الفصل الثانى: أدلة جمهور العلماء ومناقشتها:الدليل الثانى:
الفصل الثانى: أدلة جمهور العلماء ومناقشتها:الدليل الثانى:
الدليل الثانى :
حديث عمرو بن حزم أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتاباً و فيه : (( لا يمس القرآن إلا طاهر )) أخرجه مالك , و الدار قطني ( 431) والحاكم(1/397) قال ابن عبدالبر : إنه أشبه المتواتر و قال يعقوب بن سفيان : لا أعلمكتابا أصح من هذا الكتاب , وشهد عمر بن عبدالعزيز والزهري بصحته , وصححه الألبانيبشواهده في الإرواء (1/158) والدليل على صحة كتاب عمرو بن حزم تلقي جمهور العلماء له بالقبول والعمل، ولم يختلف فقهاء الأمصار بالمدينة والعراق والشام أن المصحف لا يمسه إلا طاهر على وضوء .
مناقشة الاستدلال بالحديث :
لفظ الطاهر من الألفاظ المشتركة و الطاهر يطلق على المؤمن كما فى قوله تعالى : ﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾ [التوبة من الآية28 ] وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة : (( المؤمـن لا ينجس ))
[FONT=times new roman(arabic)][1][/FONT] ،ويطلق على الطاهر من الحدث الأكبر كما فى قوله تعالى : ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ﴾ [ المائدة من الآية6 ] ، وعلى الطاهر من الحدث الأصغر قوله صلى الله عليه وسلم في المــسح على الخفين : (( دعهما فإنـي أدخلتهماطاهرتين ))
[FONT=times new roman(arabic)][2][/FONT] و يطلق أيضاً على من ليس علـــىبدنه نجاسة للإجماع على أن الشــيء الذي ليس عليه نجاسة حـسية ، ولا حكمية يسمى طاهرًا ، و لما كان إطـــلاق اسم النجس على المؤمن المحدث أو الجنب لا يصح حقيقة ولا مجازاً ولا لغةً لقوله صلى الله عليه و سلم : (( المؤمن لا ينجس ))
[FONT=times new roman(arabic)][3][/FONT] ؛ لأن المطهر من ليس بنجس ، و المؤمن ليس بنجس دائمًافلا يصح حمل المطــهر على من ليس بجنب أو حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية بليتعين حمله على من ليس بمشرك أي الطاهر من الشرك كما في قوله تعالى:﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾ [التوبة من الآية28 ]
، ولحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو.
و المسألة ترجع إلى مسألة عموم اللفظ المشترك أى أن يطلق اللفظ المشترك ،ويراد جميع معانيه التى وضع لها ،وقد اختلف العلماء فى ذلك على ثلاثة أقوال المنع والجواز فى النفى والإثبات والجواز فى النفى فقط ،وجمهور الأصوليين على المنع من إرادة اللفظ المشترك العموم على الحقيقة ،فلا يجوز استعمال اللفظ المشترك إلا فى معنى واحد ؛ لأنه لم يوضع لجميع ما يدل عليه بوضع واحد بل بأوضاع متعددة أى وضع لكل معنى من معانيه بوضع على حدة ، وَالْوَضْعُ هُوَ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى فَلَوْ اُسْتُعْمِلَ فِي معانيه حَقِيقَةً لَكَانَ كُلٌّ معنى نَفْسَ الْمَوْضُوعِ لَهُ أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي خُصَّ بِهِ اللَّفْظُ ، وَهُوَ بَاطِلٌ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ التَّخْصِيصِ عِنْدَ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْآخَرِ فإرادة جميع معانيه يخالف أصل وضعه،وهذا لايجوز ،ومهما تعددت معاني اللفظ المشترك فإن الله لا يقصد إلا أحدها دون غيره؛ لأن المعاني المتعددة توضع على سبيل البدل؛ أي على أن يحل معنى بدلاً من آخر، لا على العموم
[FONT=times new roman(arabic)][4][/FONT] أى لا يدل على معانيه دفعة واحدة ؛ لأن وضعه لها كان وضعاً متعدداً فإذا كان اللفظ مشتركاً بين معنيين أو أكثر من المعاني اللغوية وجب حمله على معنى واحد منها بدليل يعينه .
ومَنْ عَرَفَ سَبَبَ وُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ امْتِنَاعُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي معانيه حَقِيقَةً فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ هُوَ الْوَضْعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ معانيه قرر ذلك عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ فى التلويح على التوضيح[5] .
و يَدُلّ عَلَى فَسَادِ حمل المشترك على جميع معانيه عند التجرد عن القرائن وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : أَنّ اسْتِعْمَالَ اللّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ إنّمَا هُوَ مَجَازٌ إذْ وَضْعُهُ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ هُوَ الْحَقِيقَةُ ،وَاللّفْظُ الْمُطْلَقُ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ بَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ . الثّانِي : أَنّهُ لَوْ قُدّرَ أَنّهُ مَوْضُوعٌ لَهُمَا مُنْفَرِدَيْنِ ،وَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُجْتَمَعَيْنِ فَإِنّهُ يَكُونُ لَهُ حِينَئِذٍ ثَلَاثَةُ مَفَاهِيمَ فَالْحَمْلُ عَلَى أَحَدِ مَفَاهِيمِهِ دُونَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ مُمْتَنِعٌ . الثّالِثُ : أَنّهُ حِينَئِذٍ يَسْتَحِيلُ حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ إذْ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا وَحْدَهُ ،وَعَلَيْهِمَا مَعًا مُسْتَلْزِمٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ النّقِيضَيْنِ فَيَسْتَحِيلُ حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ .وَالرّابِعُ : أَنّهُ لَوْ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا لَصَارَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ ؛ لَأَنّ حُكْمَ الِاسْمِ الْعَامّ وُجُوبُ حَمْلِهِ عَلَى جَمِيعِ مُفْرَدَاتِهِ عِنْدَ التّجَرّدِ مِنْ التّخْصِيصِ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ اسْتِثْنَاءُ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْهُ و،َلَسَبَقَ إلَى الذّهْنِ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ الْعُمُومُ وَكَانَ الْمُسْتَعْمِلُ لَهُ فِي أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعْمِلِ لِلِاسْمِ الْعَامّ فِي بَعْضِ مَعَانِيهِ فَيَكُونُ مُتَجَوّزًا فِي خِطَابِهِ غَيْرَ مُتَكَلّمٍ بِالْحَقِيقَةِ وَأَنْ يَكُونَ مَنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي مَعْنَيَيْهِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَى دَلِيلٍ ،وَإِنّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَنْ نَفَى الْمَعْنَى الْآخَر[6] .
و المشترك يمكن إطلاقه على معانيه التى وضع لها مجازاً أى يكون بذلك قد خالف أصل وضعه ؛ لِأَنَّ الْوَاضِعَ لَمْ يَضَعْهُ لِلْمَجْمُوعِ ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ اسْتِعْمَالُهُ فِي أَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وقد قرر ذلك الغزالى فى المستصفى
[7] ،وعن الشافعى والقاضى والمعتزلة حقيقة أى أن اللفظ المشترك قد يقترن به قرينة مبينة للمراد ،وقد يتجرد عنها فإن تجرد عن القرائن فهو مجمل إلا عند الشافعى و القاضى فإنه يحمله على الجميع .
و قال الإسنوى: " اللفظ المشترك قد يقترن به قرينة مبينة للمراد وقد يتجرد عنها فإن تجرد عن القرائن فهو مجمل إلا عند الشافعي والقاضي فإنه يحمله على الجميع "
[8] ،وشكك ابن القيم فى نسبة هذا الكلام للشافعي ،ونقل عن ابن تيمية التشكيك فى نسبة الكلام إلى الشافعي أيضاً فى زاد المعاد .
و لما كان إطلاق اسم النجس على المؤمن المحدث أو الجنب لايصح حقيقة و لامجازاً و لا لغةً لقوله صلى الله عليه و سلم : (( المؤمن لا ينجس)) متفق عليه ؛ لأن الطاهر من ليس بنجس ، و المؤمن ليس بنجس دائمًافلا يصح حمل الطاهر على من ليس بجنب أو حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية بليتعين حمله على من ليس بمشرك كما في قوله تعالى:﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾ [ التوبة من الآية 28 ]
، و لحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو، و الحديث و الآية السابقان يدلان على أن المراد بالطاهر الطاهر من الشرك .
و من يقول : إطلاق الطاهر على المؤمن إنما هو من المجاز بدليل صحة نفيه بدلالة قوله تعالى : ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لَكِنْ يُرِيدُل ِيُطَهِّرَكُمْ ﴾ و الآية الأخرى : ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُم ْبِهِ ﴾ أي أن المؤمن قبل استعمال الماء لا يكون طاهرا و إنما يطهر بإستخدام الماء في الوضوء و الغسل ، و الجواب عن ذلك أن الله هو الذي يطهر بدليل ليطهركم فالله مطهِر و نحن مطهَرون إذن عند النفي يكون المؤمن غير مطهر و ليس غير طاهر ،و إذا تطهرنا بالماء أو التيمم صيرنا متطهرين ،و عند النفي يكون المؤمن غير متطهر و ليس غير طاهر و محل النزاع نفي أن يكون المؤمن طاهرا ، و لو أريد بالحديث الطهارة الشرعية لكان الحديث لا يمس القرآن إلا متطهر أو إلا متوضيء فلفظ الطاهر مجمل فقد يكون طاهر من الشرك أو طاهر من الحدث الأكبر أو طاهر من الحدث الأصغر ، و يقوي الاحتمال بأنه الطاهر من الشرك أن كتاب عمرو بن حزم كتب إلى أهل اليمن ولم يكونوا مسلمين في ذلك الوقت ، فكونه لغير المسلمين يكون قرينة أن المراد بالطاهر هو المؤمن ،و للنهي عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو و المؤمن طاهر دائما لأن المؤمن لا ينجس ، و لو أراد النبي بالطاهر المحدث لبينه صلى الله عليه و سلم لأهل المدينة فهم أحوج لهذا البيان لكثرة حاجتهم إلى ذلك .
و الإنسان طاهر من حيث الأصل فالأصل في الأشياء الطهارة ما لم يأت دليل ، وقال الأزهري : ( الطَّهُورَ في اللغة هو الطاهرُ المُطَهِّرُ لأَنه لا يكون طَهوراً إِلا و هو يُتَطهّر به كالوَضُوء هو الماء الذي يُتَوضَّأُ به والنَّشُوق ما يُسْتَنْشق به و الفَطُور ما يُفْطَر عليه منْ شراب أَو طعام ) و هذا يدل على ما ادندن حوله أننا نتطهر بالماء فنحن متطهرون ، و فرق بين طاهر و متطهِر فالأولى طاهر من كذا أو كذا أما الثانية فلا تحتمل إلا الطهارة بالماء ، و لو كان المراد الطهارة بالماء في الحديث لكان اللفظ) متطهر ) و ليس ( طاهر ) لأن الإنسان من حيث الأصل طاهر و قد يكون طاهرا من الشرك أيضا و قد يكون طاهرا من الحدث أيضا فالطاهر من الحدث تساوي المتطهر ،و ليس الطاهر عند الإطلاق تساوي المتطهر .
و من يقول يجوز أن نقول طَهُرَتْ كتَطَهَّرَت فيصح أن يكون تطهر بمعنى أراد أن يكون طاهرا كتعظم أي أراد أن يكون عظيما و الجواب ليس معنى أن يجوز طَهُرَتْ كتَطَهَّرَت و أن يكون تطهر بمعنى أراد أن يكون طاهرا أن يكون الطاهر هو المتطهر بل المتطهر هو الطاهر من الحدث فيوجد تقييد للطهارة ، و ليس إطلاق الطهارة .
و من يقول لم يكن من عادة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أن يُعَبِّرَ عن المؤمن بالطَّاهر؛ لأنَّ وَصْفَهُ بالإِيمان أَبْلَغُ و التَّعبير الكثير مِنْ قوله صلّى الله عليه وسلّم أن يُعَلِّقَ الشَّيء بالإيمان ، و ما الذي يَمْنَعُهُ مِنْ أن يقول: لا يَمَسُّ القرآنَ إِلا مُؤْمِنٌ، مع أنَّ هذا واضح بَيِّن ، و قال صاحب موسوعة أحكام الطهارة ردا على من يفسر الطاهر في الحديث بالمؤمن : ( يشكل عليه أن القرآن و السنة كانت تخاطب الصحابة بلفظ الايمان و الإسلام و لم يخاطب القران الصحابة بوصف الطاهرين ) و الجواب عن ذلك أن القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس من عادته أن يُعَبِّرَ عن المؤمن بالطَّاهر كلام يحتاج لدليل فهو نتيجة بلا مقدمات ،و القول بأنه ما المانع أن يطلق لفظ المؤمن بدل الطاهر يقال لمن يقوله وما المانع من أن يطلق الطاهر بدل المؤمن و ليس هذا المنع بأولى من هذا المنع ، و من يقول : يشكل عليه أن القرآن و السنة كانت تخاطب الصحابة بلفظ الايمان و الإسلام و لم يخاطب القران الصحابة بوصف الطاهرين يجاب عنه بأن الصحابة ماداموا خطبوا بالمفهوم فهو خطاب كالمنطوق فدلالة المفهوم خطاب و دلالة المنطوق خطاب فلا يصح هذا الإشكال و المؤمن لا ينجس فهو طاهر بدليل الخطاب و دليل الخطاب خطاب ، و المشركون نجس فالمسلمون أطهار بدليل الخطاب ، و لولا فهم الصحابة لهذا و هذا ما خاطبهم القران و السنة بذلك ، و مادام خاطبهم القران و السنة بذلك فهم طبعا قد استعملوا هذا و هذا ، و لا يوجد نص على أنهم لم يستعملوا الطاهر بمعنى الطاهر من الشرك
و من يقول الطاهر في الحديث تعني الطاهر من الحدث ؛ لأنه المعنى المفهوم عند الصحابة يقال له يعارض ذلك دلالة حديث المؤمن لا ينجس و كون المشركين نجس .
و من يقول كيف يكون المقصود بقوله : ( لا يمس القرآن إلا طاهر ) المؤمن و الخطاب موجه إلى المشركين الذين لا علم لهم بتعبيرات القرآن و السنة الذين ورد فيهما ما يشعر بوصف الكافر بالنجس والمؤمن بالطاهر فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا كل الحرص على أن تكون كتبه الموجهه للكفار واضحة في دلالتها وليس فيها لبس أو إيهام ، و الجواب أن خطاب لا يمس القران إلا طاهر موجه للمؤمنين و هو ألا يمكنوا مشرك من المصحف و ليس موجها للمشركين .
و من يقول : إذا كان وصف المؤمن بالطاهر قد خفي على من هو من أكثر الناس مصاحبة للنبي صلى الله عليه وسلم وحرصا على سماع حديثه وهو أبو هريرة فقد اعتقد نجاسة الجنب ألا يدل هذا على خفاء وصف المؤمن بالطاهر ؟ و الجواب عن ذلك أن المعنى المتبادر للحديث باستعراضه أن أبا هريرة كره أن يجالس النبي صلى الله عليه وسلم على غير طهارة فالحديث بتمامه حدثنا على بن عبد الله قال حدثنا يحيى قال حدثنا حميد قال حدثنا بكر عن أبى رافع عن أبى هريرة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لقيه فى بعض طريق المدينة وهو جنب ، فانخنست منه ، فذهب فاغتسل ، ثم جاء فقال « أين كنت يا أبا هريرة » . قال كنت جنبا ، فكرهت أن أجالسك و أنا على غير طهارة . فقال « سبحان الله ، إن المؤمن لا ينجس »
[9] حتى حذيفة خشي أن يجالس النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو على غير طهارة قال كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا لقى الرجل من أصحابه ماسحه ودعا له - قال - فرأيته يوما بكرة فحدت عنه ثم أتيته حين ارتفع النهار فقال « إنى رأيتك فحدت عنى ». فقلت إنى كنت جنبا فخشيت أن تمسنى. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « إن المسلم لا ينجس »
[10]أما القول بأن أبا هريرة كان يعتقد نجاسة الجنب فالحديث لايستلزمه ، ولم يقل أبو هريرة أني نجس ، و هل أبو هريرة خفي عليه أنه طاهر من حيث الذات أي ذاته طاهرة ( طهارة حسية ) أم خفي عليه أنه طاهر من حيث الشرك ( طهارة معنوية ) أي هو مؤمن أم خفي على أبو هريرة أن ملابسته أمر عظيم لا تتوجب الطهارة ، و مادام المؤمن ليس بنجس في سياق انخناس أبي هريرة و هو جنب إذن فيه دليل على أنه لا يتوجب عليه الطهارة من الحدث هذا مقصد الحديث و ليس المقصد الأساسي أنه طاهر من الشرك أو طاهر الذات فهذا ظاهر ، و النص هو عدم توجب الطهارة من الحدث عند ملامسة أمر عظيم أو مجالسة شخص عظيم فالحديث سيق له و ليس للأول بدليل ) : فكرهت أن أجالسك و أنا على غير طهارة ) ، و كلام حذيفة ( فخشيت أن تمسنى ) فهذا الفعل من الصحابة لم يرد عند ملامستهم أو مجالستهم بعضهم بعضا ، و إنما ورد عند ملامستهم و مجالستهم النبي صلى الله عليه وسلم ، و الدليل كاف المخاطب التي تدل على الاختصاص أجالسك .
و من يقول المقصود بالطاهر الطاهر من الحدث ؛ لأن الأحكام لم تتعلق بصفة الطاهرة من الشرك وحدها و الجواب أن هذا كلام غير مسلم فقوله صلى الله عليه وسلم ( المؤمن لا ينجس ) ترتب عليها أحكام أن المؤمن لا يصير نجسا حيا وميتا ، واستدل بها البعض على عدم وجوب الوضوء لمن يغسل مسلما ، و قوله تعالى : ﴿ إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا ﴾ ترتب عليها حكم ألا وهو عدم تمكينهم من الاقتراب من المسجد الحرام ، و أخذ منها الجمهور أن الكافر ليس بنجس البدن والذات جمعا بينها وبين حلية طعام أهل الكتاب ،و حتى لو سلمنا بعدم تعلق صفة الطهارة من الشرك حكم في كل الآيات و الأحاديث عدا الحديث المختلف في تصحيحه فهذا لا يمنع الاستدلال به عليها .
و لفظ حديث : ( لا يمس القرآن إلا طاهر ) فلفظه حجة على من يقول المقصود به الطاهرة من الحدث فلو كان المراد أمر المؤمنين ألا يمسوا القرآن إلا وهم متطهرين لقال لا تمسوا القرآن إلا و أنتم متطهرين أو لا يمس المؤمن القرآن إلا وهو متطهر فلما لم يذكر المؤمن دل على أن المقصود عدم مس الكافر ؛ لأنه ليس بطاهر ، وقد ورد النهي عن عدم تمكين الكافر من المصحف فتأيد حمل الحديث عليه .
و قرائن قصد الطاهر من الشرك في الحديث كثيرة منها : ورود نهي للمؤمنين ألا يذهبوا بالمصحف لأرض العدو ، و أن الصحابي قد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم لغير مسلمين فالغالب عند دخول الإسلام بقاء البعض على الكفر فلا يمكنوا هؤلاء الكفرة من مس المصحف و أن المسلم يكون طاهرا دائما ، و لا يصدق عليه أنه ليس بطاهر عند الإطلاق أما عند تلبسه بجنابة أو حيض أو نفاس يقال ليس بطاهر من كذا ،أي ليس بطاهر مع تقييد عدم الطهارة و ليس ليس بطاهر على سبيل الإطلاق أي عدم الطهارة مقيدة بأنه ليس بطاهر من كذا و أن الحديث لا يمس القرآن إلا طاهر و ليس لا تمسوا القرآن إلا و أنتم متطهرين ، و لو أراد النبي بالطاهر المحدث لبينه صلى الله عليه و سلم لأهل المدينة فهم أحوج لهذا البيان لكثرة حاجتهم إلى ذلك .
و من يقول قد جاء حديث آخر بلفظ
« لا تمسّ القرآن إلا و أنت طاهر» فيستحيل أن يراد بلفظ الطاهر المؤمن و الجواب أن هذا الحديث ضعفه النووي
[11] و قال الحافظ : « و في إسناده سويد أبو حاتم و هو ضعيف ، و ذكر الطبراني في الأوسط أنه تفرد به »
[12] فهذا الحديث رواه مطر الورّاق عن حسان بن بلال عن حكيم بن حزام أن رسول الله بعثه إلى اليمن فقال : « لا تمسّ القرآن إلا وأنت طاهر » و قال الطبراني في الأوسط : لم يرو هذا الحديث عن مطر الورّاق إلا سويد أبي حاتم ولا يُروى عن حكيم بن حزام إلا بهذا السند وأخرجه البيهقي من طريق مهران الرازي حدثني جعفر الطيالسي به
[13] و مطر بن طهمان الورّاق أبو رجاء السُّلمي ضعفه يحيى بن سعيد القطان، و أحمد بن حنبل، وابن معين، والنسائي، وابن سعد، وأبو داود، وشعبة، وابن عدي و قال الحافظ في التقريب : «صدوق كثير الخطأ وحديثه عن عطاء ضعيف ». و فيه سند الحديث سويد أبو حاتم ضعفه يحيى بن معين كما نقل أبو داود ، و قال ابن المديني : ذاكرت يحيى بحديثه فقال: هات غير ذا ، و ضعفه النسائي و العقيلي
و الخلاصة أن حديث : ( لا يمس القرآن إلا طاهر ) واضح في أن المسلمين مطالبون ألا يمكنوا المصحف من مشرك ، ولتقريب الفهم نقول قوله صلى الله عليه وسلم : لا يمس القرآن إلا طاهر كقول الأستاذ لتلميذه لا يمسك هذا الكتاب إلا متفوق أي غير المتفوق لا يمسك الكتاب أي التلميذ مطالب ألا يمكن غير المتفوق من الكتاب بأمر من الأستاذ
[1] - متفق عليه
[2] - متفق عليه
[3] - متفق عليه
[4] - انظر الوجيز فى أصول الفقه د.عبد الكريم زيدان ص 329 مؤسسة الرسالة 1421 هـ وانظر أصول الفقه القسم الثانى الحكم الشرعى د.محمود بلال مهران ص 391- 395 دار الثقافة العربية 1425هـ
[5] - التلويح على التوضيح 1/ 241- 256
[6] - انظر زاد المعاد لابن القيم جزء 5 فى فصل حمل المشترك على معنييه
[7] - المستصفى للغزالى 2/ 100- 101
[8] - نهاية السول فى شرح منهاج الأصول مع حاشية الشيخ بخيت 2/ 142.
[9] - رواه البخاري في صحيحه باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس
[10]- رواه النسائي في سننه باب مماسة الجنب ومجالسته
[11] - الخلاصة 1/309 حديث رقم 538
[12] - التلخيص1/227
[13] - الخلافيات 1/513 رقم 304