ما حقيقة الإعجاز العلمي للقرآن ؟
ما حقيقة الإعجاز العلمي للقرآن ؟
ما حقيقة الإعجاز العلمي للقرآن ؟
1. سر روحه وقوة تأثيره؛
مدخل: القرآن الكريم كتاب علم بامتياز
وتتالى الكتابات في مجال الإعجاز القرآني، وهكذا كلما عنت نكتة علمية وإشارة خفية أو جلية جاءت تستند لدلالة شرعية إلا وتجد من يأخذ القلم ليحيط قراءه علما بما تختزنه تلك الإشارة من إعجاز قرآني أو من سر لإخبار نبوي. ومن هذا القبيل كتابات د. زغلول النجار حفظه الله وغيره، وموقع إعجاز القرآن الكريم للجنة العالمية للإعجاز....
والحقيقة إنه لا تخلو آية من كتاب الله من إشارات علمية، لكن مدارك البشر تفاوتت في الوقوف عند نكتها ؛ ذلك لكون القرآن الكريم كتاب علم قبل كل شيء : { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ }[آل عمران19]. { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } [الشورى : 14]. { فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [الجاثية17].
فالقرآن الكريم كله كتاب علم بامتياز، وهذا سر إعجازه العلمي، قد يتأثر البلاغي بنظم القرآن وينثر درره ويقول قائل ليته لم يسكت، أما إذا خاض القول عن اللفظ الحابل فحدث ولا حرج ؛ وذلك لكون البلاغة علما من علوم اللغة بها يتوصل إلى إدراك معاني النص وجمالية تراكيبه. وما الإعجاز البياني إلا إعجاز علمي تم إدراكه بواسطة علم البلاغة.
وهكذا يخوض كل صاحب علم في مجاله، ويتوقف عند كل نص قرآني أو حديث نبوي يتعلق بتخصصه، على أننا نربأ بأحبتنا أن لا تنغمس أقلامهم في الكلام عن الإعجاز العلمي، إلا فيما أصبح حقيقة علمية يقينية ؛ لكون أصحاب التجارب العلمية يقولون قولا اليوم ثم ما يلبثون إلا قليلا حتى تسفر أبحاثهم عن تأكيد قول ناسخ لقولهم السابق. { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ : 6].
ومن محاذير هذا الباب أقوال المتكلمين عن الإعجاز الرقمي في القرآن فقد تتأتى تلك الدراسة على قراءة قرآنية دون أخرى وهو ما يربك القارئ وبخاصة غير المتخصص، فكيف يئول سعي الفتان؟.
وقبل معالجة الموضوع إعجاز القرآن في شقيه الروحي والتشريعي نبحث ضمن مقدمات مواضع تيسر الكلام عن جوهر إعجاز القرآن تتناول الأمور التالية :
1- الغاية من الإعجاز القرآني؛
2- ما القدر المعجز من القرآن ؟؛
3- نموذج إعجاز الكلمة القرآنية؛
4- بين القول بالإعجاز البلاغي وتعليم الناس الكتاب والحكمة؛
5- القرآن الكريم واتصافه ببعض أسماء وصفات الله جل ثناؤه؛
6- بين تعليم الكتاب والسعي في معاجزته؛
7- هل نقبل القول بالإعجاز العلمي للقرآن أو بالأحرى التفسير العلمي للقرآن أم نرده؟؛
8- الإعجاز العلمي بين المتخصصين واللغويين؛
لنصل لتحقيق الموضوع
ـ ما هو جوهر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ؟
1. سر روحه وقوة تأثيره؛
1- الغاية من إعجاز القرآن
لم بكن الهدف من الإتيان بالإعجاز إجبار الناس وإخضاعهم بقبول دليل خارق للعادة، وإنما يأتي الإعجاز ليقيم برهانا يقينيا على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليمكنهم من اختيار بين سبيل الهدى وسبيل الضلال ليختاروا بمحض إرادتهم إحدى السبيلين عن رضا واطمئنان؛ إذ لو شاء الله لأنزل آية فظلت أعناقهم لها خاضعين.
وإنما تجلى الإعجاز القرآني في تحديه للخلق في مجالي الروح والتشريع؛ ذلك بكون مجالي الخلق والأمر من اختصاص الله دون من سواه.
التحدي في مجال الخلق :
يأتي القرآن الكريم باستفسار استنكاري يستدعي العقول للتدبر ويرفع التحدي على كل مستوى؛ إذ يستدعي كل البراهين سواء منها العقلية أو العلمية أو أي دليل من الكتب السابقة : {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف : 4].
التحدي في مجال التشريع
فالرب الحكيم العليم يوجهنا بلطف رحمته بأن أهدى كتاب هو القرآن الكريم وهو أرحم تشريع عرفته البشرية:
{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص : 49].
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }[يونس : 35].
{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ [150] أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ [151] وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [152] أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ [153]مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [154]} [الصافات].
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [35]مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[36] } [القلم].
إنها استفسارات توقظ الهمم، وتحرك سكون أولي النهى والأحلام؛ ليستفيقوا من غفلة وجدوا أنفسهم فيها منهمكين، وعنها يدودون، ظنا منهم أنهم بالحق مستمسكون.
2- ما القدر المعجز من القرآن الكريم ؟
عن جواب هذا السؤال نرى ما ساقه ابن حزم في مراتب الإجماع شيئا مسكتا لطالبي الحق ؛ لذلك ننقله كما جاء هناك :
" واتفقوا أن محمدا- صلى الله عليه وسلم- دعا العرب إلى أن يأتوا بمثل هذا القرآن فعجزوا عنه كلهم".1
ونقل في هامش كتاب الملل والنحل.2
"لا يختلف اثنان في أن كل شيء في القرآن قرآن معجز, ثم تعارضهم في تحديدهم المعجز بسورة فصاعدا, فنقول أخبرونا ماذا تعنون بقولكم إن المعجز مقدار سورة كاملة لا أقل أم مقدار الكوثر في الآيات ؟ أم مقدارها في الكلمات ؟ أم مقدارها في الحروف ؟ ولا سبيل إلى وجه خامس. فإن قالوا مقدار سورة تامة لا أقل لزمهم أن سورة البقرة حاشا آية واحدة أو كلمة واحدة من أخرها أو من أولها ليست معجزة، وهكذا كل سورة وهذا كفر مجرد لا خفاء فيه ؛ إذ جعلوا كل سورة في القرآن سوى كلمة من أولها أو من وسطها أو من أخرها فمقدور على مثلها, وإن قالوا مقدارها من الآيات لزمهم أن آية الدين ليست معجزة كآية الكرسي وآيتان إليهما لأنها ثلاث آيات وهذا غير قولهم ومكابرة أيضا... وإن قالوا عدد الحروف لزمهم شيئان مسقطان لقولهم أحدهما إبطال احتجاجهم بقوله تعالى : {بسورة من مثله} لأنهم جعلوا معجزا ما ليس بسورة ولم يقل تعالى بمقدار سورة, فلاح تمويههم ...."1
3. نموذج إعجاز الكلمة القرآنية
آية الحديد وعبارة " أنزلنا " { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }[الحديد : 25] [ الحديد : 25].
" الحديد هو المعدن الوحيد الذي يستحيل تشكيله في مجموعتنا الشمسية لأنه يحتاج إلى ضغط وحرارة لتكوين ذراته تزيد أربع مرات عما هو متوافر في كل المجموعة الشمسية. وأن ما هو موجود على الأرض أصله من الشهب والنيازك الساقطة على الأرض والغبار الكوني الناتج عن انفجارات كونية لشموس أضخم من شمسنا...
إن حقيقة كهذه لا يعلمها غالبية سكان الأرض الآن في القرن العشرين فكيف عرف ذلك الأمي مالا يعرفه مثقفو اليوم ؟ لماذا لم يقل وأخرجنا الحديد فيه بأس شديد كما قال في الزرع والمياه ؟ بل قال :
- {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [ الحديد : 25] 1
إنها حقائق علمية يفوح من عطرها صدق آيات الله في الآفاق وتبوح بذاتها عن أسرارها موفية بذلك عهد الله ووعده :
- {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض و نئا بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به, من أضل ممن هو في شقاق بعيد سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق, أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} [ فصلت : 51- 53].
إنها كلمة واحدة من كتاب الله كشفت عن سرها الأبحاث العلمية وتبين صدق ما سبق قوله : إن كل كلمة، بل وكل حرف في القرآن معجز.
- {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}
[ فصلت : 53].
إذا زاغت الأبصار واختلت العقول، وشك في النقول، ومرضت القلوب بهوى النفوس فآيات القرآن وآيات ما أبدع الرحمان تهديهم إلى الإيمان وإلى طريق الرشاد. إنها حجة الله على خلقه, فهل يبقى بعدها للمنكر من تأويل ؟
4- بين القول بالإعجاز البلاغي وتعليم الناس الكتاب والحكمة
خاضت كتب الإعجاز القرآني في بيان الإعجاز البلاغي خوضا فمنهم من بهرته بلاغته وصار يصفها وصف معجب متطلع إلى العلياء. 1ومنهم من فصل بلاغة القرآن على ثلاث مستويات : فمنها البليغ الرصيف الجزل, ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق السهل، وهذه أقسام الكلام المحمود2
كل ما جاءت به المخلوقات لا علاقة له بمضاهات القرآن
وثبت أن أناسا حاولوا وجاءوا بنصوص زعموا أنهم يعارضون بها القرآن مثل ما ساقه الرافعي في إعجاز القرآن من أقوال مسيلمة وسجاح بنت الحارث ومحاولة النضر بن الحارث وابن المقفع وعبلهة بن كعب وطليحة بن خويلد الأسدي ...ومن ذهب من المعاصرين ينسج على منوالهم إلخ...
ولم يتوقف العلماء عند هذه المحاولات في حد ذاتها، بل سارعوا بإهانتها ونقدها نقدا لا يليق بالنقد الأدبي مثل ما قاله الرافعي عند نقده أقوال مسيلمة الكذاب : " وكل كلامه لا ينهض ولا يتماسك, بل هو مضطرب النسيج مبتذل المعنى مستهلك من جهتيه، وما كان الرجل من السخف بحيث ترى, ولا من الجهل بمعاني الكلام وسوء البصر بمواضعه ولكن ... 3
وكان من اللازم عدم العناية بهذه الأمثلة تماما لكونها ليست محاولة لمعارضة القرآن, ذلك بأن العهد من الله لا ينخرم وعهده هنا و" لن تفعلوا". في قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة : 24].
فالجزم من الله لا ينخرم، فإن حاول هؤلاء وهم كفار فقد حاول أيضا مؤمنون في مشابهة بلاغة القرآن في قوله تعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة : 179]. وجاءوا بقولهم " القتل أنفى للقتل". كما قال السيوطي : " وقوله تعالى ولكم في القصاص حياة فإن معناه كثير ولفظه قليل، لأن معناه أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل قتل كان ذلك داعياً إلى أن لا يقدم على القتل، فارتفع بالقتل الذي هو القصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض، وكان ارتفاع القتل حياة لهم. وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى وهو قولهم : القتل أنفى للقتل بعشرين وجهاً أو أكثر. وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل وقال : لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك. الأول : أن ما يناظره من كلامهم وهو قولهم القصاص حياة أقل حروفاً، فإن حروفه عشرة وحروف القتل أنفى للقتل أربعة عشر. الثاني : أن نفي القتل لا يستلزم الحياة، والآية ناصة على ثبوت التي هي الغرض المطلوب منه. الثالث : أن تنكير حياة يفيد تعظيماً، فيدل على أن في القصاص حياة متطاولة كقوله تعالى : {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} ولا كذلك المثل، فإن اللام فيها للجنس ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء. الرابع : أن الآية فيها مطردة، بخلاف المثل فإنه ليس كل قتل أنفى للقتل، بل قد يكون أدعى له وهو القتل ظلماً، وإنما ينفيه قتل خاص وهو القصاص ففيه حياة أبداً. الخامس : أن الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلاً بالفصاحة. السادس : أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف، بخلاف قولهم فإن فيه حذف من التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها، وحذف قصاصاً مع القتل الأول وظلماً مع القتل الثاني، والتقدير: القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً من تركه. السابع : أن في الآية طباقاً ؛ لأن القصاص يشعر بضد الحياة بخلاف المثل. الثامن: أن الآية اشتملت على فن بديع وهو جعل أحد الضدين الذي هو الفناء والموت محلاً ومكاناً لضده الذي هو الحياة، واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة، ذكره في الكشاف، وعبر عنه صاحب الإيضاح بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال في عليه. التاسع : أن في المثل توالي أسباب كثيرة خفيفة وهو السكون بعد الحركة وذلك مستكره، فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به وظهرت بذلك فصاحته، بخلاف ما إذا تعقب كل حركة سكون فالحركات تنقطع بالسكنات، نظيره إذا تحركت الدابة أدنى حركة فحبست ثم تحركت فحبست لا تطيق إطلاقها ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره فهي كالمقيدة. العاشر: أن المثل كالتناقض من حيث الظاهر لأن الشيء لا ينفي نفسه. الحادي عشر : سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الموجب للضغط والشدة وبعدها عن غنة النون. الثاني عشر : اشتمالها على حروف متلائمة لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد ؛ إذ القاف من حروف الاستعلاء والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق، بخلاف الخروج من القاف إلى التاء التي هي حرف منخفض فهوغير ملائم للقاف، وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق. الثالث عشر : في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت، ولا كذلك تكرير القاف والتاء. الرابع عشر : سلامتها من لفظ القتل المشعر بالوحشة، بخلاف لفظ الحياة فإن الطباع أقبل له من لفظ القتل. الخامس عشر : أن لفظ القصاص مشعر بالمساواة فهو منبئ عن العدل، بخلاف مطلق القتل. السادس عشر : الآية مبنية على الإثبات والمثل على النفي، والإثبات أشرف لأنه أول والنفي ثان عنه. السابع عشر : أن المثل لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة. وقوله (في القصاص حياة مفهوم من أول وهلة. الثامن عشر : أن في المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعد والآية سالمة منه. التاسع عشر : أن أفعل في الغالب يقتضي الاشتراك فيكون ترك القصاص نافياً للقتل، ولكن القصاص أكثر نفياً وليس الأمر كذلك، والآية سالمة من ذلك. العشرون : إن الآية رادعة عن القتل والجرح معاً لشمول القصاص لهما، والحياة أيضاً في قصاص الأعضاء لأن قطع العضو ينقص أو ينغص مصلحة الحياة وقد يسري إلى النفس فيزيلها، ولا كذلك المثل في أول الآية، ولكم وفيها لطيفة وهي بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص، وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم لتخصيصهم بالمعنى مع وجود فيمن سواهم..."1
وكما ترى ذهب بعيدا السيوطي رحمه الله في تقعر وجه الفرق بين بلاغة القرآن وغيره، ومن مكمن هذا الجحر انساق الناس في نقد كتابات جاءت تحت عنوان معارضة القرآن وإنه بمجرد تصديق هذه الدعاوي وقع المرء في الكفر الصريح.
وعدم مراعاة مواصفات الكتاب، فضلا عن معرفة أسماء الله وصفاته وأفعاله ـ والتي هي سننه في الكون والقرآن ـ وما يجوز وما يستحيل في حقه سبحانه من مواصفات، لهي المهواة في سبيل الضلال.
5. قوة القرآن الكريم في اتصافه بصفات الله
من صفات الله أسبغ الحكيم سبحانه وتعالى على كتابه العزيز الأسماء التالية:
- العلي الحكيم – الحق - العزيز - النور - الحكيم - العظيم - الكريم - إلخ...
سر تكليم الله لخلقه:
علي حكيم، وهي خاصية وباب عظيم من أبواب تكليم الله لخلقه؛وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ( [الزخرف : 4].
والاتصاف بهذا الاسم له دلالة ذات مغزى كبير وفتح عظيم حيث تساءل الذين لا يعلمون وقالوا {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة : 118] ويتساءل الموقن مسترشدا بهدي ربه أين بينها الله وكتابنا مهيمنا على الكتب السابقة ويأتيه الجواب واضحا في قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى : 51] .
وأكتفي هنا بهذه الإشارة، لكون تفصيل الكلام فيها يبعدنا عما نحن بصدده.
أسماء القرآن
الأسماء المفردة :
أ. من أسماء الله وصفاته المفردة
ـ الحق )إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ( [البقرة : 119] ؛
ـ الحكيم: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران : 58]
ـ العزيز : )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ( [فصلت : 41]
ـ العظيم: )وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ( [الحجر : 87]
ـ المجيد :)ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ( [قـ : 1]
ـ النور: )وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً( [النساء : 174]
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس : 1]
أسماء أخر
التبيان: )وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ( [النحل : 89]
العلم: )وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ( [البقرة : 120]
الفرقان : في قوله تعالى) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ( [البقرة : 185]؛
الكتاب: )إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( [البقرة : 174]؛
المبارك : في قوله تعالى : ) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ( (الأنعام : الآية ).
البرهان : في قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ ( [النساء : 174]
هدى ورحمة : في قوله تعالى : ) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحسِنِينَ ( لقمان3
الروح: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى : 52]
أسماء أخر مركبة
- الذكر الحكيم: )ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ( [آل عمران : 58]
- القرآن الحكيم: ) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ( [يس : 2]
- القرآن العظيم: )وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ( [الحجر : 87]
- القرآن الكريم: ) إنَّهُ لَقُرءَانٌ كَرِيم ٌ ( (سورة الواقعة الآية 77 )؛
- القرآن المبين: الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ ( [الحجر : 1
- القرآن المجيد: )ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ( [قـ : 1]
- القرآن ذي الذكر: )ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ( [صـ : 1]
- القول الفصل : ) إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ( ( سورة الطارق : الآية 13 )
- الكتاب الحكيم: ) الَر* تِلْكَ ءَايَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْحَكِيم ((يونس : 1)
- الكتاب العزيز : )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ( [فصلت : 41]
- كتاب الله: )وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ( [البقرة : 101] .
- الكتاب المبين: ) الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ( [يوسف : 1]
- الكتاب المفصل: )أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( [الأنعام : 114]
- النور المبين: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ( النساء 174
ولا غرو فإذا كانت هذه مواصفات كتاب الله، فإني أربأ بأقلام الباحثين أن تنغمس في الكلام عن الله وعن كتابه دون الإلمام بكل أسمائه وصفاته، إذ ليس الموضوع موضوع اجتهاد فيه مصيب ومخطئ وإنما الأمر تعلق بمن وصف الله وكتابه بحق أو تقول على الله وعلى كتابه؛ إذ ليس بعد الحق إلا الضلال، كما توعد الحق سبحانه وتعالى من يظن به غير الحق {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} [فصلت : 23]
وبهذا الصدد أشير إلى مقال بتوقيع د. سعيد جمعة حفظه الله وألهمنا الله وإياه الصواب والرشاد، تحت عنوان : " دلالة المثلية في آيات التحدي دراسة بيانية ناقدة " ، وهو جهد مشكور، لكن التعرض لأقوال البشر بدعوى أنها جاءت في معاجزة القرآن، هو كفر صريح بدلالة الآية { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة : 24] والعهد من الله لا ينخرم : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ}. ومعلوم بأن الله لا يخلف الميعاد {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ} [التوبة : 111]
فهل بانت لنا شناعة من يؤمن أو من يهتم بأقوال قيل أنها جاءت لمعارضة القرآن؟ بأنها كفر صريح بنص الآية.
إنه لمقت كبر عند الله وعند الذين آمنوا. فمن يجرؤ على تكذيب القرآن؟
6. بين تعليم الكتاب والسعي في معاجزته
فالفرق واضح بين المسلمين وغيرهم ممن سعى في الاحتكاك ببلاغة القرآن، فالمسلم يؤمن بالكتاب ويحتك ببلاغته من باب التعليم والمحاكاة والاقتداء بالأسلوب القرآني مع تعظيمه، بينما غيره يسعى في معاجزة القرآن إظهار للنقائص وعرضا للإشكالات التي ألَّفها ذهنه فهؤلاء توعدهم القرآن بما يلي:
1ـ كونهم من أصحاب الجحيم في الآخرة:
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحج : 51]
2ـ تخصيصهم بالعذاب من نوع الرجز الأليم في الدنيا والآخرة وذلك لإطلاق الخبر(والرِّجْز : القَذَر مثل الرِّجْس: والرِّجْز : العذاب.)
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} [سبأ : 5]
3ـ انتسابهم للعذاب إذ هم فيه محضرون:
{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [سبأ : 38]
7- هل نقبل القول بالتفسير العلمي للقرآن أم نرده؟
فالسؤال قديم جديد وكل تعامل معه وفق مبلغه من العلم، وانشطروا بين مؤيد ومعارض وبين من يقبل بشروط.
وما انقسم رأيهم وتشعب إلا عن اجتهاد، مما يدفعنا للتساؤل هل استندنا في مواقفنا لنصوص تزيل اللبس، أم لمجرد اعتبار المصالح المرسلة؟
والمؤمن مأمور بالسير على درب العقل المسدد بالوحي لا بعقلنة النصوص وتجريدها عن روحانيتها أو إبعادها وتقديم المصالح عليها.
ما كان لمن انتسب إلى العلماء أن يكون إمعة يؤيد فلانا على طول كما يقال: أي يوافقه في كل ما يصدر عنه، وهذا هو عين الخطأ، أو يعارضه على نفس المبدأ، كما تفعل أحزاب المعارضة مع الحكومات. عوض الرجوع إلى الحق، والتثبت، والتبيّن، والانصياع للحق ونصرته بما أوتي المرء من قوة وعدة. فكم من أقوال للعلماء يغتر بها البسطاء وهي في حاجة إلى تحرير علمي يكشف جدواها ويبين مغزاها.
فالمسلم ما كان ليقول شيئا دون الرجوع إلى الله والرسول، ويستنطق كلام الله عن دلالات الطريق وأماراتها، ويمضي بنور من ربه.
ونطرق باب أبي الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني رحمه الله للإجابة عن السؤال فيقول : "سألني هذا السؤال جماعة من العلماء بمصر والحجاز والمغرب، وكان هذا السؤال نفسه مما أخبر به(صلى الله عليه ويلم)، فروى البزار والطبراني في الكبير من حديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سترون قبل أن تقوم الساعة أشياء ستنكرونها عظاما تقولون هل كنا حدثنا بها، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله تعالى واعلموا أنها أوائل الساعة".1
وإذا جاء الحديث بغير نهي عن البحث في مضمون الإعجاز العلمي أو الأخذ به فدلالة القرآن صريحة وواضحة {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت : 53].
ويكفينا أننا أمة الوسط؛ والوسطية لا تتأتى إلا بين رذيلتين، رذيلة التطرف والتحجر، ورذيلة حاطب الليل فهو يجمع كل ما وصلت إليه يده من غير ترو في الأمور، وتثبيت.
ومن باب الوسطية والاعتدال أقول لكل المتكلمين عن الإعجاز العلمي في القرآن ما جئتم به من تتبع جزئيات الإعجاز العلمي في هذه الآية أو تلك جهد مبارك شكره الله لكم، وما ترنو إليه الأبصار وتتطلع إليه الأفئدة هو تلك النظرة الشمولية المتكاملة والتي تبصر الحقائق على ما هي عليه.
فهلا تصبرنا حتى نستمد من كلام الله جوابا مسكتا. فهو يوضح بجلاء لا غبار عليه : {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران : 19]. {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى : 14]. {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية : 17].
فسبحان الله كيف أغفل علماء الإسلام هذه التأكيدات الربانية ومضوا يزفون أقوالهم بين مؤيد ومعارض. فهل تبين لنا بأن القرآن الكريم سماه الله سبحانه وتعالى : "العلم" بالألف واللام الدالين على استغراق الجنس.
فما القول بالإعجاز العلمي للقرآن إلا شهادة حق نؤديها تصديقا لقوله تعالى {قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[آل عمران : 95] فلا نكتف بالتصديق بل نتعداه لحمل الرسالة على أن نبقي على الوسطية والتي معتمدها لا إفراط ولا تفريط-.
وهل بعد هذا الإيضاح نجد في جانب أخر يكاد إجماع المتكلمين عن الإعجاز ينعقد ـ وبخاصة لدى المواقع المتخصصةـ وهم يحومون حول القول بأن ما يقارب أو يفوق ألف آية كلها لها دلالات إعجازية، أليس هذا القول تحكم ما لهم به من علم، إلا إتباع الظن؟ والتخصيص ألف آية هنا دليل جهل بعلم ما تبقى من الآيات.
ألم يأت زهاء ثلث القرآن قصص تؤكد باضطراد السنن الإلهية، وتناغمها مع العهود الربانية وكلماته التامات التي تنسج ضوابط استمرارية هذا الكون وبقائه إلى ما شاء ربك؟
ثم ألم يأت التشريع الرباني رحمة من ربك يدل على أفضل السبل وأيسرها للحياة القويمة في الدنيا والآخرة؟
ألم تأت الأمثال القرآنية تجسد العبرة وتيسر الفكرة وتدل على القصد؟
وما القرآن الكريم إلا آيات مبينات، وأمثال، وموعظة لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} النور34 .
تاهت البشرية في العلوم الإنسانية يمينا ويسارا، وما سمع الناس إلا أصوات محتشمة عن الاقتصاد الإسلامي قد تتوارى عن الأنظار بما أعجزها البيان عن الأسئلة الفلسفية حول التخيير والتسيير وما لم تحط به من خبرة في مجال السنن الإلهية لترفع لواء التحدي عاليا فوق كل الأنظمة والقوانين، والنظريات والأوهام.
جاءت السنن الإلهية بالضوابط للعلوم السياسية الحقيقية، كما كشفت منغلقات الأمور في مجال العلوم الإنسانية، فهل نعتز بها علوما يقينية ترفعنا فوق ظنون وأوهام فلاسفة الشرق و الغرب، ونظرياتهم الهائمة على وجهها في جل العلوم الإنسانية والتي لولا مناهج العلوم لجزمنا بأن كل حمولات منعطفات رفوفها مضيعة للوقت، وسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. ونعوذ بالله أن نبخس الناس أشياءهم.
8ـ الإعجاز العلمي بين المتخصصين واللغويين:
فالمتتبع للمجلات العلمية المحكمة ليصاب بالدوران من جراء ما يكتب في هذا المجال، مما يجعلنا نتساءل : هل أصبحنا أوصياء على كتاب الله أم نحن له أتباع؟
ولئن وصف الربانيون تصادم الأمزجة وتقارع الآراء بقولهم "إنها قلقلة الأواني"، فهل نسعى لصرف رؤانا وتصوراتنا ونحتكم إلى كتاب الله ؟ أم ترى عقولنا سادت المجال وصبغت كل شيء بصبغتها ولم تترك المجال لإسماع صوت القرآن ؟ هل أصبحنا معتزلة جددا ؟.
إنه بمقتضى الإجابة عن هذه الأسئلة تحل المشكلة؛ إذ العبرة والاتعاظ والتذكر من شأن المنيبين من الخلائق لا من شأن غيرهم.
نعم نرى من كتاباته ملئت أخطاء لغوية، فضلا عن أنها حشيت ألفاظا غريبة دخلت علينا عبر بوابة المترجم، فهل لمثل هؤلاء حق في الكلام عن الإعجاز؟
ونرى من اللغويين في معترك الصادقين من يستحي الشيطان فضلا عن غيره من تعليقاته على آيات القرآن؛ ومن يلقي نظرة طائشة على بعض كتب البلاغة المعاصرة وبخاصة في باب الحذف والتقديم والتأخير والاستثناءـ ليستغفر الله له وللكاتب مما جرى به قلمه .
وصحيح بأن فضل الله لا يحجر، وأنه يوجد في النهر ما لا يوجد في البر والبحر، ورب مبلغ علم لمن هو أفقه منه، وأن الإنابة وحدها كفيلة باستخراج درر القرآن وعجائبه لقوله تعالى { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [12] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} [غافر : 13]
إنابة بذلة وانكسار بباب" الله العلي الكبير" بهذا الاسم الذي اصطفاه لهذا الغرض إن رمنا أن يفتح لنا باب الفهم واستكشاف المجهول والغوص في المعلوم {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الحج : 54]
وما اللغة إلا أسلوب تخاطب بين بني البشر فليس العربي بأفضل من العجمي إلا بالتقوى.
وا عجبا من معترض فَقُه الحكم والإشارات الخفية ولم يفقه لمَ اصطفى الله جل شأنه العربية لسانا لرسالته المحمدية؟ وعجيب أيضا أن يسعى موريس بوكاي1 لفهم القرآن بلغة القرآن، بينما نعرض عنها نحن ويعبر لساننا كيفما بدا له على ما حبانا الله من إشارات وومضات علمية تزيدنا فقها لنصوص القرآن.
وكان أولى بنا أن نتقن لغة القرآن إتقانا من كل جوانبها : نحوا وبلاغة وعلم أصول. ولا غنى للتطاول على هذه النهايات، بيد أننا لم نحكم البدايات. ولئن أعيتنا الحيل وقصرت الهمم ونحن في زمن التخصصات المتعددة أليس من الأيسر تعاون المتخصصين مع اللغويين لتنكشف أمور لم تتبد للأوائل وإنما فك طلسمها المنيبون من جهابذة اللغة.
فالقرآن كلام الله جاء في كتاب منشور، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت : 42].
وإذا نفى الجليل جل علاه أن يأتي الباطل القرآن، فكل من لم يأت البيوت من أبوابها كان ضرره عظيما وخطره على نفسه وعلى الناس كبيرا. وليس هذا القول تزكية للمنيبين من المفسرين اللغويين، ورفعة لهم عن غيرهم، وإنما أقر بأن معهم زيادة علم، أما الخلائق فإني أكل شأنها إلى عالم السر وأخفى، فهو الكفيل بهم يعلم شأنهم وسرهم وعلانيتهم وما يبدون وما يكتمون، وكفى به ربا غفورا، قد سبقت رحمته غضبه، كما لا شأن لغيره بمحاسبة العباد، بل هي النصيحة بالحسنى تطرق أبواب القلوب وتحبب الخالق للخلق.
خلاصة واستنتاج :
1. كان احتكاك علماء المسلمين ببلاغة القرآن أو غيرهم من الكافرين كافيا لتبيين أن الكتاب ما جاء إلا ليتعلم الناس بلاغته ويحتكوا بها، وأن هذا الفعل لا يدخل أصلا في تحدي القرآن للبشرية. وصدق الله العظيم. هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [الجمعة 2]
2. ومن هنا وجب البحث عن وجه مكمن الإعجاز.
3. إنه لمجرد الإيمان بكون هناك كلام جاء ليعارض القرآن لهو كفر صريح عندنا فيه من الله برهان.
4. بدا لنا سر قوة القرآن في مواصفاته بأوصاف ربانية، وتلك خاصية من خصائص القرآن؛
5. فالكتابة في مجال العقائد ليست من باب الاجتهاد الفقهي حيث هناك مصيب للحق ومخطئ له، وإنما هنالك مصيب للحق أو آثم، وإثمه لبسه من جراء تقوله على الله أو على كتابه بغير علم؛ والتقول على الله من أعظم الذنوب إطلاقا؛
6. لكل العلماء في مجال تخصصهم على وجه عام كلام له دلالاته عن الإعجاز العلمي للقرآن، سواء كانوا أدباء، أم فيزيائيين، كيماويين، أو غيرهم ؛
7. وللأدباء الراسخين في العلم على وجه خاص كلام جليل القدر عظيم الشأن في مجال الإعجاز البلاغي.
ما هو جوهر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم؟
كي لا نمضي على درب من تكلموا عن إعجاز القرآن الكريم بما بدا لهم من إعجاز، وحتى لا نفتري على الله وكتابه وآياته افتراء بغير علم، ولا نتقدم النصوص القرآنية نبعد الجدل لندخل في حوار مباشر مع القرآن وكفى به عليا حكيما :
نصوص التحدي لإعجاز القرآن
ما هي نصوص الكتاب التي دلت على إعجاز القرآن لنعيد النظر فيها ونتأملها ونتملاها إلى أن تنفتح علينا بأجوبة شافية كافية ؟
يقول الله تعالى قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [ الإسراء : 88].
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [يونس : 38].
وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [23] فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة : 24].
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ [الطور :34].
وتعتبر الآية الأخيرة حاسمة في الموضوع بحيث طلبت كلاما مماثلا للقرآن، من هنا يضحي قليل القرآن وكثيره معجزاً سواء منه حرفا واحدا أو أكثر، وهذا ما يمكننا من إدراك أين يكمن إعجاز القرآن ؟ ولئن سبقت الإشارة لإعجاز الكلمة الواحدة فكيف بالحرف الواحد؟ إذ كل ما في القرآن قرآن، والقرآن معجز كليا وجزئيا.
حينما طالعنا أسماء القرآن وجدنا بأن من جملة أسمائه الروح ولعل التنقيب عن هذا الاسم يأتينا بالجديد الذي نبحث عنه.
1- يسألونك عن الروح
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء : 85]
والروح جسم لطيف، تبصره البصيرة النيرة بنور ربها. وأصلها:
1. إما كلام فصل ليس بالهزل: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى : 52]؛
2. وإما نفخة ربانية، لقوله تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر : 29]؛
وكل ما له علاقة بالذات العالية لا علاقة له بالخلق؛ إذ الخلق صنع الله والروح نفخة ربانية أو كلام رباني، ومن هنا كان القرآن أمرا من أمر الله وليس خلقا من خلق الله. وقد اختص سبحانه وتعالى: بالخلق والأمر: { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف : 54]
وهنا كمن خطأ المعتزلة في ادعائهم بأن القرآن خلق من خلق الله. كما أخطأ أهل السنة في ردهم القول بأن القرآن مُحْدَث، فالقرآن محدث غير مخلوق بدليل: { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء : 2]
فالقرآن أنزل ونُسخ أي نقل من اللوح المحفوظ حيث كان مكنونا إلى دنيا الناس حيث أضحي في رق منشور وهذا معنى حدوثه. وليست بين الخلق والحدوث لا علاقة ترابط بحيث إذ وجد إحداها وجد الثاني لزوما، ولا نسبية بين العبارتين، فالحدوث وقع بنزول القرآن الأرض والخلق صنع الله، والقرآن الكريم أمر من أمر الله وليس صنعا من صنع الله. وهذا ما غاب عن الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي في الرد على شبهة الجهمي القول بخلق القرآن : التوجيه الصحيح للآي حيث جاء تحت عنوان : الدليل على بطلان شبهة الحدوث ما يلي: ""والدلالة على أنه جمع بين ذِكْرين لقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ }فأوقع عليه الحدث عند إتيانه إيانا، وأنت تعلم أنه لا يأتينا بالأنباء إلا مبلِّغ ومذكِّر، وقال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى }{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ }.
إذن يقول: "الدليل على أنه جمع بين ذِكرين لقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ }فأوقع عليه الحدث عند إتيانه إيانا" يعني عند إتيانه إيانا، من الذي أتانا به؟ الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وأنت تعلم أنه لا يأتينا بالأنباء -يعني بالأخبار- عن الله إلا مبلغ ومذكر؛ فالرسول هو المبلغ -صلى الله عليه وسلم- {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }إذن من المذكر؟ الرسول {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى }{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ }.
إذن الرسول -عليه الصلاة والسلام- حينما أتانا بالأنباء إذن هو مذكِّر، هذا ذكر أتى به الرسول من عند الله -عز وجل-، فالحدث يقع على الذكر الذي جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام-، يقع على أيش؟ الحدث يقع على الذكر عند إتيانه إيانا، وعند إتيانه إيانا إنما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، واضح هذا؟ نعم.
"فلما اجتمعوا في اسم الذكر جرى عليهم اسم الحدث" لما اجتمعوا -ذكر الله وذكر النبي- جرى عليهم اسم الحدث، وذكر النبي إذا انفرد وقع عليه اسم خلق، وكان أولى بالحدث من ذكر الله الذي إذا انفرد لم يقع عليه اسم خلق ولا حدث.
ذكر الله إذا انفرد ما يقع عليه اسم خلق ولا اسم الحدث، وذكر النبي إذا انفرد -صلى الله عليه وسلم- وقع عليه اسم الخلق والحدث، فقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ }المراد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه حينما أتى به من عند الله ذكَّر، ذكَّر بقوله وبكلامه. نعم."
وهو مسلك جليل القدر لولا أن التكلف جنح به بعيدا عن الصواب.
بيان إعجاز القرآن
ما تاه المتكلمون في الإعجاز القرآني إلا لما قالوا برأيهم في القرآن ؛ لذا وجب علينا الوقوف مع كتاب الله نستنطقه عن جوهر إعجازه.
عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبة الله ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور البين والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به ونجاء لمن تبعه لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد".1
"اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"2.
بعد الضراعة إلى الله ننظر إلى الموضوع من زاويتين :
1. أثبت القرآن الكريم الروح للقرآن في عدة آيات؛
2. قوة الفعل وثقل التأثير القرآني؛
ومن الإجمال إلى التفصيل.
1. روح القرآن
1- إنه كلام رب العالمين ميزه الله وخصه بالروح : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى : 52] [ الشورى : 52].
فمن خصه الله بنور البصيرة أدرك روح القرآن تسري سريان الطيف، متلألئة بنورها الوهاج، مخضرة اللون، أو قد تبييض أحيانا تسبح بأمر ربها في كون الله.
ومن هذه الخاصية نفي الله سبحانه وتعالى أن يكون القرآن مفترى من دون الله لأنه لا قدرة لأحد على الخلق والأمر، وأيضا من هنا كان التحدي مرفوعا في وجه الإنس والجن لكون الروح من أمر ربي.
وهو كريم لما يغدقه على قارئه من حسنات، وما يهديه إليه من رشاد، وما ييسره له من أبواب الفتح والكرم من ذي الجلال والإكرام، ولما يفتح الله به للعبد من فهم ومعرفة، وبخاصة ما يتعلق بمعرفة ربه بأسمائه وصفاته وبخاصة أفعاله والتي هي عهوده وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فضلا عما يستحيل في حقه تعالى وما يرتبط به من علم بذات الرب الأكرم، ولما ينجي من تمسك به، واهتدى بهديه.
فهل وصف كلاما غير كلامه بالروح ؟ إنها خاصية القرآن وميزته الأولى.
سر إعجاز القرآن روحه
بعيدا عن مجال الفلسفة نسأل القرآن الكريم عن سر إعجازه ؟ فيجيب :
1- روح القرآن سر من أسرار تحدي الخلق :
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى : 52].
قال القرطبي : وقال ابن زيد : "الروح: القرآن"، قال الله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا.1
تسميته بالروح :
قال الرازي : "الرابع عشر : الروح وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا [الشورى : 52] . يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ [ النحل : 2] وإنما سمي به لأنه سبب لحياة الأرواح، وسمي جبريل بالروح فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا [مريم : 17] وعيسى بالروح ألقاها إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ [النساء : 171] .1
القرآن روح وريحان :
قال ابن أبي شيبة : (42) باب في مثل من جمع القرآن والإيمان : ((2) ...عن أنس أن أبا موسى حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طيبة الطعم طيبة الريح، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها"1.
فالقرآن روح تفوح بالرياحين، فمن صحبها حفظا ومدارسة تجلت أنوارها ورياحينها عليه في الدنيا، وعصمته من العذاب في الآخرة. ومن صد عنها صدت عنه وخذلته يوم يجد كل امرئ ما عمل من خير محضرا. « إن هذا القرآن عصمة لمن اعتصم به» لأنه يعصم الناس من المعاصي".2
شواهد أخر على روحانية القرآن :
يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ [النحل : 2].
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ [غافر : 15].
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج : 4].
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً [النبأ : 38].
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ [القدر : 4].
أثر روح القرآن على روح الإنسان
تمت إثارة هذا الموضوع في كتابنا الجزء الأول من " الأسماء الحسنى" ولم يكن المجال هناك مسعفا لتوضيح هذه المرامي. ولعل القدر ادخر هذا الأمر لهذا المبحث، ومن الله نستمد العون والتوفيق.
لما كان خلق الإنسان من تراب كان جل أكله مما ينتجه التراب، وهذا أمر معلوم بالضرورة، ولا حاجة تدعو للبرهنة عليه. أما الروح التي بجنب الإنسان فهي نفخة علوية ربانية، ولا غرو فهي أمانة استودعنا الله إياها، فمن اعتنى بها وأكرمها بما جاء من عند ربها من قراءة قرآن وذكر (بما في ذلك من قراءة القرآن وتسبيح وتهليل وحمد وتكبير وحوقلة واستغفار وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم...) اطمأن قلبه واستحوذت عليه السكينة، ومن أعرض عن ذكر الله بصفة مجملة كانت معيشته ضنكا فضلا عن كونه يحشر أعمى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه : 124].
ويحتج الإنسان يومئذ عن سبب حشره أعمى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً [طه : 125].
فيجيب الله العلي الكبير سبحانه وتعالى بالحق الذي هو ميزانه للناس جميعا : قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه : 126].
وفي سياق آخر يحاور المنافق المؤمنين يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ [الحديد : 13]، لكن المؤمنين يدركون جيدا بأنه نور اقتبسوه في الدنيا من كتاب ربهم :
قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد : 13]، ويستغرب المنافقون الموقف ويستفسرون عن السبب : يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ؟، ويجيب المؤمنون إجابة شبيهة بالنكاية والتشفي: قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد : 14].
بعد هذه المقدمة ندرك بأن روح الإنسان تستمد زادها مما جاء من عند ربها لتبقى حية مرهفة الحس، لطيفة، دقيقة، متيقظة، وبنورها تنفتح عين البصيرة فتبصر فوق ما يبصره بصر الجسد : كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ [5] لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [6] ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [7] [التكاثر].
ولهذا نعى الله على المنافقين موت حواسهم الباطنة: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف : 179].
أ. أثر روح القرآن على حواس الروح:
إنها حواس الروح التي بها تحيى وبها تفقه وبها تبصر الغيبيات، ولا حصر لبصرها ولا حد لرؤاها... لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف : 179].
ما كان الربانيون ليقفوا مواقف عظيمة مثل موقف من لا يخشى في الله لومة لائم - فتجده يتحدى الطواغيت بما أوتوا من قوة عدة وعدد، ويستبسل لإسماع كلمة الحق ولو غضب العالم - إلا وكان لهم تأييدا ربانيا : لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة22].
ويختلف التأييد الرباني باختلاف الأشخاص ومعاملتهم القلبية. فمن اعتز بربوبية ربه وافتخر بها ثم طلب من الله القيام في حدود الله بالاستقامة على نهج الله وشرعه تولاه الله، وأيده بالملائكة تثبته وتبشره في أخطر المواقف وأصعبها. إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [30] نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [31] نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [32] [فصلت].
إنه تأييد بالنصرة في الدنيا وفي الآخرة، وبالولاية، والبشرى بعدم الخوف أو الحزن، إضافة إلى الفوز بالجنان تكريما من غفور رحيم سبحانه من رب عزيز وهاب.
كما قد يتجلى التأييد الرباني فيما يفتح الله للعبد من الرؤية الصادقة، والفراسة، والكشف، والإلهام، والكرامات.
وإذا تنعمت الروح بما أعطي للجسد من حواس مثل السمع والبصر، فضلا عن الشم والذوق، واللمس إضافة إلى قلب يفقه الأمور، تسانده :
1- الرؤيا الصادقة : والتي ما يراها المرء إلا وخرجت كفلق الصبح، لا تحتاج إلى تأويل مؤول، أو قد تحتاجه : مثاله رؤيا الملك العزيز في قصة يوسف عليه السلام، ورؤيا يوسف عليه السلام، ورؤيا فرعون.
2- الفِراسة : كما قال الأصمعي : يقال فارس بيِّن الفروسة والفراسة والفروسية، وإذا كان فارسا بعينه ونظره فهو بين الفراسة بكسر الفاء، ويقال : إن فلانا لفارس بذلك الأمر إذا كان عالما".1 و"الفراسة بكسر الاسم من قولك تفرست فيه خيرا، وهو يتفرس أي يتثبت وينظر، تقول منه رجل فارس النظر، وفي الحديث : "اتقو فراسة المؤمن"،(وهوحديث ضعيف) والفَراسة بالفتح والفروسة والفروسية كلها مصدر قولك رجل فارس على الخيل، وقد فرس من باب سهل وظرف أي حذق أمر الخيل".2
3- الكشف : "الكشف رفعك الشيء عما يواريه ويغطيه، كشفه يكشفه كشفا، وكشفه فانكشف وتكشف"3، ومثاله قول سيدنا عيسى عليه السلام :
وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) [آل عمران]. "من غير أصل تقدّم ذلك احتذاه، أو بنى عليه، أو فزع إليه، كما يفزَع المتنجم إلى حسابه، والمتكهن إلى رئيِّه. فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها، وبين علم سائر المتكذِّبة على الله، أو المدَّعية علم ذلك"4.
4- الإلهام : قال ابن منظور : "و ألهمه الله خيرا لقنه إياه، واستلهمه إياه سأله أن يلهمه إياه، والإلهام ما يلقى في الروع ويستلهم الله الرشاد، وألهم الله فلانا. وفي الحديث "أسألك رحمة من عندك تلهمني بها رشدي". الإلهام أن يلقي الله في النفس أمرا يبعثه على الفعل أو الترك وهو نوع من الوحي يخص الله به من يشاء من عباده".2
ومثاله : "عمل الصحابة رضي الله عنهم بمثل ذلك من الفراسة والكشف والإلهام والوحي النومي، كقول أبي بكر إنما هما أخواك وأختاك، وقول عمر : يا سارية الجبل، فأعمل النصيحة التي أنبأ عنها الكشف، ونهيه لمن أراد أن يقص على الناس وقال : أخاف أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا، وقوله لمن قص عليه رؤياه أن الشمس والقمر رآهما يقتتلان، فقال مع أيهما كنت ؟ قال مع القمر، قال : كنت مع الآية الممحوة لا تلي عملا أبدا".3
"وعن عباس ابن المهتدي أنه تزوج امرأة، فليلة الدخول وقع عليه ندامة، فلما أراد الدنو منها زجر عنها فامتنع وخرج، فبعد ثلاثة أيام ظهر لها زوج. وكذلك من كان له علامة عادية يعلم بها هل هذا المتناول حلال أم لا، كالحارث المحاسبي حيث كان له عرق في بعض أصابعه إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك فيمتنع منه، وأصل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره في قصة الشاه المسمومة، وفيه : فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل القوم وقال : "ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة، ومات بشر بن البراء" الحديث. فبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك القول وانتهى هو ونهى أصحابه عن الأكل بعد الإخبار. وهذا أيضا موافق لشرع من قبلنا وهو شرع لنا، إلا أن يرد ناسخ (له من شرعنا)، وذلك فى قصة بقرة بني إسرائيل إذ أمروا بذبحها وضرب القتيل ببعضها فأحياه الله وأخبر بقاتله، فرتب عليه الحكم بالقصاص، وفي قصة الخضر في قتل الغلام وهو ظاهر في هذا المعنى، ذلك مما يؤثر في معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكرامات الأولياء رضي الله عنهم".
ما أوضح رحمه الله تعالى فيما ساقه بيان الفرق بين كل من الإلهام والفراسة والكشف والكرامة، كما أن هناك مجالات كبيرة سكت عنها الربانيون لا فرارا من البيان، وإنما نهوا أن تخاض هذه الأمور في مجمع العوام خشية الفتن ؛ نظرا لضيق أفق المدارك.
5- الكرامة : الكرامة اصطلاحا هي ظهور خارق مقارن لدعوى النبوة من قبل شخص مؤمن صالح ولي من أولياء الله. وما لا يكون مقرونا بالإيمان والعمل الصالح يسمى استدراجا، وما يكون مقرونا بدعوى النبوة يسمى معجزة، وما يكون من عامة المؤمنين فهي معونة"1.
كل هذه الحواس تسهم مساهمة فعالة في تنبه الذهن، ويقظة الضمير، وإرهاف الحس لاستخلاص أدنى الإشارات، بله أعظمها وأكبرها ليفقه الرباني عن الله مراده به في دنيا البلاء بالخير والشر فتنة.
ب. أثر روح القرآن على جسد وعقل الإنسان:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر : 23]
وقال السيد قطب رحمه الله عند قوله تعالى : لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر : 21].
وهي صورة تمثل حقيقة. فإن لهذا القرآن لثقلاً وسلطاناً وأثراً مزلزلاً لا يثبت له شيء يتلقاه بحقيقته... واللحظات التي يكون فيها الكيان الإنساني متفتحاً لتلقي شيء من حقيقة القرآن يهتز فيها اهتزازاً ويرتجف ارتجافاً. ويقع فيه من التغيرات والتحولات ما يمثله في عالم المادة فعل المغنطيس والكهرباء بالأجسام، أو أشد.
وروح القرآن : يراها الرباني نور ا مخضرا يسري في هدوء، وحبذا لو عدنا لاستعارة عبارات السيد قطب رحمه الله، فهو يقول :
" إن في هذا القرآن سرا خاصا يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداء، قبل أن يبحث في مواطن الإعجاز فيها أنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن، يشعر أن هناك شيئا وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير، وأن هناك عنصرا ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن، يدركه الناس واضحا، ويدركه بعض الناس غامضا، لكنه على كل حال موجود. هذا العنصر الذي ينسكب في الحس يصعب تحديد مصدره : أهي العبارات ذاتها ؟ أم المعنى الكامن فيها ؟ أهو صور الظلال التي تشعها ؟ أهو الإيقاع القرآني الخاص المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة ؟ أهي هذه العناصر كلها مجتمعة ؟ أم أنها شيء آخر وراءها غير محدود ؟"
إن ما يدفع السيد للاستفسار عن حقيقته هو ما بينه البهي الخولي رحمه الله بقوله : " وآية واحدة من كتاب الله كفيلة بهذا لو أحسنا الاتصال بها، وأنا أعني ما أقول، فإن التحقق بمعنى آية واحدة سلبا وإيجابا، وعملا واعتقادا والتزاما بتكاليفها في غير تهاون ولا رخاوة، مع مخالطة روحها لخفايا القلب يحيى الإنسان ظاهرا وباطنا ويجدده وينيره...كالذي يلمس السلك الكهربائي، إذا لمسه من أي طرف، أو من أي نقطة فيه، سرى سر الكهرباء فيه واضطرب وانتفض، دون أن يتوقف ذلك على لمس أجزائه كلها مرة واحدة في وقت واحد...القرآن حبل الله المتين، كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم طرفه بيد الله، وطرفه بيد الناس، فأي جزء أخذنا منه بجد وقوة، سرى سره إلى القلوب، فارتجفت به وحييت اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر : 23]
إن ما اشترطه البهي الخولي رحمه الله في لمس روح القرآن ليس شرطا فليس في الوجود حقيقة إلا رب وفضل، ومن هنا أقول: اسألوا الله أن نكون أهلا للمس روح القرآن...فمهما اجتهد المرء إلا وكان جهده حجابا بينه وبين ربه، لكن تفضله سبحانه على عبده لا يعد ولا يحصى...وليس من سبيل إلى فضله إلا الدعاء... وربنا الأكرم لا يخيب من رجاه.
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام : 122]
تأثير القرآن وثـقله
تأثير القرآن وثـقله
بعض معاني قوة القرآن وثقله لدى المفسرين
تعقيب:
حقيقة قوة القرآن وثقله تأثير القرآن وثـقله
ثبات أولي العزم من الرسل
ثبات المؤمنين
غرور العلوم الإنسانية:
الكذب آفة من لم يؤمن بآيات الله:
سنة الله في الكذب والكذابين
سيمياء الكذب والكذابين
خلاصة القول في الكذب والكذابين عموما:
تأثير القرآن وثـقله
العبارتان نستلهم من دفئهما الشيء الكثير، ونرمي بالمصطلحين إلى الإشارة إلى أسرار يقينية لا يمكن الكلام عنها من غير دليل علمي، والله يفتح لعبده ما يشاء من علمه، إلا أننا نعرب عما يختلجنا عن قوة ثقله.
ليست قوة تأثير القرآن وثقله إلا رموزا نستعيرها لتقريب الفهم والمعاني - ويفتح الله لعبده ما يشاء - ؛ ذلك بأن القرآن كلام الله، والله جل شأنه قوله فعل، وفعله قول، وهذه أهم خصائص القرآن : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس : 82].
والله جل شأنه قوله الحق، والقرآن فرقان بين الحق والباطل، وقوله فصل لا هزل فيه، فضلا على أن قدرة الله لا حد لها، ولا مانع يعترضها؛ إذ الله قاهر فوق عباده، ويفعل ربك ما يشاء ويختار.
لا نقول قول الجاهلين بأنه سبحانه وتعالى يفعل الأشياء لا لحكمة، وإنما كل شيء عنده بقدر، وجعل لكل شيء قدرا، وكل شيء أحصاه كتابا، فهل هذا شأن العابثين، أم هو تقدير العزيز العليم؟ فليس في قانون الله لهو ولا لعب، ولا خلق الأشياء عبثا، فسبحانه من حكيم حميد. وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف : 21].
والقرآن استوي ثقل الحجة فيه والبرهان بدامغ الأدلة وجزالة اللفظ وأقوى بيان، فضلا عن جوامع الكلم بلطف وإحسان، دعا إلى سبيلي الرشاد والأمن والآمان، في الدنيا والآخرة والفوز بالجنان، ونهى عن الزيغ والظلم والكفر والطغيان، وتوعد أهلها بالخسران المبين وبجحيم النيران، فيا لشدة الهول وعظيم المشهد وكبير الهوان! وقال مهددا: سنفرغ لكم أيها الثقلان [الرحمن : 31]. لو صادف آذانا صاغية لشابت من هوله الولدان، فكيف بمن تدبره ووقف عنده بإمعان، وسبقت رحمته غضبه سبحانه من رحيم ورحمان.
وليس ثقله في حمله تعسر ؛ إذ ذكره للإنسان تيسر، وإنما الإنسان على الأمانة تجسر، وفي نظم عقدها لم يتدبر ولم يتفكر، فهنيئا لمن تزكى وبهديه تدثر، وعلى ربه اعتمد وبإذنه تطهر، وإلى المُخْلَصين انتسب وتحرر، وإلى المكرَمين ثوى وتنور، وإلى المصطَفين الأخيار هفا وتصبر، وإلى المقربين سعى سعيه وتكثر.
ومهما تدخل المتدخلون واختلفت أقوال القائلين فإن إعجاز القرآن يكمن في قوة تأثيره وصدق كلمه وقهر حقائقه، فلنعرض إشارات المفسرين لثقل وقوة القرآن بإشارات تغني عن الإسهاب عند ذوي الألباب، وبعدها نلمس قوة قهر القرآن لمن خالفه في كل أوان.
بعض معاني قوة القرآن وثقله لدى المفسرين
وقال الطاهر بن عاشور1 عند قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد : 31].
" إذ لم يهتدوا بهدي القرآن ودلائله والحال لو أن قرآناً أمَر الجبال أن تسير والأرض أن تتقطع والموتى أن تتكلم لكان هذا القرآن بالغاً ذلك، ولكن ذلك ليس من شأن الكتب، فيكون على حدّ قول أبَيّ بن سُلْمَى من الحماسة :
... ولو طَارَ ذو حافر قَبلها لطارتْ ولكنه لم يَطِر."
تعقيب:
على هذا المعنى تضافرت أقوال المفسرين، وأرى وأستغفر الله بأن الأمر على غير ما قالوه؛ إذ جاءت هذه الآية بمثابة قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام : 111]
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} وتقديره لكان هذا القرآن لعظمته ولاستمداده قوته من الذي له القوة جميعا، فكيف يعجزه فعل أي شيء؟.
وكيف لا تسير الجبال ولا تنشق الأرض ولا تكلم الأموات بهذا القرآن وقد حكى القرآن بأنه لو أنزل القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله. " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله.. والذين أحسوا شيئاً من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقاً لا يعبر عنه إلا هذا النص القرآني المشع الموحي".1
واعتبر في ذلك أيضا من باب المخالفة كيف أن السموات والأرض كادت أن تتفطر لمجرد سماع فرية في حق الله جل جلاله،{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً [90] أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً [91] مريم.
وهكذا تبرز قوة وقدرة القرآن العظيم، وما أسبغ الله عليه صفة العظمة؛ إلا لكونه كلام الله، العلي العظيم الذي خضع له ما في السماوات والأرض، واستمداده قوته من قوة الله وقدرته الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء سبحانه وهو الله الواحد القهار.
وقال الشنقيطي رحمه الله عند آية المزمل :
"أثبت تعالى لهذه العوالم إدراكاً وإشفاقاً من تحمل الأمانة، بينما سجل على الإنسان ظلماً وجهالة في تحمله إياها، ولم يكن هذا العرض مجرد تسخير، ولا هذا الإباء مجرد سلبية، بل عن إدراك تام... وفي الحديث : { لا يسمع صوت المؤذن من حجر ولا مدر ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة}2 فبم سيشهد إن لم يك مدركاً الأذان والمؤذن" .3
حقيقة قوة القرآن وثقله
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ َوجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان : 52]
رأينا بأن المفسرين تكلم كل منهم بما تفاعل به مع روح القرآن وحججه الدامغة، ولله الحجة البالغة، لكنهم لم يلتفتوا إلى أن القرآن قول فصل لا هزل فيه، وأنه كلمات تامات لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وإن أومئوا إلى ذلك في محله إيماءات شاردات لا يلتفت إليه الذهن، ولا يجمعها جامع يرفعها إلى أن تصبح ضابطا لسداد الأمر وصوابه، ومقياسا يكشف فساد الرأي وضلاله.
فهل أدرك بعض المتكلمين -ومن ورائهم بعض الفقهاء- جهلهم العميق بحكمة الحكيم وهم يصرحون بأن الله يفعل الأشياء لا لحكمة وأن أفعاله لا تعلل؟ أليس القرآن تنزيلا من حكيم حميد ؟ فما معنى اسمه الحكيم ؟
فمن يؤمن بأن لا رب سوى الله جل جلاله خالق الكون والمخلوقات هو المهيمن على الكون برمته، وهو حي قيوم، يدرك بأن كونا منسجما وفق معطيات علمية جد دقيقة لا يمكن للعبثية أن تتدخل في نظامه كان عليه أن يسعى جادا لإدراك قوانين سننه، حتى لا يتعرض لحتف بجهله لنواميس الكون.
ولم تكن تلك رغبة نابعة من إرادة الإنسان وحسب، بل ذللها الله له وسخر له ضوابطها ليتحرك على بينة وعن علم كي ينسجم سيره وفق ضوابط الكون. يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء : 26].
إن من يطالع إرادة الدول في سيرها وفي السبل المعتمدة لتحقيق رغباتها يدرك جيدا بأن البشرية تتخبط خبط عشواء في منهج تخطيطاتها؛ فمن مخططاتها ما يتحقق ومنها ما ينقلب عكسا ووبالا على أصحابه.
ما التفتوا بأن للكون قوانين صارمة يمضي على نهجها، فمن وافقها تحققت أغراضه، ومن خالفها تعطلت مشاريعه. إن الكون لا يمشي إلا وفق إرادة ربه، لا وفق إرادة مؤمن كان أو كافر. لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً [النساء : 123].
قوة القرآن شموخ في عزة وإيمان
بعكوف المؤمن على باب ربه ليخرج على الناس من المحراب داعيا إلى سبل المرحمة، متواصيا بالحق، حافظا لحرمات الله ولحدوده، منظره جذاب وفي سمته آية للناظرين، غير مكترث بما تزين به المنافق من هندام، وما اعتز به من أثاث، كلامه اللين صواعق تخرق السكون، وتتصدع له قلوب الظالمين، لا يطرق قلبه خشية الناس كأنه وهو مخلوق من جلد ودم يحس ويشعر تحوله إلى مجرد روبو لا تطرف له عين من تهديدات الظالمين، ولا يقعقع له بالشنان، ولا يأبه بكل صنوف الحروب سواء منها الحروب النفسية أو غطرسة وطغيان المستكبرين، سلاحه الاعتزاز بالله ربا وبدينه منهجا وسطيا وبنبيه قدوة وأسوة.
ثبات أولي العزم من الرسل
وما كان سيدنا نوح عليه السلام ليسمع قومه تحد سافر وهو الأعزل والوحيد وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ [يونس : 71]
بل قال سيدنا نوح قولته لقومه لما بلغه آمان ربه أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [هود : 36] لو لم يُؤمنه ربه ويصبغ عليه اليقين ويثبت قلبه ليقف المواقف التي عز نظيرها وليسمع الظالمين تحديا لا مثيل له في تحد من غير تعد، ما كان لعبد أن يخترق أسوار بشريته؛ لكنه التأييد الرباني للعباد المؤمنين عامة وليس للأنبياء بخاصة.
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [30] نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [31]فصلت
ما كان لسيدنا إبراهيم عليه السلام أن ينشد توحيد ربه وتسفيه الظالمين، ويتأفف في وجوههم، وهو الوحيد الأعزل، غير مختبئ ولا متوار، إلا باعتماده على ربه وتوكله عليه ويقينه فيه، فضلا عن الاستعلاء الإيماني على ضلال الكفر وتعطيل جوهرة العقل.
وما كان لسيدنا موسى عليه السلام وهو ينظر إلى جيش فرعون يتهافت نحو المؤمنين معه وقد صاحوا : إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [61] قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [62] الشعراء.
أين زلزال هذه القلوب من ثبات تلك الشم الراسخات؟ فبم ثبتت لولا تأييد ربها بروح منه يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم : 27]
وما كان لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أن ترسخ أقدامه ويعلنها خبرا مدويا ويطلق إنذاره لقريش { قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام : 135] لولا قوة يقين على صدق كلمات ربه وسيأتي بيان ذلك مفصلا في الصفحات اللاحقة.
ثبات المؤمنين
ما كان لمن آمن بربه واستقام على شريعته واتخذ نبيه قدوة إلا أن يسير على هدي أولي العزم من الرسل ليقول كلمة حق نصرة للحق-الذي هو اسم الله ودينه ومنهاج شريعته- وإخمادا لفتنة الباطل ودحضا لعوارضها. ولنستمع لهذه الآية وهي ترتل علينا مقاييس اختلفت دلالاتها بما تعارف عليه الناس في كل أوان لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة : 22]
قول الحق الذي يُؤْثر على الآباء، والأبناء، الإخوان، والعشيرة، لما كتب الله الإيمان في قلوبهم وأيدهم بروح منه. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وما القول الثابت إلا كلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر.
ثبات تتزلزل عنده الجبال، ويصمد في الموقف يوم تصطك الأسنان وترتجف الأعضاء ويخشع السمع والبصر ولا تسمع إلا همسا. وأمام هذا الاستعلاء الإيماني للمؤمنين، ولتكون الصورة ناصعة هذه لوحة أحداث الوقائع سواء تجلى الأمر في المواقف أو حتى فيما يسمونه علوما :
غرور العلوم الإنسانية:
مغرور هذا الإنسان ؛ فلئن استطاع أن يفك بعض ألغاز القوانين الكونية كمثل تحويل كمية من الماء إلى قطعة ثلج، أو العكس عندما نعرض الماء لدرجة حرارية معينة، أو استطاع فك لغز تكاثر الميكروبات بالرصد والمتابعة، فإنه لم يدرك لقوانين وسنن نظم الحياة معنى ولا مغزى، نعم لكم يطول كلام المحللين السياسيين عند وقوع حادثة ما، ويستطيعون البرهنة العقلية على الحدث والغوص في التأويلات، وإطلاق العنان للحدس والظنون، أما الجزم يقينا بعوامل الصراع الحقيقية، لا الصورية، والتي كانت من وراء الحدث، فهذا ما لا مطمع لهم فيه، ولا مطمح لهم للتطلع إليه.
ففي قوله جل وعلا : فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم : 50]. أمر بتتبع سنن الله في كونه. مثلا : كيف تنبثق عن عظم ثمرة نبتة لينة ثم شجرة ونخلة شديدة الصلب ؟ ومن ثم تتبع سنن الأشياء، مثلا كيف تكتمل دورة المياه جريانها ؟ كيف تتحول قطعة ثلج إلى ماء إلى بخار إلى مطر إلى وديان وبحار إلى بحار وجبال ثلجية ثانية لتكتمل الدورة ؟
فعوامل الصراع السياسي هي أيضا مجموعة من المتناقضات قد تتحول إحداها إلى أخرى إذا ما توفرت شروط التحول. فالغنى العريض قد يتحول إلى فقر مدقع، والعكس صحيح، والصحة قد تتحول إلى مرض، وعكسها صحيح أيضا، والحياة قد تتحول إلى موت، وهكذا دواليك.
ولما كان الظلم هو وضع الشيء في غير محله أو في غير إبانه، كان أيضا مؤذنا بالخراب، وأعظم الظلم على الإطلاق الشرك بالله والتقول عليه، وكان انعدام الأمن معهودا للظالمين بصفة عامة، وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأنعام : 129] وللمشركين بصفة خاصة ؛ لقوله تعالى : الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام : 82].
لقد ناور كثير من رؤساء الدول ودخلوا في حمى أمريكا وعزتها بداية فكيف كان مآلهم نهاية ؟ ليت قومي يعتبرون بأن كل من اتخذ إلها غير الله رصده العهد الرباني : وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً [81] كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً [مريم : 81-82].
واتخذ آخرون الاتحاد السوفييتي البائد وليا ونصيرا ونادوا بجبهة الصمود والتصدي، فكيف كان المصير؟ ألم يطردوا من الأعتاب، وخسفت مكانتهم بين الأصحاب؟ ليتهم تدبروا ! ليتهم تذكروا ! وإنما استبدلوا قبلة الشرق بقبلة الغرب !!! ليتهم لم يفعلوها ليتهم !!!
وإذا ما حذرهم محذر وعد الله، وجاءهم بالبيِّنات، استهزؤوا منه وسخروا من أقواله، بل سجنوه، وعلى لائحة الإرهاب حشروه... لا إله إلا الله... قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ [التوبة : 64].
وما ألح الله على شيء مثل إلحاحه على السير في الأرض ؛ إذ أمر بالسير في الأرض سبع مرات، واستنكر علينا قعودنا سبع مرات، وليس السير في الأرض غاية لذاته، وإنما لاستكشاف أسرار وسنن الذين من قبلنا :
(انظر لائحة الأوامر السبع بالسير في الأرض وكذلك الاستنكارات السبع في فقرة الإعجاز الرقمي في القرآن)
ونستشف برهف الحس من بين هذه النصوص بأن للهداية سننا، وأن للضلالة سننا، وأن لفضل الله سننا، وأن لعقابه سننا، وان الاعتزاز بالقوة والآثار لا تغني شيئا من أمر الله، وأنه لا راد لأمر الله، إلا الدعاء بذلة وصغار واستغفار، فضلا عن التحصين بأسماء الله الحسنى والدخول في معقبات بين يدي المرء ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، إضافة إلى الإنفاق في سبيل الله.
فانظر حفظك الله : كيف تتبدل المقاييس المتعارف عليها عند ذوي السلطان والجاه، والاعتزاز بالآباء والأجداد، والافتخار بالحضارات الزائفة، وبالبنين والأموال وبالقوة الدفاعية والهجومية، فكل ذلك ظل زائل، لا قيمة له عند الله، ولا يغني من أمر الله شيئا.
والتشريع الإسلامي لا يولي قيمة لشيء، إلا إذا كان فعله خالصا لوجه الله، وعلى سنة حبيبه ومصطفاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذ يغتر الكافر بقوة عدده وعدته الحربية، مثلا : إسرائيل في زماننا ؛ إذ جعلها الله أكثر نفيرا. فالنصر غير مرهون بقوة عدد وعدة، بقدر ما هو مرهون بنصر الله وفق وعده تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد : 7].
من هنا كان النصر حليف حزب الله رغم ما أوتيت إسرائيل من قوة عدة وعدد سواء عند خروجها ذليلة من لبنان سنة 2000 أو عند حرب 2006...
هكذا نطقت السنن الإلهية، وهذا هو الواقع على أرض المعركة، فهل تغيرت المعطيات، وهل تبدلت العهود الربانية ؟ رغم أن العقل لم يهتد لسبب انتصار ثلة من المؤمنين على جيش مدرب على أحدث التقنيات وأفضل الأسلحة الفتاكة والقنابل الذكية، طيلة أربعة وثلاثين يوما من المعارك...
فهل نستجب لأمر ربنا بالضرب في الأرض تمعنا وتفهما واستنباطا لسنن كونية وقرآنية في الحياة، أم نلوي ولا نلتفت للأوامر الربانية ؟ ألم يكفنا ما نعيشه من شتات وضياع حتى هبت الأمم علينا كالأكلة على قصعتها تستولي على خيراتنا وتسخرنا تسخير العبيد لمهامها ؟؟؟
سنة الله في الكذب والكذابين
1- الكذب آفة من لم يؤمن بآيات الله:
ما ترك الله الكون سدى ولا خلقه عبثا، وتعالى الله عن العبثية واللعب، فالله جعل لكل شيء قدرا، وكل شيء خلقه بقدر، وجعل لكل شيء أجلا.
والإنسان خلقه الله في أحسن تقويم، وجعل له السمع والأبصار والفؤاد، وزوده بنعمة العقل ليميز الخبيث من الطيب، وليكون على بينة من الأمر، وأرسل له رسلا تهديه سواء السبيل؛ فكان منهم المؤمنون برسالات الرسل ومنهم المكذبون بالدين.
والكذب آفة الإنس والجن، وفي هذا يقول سيدنا سليمان : {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل : 27]
والكذب فكرة ارتجالية لم تدرس العواقب ؛ ذلك لكون سنن الله جل وعلا تؤكد بأن : {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام : 67] وما كان لمن يؤمن بهذه الآية أن يتعمد الكذب والافتضاح يترصده لما لم تجد كذبته من مستقر لها إلا أن تلقى على وجهه ليفتضح أمره.
ومن سنن الله الإمهال ونستوحيه من مدلول لفظة سوف، هذا ما جعل الغفلة تنطلي على بني آدم وتنسيه ما لفظه من نبأ كذبا وزورا.وهذه السنة تؤهلنا لاستكشاف سبل الكذب وسيمات الكذابين :
{ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ}[محمد : 30] :
سيمياء الكذب والكذابين :
تزيين الهندام :
فشتان بين من يزين باطنه بالتقوى وخشية الله ومن يتزين للمخلوقات ظاهريا وهم ذئاب في ثياب {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون : 4] ؛
تنميق القول :
ومن مظاهر النفاق اصطفاء العبارات واختيار أجمل القول وألطفه، لكونه حبيب القلوب؛ إذ تشد هذه المصطلحات آذان السامع ويحب استرسال الكلام الجميل : { وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ }[المنافقون : 4]؛
الهلع والضجر والخفة: فالكذاب يطلق الكلم على عواهنه دون أن يدرك عواقبه، ومن ثم تترصده خشية الافتضاح ، فيضحي خائفا يترقب :{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون : 4]
لحن القول :
الكذاب لاتهمه إلا النجاة في لحظته، فهو يستعمل ألفاظه دون سابق دراسة ، ومن هنا تتصيده آفة اللسان فقد يأتي بالصدق ممزوجا كذبا وهو ما يأباه الواقع ويلفظه فتستبين الحقائق وتنفصم عن الزور والبهتان {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ }[محمد : 30] ومثاله ما قصه علينا القرآن من قصة يوسف عليه السلام لنتلمس الكذب في لحن القول : {وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ [16] قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [17]}يوسف وما قولهم {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } إلا لحن القول الذي يترصد الكذاب ليزداد السامع يقينا في نظرهم، وما هو في حقيقة الأمر إلا سبيل كشف ألاعيبهم في نظر السامع... حيث لبثوا بضع سنين وبعدما افتضح أمر يوسف عليه السلام جاءوا أباهم بقولهم {قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ }[يوسف : 97]
القول المختلف :
في الفقرة السابقة رأينا كيف ينجلي الكذب حينما تكون الرواية على سبيل واحدة وننظر الآن كيف يفتضح الكذب حينما تتضارب الآراء{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} [الذاريات : 8] ومثاله قوله تعالى: { وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ 25] قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ [26] } يوسف ، تبين من قولها وقوله تضارب الآراء وتناقضها، فبقي الاستدلال العقلي سبيلا لكشف اللبس الذي غطى الموضوع وبعد انكشاف الأمر وافتضاحه يخاطبه الملك : {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [28] يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [29]} يوسف.
وتمر يضع سنين ويأتي التحقيق في أمر سجنه وتقول زوجته قولتها التي لا تدع لبسا {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [50] قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف : 51]
افتضاح الكذب والكذابين عموما:
تلك إذا بعض أمارات الكذب وسيمياء الكذابين. ونخلص من الموضوع بالمعادلة التالية
{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل : 105] ما كان لكذاب أن يؤمن بهذا التخصيص ثم يمضي على دربه مكذبا بقوله تعالى :{لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام : 67] والله سبحانه وتعالى للكذابين بالمرصاد وفق وعده سبحانه وتعالى :{ وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة : 72] ومن كان الله خصمه خاب وخسر ؛ إذ الكذب أريد به مكر والمكر يعقبه مكر من الله بل الله أشد مكرا.
ما كان للكذاب أن يمر على وعدين دون أن بفتضح أمره وينكشف ستره:
وعد بإخراج ما كتم من الأمور + وعد بأن لكل نبأ مستقر = افتضاح الكذاب؛
الكذب ≠ الإيمان ؛ {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }[الأنفال : 30]
مكر من العبد← مكر من الله = وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ = َمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر : 10]
هكذا تنكشف آيات الله بينات لقوم يوقنون يعونها ويتدبرونها، وهكذا تتلازم علاقة الكذب بالافتضاح ولو بعد حين؛ إذ الكذب كلمة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. تنشأ الكذبة وتبحث عن مستقر لها، فلما لم تجد لها قرارا، سقطت على وجه قائلها بالافتضاح ولو بعد برهة زمنية قد تصل على بضع سنين.