لأنه زيادة من ثقة ، حتى إن كان الواقفون أكثر عدد وأرجح من جهة الضبط وا لإمامة، وإليه يصير سماحة الإمام المحدث ا لشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله .
المسألة الثانية:
إذا ثبت القول بالتحريم فهل يعم الرجل المضحي وأهل بيته من النساء والصبيان أم هو خاص بالمضحي؟
وقبل تحرير المسألة لابد من بيان أن الفقهاء رحمهم الله تعالى قد يعنون بقولهم (يضحى عنه) أحياناً التفريق بين الأصيل والوكيل ، وأحيانا أخرى التفريق بين صاحب الأضحية ومن أشرك في ثوابها من أهله ، وكلا الأمرين محتمل عند مسألتنا.
فإن كان المقصود الأول فلا يصلح ذكر من قال به في جملة القائلين بإدخال أهل الرجل في النهي ، وإن كان الثاني ساغ ذلك. والأشبه أنهم يقصدون الأول ، لعدة قرائن:
1- لم أجد نصا صريحا في كلامهم يدل على دخول الأهل والأولاد في ذلك مع ما في المتون الفقهية من البسط، وكون المسألة من رؤوس المسائل،فعبارات الحنابلة (وهم من يقولون بالتحريم في أصل المسألة) تقتصر على قول :أو يضحى عنه.
2- مما يدل على أنهم يقصدون التفريق بين الوكيل والأصيل قول صاحب حاشية الروض، وإما إذا ضحى عن غيره فلا يحرم عليه حلق ونحوه ولا يكره.
3- أن ممن يضحى عنه الصبيان والصغار وهم غير مكلفين ولم يتم استثناؤهم في عبارات الفقهاء.
4- أن للمسألة نظائر كزكاة الفطر، وليس من عادة الفقهاء فيها أن يقولوا عند الكلام عن كل مسألة من مسائل زكاة الفطر إذا أراد أن يخرج الزكاة عنه وعن أهل بيته فليفعل كذا ، ويكتفون بذكر ذلك مرة واحدة عند بيان أصل الوجوب.
هذه التقدمة في حال ثبوتها تمنع الخلاف رأسا ولكن على فرض أن مراد الفقهاء بعبارة (يضحى عنه) أهل البيت من النساء والأولاد فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين :
القول الأول: أن النهي عام للرجل وأهل بيته، ويصير هذا القول على الفرض السابق للحنابلة رحمهم الله وهو مشهور في كتب متأخريهم كالروض والكشاف والمبدع والدليل والمنار.
واستدل بعض من ينصر هذا القول بظاهر حديث أم سلمة وأنهم يدخلون في عموم مريدي التضحية.
القول الثاني: أن النهي خاص بالمضحي المباشر للتضحية أو الأصيل الذي وكل غيره دون أهل بيته، وبه قال الأئمة سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله ، واللجنة الدائمة.
واستدلوا بالبراءة الأصلية ، وعدم الدليل ، فالحديث ذكر مريد التضحية دون غيره.
ويمكن أن يجاب على استدلال الأولين بأن :
1- أن أحاديث الأضحية جاء فيها أن النبي صلى الله عليه ضحى عن نفسه وأهل بيته ، وأنه ضحى بكبشين أقرنين أملحين ، وليس في شيء منها نسبة الأضحية إليهم ، فدل الإخبار عن فعله أن المراد بالمضحي هو المباشر للأضحية. بينما تنسب الأفعال الأخرى إليهم كقولهم أهلت عائشة بالحج ، طافت ، سعت ونحو ذلك. وأنه لو كان المراد أهل بيته لاحتاج إلى بيان ، وتأخيره عن وقت الحاجة لا يجوز.
2- أن النبي صلىالله عليه وسلم ضحى عمن لم يضح من أمته ، فإذا قلنا بأن من ضُحي عنه يدخل في العموم دخلت الأمة جميعا في الحكم وصار التحريم شاملا لها ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عموم الأمة بذلك لا في عصره ولا بعده.
3- أن ذلك يؤدي إلى التسوية بين المضحي والمضحى عنه، وإمكان نسبة الفعل إلى كل منهما معا، وهذا لايصح لغةً ولا شرعاً ، فقولنا : حج زيد عن عمرو ، يختلف عن قولنا: حج عمرو .
وقولهم بأن المضحى عنه (وإن اشترك في الأجر مع المضحي) أنه مضح في ظاهر اللفظ لا يستقيم مع قواعد اللغة، فإسناد الفعل ينصرف إلى الفاعل المباشر.
وأما من جهة الشرع ، فإنه يقتضي المماثلة بين المباشر وغير المباشر. فلو أتلف المباشر الأضحية بالتفريط ، أو التعدي فهل يقال إنهم مشاركون في الإثم معه ؟!
وإذا طردنا هذا الأصل وأن من يضحى عنه على سبيل إشراكه في الأجر هو مضح أصيل وأن عليه تكاليف الأصيل صار المحجوج عنه كالمعضوب مثلا ملزما بالكف عن محظورات الأحرام من حين إحرام النائب ولا قائل به.
إذا ثبت أن دخول أهل البيت في معنى المضحين لا يكون إلا على سبيل المجاز وألفاظ الشرع يراد بها الحقيقة لا المجاز علمنا أن تكليفهم بالإمساك عن شعرهم وبشرهم في العشر يحتاج إلى دليل صريح يرفع البراءة الأصلية ولا سبيل إليه والله تعالى أعلم.
كتبه : عبدالله بن بلقاسم بن عبدالله ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من ذي القعدة عام أربع وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فقد بحثت ليلتي هذه مسألةَ الإمساك عن الشَّعَرِ والبشر والأظافر لأهل بيت المضحي، وكتبت فيها ورقات أحببت أن يكون ملتقى أحبائنا من طلبة العلم في التفسير من أول من يراها ، وسامحوني لكونها بعيدة عن موضوع الملتقى
وقد سميتها : إعلان الخبر
في المقصود بالمضحي المتوجه إليه خطاب النهي عن أخذ الشعر والبشر.
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حكم أخذ شيء من الشعر والبشر والأظافر لمن أراد أن يضحي على ثلاثة أقوال:
القول الأول : التحريم.
وبه قال سعيد بن المسيب وربيعة وأحمد وإسحاق وداود وبعض أصحاب الشافعي ورواية لمالك واختيار ابن القيم ، وسماحة الشيخ ابن باز رحمه الله والشيخ العثيمين ، والألباني.
واستدل أصحاب هذا القول بالأدلة التالية:
1- مارواه مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة رضي الله عنها: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا أهل هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره).
والأمر يقتضي الوجوب ولا صارف له عن الوجوب . وفي رواية:(فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي). والنهي يقتضي التحريم ولا صارف له عن تحريم الأخذ.
القول الثاني :الكراهة .
وبه قال الشافعي وأصحابه ورواية في مذهب مالك.
واستدلوا على صرف ظاهر الحديث عن التحريم إلىالكراهية يحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين :(لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث هديه إلى الكعبة فما يحرم عليه مما حل للرجل من أهله حتى يرجع الناس).
القول الثالث: الجواز .
الجواز وبه قال أبو حنيفة ورواية في مذهب مالك .
واستدلوا بالقياس على عدم تحريم اللباس والوطء عليه . وأجابوا عن الحديث بأنه موقوف.
والراجح والعلم عند الله تعالى هو القول الأول لظاهر الحديث .
وقد أجاب جماعة من العلماء كالبهوتي، وابن قدامة عن استدلال الشافعية ومن وافقهم بحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين :(لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث هديه إلى الكعبة فما يحرم عليه مما حل للرجل من أهله حتى يرجع الناس) بثلاثة أجوبة:
الجواب الأول: أن حديث عائشة رضي الله عنها في إرسال الهدي لا في الأضحية .
الجواب الثاني: حديث عائشة عام وحديث أم سلمة خاص ، فيجب تقديمه .
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:(حديثهم عام وهذا خاص يجب تقديمه، وتنزيل العام على ما عدا ما تناوله الحديث الخاص. ولأنه يجب حمل حديثهم على غير محل النزاع لوجوه منها :
- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليفعل ما نهي عنه، و إن كان مكروها؛ قال الله تعالى إخباراً عن شعيب:(وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه).
- ولأن أقل أحوال النهي أن يكون مكروها، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليفعله، فيتعين حمل ما فعله في حديث عائشة على غيره.
- ولأن عائشة تعلم ظاهراً ما يباشرها به من المباشرة، أوما يفعله دائماً كاللباس والطيب ، فأما ما يفعله نادراً كقص الشعر، وقلم الأظفار مما لا يفعله في الأيام إلا مرة فالظاهر أنها لم ترده بخبرها بخبرها وإن احتمل إرادتها إياه فهو احتمال بعيد وما كان هكذا فاحتمال تخصيصه قريب فيكفي فيه أدنى دليل وخبرنا دليل فكان أولى بالتخصيص.
قال ابن القيم رحمه الله: (وأما حديث عائشة فهو إنما يدل على أن من بعث بهديه وأقام في أهله فإنه يقيم حلالاً ولا يكون محرماً بإرسال الهدي رداً على من قال من السلف يكون بذلك محرماً).
الجواب الثالث: عند الترجيح يقدم حديث أم سلمة لأنه من قوله صلى الله عليه وسلم ، وحديث عائشة من فعله وقوله مقدم على فعله لاحتمال الخصوصية.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: خبر أم سلمة صريح في النهي فلا يجوز تعطيله أيضاً فأم سلمة تخبر عن قوله وشرعه لأمته فيجب امتثاله ، وعائشة تخبر عن نفي مستند إلى رؤيتها وهي إنما رأت أنه لا يصير بذلك محرماً يحرم عليه ما يحرم على المحرم ولم تخبر عن قوله إنه لا يحرم على أحدكم بذلك شيء وهذا لا يعارض صريح لفظه).
وأما الجواب عن أدلة القول الثالث:
فأما استدلالهم بالقياس ففاسد الاعتبار لكونه مقابل النص.
قال ابن القيم رحمه الله :(وأما رد الحديث بالقياس فلو لم يكن فيه إلا أنه قياس فاسد مصادم للنص لكفى ذلك في رد القياس ومعلوم أن رد القياس بصريح السنة أولى من رد السنة بالقياس وبالله التوفيق. كيف وأن تحريم النساء والطيب واللباس أمر يختص بالإحرام لا يتعلق بالضحية وأما تقليم الظفر وأخذ الشعر فإنه من تمام التعبد بالأضحية ).
وأماقولهم بأنه حديث أم سلمة موقوف ، فقد أجيب بأن الحديث ثبت رفعه.
قال ابن القيم رحمه الله في الحاشية :(وقد اختلف الناس في هذا الحديث وفي حكمه فقالت طائفة لا يصح رفعه وإنما هو موقوف ، قال الدارقطني في (كتاب العلل): ووقفه عبد الله بن عامر الأسلمي ويحيى القطان وأبو ضمرة عن عبدالرحمن بن حميد عن سعيد . ووقفه عقيل على سعيد قوله. ووقفه يزيد بن عبد الله بن قسيط عن سعيد عن أم سلمة قولها. ووقفه ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبدالرحمن عن أبي سلمة عن أم سلمة قولها. ووقفه عبدالرحمن بن حرملة وقتادة وصالح بن حسان عن سعيد قوله. والمحفوظ عن مالك موقوف ، قال الدارقطني:( والصحيح عندي قول من وقفه).
ونازعه في ذلك آخرون فصححوا رفعه منهم مسلم بن الحجاج ورواه في صحيحه مرفوعاً ومنهم أبو عيسى الترمذي قال : هذا حديث حسن صحيح. ومنهم ابن حبان خرجه في صحيحه ومنهم أبو بكر البيهقي قال هذا حديث قد ثبت مرفوعاً من أوجه لا يكون مثلها غلطا. وأودعه مسلم في كتابه ، وصححه غير هؤلاء وقد رفعه سفيان بن عيينة عن عبدالرحمن بن حميد عن سعيد عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ورفعه شعبة عن مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس شعبة وسفيان يدون هؤلاء الذين وقفوه ولا مثل هذا اللفظ من ألفاظ الصحابة بل هو المعتاد من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المباركفوري في التحفة :(لا شك في أن بعض الرواة روى حديث أم سلمة موقوفا لكن أكثرهم رووه بأسانيد صحيحة مرفوعاً.
- فمنها ما رواه الطحاوي في شرح الاثار من طريق شعبة عن مالك بن أنس عن عمرو بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من رأى منكم هلال ذي الحجة الحديث..
- ومنها ما رواه الطحاوي أيضا من طريق الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن عمرو بن مسلم أنه قال أخبرني سعيد بن المسيب أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله.
- ومنها ما رواه مسلم في صحيحه من طريق سفيان عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف سمع سعيد بن المسيب يحدث عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا دخلت العشر الحديث قيل لسفيان قال بعضهم لا يرفعه فقال لكني أرفعه.
- ومنها ما رواه مسلم من طريق محمد بن عمرو الليثي عن عمر بن مسلم عن عمار بن أكيمة الليثي قال سمعت سعيد بن المسيب يقول سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له ... الحديث.
- وقد أخرج مسلم أيضا في صحيحه من الطريقين الذين ذكرناهما عن شرح الاثار.
وهذه الطرق المرفوعة كلها صحيحة فكيف يصح القول بأن حديث أم سلمة الموقوف هو أصل الحديث بل الظاهر أن أصل الحديث هو المرفوع وقد أفتت أم سلمة على وفق حديثها المرفوع فروى بعضهم عنها موقوفا عليها من قولها.
قلت: ومن الجواب قول من قال بتقديم الرفع على الوقف لأنه زيادة من ثقة ، حتى إن كان الواقفون أكثر عدد وأرجح من جهة الضبط وا لإمامة، وإليه يصير سماحة الإمام المحدث ا لشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله .
المسألة الثانية:
إذا ثبت القول بالتحريم فهل يعم الرجل المضحي وأهل بيته من النساء والصبيان أم هو خاص بالمضحي؟
وقبل تحرير المسألة لابد من بيان أن الفقهاء رحمهم الله تعالى قد يعنون بقولهم (يضحى عنه) أحياناً التفريق بين الأصيل والوكيل ، وأحيانا أخرى التفريق بين صاحب الأضحية ومن أشرك في ثوابها من أهله ، وكلا الأمرين محتمل عند مسألتنا.
فإن كان المقصود الأول فلا يصلح ذكر من قال به في جملة القائلين بإدخال أهل الرجل في النهي ، وإن كان الثاني ساغ ذلك. والأشبه أنهم يقصدون الأول ، لعدة قرائن:
1- لم أجد نصا صريحا في كلامهم يدل على دخول الأهل والأولاد في ذلك مع ما في المتون الفقهية من البسط، وكون المسألة من رؤوس المسائل،فعبارات الحنابلة (وهم من يقولون بالتحريم في أصل المسألة) تقتصر على قول :أو يضحى عنه.
2- مما يدل على أنهم يقصدون التفريق بين الوكيل والأصيل قول صاحب حاشية الروض، وإما إذا ضحى عن غيره فلا يحرم عليه حلق ونحوه ولا يكره.
3- أن ممن يضحى عنه الصبيان والصغار وهم غير مكلفين ولم يتم استثناؤهم في عبارات الفقهاء.
4- أن للمسألة نظائر كزكاة الفطر، وليس من عادة الفقهاء فيها أن يقولوا عند الكلام عن كل مسألة من مسائل زكاة الفطر إذا أراد أن يخرج الزكاة عنه وعن أهل بيته فليفعل كذا ، ويكتفون بذكر ذلك مرة واحدة عند بيان أصل الوجوب.
هذه التقدمة في حال ثبوتها تمنع الخلاف رأسا ولكن على فرض أن مراد الفقهاء بعبارة (يضحى عنه) أهل البيت من النساء والأولاد فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين :
القول الأول: أن النهي عام للرجل وأهل بيته، ويصير هذا القول على الفرض السابق للحنابلة رحمهم الله وهو مشهور في كتب متأخريهم كالروض والكشاف والمبدع والدليل والمنار.
واستدل بعض من ينصر هذا القول بظاهر حديث أم سلمة وأنهم يدخلون في عموم مريدي التضحية.
القول الثاني: أن النهي خاص بالمضحي المباشر للتضحية أو الأصيل الذي وكل غيره دون أهل بيته، وبه قال الأئمة سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله ، واللجنة الدائمة.
واستدلوا بالبراءة الأصلية ، وعدم الدليل ، فالحديث ذكر مريد التضحية دون غيره.
ويمكن أن يجاب على استدلال الأولين بأن :
1- أن أحاديث الأضحية جاء فيها أن النبي صلى الله عليه ضحى عن نفسه وأهل بيته ، وأنه ضحى بكبشين أقرنين أملحين ، وليس في شيء منها نسبة الأضحية إليهم ، فدل الإخبار عن فعله أن المراد بالمضحي هو المباشر للأضحية. بينما تنسب الأفعال الأخرى إليهم كقولهم أهلت عائشة بالحج ، طافت ، سعت ونحو ذلك. وأنه لو كان المراد أهل بيته لاحتاج إلى بيان ، وتأخيره عن وقت الحاجة لا يجوز.
2- أن النبي صلىالله عليه وسلم ضحى عمن لم يضح من أمته ، فإذا قلنا بأن من ضُحي عنه يدخل في العموم دخلت الأمة جميعا في الحكم وصار التحريم شاملا لها ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عموم الأمة بذلك لا في عصره ولا بعده.
3- أن ذلك يؤدي إلى التسوية بين المضحي والمضحى عنه، وإمكان نسبة الفعل إلى كل منهما معا، وهذا لايصح لغةً ولا شرعاً ، فقولنا : حج زيد عن عمرو ، يختلف عن قولنا: حج عمرو .
وقولهم بأن المضحى عنه (وإن اشترك في الأجر مع المضحي) أنه مضح في ظاهر اللفظ لا يستقيم مع قواعد اللغة، فإسناد الفعل ينصرف إلى الفاعل المباشر.
وأما من جهة الشرع ، فإنه يقتضي المماثلة بين المباشر وغير المباشر. فلو أتلف المباشر الأضحية بالتفريط ، أو التعدي فهل يقال إنهم مشاركون في الإثم معه ؟!
وإذا طردنا هذا الأصل وأن من يضحى عنه على سبيل إشراكه في الأجر هو مضح أصيل وأن عليه تكاليف الأصيل صار المحجوج عنه كالمعضوب مثلا ملزما بالكف عن محظورات الأحرام من حين إحرام النائب ولا قائل به.
إذا ثبت أن دخول أهل البيت في معنى المضحين لا يكون إلا على سبيل المجاز وألفاظ الشرع يراد بها الحقيقة لا المجاز علمنا أن تكليفهم بالإمساك عن شعرهم وبشرهم في العشر يحتاج إلى دليل صريح يرفع البراءة الأصلية ولا سبيل إليه والله تعالى أعلم.
كتبه : عبدالله بن بلقاسم بن عبدالله ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من ذي القعدة عام أربع وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة.