إعجاز القرآن ليس من علوم القرآن

إنضم
16/11/2009
المشاركات
1,296
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
العمر
72
الإقامة
تارودانت-المغرب
وهذا ما صرح به معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في محاضرته القيمة التي ألقاها أثناء اللقاء 39 من لقاءات مركز تفسير تحت عنوان : المدخل إلى إعجاز القرآن .
يقول حفظه الله في بيان هذا الموضوع : " إعجاز القرآن من حيث هو لفظ : علم جُعل من علوم القرآن ، وهو في الأصل ليس كذلك . فإعجاز القرآن ليس من علوم القرآن ، وإنما إعجاز القرآن هو من علوم العقيدة في دلائل النبوة ؛ لأن أعظم آية ، ولأن أعظم برهان آتاه الله جل وعلا نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - يدل على صدق أنه رسول من عند الله هو القرآن . فالقرآن هو الآية والبرهان . وقع فيه التحدي ، وتحدى الله جل وعلا الجن والإنس أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، ولو اجتمعت قُدَرُهم وكان بعضهم لبعض ظهيرا ، فعَجِزوا . وتحدى العرب أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات كما زعموا : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}[هود:13] . وتحداهم بسورة . وهذا التحدي وحصول العجز ، وكونه دليلا من دلائل النبوة أخْرَجَ اسم (إعجاز القرآن) . وإلا فالأصل في ثلاثة القرون أنه لا يوجد هذا الاسم (إعجاز القرآن) . وإنما فيه : القرآن العظيم كلام الله ، الآية والبرهان ، وحجة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة .
وهذا يبين لك أن مبحث إعجاز القرآن أصله عقدي ؛ ولذلك لا نجد أحدا من السلف من علماء التفسير تكلم حول إعجاز القرآن ، من حيث هو علم متصل بالقرآن ، وإنما بحثه من بحث في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وإثبات الرسالة وإثبات الإسلام "
 
بسم الله الرحمن الرحيم...الحمد لله رب العالمين..أما بعد..جزاكم الله تعالى خيرا...جزاكم الله تعالى خيرا شيخ عبد الكريم..أخي الكريم..أرجو النظر بما يلي-
١- كلام العلامة الشيخ صالح صحيح..في بداية تكوين العلوم الاسلامية وخاصة علوم القرآن الكريم فهي لم تستقل وتتوضح الا على يد العلماء الثلاثة البلقيني والزركشي والسيوطي رحمهم الله تعالى.
٢- ولكن في زماننا هذا توضحت مسألة مهمة أشار إليها الاستاذ مساعد الطيار في العديد من بحوثه وهي (التداخل بين العلوم)أي مثلا ان علم آيات الاحكام يدخل في التفسير والفقه وان القواعد الاصولية تتداخل بين أصول الفقه وأصول التفسير...وغيرها.
٣- ولهذا فلا مانع والله تعالى أعلم ان نجد المباحث التي يدرسها طالب العلم في دلائل النبوة هي نفسها التي يدرسها في علوم القرآن ولكن يبقى لكل علم غايته ووسائله..والله تعالى أعلم.
 
(لأهمية المحاضرة سأقوم بنشر جزئياتها تباعا إن شاء الله تعالى)

وقبل أن نصل إلى المقصود نمر مرورا تاريخيا سهلا ، بحسب ما يقتضيه المقام على هذه المسألة ؛ مسألة إعجاز القرآن من حيث هي معناها أن القرآن معجز . معنى ذلك أن الإعجاز صفة للقرآن ، وهو إعجاز القرآن وليس إعجازا بالقرآن . ولذلك فأهل السنة حينما وافقوا على إطلاق هذا الاسم في دلائل النبوة ، قالوا هو إعجاز القرآن وليس إعجازا من الله بالقرآن . لهذا نمر مرورا سريعا في كيف صار إعجاز القرآن من علوم القرآن ، ومن علوم العربية ، أو من علوم البلاغة ، أو ما إلى ذلك .

يتبع ...
 
أول ما بدأ تكلم في هذه المسألة في إثبات النبوة ؛ لأن القرآن هو حجة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن الحجة قامت على العرب بهذا القرآن ؛ لأن العرب أهل لغة . فاللغة العربية وُلدت مع العرب ؛ ولذلك سميت عربية . وفي الحديث الصحيح : «أول من فُتِق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل ... » عليه السلام . وانتهت خاتمة المطاف في قمة اللغة العربية حين نزل القرآن على العرب . كانت العرب مختلفة في لغتها العربية ؛ هناك لغة قريش ، وهناك لغة هُذيل ، وهناك لغة قحطان ، وهناك لغة تميم ، وهناك لغة أهل اليمن ، وهناك عدة لغات أو أحرف مختلفة للعرب في كلامها . وهناك عند بعضهم ما لا يعرفه البعض الآخر . فقمة البلاغة ، قمة فهم اللغة في لفظها ومعناها وتركيبها ونظمها كانت عند عرب قريش . وكانوا يحتفون كل سنة بسوق خاص بذلك ، وتُعلق القصائد على الكعبة ، التي يُشهد لها لأجل ذلك . ولما كان الأمر كذلك ، كانت الحجة قائمة على العرب بهذا القرآن ؛ لأنه من عند الله جل وعلا . حيث إنهم عند أنفسهم قد ملكوا البلاغة والبراعة ، واختيار اللفظ ونسق النظم ، بلغوا فيه الغاية وتفاخروا بذلك . فلما نزل القرآن وجدوا العجز الكبير في ذلك . وهنا القصة المشهورة أن ثلاثة من قريش ، وهم سفيان بن حرب ، وأبو جهل ، والأخنس بن شريق اجتمعوا ليلة على غير موعد عند منزل النبي صلى الله عليه وسلم يسمعونه يقرأ القرآن . فلما تراءوا عند الانصراف ، تعاهد بعضهم مع بعض ألا يرجعوا مرة ثانية ، خشية من تأثير القرآن . ومع هذا التعاهد اجتمعوا مرة أخرى لغلبة سلطان التأثير للقرآن على نفس العربي في ذلك . واستمعوا ليلة ثانية ، ثم ليلة ثالثة حتى تعاهدوا في الليلة الثالثة أن يقولوا للناس إنه مفترى . وهكذا كانوا يسمعون ، حتى قال الوليد في وصفه للقرآن : لقد سمعت شيئا ليس بالشعر ولا بالكِهانة ولا بقول البشر ، إن له لحلاوةً وإن عليه لطلاوة - (تُقرأ الطاء بالفتحة والضمة والكسرة) – وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق. وهذا منه استسلام لعظمة القرآن . فهو له سيطرة على النفوس ، ولأنه كلام الله جل وعلا .

يتبع ...
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين...أما بعد...الشيخ الكريم عبد الكريم عزيز زادنا الله تعالى وإياكم
علما وفهما...لكي تتوضح الفكرة من هذه المشاركة أرجو أن توضح هل أن الشيخ صالح
حفظه الله تعالى يقبل بفكرة إعجاز القرآن؟ لإني بصراحة حاولت معرفة رأيه عن طريق
موقعه ولكني لم أحصل على جواب...أرجو أن لا أتسبب لك بحرج فإن كان ذلك فلا تجب.....والله تعالى أعلم.
 
ومن هنا جاء البحث : لمَ كان القرآن معجزا ؟
وكما قلنا لفظ الإعجاز لم يكن معهودا ، ولم يرد لا في الكتاب ، ولا في السنة ولا في كلام الصحابة ، ولا كلام التابعين ولا كلام تابعي التابعين ، ولا من بعدهم أيضا بقليل . إنما أول من أحدثه المعتزلة . والاستعمال صحيح إذا عُني به المعنى الصحيح الذي نتكلم عنه ، وإلا فالأصل : القرآن آية ، برهان القرآن ، آية القرآن ، ونحو ذلك . لكن جرى الاصطلاح على استعمال لفظ الإعجاز ، باستعمال صحيح ، فلا بأس في ذلك ، واستعمله العلماء في نحو من الاستعمال . فكان ممن تحدث في ذلك النَّظَّام (ت:221 هـ) المعروف ، شيخ المعتزلة بأن القرآن سبب إعجازه ليس أن العرب غير قادرين على الإتيان بمثله ، ولكن أن الله صرفهم عن ذلك بقدرته . وهذه هي المسألة الموسومة بالصَّرفة في كتب العقائد ، ولا نطيل فيها . يأتي بعده تلميذه أو صاحبه الجاحظ (ت:255 هـ) ، فذكر في غير ما كتاب ؛ مثل كتاب الحيوان وغيره ، قال : السر في الإعجاز هو اللفظ ، فإن المعاني يعرفها العربي والعجمي ، ويعرفها الحضري والقروي . وإنما الشأن في انتقاء اللفظ ، وحسن السبك أو كما قال . وهذا المعنى ، أن السر في الإعجاز الألفاظ ؛ الألفاظ المنتقاة الخيرة . لكن القرآن لفظ ومعنى . المعاني فيه أكثر بعدا من الألفاظ . الألفاظ فيها العلو والإعجاز ، لكن المعاني فيها بالتركيب - كما سيأتي -إعجاز آخر . وهناك من عكس فقال : الألفاظ موجودة ، ولكن الشأن في المعاني من تركيب هذه الألفاظ . وهناك من أتى بعد ذلك وهو الخطَّابي (ت:388 هـ) رحمه الله تعالى ، حمد بن محمد بن سليمان العالم المعروف ، حيث جاء بذكر نظرية النظم ، أو ما يسميه المتأخرون بنظرية النظم . أشار إليها إشارة في رسالته في إعجاز القرآن ، ولكنه لم يطبقها تطبيقا واسعا . وأخذها معاصره العلامة عبد القاهر الجرجاني (ت:471 هـ) ، فبسط القول فيها بسطا ، آلت الأمور إليه في أن سر إعجاز القرآن في النظم . ومعنى النظم هو ما يجتمع فيه تركيب الألفاظ واجتماعها ، مع بُعد المعاني وتنسيقها واتساقها ، والروابط التي تربط بين الألفاظ لإحداث اختلاف المعاني ، وإحداث الصور المختلفة على الاختصار أو الإطناب . وينظر بعظمة وبهاء – وحُقَّ له في ذلك – إلى قول الله تعالى في رسم شيء كبير ، وإحداث نظر متنوع بعيد في مثل قوله تعالى : {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[هود:44] . بحيث إن واحدا من آحاد البلغاء أو الأدباء ، لو أراد أن يصوغ هذه الصورة الكبيرة التي تراها مع هذه الجمل المختصرة ، لكانت عندك بحر من الصور المختلفة ، التي يمكن أن يكتب فيها أحد عدة صفحات لتصوير هذا المشهد العظيم.
والنظم ذكره العلامة عبد القاهر الجرجاني في رسالته الشافية ، وفي أسرار البلاغة ، وفي دلائل الإعجاز حيث بسطه بنوع بسط ، وهو المشهور بين العلماء ، وأعظم ما بسط فيه هذه المسألة في مجلد من كتابه العظيم (المغني) الذي رد في هذه المسألة على قاضي المعتزلة عبد الجبار . ومرت هذه المسألة - مسألة النظم – بين العلماء على استحسان كبير . والنظم تولد منه – نظرية النظم هذه – فكرة أن عجز العرب على الإتيان بمثله مجتمع بين ألفاظ منتقاة عالية ومعاني كثيرة متنوعة وبين نظم يجمعها بروابط تحدث معاني مختلفة . وهذا استحسنه العلماء الذين أتوا بعده ، وخاصة علماء العجم الذين كانوا يحتاجون للحوار أو للمناظرة في هذه المسألة مع من يُنكر النبوة ويُثبت حُجِّية القرآن . من هنا – من كلام عبد القاهر - تولَّد علم اسمه علم البلاغة . وعلم البلاغة له ثلاثة فصول أو علوم . الأول علم المعاني ، والثاني علم البيان ، والثالث علم البديع . والبديع يُنظر فيه إلى المحسنات اللفظية بأنواعها ، والبيان يُنظر فيه إلى الصور والمعاني الناتجة من الألفاظ ، والمعاني – وهو أهمها لطالب العلم في التفسير – وهو كيف يختلف التفسير وتختلف المعاني بالروابط المختلفة للنظم . مثل ما نقول : التقديم والتأخير والتأكيد بإن والقسم والحصر والقلب وأنواع ذلك من علوم المعاني . ولهذا لا يمكن أن يجيد التفسير بالإرشاد إلى الإعجاز من لم يُتقن علم المعاني . فنتج من هذه النظرية – نظرية النظم – البلاغة بعلومها التي تُدَرَّس الآن . والدمج ما بين علم البلاغة وعلم التفسير اليوم قليل . حتى عُدَّت المؤلفات التي يُقال تفسيرها بلاغي . وإذا كان المقصود بتفسيرها بلاغي البديع والبيان ، فهذا أمر لا بأس به وفيه سعة . ولكن لا يصلح أن يكون تفسير بلا علم المعاني ؛ لأن التفسير بفهم اللغة باللسان العربي واجب . لا يمكن أن يكون التفسير إلا بفهم اللسان العربي ، والصحابة رضي الله عنهم هم أقدر الناس على فهم اللسان العربي . وبالتالي كانوا هم بالسليقة والطبيعة أقدر على فهم المعاني بمقتضى رعاية علم المعاني الذي جاء مؤخرا . ولكن هنا وقعنا في تقليد استمر منذ عبد القاهر الذي عمل إنجازا كبيرا في تاريخ إعجاز القرآن في هذه المسألة ، وكان همه الرد على المعتزلة ، في ذلك عمل إنجازا كبيرا استحسنه العلماء ، ولكن منه إلى الآن وما قاله يعتبر هو سر في القرآن . وقد رجحه الكثيرون واعتمدوا عليه حتى انفتقت هذه العلوم ، وألف بعده عدد . وهنا تأتي مدرستان مهمتان لطالب العلم أن ينتبه لإنتاجهما فيما يتصل بالقرآن وعلومه . المدرسة الأولى : مدرسة العجم ، والثانية : مدرسة العرب . ونعني بالعجم هنا ليس الفصيل ، ولكن الذين أدخلوا القوانين الكلامية والمنطقية في علوم العربية . وهذا هو الذي أفسد الذوق العربي وفهم العلم ؛ علم المعاني وعلم العربية ، على ما كان عليه الأوائل . فاتجهوا إلى أن العربية في معانيها وبلاغتها وبيانها وبديعها يمكن أن توضع في قوالب – كما يقال – تعريفية محدودة لتكون علما يُدرَّس . ولم تكن يوما ما المعاني والنظم في قوانين يُدرك ، وإنما يُدرك بذوق العربية ، وفهم اللسان العربي على ما كان عليه . ولما مشوا في هذا الطريق ، وكثرت المؤلفات في البلاغة في الإيضاح وفروعه في هذا الاتجاه كانت قوالب وقوانين وتعريفات أذهبت الذوق وجعلت المسألة تطبيقية ، دون رعاية للحس والفهم حتى بلغ الأمر أن كتب السيوطي رحمه الله تعالى في ثلاث مجلدات (معترك الأقران في إعجاز القرآن) وأجاد أيما إجادة ، لكن على هذا الخط . أما الخط الثاني وهو المهم ، وهو خط التذوق العربي الذي كان عند السَّكَّاكي وابن السُّبْكي وجماعة فيما نحَوْا إليه ، لكن الأمة لم تترسَّل مع ذلك ، ولم تتبنَّ هذا الأمر في القرن الثامن والتاسع الهجري ، لذلك خبا ، وطلت العربية وفهم القرآن في كودنة نَقَلة القوانين المنطقية والكلامية والعجَمية في القرآن . ومن هنا ضعف الأمر جدا .
المنحى الثالث في إعجاز القرآن ليس هو منحى اللفظ والمعنى ، وإنما هو منحى التأثير ، ومنحى سلطان القرآن على النفوس . وهذا ذهب إليه جماعة من أهل العلم من أهل السلوك ؛ لأن كل طائفة من العلماء لهم ميل إلى علم من العلوم يريدون أن يجعلوا إعجاز القرآن مرتبطا بذلك العلم . فأهل السلوك جعلوا تأثير القرآن على النفوس هو الحجة التي لا يمكن أن يُستهان بها ؛ لأن الأصل هو هذا ، سلطانه قوي : {لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}[الحشر:21] . ثم نمر على هذا إلى العصر الحاضر ، وجاءت أنواع من الدراسات : فمنهم من رأى أن إعجاز القرآن في تشريعه وتشريعاته ، ومنهم من رأى تبعا لبعض المتقدمين في إخباره بالمغيَّبات ؛ أخبر عن قصص أنبياء ، وأخبر عن أشياء في الكون ، وعن تاريخ ، وعن ما يستقبل ، حتى وصل الأمر إلى إعجاز القرآن بالنظريات العلمية ، ويسمونه بالإعجاز العلمي للقرآن . والكتب فيه كثيرة ، وأنشئت له هيئات ، وهو مؤثر .
وهنا نقف وقفة قبل المدخل ، وهذا عرض تاريخي ، وهو الموجود في كتب دراسات القرآن وهو الموجود عند من يدْرُس هذه المسألة . هذه الوقفة هي أن كل ما قيل فيما ذكرنا هو حق وصواب . وكل هذه الأمة على مدى قرون ، تتلمس هذا السر العظيم الكبير في القرآن الكريم الذي جعل الناس الذين خاصتهم اللغة أن يستسلموا له ، وجعل من لا يعرف اللغة يستسلم لرنته وحسن سبكه في الاستماع وحسن رنته في الأذن . ويجعل أهل الجدال يستسلمون لقوة حجته ، ويجعل ويجعل إلى آخر ذلك . هذا كله صفة للقرآن . هذا القرآن العظيم : {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)}[ص:67-68] ، {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)}[النبإ:1-2] . هذا النبإ العظيم ، هو فعلا القرآن وهو العظيم . لكن لماذا كان كذلك ؟ هل هو لتشريعاته ، هل هو لسلطانه ، هل هو لبلاغته ، هل هو لنظمه ، هل هو لتأثيره ، نحن نرى في القرآن عجبا : آية في قصة آدم وبعدها آية في قصة أحد الأنبياء ، ثم تشريع ثم الكلام عن الجنة والنار . تجد في آيات متتاليات في صفحتين أو ثلاث من القرآن فيه مجموعة من الموضوعات المختلفة .
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين...أما بعد...الشيخ الفاضل عبد الكريم جزاكم الله تعالى خيرا...
أرجو من حضرتكم النظر بما يلي-
1- لقد قلت (
وكما قلنا لفظ الإعجاز لم يكن معهودا ، ولم يرد لا في الكتاب ، ولا في السنة....)
ان كنت تقصد كلمة (الاعجاز) فكلامك صحيح وان كنت تقصد جذر الكلمة اي فعل(عجز) فإنه قد جاء
في القرآن الكريم...قوله تعالى(
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ( 44 ) فاطر
ففعل(ليعجزه) هو المضارع لفعل عجز. وفي سورة العنكبوت قال سبحانه(
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ( 22 ) وكلمة(بمعجزين) مشتقة من الفعل(عجز).
2- أخي الكريم لم أفهم القصد من كون مصطلح الاعجاز جديد ولم يستعمل الا بعد فترة من مجيء الاسلام فهل تريد ان تعلمنا ان اي مصطلح
لم يكن مستعملا وقت نزول القرآن يعني انه أمر مبتدع.....ام تقصد امرا آخرا.
3- كما أرجو من حضرتكم توضيح الفكرة التي تسعى اليها بشكل واضح وقد أحسن من قال (خير الكلام ما قل ودل).
وبارك الله تعالى بكم....والله تعالى أعلم.
 
توضيح

توضيح

الفاضل البهيجي حفظه الله
ما أقوم به عبارة عن عملية تفريغ للمحاضرة التي ألقاها الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ، وكما ترى فقد أوضح فيها : أن عبارة (القرآن معجز) لم ترد لا في القرآن ولا في السنة ولا في كلام الصحابة ولا في كلام التابعين ولا في كلام تابعي التابعين .
ونجد عوض (معجزة) كلمة (آية) ؛ آية القرآن أو برهان القرآن . والمعتزلة هم أول من أحدث هذا المصطلح ، واستعملوه استعمالا صحيحا ، فتقبله العلماء من بعدهم . يقول الشيخ : " لكن جرى الاصطلاح على استعمال لفظ الإعجاز ، باستعمال صحيح ، فلا بأس في ذلك ، واستعمله العلماء في نحو من الاستعمال " .
والأصل في (إعجاز القرآن) هو من علوم العقيدة في دلائل النبوة . والشيخ حفظه الله يمر منا مرورا سريعا في كيف صار إعجاز القرآن من علوم القرآن .
وهذه محاضرة بعنوان : مدخل إلى إعجاز القرآن ، الذي سيتكلم عنه الشيخ بعد هذا التمهيد .

والله الموفق للصواب

 
مدخل إلى إعجاز القرآن

مدخل إلى إعجاز القرآن

بعد العرض التاريخي الذي قدمه معالي الشيخ صالح آل الشيخ ، يدخل الآن إلى المدخل ؛ مدخل إلى إعجاز القرآن ، فيقول :

هنا نصل إلى المدخل الذي – أظن – أنه بحاجة إلى دراسة من أهل الاختصاص . وهو أن القرآن ، إعجازه وآيته وبرهانه هي أنه كلام الله جل وعلا . الله جل جلاله الملك القدوس . فكل صفات الله جل وعلا ، وما تقتضيه أسماؤه من معاني تدل على ربنا جل وعلا . وكلامه سبحانه في أمره الكوني أو أمره الشرعي أو فيما أنزله حجة لنبيه صلى الله عليه وسلم ، أو لمن قبله من الأنبياء هو كلامه سبحانه وتعالى . فلا بد أن يكون كلامه جل وعلا غير كلام البشر : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}[النحل:103] . البشر يعلمهم من خلقهم . من خلقهم ؟ خلقهم الله . {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:14] . ولما علم جل وعلا مستوى خلقِه في التلقي في أنواع ما يُدركونه ، جعل القرآن العظيم مُعجزا إلى حدٍّ تقبله عقولهم وأفئدتهم ؛ لأنه لو كان معجزا لله جل وعلا من عظمة الكلام ، وشأنٍ عظيم في الرسالة والوحي ، ربما عجِزوا عن استقباله . فلما كان حجةً كان هداية . ولذلك الجمع ما بين كون القرآن حجة ومعجزاً وآيةً وبرهاناً ، مُلتزَم فيه بأنه كتاب هداية : {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] . هذا القرآن أُنزل لهداية الناس . الناس يختلفون ، فلذلك قلنا : إن أول مَعْلَم ، وأكبر أمر في الإعجاز هو أن القرآن كلام الله . وكلام الله لا يُمكن أن يكون ككلام غيره ، ولا يمكن أن يكون ككلام البشر أو في مستوى كلام البشر . ولذلك عجْزُ كفار قريش ودهاقنةِ العرب ، ومن يعرفون اللغة ويُمارسونها ويفتخرون بها ، عجْزهم عن ذلك ؛ لأنه كلام الله الذي لا يستطيعون أن يأتوا بمثله .

يتبع ...
 
في الكلام تستطيع أن تصف كلام الناس ، تقول هذا أسلوب صالح آل الشيخ ، تسمعه بدون أن تعرفه . لو غيروا لك الصوت ، تقول : هذا أسلوبه . هذا أسلوب الدكتور عبد الرحمن ، هذا أسلوب فلان ، هذا أسلوب الشيخ ، هذا أسلوب ، هذا أسلوب .. تعرف القائل من أسلوبه . وهذا في نطاق البشر مع تنوعهم . فالله جل وعلا يُعْلَم سبحانه وتعالى بالعلم بالقرآن ؛ القرآن كلامه الذي لا يمكن أن يكون كلام البشر . فلذلك أعظم صفة في الإعجاز وكونه آية أنه كلام الله جل وعلا : {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}[النحل:102] . نزَّله روح القُدُس من الله جل وعلا . هنا نجد معنى الهداية ، مخاطبة الناس جميعا ، التي قال فيها أيضا الوليد لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لو أردت ملكا ملَّكناك ، ولو أردت مالا أعطيناك مالا حتى تكون أغنى العرب ، ولو أردت امرأة لبحثنا لك عن أجمل نساء العرب فزوجناك . ماذا تريد ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا ما عندك ؟ قال : نعم ، قال : اسمع : {حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ(4)}[فصلت:1-2-3-4] . فقرأ حتى بلغ قوله تعالى : {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}[فصلت:13] . فقال الوليد حسبك ، هذا ما عندك ؟ قال : نعم . فقام فرجع . قالوا : ماذا عملت معه ؟ قال : قال كلاما لا أدري ما هو ، ولكنْ أذكر منه الصَّعْقة . إن له لحلاوة ... إلى آخره . هنا ، هذا السلطان نأتي فيه إلى إعجاز القرآن في أثره على النفوس ؛ لأنه كلام الله جل وعلا . القرآن فيه الآيات المتنوعة . الواحد منا يقرأ الآية ويمر عليها ولا يتأثر بها . ويقرأ القرآن مرة أخرى ، ونفس الآية يتوقف عندها وتؤثر عليه . يقرأ الآية قارئ فلا تحرك فيه ، ويقرأها قارئ آخر فتحرك فيه الإذعان والإخباث لله جل وعلا . هذه آية يتأثر بها المستكبر ، وآية يتأثر بها الرحيم . آيات الجنة تهدي من يُحب الترغيب ؛ من يؤثر فيه الترغيب ، من يؤثر فيه الحب ، من يؤثر فيه العطف . آيات الوعيد ، الوعيد بالعذاب ، الوعيد بالنار ، الوعيد بالعقوبة ، تؤثر في فئة من الناس التي تهزهم هذه لما تركب . النفوس مختلفة فتجد في القرآن ما فيه خطاب لجميع النفوس . وهذا لا يمكن أن يكون كلام بشر . ولا يمكن أن يكون يستطيعه أحد . فإذن ، الإعجاز جاء من حيث إن القرآن أثَّر على أصناف الناس ، كل واحد بنوع نفسيته . تجد فلان يعامل فلانا له نفسية ، له طريقة ، ويعامل : هذا شديد ، وهذا رحيم ، هذا لين هذا حليم ، هذا مستعجل ، هذا يسمع وآخر لا يسمع . القرآن فيه خطاب للجميع . منهم من يتأثر بالأحكام الشرعية ، وبالحلال والحرام ، ومنهم يتأثر بالقصص ؛ قصص السالفين . منهم من يتأثر بالآخرة وما فيها ، ومنهم ومنهم .. فكل أصناف الناس بما خلق الله النفوس عليه من أنواع - وهي أنواع كثيرة – تجد أن الجميع مخاطب في القرآن بما يؤثر عليه ويُصلح نفسه لمن ألقى السمع وهو شهيد . وهذا نوع أول من مداخل إعجاز القرآن . النفوس مختلفة لا يعلمها إلا الله . القرآن كلام الله ليس بكلام البشر ، فهو صفته سبحانه ، الذي خلق الناس وعلِم ما يُصلحهم . هذه نظرة هداية . ليست فقط نظرة هداية ، ولكنْ هي في قالَب النظم الذي ذكروه . يعني أن ما ذُكر هو من خصائص لهذا القرآن ، صفات لهذا القرآن ، أن ألفاظه فيها كذا ، وأن معانيه فيها كذا ، وأن نظمه معجز ، وأن فيه السلوك وأن فيه التشريع ، وأنه فيه الإعجاز العلمي ، وأن فيه الأخبار بالمغيبات الماضية أو المستقبلة ، هذه كلها صفات . لكنْ مَنْ جَمَعَ الكلام بهذه جميعا ، هو المتكلم بهذا القرآن .

يتبع ..
 
جزاكم الله خيرا أخي الكريم عبد الكريم عزيز على نشر هذه المقاطع من اللقاء العلمي فهل يمكن جمعه في ملف واحد ورفعه ليتم الافادة منه بارك الله بكم؟
 
الفاضلة سمر حفظها الله ورزقها الصحة والعافية
فيما يخص هذه المحاضرة لمعالي الشيخ ، حرصت على أن أقسم تفريغها حسب الوقت المتاح ، ليطلع عليها القارئ كأجزاء من محاضرة في إعجاز القرآن الكريم . أما فيما يخص المحاضرة كاملة فهذا عمل من اختصاص مركز تفسير ، فربما المحاضرة تحتاج إلى تنقيح أو زيادة من الشيخ . لذلك أردت أن يكون عملي يقتصر على التفريغ التلقائي كواحد من الذين استمعوا إلى هذه المحاضرة القيمة .
نرجو الله السداد والتوفيق لما يحبه ويرضاه .
وتقبلوا فائق التقدير والاحترام
 
الثانية : هي أن القرآن معجز ؛ لأن فيه أثر صفات لا يمكن للبشر أن يبلغوها . البشر لهم صفات ، لهم صفة العلم ، لكن بِقَدْر ، لهم صفة حلم لكن بقدر . لهم صفة قدرة لكن بقدر ، لهم صفة قوة لكن بقدر ... إلى آخره . صفة الله في هذه جميعا ليست هي صفة البشر . ولذلك من آمن بالقرآن أول ما أُنزل ، رأى فيه القوة التي تجمع صفات ليست هي من صفات البشر ؛ لأن المتكلم إذا تكلم ، يتكلم بما في ذهنه من الصفات . يعني : بما عنده من معلومات يُخرج ، وبما عنده من قدرة يُخرج . يتوعد بقَدْره ، يُوعد بقَدْره ، يسوق قصة بقدره ، يسوق علما بقدره . لكن ما في القرآن ليس بقدور البشر ولا الجن ولا الإنس أن يكونوا بمثل هذه الصفات التي تكلم الله جل وعلا بالقرآن ، لإحاطته وعلمه وكماله في ذاته وأسمائه وصفاته .

يتبع ...
 
ولذلك ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف:180] . جاءت في آيات . ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ﴾ [طه:8] . جاءت في إنزال القرآن ، في أول ما أنزل : ﴿طه . مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ . إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ﴾ [طه:1-3] . إلى أن قال : ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ﴾ . ربطها هنا في هذا الموطن بإنزال القرآن ﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ﴾ . لأنه ، تأملوا ما في القرآن من بواعث لهذا الكلام ، لا يمكن أن يكون إلا من صاحب صفات لا تجتمع عليها البشر والجن والإنس لو اجتمعت ؛ بعضهم لبعض ظهيرا . لكن لا يمكن أن يبلغوا علما يُخرجون به مثل هذا القرآن . ولا أن يبلغوا فهما ولا فقها ولا حكمة ولا قدرة ولا قوة ولا قدسا ولا طهورية ولا عبودية . فإذن ، هذه جميعا تغشى المتلقي للقرآن ، فيعلم أنه لا يمكن أن يكون هذا إلا كلام الله جل وعلا . فهنا صفات الرجال والنساء من الجن والإنس لو اجتمعت ، وبعضهم لبعض ظهيرا ، لن تبلغ شيئا من صفة الله جل وعلا . ولذلك لا يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ؛ لأنهم لا يمكن أن يجمعوا شيئا باجتماعهم يبلغ شيئا من علم الله . فعلم الأولين والآخرين وما أوتي الناس ، في علم الله كمِخْيَطٍ وُضِعَ في البحر وأُخْرِجَ منه . فعلم الناس ورحمة الناس التي يتراحمون بها هي جزء صغير صغير صغير من علم الله ، بل إن الله هو الذي أفاض عليهم كل ذلك . فإذن ، الإعجاز جاء والمتلقي للقرآن في العهد الأول يتلقاه بلغة عربية ، لها سلطانها عليه ، ولكن محتواه لو اجتمع الناس جميعا ما جاءوا بهذا المحتوى ؛ آية في الوعد ، في الوعيد ، في الجنة ، في النار ، في القصص ، في التشريع ، في العبادة ، في السلوك ، في المخاطبة ، لا يمكن أن يكون بهذا المستوى إلا من كلام الله عز وجل .

يتبع ...
 
الثالثة : أن القرآن وقع فيه الإعجاز بشيء يجتمع الناس على الاستسلام له وهو الإخبار بالمغيبات. النبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم قصص الأنبياء التي سلفت على هذا النحو ؛ لأن قصص الأنبياء جاء بعضها في التوراة والإنجيل ، ولكن على هذا النحو من العلو في الوصف والعبارة وهذا الحفظ ، لم تأت إلا في القرآن . وجاء فيها أشياء ليست مدركة ، لا في العلم السالف ولا في الأمم السالفة ولا حتى في وقت التنزيل ولا في علم المؤرخين ، إلا في وقت متأخر . فإذن ذِكْرُ التأْريخِ الماضي لا يعلمه إلا الله جل وعلا : ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [يوسف:111] . مثلا ، في قصة يوسف عليه السلام ، في عهد يوسف عليه السلام مصر كانت محكومة قبل عهده وبعد عهده بالفراعنة . في قصة يوسف عليه السلام ما جاء فيها ذكر فرعون ، بل جاء فيها ذكر العزيز . فلماذا خلت قصة يوسف عليه السلام التاريخية من ذكر شيء اسمه فرعون . العلماء يقولون (العزيز) اسم من أسماء ولاة فرعون أو ما شابه ذلك . لكن جاء التاريخ وبَيَّنَ أن فترة يوسف عليه السلام هي فترة لدولة غلبت فيها الفراعنة وانتصروا عليهم ثم بعد يوسف عليه السلام بزمن عاد الفراعنة وحكموا مصر . وهذا ما اكتشفه التاريخ مؤخرا . وهذا نوع من إعجاز القرآن . ليس من الإعجاز التاريخي كما يقولون ، ولكنه أن القرآن كلام الله ؛ لأنه هو الذي يعلم ما كان ويعلم ما سيكون . فصفة الله جل وعلا – هنا – في إحاطته بالعلم ، وأن الله - جل وعلا - بكل شيء محيط علما وقدرةً سبحانه وتعالى هي التي تجعل القرآن معجزا . فكونه سبحانه يعلم علما محيطا كاملا لا نقص فيه بوجه من الوجوه فيما مضى وفيما هو حاضر وفيما نستقبل . علم أزلي ذاتي سبحانه وتعالى لا ينفك عنه جل وعلا . هذا يعطيك أن هذه الأشياء المتنوعة التي في القرآن هي دليل أنه لا يكون إلا من عند الله جل وعلا . وهذا فيه مدخل أيضا للغيبيات المستقبلة التي في القرآن .

يتبع ...
 
وهنا يجوز إدخال الإعجاز العلمي في هذا الأمر . الإعجاز العلمي ؛ لأنه إعجاز لعلم الله جل وعلا بما سيكون وذكره في القرآن . فهو راجع إلى تحقيق أن القرآن كلام الله جل وعلا ؛ لأن العلم بالمستقبل لا يكون إلا من عند الله جل وعلا . ولهذا ، الإعجاز العلمي باب واسع ، وهو مهم في التأثير . الكلام عن الإعجاز العلمي في القرآن بأنواعه ، سواء إعجاز فيزيائي أو كيميائي أو زراعي أو فلكي أو عددي إلى آخر أنواعه ، لكن بشروط أن الذي يربط شيئا فيه أشياء من الإعجاز العلمي يربطها بالقرآن ، يجب أن يعلم أن القرآن كلام الله الذي هو الحق المقَدَّم ، وهو الحق المطلق . والنظريات هذه عرضة للصواب والخطأ مهما كانت ، فلا بد أن تكون تلك العروض بالإعجاز العلمي للقرآن تقريبية وليست قطعية ؛ لأن منها أشياء فُسرت بها آيات ثم بان أنها ناقصة أو ليست كذلك . ومن المعلوم أن القطعي لا يعارض قطعيا . فإذا كانت إثباتات النظرية أو ما أشبه ذلك من الأمور العلمية قطعية بأحد أدوات القطعية فإنه لا بأس أن يُفسر بها القطعي . لكن القطعي هو القرآن إذا كانت دلالته قطعية ، وأما إذا كانت دلالة اللفظ ظنية فهذا فيه مجال بحسب تفسير العلماء.

يتبع ...
 
الصفة الرابعة في مدخل الإعجاز : أن القرآن كلام الله جل وعلا من حيث هو سبحانه ذو الربوبية على خلقه أجمعين ؛ فهو الخالق الرازق والرب سبحانه والملك والقوي ، هو القدير سبحانه . فكل صفات الجلال وأسماء الجلال والقوة والهيبة لله جل وعلا ، هذه كلها ينزل أثرها في كلامه سبحانه وتعالى فيما أنزله على نبيه . ولذلك تجد آيات كثيرة لا يمكن أن تُفسر إلا بأنها كلام من له صفات الجلال . لا يمكن أن تستقبلها بأنها كلام عادي . ولكن العربي بفطرته يدرك ذلك . الصحابي رضي الله عنهم أجمعين قال : فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم القراءة في سورة الواقعة : ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ﴾ [الطور:35-36] . قال : كاد قلبي يطير . لأنه تلقى تلقيا صحيحا . ليس من أثر الكلمات ، هو في مَنْ وراءَ من تكلم بهذه الكلمات . من يقول : ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ﴾ . من يستطيع أن يقول مثل هذا . لا أحد إلا الله جل وعلا الذي هو حقيق بكل تعبد وذل وإخباث بين يديه سبحانه وتعالى .

يتبع ...
 
مّنْ دَخَل في صفات الجلال وأسماء الجلال ينظر هذا النظر . النظر الآخر من ينظر في صفات العدل والحكمة ؛ فآيات القرآن التي فيها التشريع ينظر فيها حكمة الله جل وعلا في كل أنحاء ما شرعه الله سبحانه وتعالى . وهذا باب واسع . كذلك صفات الجمال ، من يستطيع – من الإنس والجن ومَنْ أُنزِلَ عليهم القرآن والناس - أن يتكلم بهذا الجمال في الأثر كما في القرآن ؛ في الرحمة والمغفرة وفي النظر في الملكوت وفي ما في الخلق من جمال ، وما في تدبير الله جل وعلا من جمال ، وما في الرحمة من جمال وما في الجنة من جمال . ليس جمال الصورة ، بل جمال ما أعد الله ، جمال رحمة الله جل وعلا في خلقه . هذه المعاني الجميلة الكثيرة ، لا يستطيع بشر أن يُفيضها ؛ لأن فاقد الشيء لا يُعطيه . هو أصلا لا يستطيع ذلك إدراكا فكيف يُفيضها على عباده . لذلك ، فتنوع الآيات تنوع عظيم . فلا غرابة أن يكون القرآن لو أُنزل على غير البشر لكانت الجبال خاشعة متصدعة ؛ لأنه شيء عظيم ، ضخم ، يُوقِد ، يُحرِّك لمن عنده حِس ، لمن عنده سَمْع أو ألقى السمع . ولهذا كلمة (السمع) هذه من أعظم ما يكون من التأثير بالقرآن . القرآن حجة ليست مرئية ، برهان ليس مرئيا . هو برهان مسموع ، وإذا كان كذلك ، فكيف تعلم بهذا البرهان ؟ لا بد من إلقاء السمع . فَتِّح ذهنك أقوى ما تكون ، فَتِّحْ عقلَك أقوى ما يكون فيما تسمع لتسمع القرآن ، لتعلم أنه من عند الله . لا يمكن أن يكون من عند غير الله .

يتبع ...
 
الأخيرة من الصفات هي صفات الحكمة ، حكمة الله جل وعلا وإحاطته بعدله وحكمته بكل شيء . هذه قال الله جل وعلا فيها : ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء:82] . ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:24] . المدخل إلى التدبر مرتبتان : السمع وفهم المعنى . لذلك قال : ﴿أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ تمنعهم من التدبر . فالذي يتلقى القرآن ويسمع ؛ السمع الصحيح وليس سمع الآلة . سمع الآلة كلنا يسمع القرآن يسمعها المسلم والكافر . سمع الآلة هذا سمع مشترَك . لكنْ سمع الانتفاع هو المطلوب ، سمع التدبر . ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق:37] ، سمع التدبر ، سمع الانتفاع . أما سمع الآلة : ﴿... وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ ...﴾ [الأحقاف:26] . يعني أعطاهم الله سمعا وأبصارا وأفئدة فما نفعتهم . فهذه الآلات وسائل . وهنا نعلم شيئا كبيرا جدا وهو أن الخلاصة كما يقول المقام بأن مدخل الإعجاز في القرآن – وهو طرح نطرحه على هذه الجمهرة من العلماء في الدراسات القرآنية وخاصة الإخوة في مركز تفسير – أن إعجاز القرآن حقيقته أن القرآن من الله ، وكلام الله ليس ككلام البشر في كل ما فيه . وأن مسلك البلاغيين في إعجاز القرآن كان في نقطة في بحر ؛ لأن كلام الله من حيث البلاغة لا يمكن أن يكون كلام المخلوقين : ﴿... وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء:122] . ﴿... وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء:87] . لا أحد أصدق من الله حديثا ؛ لأنه كلامه جل وعلا . فالبلاغيون كلهم يبحثون في هذه الكلمة ؛ في اللفظ والمعنى والنظم لإقامة الحجة . لكن سلطان هذا المتنَوَّع هو سلطان ما في القرآن من أثر صفات الله - جل وعلا - وأسمائه . هذا هو المدخل العلوي المسيطر على النفس لتوقن أن القرآن كلام الله .
أسأل الله جل وعلا أن يغفر لي ولكم وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته . اللهم اغفر لنا جما ، اللهم اجعلنا من المعظمين لك ولكتابك ومن المتَّبعين لرسولك ، اللهم صل وسلم على نبينا محمد ، اللهم اغفر جما وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين .
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين...أما بعد...الشيخ العزيز عبد الكريم عزيز...أرجو من حضرتكم
النظر بما يلي-
1- ان في مختلف العلوم الشرعية يختلف أهل العلم على بعض الأمور ويعتقد بعضهم
ان بعض أقسام العلوم لا تستحق ان تكون مستقلة بنفسها مثلا أصول الفقه البعض
يرى انه من العلوم التابعة لعلوم الفقه ولا حاجة لاستقلاله...ولكن بعد حين من
الزمن تبين ان استقلال أصول الفقه أفضل من بقائها ضمن علوم الفقه وأول تلك
الفوائد ان أصول الفقه من العلوم الصعبة التي بحاجة الى أهل إختصاص يتفرغون
لها...وهذا الذي حصل...ورابط كلامي حول موضوع إعجاز القرآن ان هذا الامر
قد تجاوزه الزمن وتمكن عند أهل العلم ان إعجاز القرآن هو من علوم القرآن.
2- ان الاتفاق الضمني بين اهل الاختصاص- علوم القرآن- أدى الى ان في كل عام
تجري مناقشة العشرات او المئات من رسائل الماجستير والدكتوراه في إعجاز القرآن
وفي أقسام علوم القرآن أو أقسام أصول الدين- شعبة علوم القرآن وهذا يعني ان
المختصين قد تعاقدوا على ان الاعجاز من علوم القرآن.
3- ان البحوث والرسائل التي تكتب في إعجاز القرآن بمختلف أنواعه إنما تبحث في
مسائل قرآنية معينة وجزئيات تتضمن دراسة الآيات وألفاظها...فكيف لا تكون من
علوم القرآن.
هذا مع إحترامي وتقديري لرأي الشيخ المفتي حفظه الله تعالى ولرأيكم أيضا.
والله تعالى أعلم.
 
عودة
أعلى