محمد البويسفي
New member
- إنضم
- 02/03/2006
- المشاركات
- 60
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
مَفْهُـومُ العَالِمِـيَّةِ مِنَ الكِتَابِ إلى الربَّـانِيَّةِ دِراسَةٌ في مَفْهُومِ العِلْمِ وصِفَةِ العَالِمِيَّةِ وَظِيفَةً وبَرْنَامَجَ، من خِلالِ وَصِيَّةِ أبِي الوَلِيدِ سُلَيْمَانَ بْنِ خَلَفٍ البَاجِّي(ت:474 هـ) رحمه الله. الكتاب:
مفهوم العالِمِيَّة من الكِتاب إلى الربَّانية
المؤلف:
الشيخ فريد الأنصاري
مطبعة: .الكلمة للطباعة و النشر.....
الطبعة الأولى: 1427هـ/2006م
و هذه مقدمة الكتاب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده؛ حتى أتاه اليقين. أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدe، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أعاذنا الله منها ومما يقرب إليها من قول أو عمل! ثم أما بعد:
فهذه رِسَالَةٌ في مفهوم «العَالِمِيَّةِ»، وَظِيفَتِها وبَرْنَامَجِها. نُصْدِرُهَا اليومَ بحول الله ضمن سلسلتنا الدعوية: (مِنَ القُرْآنِ إلَى العُمْرَانِ). قَصَدْناَ فيها بيانَ حقيقةِ هذه الصِّفَةِ – بمعناها الشرعي - في الإنسان؛ للتحقُّقِ من معنى كونِه: «عَالِماً». وذلك لِمَا اكْتَنَفَ هذا المفهومَ في الأزمنة الأخيرة من غموض شديد؛ حتى انتسب إلى العلماء من ليس منهم! والحالُ أنَّ وظيفةَ العالِم عظيمةٌ القَدْرِ، جليلةُ الوَطَرِ، خطيرةُ الأثَرِ؛ فكان حالُ الأدْعِيَاءِ معها كمن تَطَبَّبَ وهو جَاهِلٌ! وقاعدةُ الفقهِ المشهورةُ تقضي بأنَّ (مَنْ تَطَبَّبَ وَهُوَ جَاهِلٌ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ!) هذا؛ وإنما الداعي إلى تأليف هذه الرسالة أربعة أمور: - الأول: أنَّهُ ثَبَتَ بالنصوصِ الشَّرْعِيَّةِ الكثيرةِ - المتواترةِ المعنى - أنَّ تجديدَ الدِّينِ إنما يبدأ بتجديد «العِلْمِ». فوظيفةُ النَّذَارَةِ إنما هي مَنُوطَةٌ بأهلِ العِلْمِ والفِقْهِ في الدِّين. وذلك قول الله تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(التوبة:122). وعلى هذا يُفْهَمُ معنى (أُمَّة)؛ تلك المأمورة بـ«الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(آل عمران: 104)، فبمقتضى الأمر (بالتفقه في الدين) - الوارد في آية (التوبة) قَبْلُ بصريح قصد النذارة - يكون مصطلح (أُمَّة) هنا دالا على معنى (أُمَّةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ)؛ للعلة الجامعة بين السياقين في القصد والوظيفة. ولذلك قال سبحانه في موطنٍ آخر: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)(آل عمران:78) وقُرِئَتْ: (تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ) - كما هو معلوم - وهو أوضح لما نحن فيه. ومن هنا كانت وظيفةُ الأنبياء التربوية والدعوية قائمةً على العِلْمِ والتَّعْلِيم. وآيةُ (وظائف النبوة) الواردة في أكثر من سياق من كتاب الله دالةٌ على هذا، قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(آل عمران: 164). ولهذا لم يكن عبثا أن يقرر الرسولُ ذلك بما يشبه الحصر، في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتاً وَلاَ مُتَعَنِّتاً؛ وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّماً مُيَسِّراً!)() ولم يكن عبثا أيضا أن جَعَلَ سِرَّ وِرَاثَتِهِ في خصوص (الْعُلَمَاءِ)، كما ورد في قوله - صلى الله عليه وسلم - الحاسم للمسألة: (إنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ! وَإنَّ الأنِْيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، إنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ!) مما جاء في سياق تقرير مَرْكَزِيَّةِ العِلْمِ، من حديثه الصحيح المليح الذي سيأتي تفصيله قريبا بحول الله. وبهذا كان (العِلْمُ) هو بَدْءَ كُلِّ شَيْءٍ في الدِّين، وهو أساسَ كُلِّ حَرَكَةٍ في الدعوة إليه؛ تربيةً وتزكيةً. وعليه؛ فَـ(الْمُجَدِّدُ) المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله تعالى يَبْعَثُ لِهَذَهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)() لا يكون إلا عَالِمَا! ولكن بما سيتحدد لمفهوم (العِلْمِ) من معنى شمولي بهذه الرسالة إن شاء الله. ومن هنا آل أمْرُ تجديدِ الدِّين إلى أمرِ تجديد (العِلْمِ)، كما قررناه ابْتِدَاءً. وهذا لا يكون إلا بعد ضبط مفهومه، وتحديد غايته ووظيفته؛ للتحقق من معنى (الإرث النبوي) في الحديث العظيم، المشار إليه آنفاً، مِنْ قولِه صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَطْلُبُ فِيهِ عِلْماً سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقاً مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ. وَإنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ؛ رِضاً بِمَا يَصْنَعُ! وَإنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَمَنْ في الأرْضِ! وَالْحِيتَانُ في جَوْفِ الْمَاءِ! وَإنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ! وَإنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ! وَإنَّ الأنِْيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، إنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ! فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ..!)() فأيُّ إِرْثٍ هذا وأيُّ عِلْمٍ؟ ولن نذهب في التساؤل بعيدا؛ فَلِأَبِي هريرة - رضي الله عنه - إشارةٌ لطيفةٌ في هذا السياق، مِنْ مُبَادَرَةٍ تربويةٍ عجيبةٍ ذاتِ طابعٍ تعليمي، قام بها هو شخصيا؛ لتوجيه جيل التابعين، وذلك (أنه – رضي الله عنه - مَرَّ بسوق المدينة، فوقف عليها، فقال: يا أهلَ السوق! ما أعْجَزَكُمْ؟ قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك مِيرَاثُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَسَّمُ وأنتم ههنا! ألاَ تذهبون فتأخذون نصيبَكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد. فخرجوا سِرَاعاً، وَوَقَفَ أبو هريرة لهم؛ حتى رجعوا، فقال لهم: مَا لَكُمْ؟ قالوا: يا أبا هريرة، فقد أتَيْنَا فدخلنا فَلَمْ نَرَ فيه شيئا يُقَسَّمُ! فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحَداً؟ قالوا: بَلَى! رأينا قوماً يُصَلُّونَ، وقوماً يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلالَ والحرامَ. فقال لهم أبو هريرة: وَيْحَكُمْ! فذاكَ مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم!)() فكيف هو ذلك الميراث على التفصيل؟ من صلاةٍ وقرآنٍ وأحكامٍ..؟ وكيف العِلْمُ به؟ وكيف يكون تنـزيلُ حقائقِه في زماننا هذا تربوياً ودعوياً؟ وعلى أي منهاج؟ وعلى أيِّ صِفَةٍ يكون العِلْمُ به مُجَدِّداً للدين؟ ثم ما الْمِقْدَارُ الكافي منه لإضفاء صفة (العَالِمِيَّةِ) على حاملِه؟ - الثاني: موتُ عددٍ كبير من علماء الجيل الماضي، في المشرق والمغرب. والحالُ أنَّ خَلَفَهُمْ – ممن انتسب إلى العلم - دونهم بكثير علما وخلقا. وقد فقدنا في المغرب مِنْ أساطين العلم الكثير، رحمة الله عليهم جميعا. وهم أشياخنا وأشياخ أشياخنا، من أمثال: الشيخ العلامة أديب الفقهاء عبد الله كنون، وشيخ المفسرين المغاربة العلامة محمد المكي الناصري، والعلامة المحقق محمد بن عبد الهادي المنوني، ومسند القراءات القرآنية بالمغرب العلامة الحاج المكي بن كيران، وحجة المذهب المالكي خاتمة علماء القرويين العلامة عبد الكريم الداودي، ومُحَدِّثِ المغرب العلامة الحافظ عبد الله بن الصديق الغماري، وعالم سوس الكبير الشيخ جبران المسفيوي، والعالِم الداعية الدكتور محمد تقي الدين الهلالي، والشيخ محمد الزمزمي الغماري آل بن الصديق، وأضرابهم كثير ممن لا يمكن حصرهم في مثل هذا السياق. رحمة الله عليهم جميعا، على اختلاف مشاربهم، وتنوع مداركهم، وتعدد معاركهم، فقد كان في ذلك كله إغناء للبلاد والعباد. والحقيقة الْمُرَّةُ أن الْخَلَفَ يكاد ينطبق عليه تمثل أم المؤمنين عائشة بقول لبيد رضي اله عنهما: ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ *** وَبَقِيتُ فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ!() - الثالث: انقطاع تدريس العلم الشرعي على وجهه الحقيقي؛ بما أدى إلى انقطاع تخرج العلماء بالمفهوم الأصيل للكلمة. فقد عانت الجامعات الإسلامية والمعاهد الشرعية عبر أغلب أقطار العالم الإسلامي – إلا قليلا - من أزمة ما سُمِّيَ بقضية (تحديث) أو (إصلاح) برامج التعليم، وذلك عبر فترات ومراحل متتاليات، تدرجت – مع الأسف - من الأعلى إلى الأدنى! بما أخرجها عن وظيفتها الحقيقية، وعَقَّمَ رحمها تعقيما! فوجب تنبيه طلبة العلم إلى ما ينبغي انتهاجه للتحقق بمفهوم "العَالِمِيَّةِ"، ولو على طريق العِصَامِيَّةِ، وإحياء عزيمة الرحلة في طلب العلم؛ لتتبع ما بقي من عناصر هذا المعنى العظيم في البلاد، وصياغته في حيوية علمية جديدة، بجيل رباني جديد. - الرابع: تَرَامِي عَدَدٍ من أهل الأهواء والنوازع السياسية على وظيفة العَالِمِيَّةِ، والتلبس بمفهومها بغير حق؛ إذْ صارت حقيقتُها غريبةً بين الناس؛ حتى صار من الصعوبة لدى العامة تمييزُ العَالِمِ من غير العالِم. وتداخلت في الأذهان مفاهيمُ كثيرة، كمفهوم الواعظ، والداعية، والأستاذ، والمثقف، وهلم جرا. والحقيقةُ أنَّ كُلَّ وَصْفٍ من أولئك ليس بالضرورة يَسْلُكُهُ في مفهوم: (العالِم)! فأدى هذا الاختلاط إلى كثير من المفاسد بما حدث من الترامي على وظيفةٍ من أخطر الوظائف في الأمة! ألاَ وهي وظيفة الإفتاء؛ لِمَا يتنج عنها – إنْ لم يُتَقَّ اللهُ فيها - من غلو في الدين، كآفة التكفير بغير حق، وسفك الدماء، وانتهاك الأعراض، واستباحة أموال الناس، واغتصاب أمنهم وأمانهم! أو آفة الغلو المضاد، كالتسيب الْمُمَيِّعِ للدين، والتجرؤ على استباحة المحرَّمات القطعية؛ استنادا إلى ما يشبه الدليل وليس بدليل! والقولِ على الله بغير علم! والإفتئات على النصوص الشرعية بما لم تنطق به، وبما لم تُسَقْ إليه أصالةً ولا تَبَعاً..! زاد الطينَ بلةً أنَّ طائفةً ممن انتسبوا إلى العلم الشرعي؛ تعلما وتعليما؛ لم يأخذوا منه إلا أشباحَ معارفَ وأشكالَ أحكامٍ؛ دخلوا بها في جَدَلٍ عقيم مع الناس، غير مراعين حالَ الزمان وأهله؛ فنفَّرُوا أكثر مما يسروا، وبددوا أكثر مما جددوا..! وقد عُلم أنما العلمُ الحقُّ تربيةٌ وأخلاقٌ، وأن «العلم بأمر الله» لا يكتمل حتى يكون «علما بالله»! كما سيأتي بيانُه بحول الله. وكم من شخص اشتغل بالعلم، فانحرط به – قبل أن يتمكن من حِكْمَتِهِ - في تبديع الناس وتفسيقهم، أو ربما تكفيرهم؛ بما بَدَا لَهُ من هوة وفروق بين حقائق النصوص وحياتهم. وقد عُلِمَ بَدَاهَةً أنَّ العِلاَجَ ليس في أن تقول للمريض: « يَا مَرِيضُ..!» فسقط فيما حَذَّرَ الناسَ منه، من ابتداع منهجي مُدَمِّرٍ! وذلك بما أتلف من موازين المنهج الشرعي في الاشتغال بالعلم؛ تربيةً وتزكيةً! ووقعت عليه عِلَّةُ الغضبة النبوية المنهجية، عندما انتهر رسولُ الله صاحبَه بما أطال على الناس في صلاته، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أَفَتَّانٌ أنْتَ..!؟)(). هذا من جهة. ومن جهة أخرى؛ وفي ظروف غياب المفهوم الحقيقي "لِلْعِلْمِ" و"الْعُلَمَاءِ"، في زمان تداخل المصطلحات، واطضراب المفاهيم؛ تَصَدَّى كثير من عشاق "النجومية" ومحبي الزعامات؛ لمجال "العمل الإسلامي التنظيمي"، مستغلين حالة الفراغ العلمي التي تعاني منها الأمة في مجمل بقاعها! وتخلي من بقي من العلماء عن دورهم التاريخي في حمل رسالة التجديد؛ بما رضوا – مع الأسف - من متاع الحياة الدنيا! إلا من رحم الله منهم، وقليل ما هم!() فتَصَدَّرَ الأدْعِيَاءُ واجهةَ العمل الإسلامي، محققين نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم بما عُرِفَ في السنة بحديث (قَبْضِ الْعِلْمِ)، الواقع في فتنة آخر الزمان: (إن الله تعالى لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ من العبادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حتى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً؛ اتَّخَذَ الناسُ رُؤُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا..!)() وقد تَرْجَمَ الإمامُ البخاري لهذا الباب ترجمةً فيها من العلم والحكمة الشيء الكثير، مما لو تَدَبَّرَهُ المرء لخرج منه بفقه عظيم؛ يُبَصِّرُهُ بطبيعة الأزمة في زماننا هذا حقا! قال رحمه الله: (باب كيف يُقْبَضُ العلم، وكَتَبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انْظُرْ مَا كانَ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فَاكْتُبْهُ! فإني خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ! وذَهَابَ العلماء!() ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم! ولْتُفْشُوا الْعِلْمَ ولْتَجْلِسُوا حَتَّى يَعْلَمَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ! فإنَّ العِلْمَ لا يَهْلِكُ حتى يكون سِرّاً!) وهذا والله من أعظم الْحِكَمِ وأبلغها! (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ!)(ق:37). ولو وضعتَ على نَاظِرَيْكَ بصيرةَ هذا الحديث النبوي الشريف لوجدت هذا شأن كثير من الزعامات الباطلة في المجال الديني، ممن تصدوا للشأن "الإصلاحي" بغير علم، إذِ الحالُ أن لا علاقة لهم بالعلوم الشرعية ولا هم من أهل صناعتها، علميا وتربويا. فبادروا في ظروف الاضطراب المفهومي المعاصر والفراغ العلمي الرهيب؛ لاعتلاء منابرها بغير حق؛ فضلوا وأضلوا فعلا! حيث اختلط على الناس - بسببهم كما أشرنا - مفهومُ "الواعظ"، أو "الكاتب" في الشؤون الدينية؛ بمفهوم "العَالِم"، الذي هو مقصود النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، في سياق الوِرَاثَةِ النبوية، والذي هو المخاطَبُ الأساس بحمل رسالة التجديد في الأمة. فكان أن أدى هذا الاختلاط إلى تدبير الشأن الدعوي من قِبَلِ هؤلاء بإشاعة الخرافات والضلالات في العقائد والعبادات؛ مما أحدث فِتَناً وانحرافات شتى في مجال الدين والتدين! والله المستعان! ألا وإنَّ كُلَّ عَمَلٍ "إسلامي" لا يَتَصَدَّرُهُ الْعِلْمُ الشرعي، ولا يُؤَطِّرُهُ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ فهو بَاطِلٌ بَاطِلٌ! ولن يقود إلا إلى المهالك والضلال!() والنصوص القرآنية والحديثية في هذا المعنى أكثر من أن تُحصى!() فهذه القاعدة من القطعيات الشرعية والكليات الدعوية. وما يضل عنها إلا أعمى! وما أفلح فاجِرُ بني إسرائيل الذي قَتَلَ تِسْعاً وتسعينَ نفساً حينما قَصَدَ عَابِدَهُمْ؛ فأفتاه بالجهل؛ فأتمَّ به المائة! ولكنه أفلح وفاز لَمَّا قَصَدَ عَالِمَهُمْ؛ فكان بتوجيهه الحكيم من التائبين! فتلقته ملائكة الرحمة والغفران.() وإنما العَالِمُ: هو الفَقِيهُ الرَّبَّانِيُّ الْحَكِيمُ، الذي يُرَبِّي بِصِغَارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، كما سيأتي بيانُه مفصلا بحول الله. ولكنْ لَمَّا عَزَّ وجود مثل هذا في زماننا؛ التف بعض الشباب حول من أحسن دغدغة عواطفهم النفسية الجريحة، بما يعانون من التهميش الاجتماعي، والظلم السياسي؛ فاختلطت في أنفسهم مشاعر التدين بمشاعر الرغبة في الانتقام لأوضاعهم الاجتماعية المتردية؛ مما أنتج أجساما تنظيمية قد تتحول في بعض الأحيان إلى خلايا سرطانية، تستوعب الشباب بصورة تجميعية متضخمة؛ لتقتل مواهبهم الإبداعية، وتحجم طاقاتهم الإنتاجية، وتحصرها في اجتهادات إملائية تلقينية، لا تدع مجالا للتفكير العلمي الحر! وهي - قبل ذلك وبعده - تشط بعيدا عن مراتب الأولويات الشرعية للأمة، الراجعة إلى موزاين الشريعة لا إلى العواطف والأهواء!() مما أدى إلى حصر كثير من مظاهر الصحوة الإسلامية المعاصرة في مأساة ما سميناه بآفة (التنظيم الميكانيكي). وقد بَيَّـنَّا في دراسة سابقة أن (من أخطر أخطاء العمل الإسلامي المعاصر الوقوعَ في شَرَكِ تحزيب الإسلام!)() مما أعطى فرصة للدوافع السياسية الجزئية في التحكم في القضايا الكلية للدعوة الإسلامية، وتهميش دور العلم والعلماء! وبهذا اضطربت الموازين، واختلت المقاييس؛ فكان التضخمُ السياسي في العمل الديني، وكان الانحرافُ في التصور والممارسة!() وصار التشنج في الخطاب هو السمةَ الغالبةَ على قِطَاعٍ عَرِيضٍ من هذه التنظيمات! بعيدا عن قواعد العلم بالله وبأمره! إلا قليلاً قليلاَ! والخبير بأحوال البلاد والعباد، وبميزان التدافع العالمي اليوم، يدرك بوضوح أن مثل هذه الاتجاهات التي تتحرك بمقتضى ردود الأفعال المتشنجة؛ إنما هي لعبة - من حيث تدري أو لا تدري - بيد المخابرات الأجنبية، تتحرك في وقت معلوم، وبشكل معلوم، كالدمى، في الاتجاه الذي يخدم مصلحة (الآخر). وعَمَلُ (الآخَرِ) ليس بالأسلوب البليد، الذي يكون فيه ممليا بصورة مباشرة على هذه الحركة أو تلك، كلا طبعا! وإنما هو يقوم بما نسميه بـ(اللعب العالي!) حيث يصنع الظروف والاستفزازات، التي من شأنها أن تحرك كلَّ ذي هوى! ثم يُلقي بوسائطه المندسة في هذه الأجسام المريضة؛ ما يشاء من زخرف القول غروراً. فَيُخْرِجُ المظاهرات الضخمة، والاستعراضات العريضة، ويصنع الصدامات مع السلطات، هنا وهناك؛ لتأديب هذا النظام أو ذاك، أو الضغط على هذه السلطة أو تلك! أو لتمرير قرار سياسي يحد من نشاط العمل الديني وحريته؛ ما كان له أن يُمَرَّرَ لولا رد الفعل البيلد الذي صدر عن هؤلاء! والجماهير الغافلة المستغفلة – في غياب القيادات العلمية الرشيدة - تهتف صادقةً بجهلها، مستجيبةً للزعماء الْجَهَلَةِ بالدين، سائرةً نحو خراب الدين! باسم "الدين"، و"الدعوة إلى الدين"، و"الجهاد في سبيل الله" و"نُصْرَةِ المستضعَفِين"، محقِّقَةً بشعاراتها هذه وأضرابِها؛ مَنَاطَ حِكْمَةِ عَلِيٍّ بنِ أبي طالب رضي الله عنه؛ عندما عَلَّقَ على شعارات خصومه يومئذ، إذْ رفعوها بما يُظهر قصد الاحتكام إلى كتاب الله؛ فقال قولته المشهورة: (حَقٌّ أُرِيدَ بِهِ بَاطِلٌ!) وإنَّ ذلك في زماننا هذا لهو من أعظم المحن والفتن! وإنما يكشف مثل هذا الزيف العظيم اليوم – مما تداخل فيه الكيدُ الخارجي بالكيد الداخلي - العلماءُ الفقهاءُ، والربانيون الحكماء! ولو حاسبنا أنفسنا صادقين بما دَاخَلَهَا من ضلالات وأهواء، في مجال "العمل الديني والدعوي"، وكشفنا ظلماتها - ترغيبا وترهيبا - بنور قول الله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالاَخْسَرِينَ أَعْمَالاً؟ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا!)(الكهف:99)؛ لراجعنا كثيرا من مقولاتنا وأفكارنا، ولَرَتَّبْنَا لآخرتنا ترتيبا آخر. ولكنْ قَبَّحَ اللهُ الأهواءَ! ما أشدها على النفوس! ورحم الله أبا الوليد البَاجِّي لِمَا دَبَّجَ من الحكمةِ في وصيته، حيث قال رحمه الله: (فَكَمْ مِنْ عَامِلٍ يُبْعِدُهُ عَمَلُه من رَبِّهِ! ويُكْتَبُ مَا يَتَقَرَّبُ به مِنْ أكْبَرِ ذَنْبِهِ! والْعِلْمُ لا يُفْضِي بصاحبه إلا إلى السعادة، ولا يقصر به عن درجة الرِّفْعَةِ والكَرامَةِ.)() ولكن قدر الله ألاَّ يقعَ شيءٌ إلا بميزانِه، وفي وَقْتِهِ وإِبَّانِهِ، وللهِ الأمرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ! ومن هنا لم يزل إلحاحنا على طلابنا بأن المخرج من الأزمة إنما هو تجديد إشاعة "العلم"! نعم؛ العلم بمفهومه القرآني الشامل، أي: بما فيه من معنى تنـزيل حقائقه في واقع الأمة، بصورة منهجية وعمق تربوي هادف، شيئا فشيئا. وذلك هو العلم بمعنى الحكمة! العلم الذي يُنِيرُ العقولَ، ويحيي اللهُ به القلوبَ، ويجدد الناسُ به العهد مع الله. وقد أخرج الإمام أبو عمر بن عبد البر - رحمه الله – في كتابه العظيم "جامع بيان العلم وفضله"؛ بسنده إلى مالك بن أنس، رحمه الله ورضي عنه: (أنَّه بَلَغَهُ أنَّ لُقْمَانَ الحكيمَ قَالَ لاِبْنِهِ: يَا بُنَيَّ! جَالِسِ العُلَماءَ وزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْكَ! فإنَّ اللهَ يُحْيِي القلوبَ بِالْحِكْمَةِ، كما يُحْيِي الأرضَ الميتةَ بِوَابِلِ السَّمَاءِ!)(). هذا؛ وقد كانت رغبتنا قديمة في كتابة رسالة حول مفهوم "العالِم" و"العالِمِيَّةِ" تساعد على إزالة الغبش عن الأنظار في تحديد دلالة هذا المصطلح؛ لإحسان توظيفه وتنـزيل حقائقه. ولم يزل بعض طلابنا النجباء، ممن أكرمهم الله تعالى بسلامة الصدر، وصحة العزيمة على التفرغ لواجب الاشتغال بالعلم، وحمل أمانته في الأمة إن شاء الله؛ تعبدا لله، وتجديدا لدينها؛ يلحون علينا بوضع برنامج تكويني في مجال العلوم الشرعية، يراعي أفضل الطرق وأجداها للتحقق بوصف "العالِمِيَّةِ"؛ عسى أن يكون إفناء أعمارهم فيما ينفعهم وأمتهم، ويضاعف أجورهم يوم القيامة إن شاء الله، مستبشرين بأحاديث الرسول الكريم في فضل العلم والعلماء، كقوله صلى الله عليه وسلم: (فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كفضلي على أدناكم! إنَّ الله - عز وجل – ومَلائِكَتَهُ، وأهلَ السمواتِ والأرض، حتى النملة في جُحْرِهَا! وحتىَّ الحوت! لَيُصَلُّونَ علَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرِ!)(). بَيْدَ أني بقيت إزاء هذا الأمر بين إقدام وإحجام زمناً؛ أفكر في الأمر ثم أرجئه! ولم أزل كذلك في تردد من أمري؛ لخطورة مثل هذا الأمر من الناحية المنهجية؛ حتى وقعت بيدي ورقات عظيمة النفع لأحد أعلام علماء الأندلس، وأحد أعمدة المذهب المالكي بها، روايةً ودرايةً، واجتهاداً وتجديداً. ألاَ وهو: الإِمَامُ العُمْدَةُ أَبُو الْوَلِيدِ سُلَيْمَانُ بْنُ خَلَفٍ البَاجِّي(ت:474 هـ) رحمه الله. والورقاتُ هي عبارة عن "وَصِيَّةٍ لِوَلَدَيْهِ"(). وقد ذكرها ابن فرحون المالكي في "الدِّيبَاجِ الْمُذَهَّبِ"؛ ضمن مصنفات أبي الوليد البَاجِّي، عند ترجمته، وسماها: (كِتَابَ النَّصِيحَةِ لِوَلَدَيْهِ)(). ونَصُّها يقطع بنسبتها إلى الباجي رحمه الله. وهي وصية علمية منهجية تربوية. جامعة مانعة شاملة. حَرِيٌّ بمن أخذ بها أن يتقلد منصب العَالِمِيَّةِ حقا وصدقا، ويتصف بمقتضياتها خُلُقاً ومَلَكَةً وكَسْباً. فأعجبتُ بها أيما إعجاب! خاصة وأنها كُتبت بأسلوب أدبي رفيع، ونثر فني راق! يدل على ما كان للأندلسيين - على غير عادة كثير من الفقهاء في بلاد أخرى - من ذوق فني عالٍ في اللغة والأدب؛ بما يشجع على قراءة كتبهم والنهل من مصنفاتهم. ولذلك فقد قرأت كلماتها مراراً، ورَدَّدْتُ عباراتها تكرارا..! وقد جاءت مدبجة بحكم ونصائح عز نظيرها! إذْ ضَمَّنَهَا المؤلِّفُ - رحمه الله - أنظمةً دقيقة في مراتب التعليم ومناهجه، وتحديد أولوياته، ثم ما ينبغي للعالم الحق، وما لا ينبغي له من أمور الأخلاق وأنواع العلاقات. ومن هنا أهمية هذه الوصية التي جاءت - على قلة حجمها - رسالة في غاية النفاسة والنفع. خاصة وأنها صدرت عن عالم عظيم، ذي باع طويل وتجربة عميقة في مجال طلب العلم وتعليمه، والاشتغال به؛ تربيةً وتزكيةً، ونشراً وتجديدا، في ظروف شتى، من العسر واليسر، والخوف والأمن، والسفر والحضر! فكيف لا تكون عظيمة وهي كذلك؟ وكيف لا والحاجة إلى مثلها في زماننا هذا ماسة شديدة؟! ثم ما كان بعد ذلك إلا أن استعنتُ اللهَ على دراستها، وتفصيل مجملاتها، وبيان إشاراتها، في مجال التربية والتعليم، على طريق تحقيق مفهوم "العَالِمِيَّةِ"، وبيان ما يلزم طالب العلم ليكون "عَالِماً" حَقّاً. مع محاولة تحقيق مناط قواعدها على زماننا هذا، بما يراعي ظروف العصر وحاجاته الجديدة، في سياق موازين التدافع الحضاري، والتحديات العَالَمية الكبرى؛ عسى أن نسهم بذلك في إزالة بعض الغبش اللاحق بهذا المفهوم الحيوي، في بنية الشريعة الإسلامية، سيراً في طريق استئناف حياة إسلامية جديدة. والله وحده المستعان، وعليه التكلان. ومن هنا جاءت هذه الرسالة في مقدمة، وأربعة فصول، وخاتمة. فكان الفصل الأول في الإمام أبي الوليد الباجِّي ووصيته، ولذلك جاء في مطلبين: الأول في عرض ترجمة الباجي، والثاني: في بيان العنَاصِرِ الأسَاسِيَّةِ لوَصِيَّتِه، والفصل الثاني: في محاولةِ تحديدِ مَفْهُومِ "العَالِمِ" و"الْعَالِمِيَّةِ"، والفصل الثالث: في بيان الأصول الأربعة للعلوم الشرعية، والفصل الرابع في محاولة وضعِ بَرْنَامَجٍ تكويني لِلْعَالِمِيَّةِ. ثم كانت الخاتمةُ كَارَّةً على ما سبق بِعِبْرَةٍ جامعة. ثم ذَيَّلْتُ الرسالةَ بِمُلْحَقٍ ضَمَّنْتُه نَصَّ وصية أبي الوليد الباجي كاملة؛ حتى تُقرأ بِتَأَنٍّ في غير سياق الدرس والشرح؛ عسى أن تكون عِبرةً للمعتبرِين، وعِظَةً للمتعظين، إذْ في ثناياها وصايا جزئية، وحِكَمٌ تفصيلية، مما لم نتعرض له بالتفصيل إلا في إطار الكليات التي درسنا. لكنها جزئياتٌ ثمينة جدا في ذاتها وسياقها، تُشَدُّ إلى مثلها الرحال! وإنما الْمُوَفَّقُ من وفقه الله. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفُُ رَّحِيم)(الحشر:10).
وكتبه بمكناسة الزيتون: عبد ربه، راجي عفوه وغفرانه، فريد بن الحسن الأنصاري الخزرجي، عفا الله عنه، وغفر له ولوالديه ولسائر المسلمين، وكان تمام تصنيفه وتنقيحه بحمد الله يوم: الخميس، تاسع عشر ذي الحجة، من عام: 1426هـ، الموافق لتاسع عشر يناير من عام: 2006م. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
مفهوم العالِمِيَّة من الكِتاب إلى الربَّانية
المؤلف:
الشيخ فريد الأنصاري
مطبعة: .الكلمة للطباعة و النشر.....
الطبعة الأولى: 1427هـ/2006م
و هذه مقدمة الكتاب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده؛ حتى أتاه اليقين. أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدe، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أعاذنا الله منها ومما يقرب إليها من قول أو عمل! ثم أما بعد:
فهذه رِسَالَةٌ في مفهوم «العَالِمِيَّةِ»، وَظِيفَتِها وبَرْنَامَجِها. نُصْدِرُهَا اليومَ بحول الله ضمن سلسلتنا الدعوية: (مِنَ القُرْآنِ إلَى العُمْرَانِ). قَصَدْناَ فيها بيانَ حقيقةِ هذه الصِّفَةِ – بمعناها الشرعي - في الإنسان؛ للتحقُّقِ من معنى كونِه: «عَالِماً». وذلك لِمَا اكْتَنَفَ هذا المفهومَ في الأزمنة الأخيرة من غموض شديد؛ حتى انتسب إلى العلماء من ليس منهم! والحالُ أنَّ وظيفةَ العالِم عظيمةٌ القَدْرِ، جليلةُ الوَطَرِ، خطيرةُ الأثَرِ؛ فكان حالُ الأدْعِيَاءِ معها كمن تَطَبَّبَ وهو جَاهِلٌ! وقاعدةُ الفقهِ المشهورةُ تقضي بأنَّ (مَنْ تَطَبَّبَ وَهُوَ جَاهِلٌ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ!) هذا؛ وإنما الداعي إلى تأليف هذه الرسالة أربعة أمور: - الأول: أنَّهُ ثَبَتَ بالنصوصِ الشَّرْعِيَّةِ الكثيرةِ - المتواترةِ المعنى - أنَّ تجديدَ الدِّينِ إنما يبدأ بتجديد «العِلْمِ». فوظيفةُ النَّذَارَةِ إنما هي مَنُوطَةٌ بأهلِ العِلْمِ والفِقْهِ في الدِّين. وذلك قول الله تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(التوبة:122). وعلى هذا يُفْهَمُ معنى (أُمَّة)؛ تلك المأمورة بـ«الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(آل عمران: 104)، فبمقتضى الأمر (بالتفقه في الدين) - الوارد في آية (التوبة) قَبْلُ بصريح قصد النذارة - يكون مصطلح (أُمَّة) هنا دالا على معنى (أُمَّةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ)؛ للعلة الجامعة بين السياقين في القصد والوظيفة. ولذلك قال سبحانه في موطنٍ آخر: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)(آل عمران:78) وقُرِئَتْ: (تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ) - كما هو معلوم - وهو أوضح لما نحن فيه. ومن هنا كانت وظيفةُ الأنبياء التربوية والدعوية قائمةً على العِلْمِ والتَّعْلِيم. وآيةُ (وظائف النبوة) الواردة في أكثر من سياق من كتاب الله دالةٌ على هذا، قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(آل عمران: 164). ولهذا لم يكن عبثا أن يقرر الرسولُ ذلك بما يشبه الحصر، في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتاً وَلاَ مُتَعَنِّتاً؛ وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّماً مُيَسِّراً!)() ولم يكن عبثا أيضا أن جَعَلَ سِرَّ وِرَاثَتِهِ في خصوص (الْعُلَمَاءِ)، كما ورد في قوله - صلى الله عليه وسلم - الحاسم للمسألة: (إنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ! وَإنَّ الأنِْيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، إنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ!) مما جاء في سياق تقرير مَرْكَزِيَّةِ العِلْمِ، من حديثه الصحيح المليح الذي سيأتي تفصيله قريبا بحول الله. وبهذا كان (العِلْمُ) هو بَدْءَ كُلِّ شَيْءٍ في الدِّين، وهو أساسَ كُلِّ حَرَكَةٍ في الدعوة إليه؛ تربيةً وتزكيةً. وعليه؛ فَـ(الْمُجَدِّدُ) المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله تعالى يَبْعَثُ لِهَذَهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)() لا يكون إلا عَالِمَا! ولكن بما سيتحدد لمفهوم (العِلْمِ) من معنى شمولي بهذه الرسالة إن شاء الله. ومن هنا آل أمْرُ تجديدِ الدِّين إلى أمرِ تجديد (العِلْمِ)، كما قررناه ابْتِدَاءً. وهذا لا يكون إلا بعد ضبط مفهومه، وتحديد غايته ووظيفته؛ للتحقق من معنى (الإرث النبوي) في الحديث العظيم، المشار إليه آنفاً، مِنْ قولِه صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَطْلُبُ فِيهِ عِلْماً سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقاً مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ. وَإنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ؛ رِضاً بِمَا يَصْنَعُ! وَإنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَمَنْ في الأرْضِ! وَالْحِيتَانُ في جَوْفِ الْمَاءِ! وَإنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ! وَإنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ! وَإنَّ الأنِْيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، إنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ! فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ..!)() فأيُّ إِرْثٍ هذا وأيُّ عِلْمٍ؟ ولن نذهب في التساؤل بعيدا؛ فَلِأَبِي هريرة - رضي الله عنه - إشارةٌ لطيفةٌ في هذا السياق، مِنْ مُبَادَرَةٍ تربويةٍ عجيبةٍ ذاتِ طابعٍ تعليمي، قام بها هو شخصيا؛ لتوجيه جيل التابعين، وذلك (أنه – رضي الله عنه - مَرَّ بسوق المدينة، فوقف عليها، فقال: يا أهلَ السوق! ما أعْجَزَكُمْ؟ قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك مِيرَاثُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَسَّمُ وأنتم ههنا! ألاَ تذهبون فتأخذون نصيبَكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد. فخرجوا سِرَاعاً، وَوَقَفَ أبو هريرة لهم؛ حتى رجعوا، فقال لهم: مَا لَكُمْ؟ قالوا: يا أبا هريرة، فقد أتَيْنَا فدخلنا فَلَمْ نَرَ فيه شيئا يُقَسَّمُ! فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحَداً؟ قالوا: بَلَى! رأينا قوماً يُصَلُّونَ، وقوماً يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلالَ والحرامَ. فقال لهم أبو هريرة: وَيْحَكُمْ! فذاكَ مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم!)() فكيف هو ذلك الميراث على التفصيل؟ من صلاةٍ وقرآنٍ وأحكامٍ..؟ وكيف العِلْمُ به؟ وكيف يكون تنـزيلُ حقائقِه في زماننا هذا تربوياً ودعوياً؟ وعلى أي منهاج؟ وعلى أيِّ صِفَةٍ يكون العِلْمُ به مُجَدِّداً للدين؟ ثم ما الْمِقْدَارُ الكافي منه لإضفاء صفة (العَالِمِيَّةِ) على حاملِه؟ - الثاني: موتُ عددٍ كبير من علماء الجيل الماضي، في المشرق والمغرب. والحالُ أنَّ خَلَفَهُمْ – ممن انتسب إلى العلم - دونهم بكثير علما وخلقا. وقد فقدنا في المغرب مِنْ أساطين العلم الكثير، رحمة الله عليهم جميعا. وهم أشياخنا وأشياخ أشياخنا، من أمثال: الشيخ العلامة أديب الفقهاء عبد الله كنون، وشيخ المفسرين المغاربة العلامة محمد المكي الناصري، والعلامة المحقق محمد بن عبد الهادي المنوني، ومسند القراءات القرآنية بالمغرب العلامة الحاج المكي بن كيران، وحجة المذهب المالكي خاتمة علماء القرويين العلامة عبد الكريم الداودي، ومُحَدِّثِ المغرب العلامة الحافظ عبد الله بن الصديق الغماري، وعالم سوس الكبير الشيخ جبران المسفيوي، والعالِم الداعية الدكتور محمد تقي الدين الهلالي، والشيخ محمد الزمزمي الغماري آل بن الصديق، وأضرابهم كثير ممن لا يمكن حصرهم في مثل هذا السياق. رحمة الله عليهم جميعا، على اختلاف مشاربهم، وتنوع مداركهم، وتعدد معاركهم، فقد كان في ذلك كله إغناء للبلاد والعباد. والحقيقة الْمُرَّةُ أن الْخَلَفَ يكاد ينطبق عليه تمثل أم المؤمنين عائشة بقول لبيد رضي اله عنهما: ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ *** وَبَقِيتُ فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ!() - الثالث: انقطاع تدريس العلم الشرعي على وجهه الحقيقي؛ بما أدى إلى انقطاع تخرج العلماء بالمفهوم الأصيل للكلمة. فقد عانت الجامعات الإسلامية والمعاهد الشرعية عبر أغلب أقطار العالم الإسلامي – إلا قليلا - من أزمة ما سُمِّيَ بقضية (تحديث) أو (إصلاح) برامج التعليم، وذلك عبر فترات ومراحل متتاليات، تدرجت – مع الأسف - من الأعلى إلى الأدنى! بما أخرجها عن وظيفتها الحقيقية، وعَقَّمَ رحمها تعقيما! فوجب تنبيه طلبة العلم إلى ما ينبغي انتهاجه للتحقق بمفهوم "العَالِمِيَّةِ"، ولو على طريق العِصَامِيَّةِ، وإحياء عزيمة الرحلة في طلب العلم؛ لتتبع ما بقي من عناصر هذا المعنى العظيم في البلاد، وصياغته في حيوية علمية جديدة، بجيل رباني جديد. - الرابع: تَرَامِي عَدَدٍ من أهل الأهواء والنوازع السياسية على وظيفة العَالِمِيَّةِ، والتلبس بمفهومها بغير حق؛ إذْ صارت حقيقتُها غريبةً بين الناس؛ حتى صار من الصعوبة لدى العامة تمييزُ العَالِمِ من غير العالِم. وتداخلت في الأذهان مفاهيمُ كثيرة، كمفهوم الواعظ، والداعية، والأستاذ، والمثقف، وهلم جرا. والحقيقةُ أنَّ كُلَّ وَصْفٍ من أولئك ليس بالضرورة يَسْلُكُهُ في مفهوم: (العالِم)! فأدى هذا الاختلاط إلى كثير من المفاسد بما حدث من الترامي على وظيفةٍ من أخطر الوظائف في الأمة! ألاَ وهي وظيفة الإفتاء؛ لِمَا يتنج عنها – إنْ لم يُتَقَّ اللهُ فيها - من غلو في الدين، كآفة التكفير بغير حق، وسفك الدماء، وانتهاك الأعراض، واستباحة أموال الناس، واغتصاب أمنهم وأمانهم! أو آفة الغلو المضاد، كالتسيب الْمُمَيِّعِ للدين، والتجرؤ على استباحة المحرَّمات القطعية؛ استنادا إلى ما يشبه الدليل وليس بدليل! والقولِ على الله بغير علم! والإفتئات على النصوص الشرعية بما لم تنطق به، وبما لم تُسَقْ إليه أصالةً ولا تَبَعاً..! زاد الطينَ بلةً أنَّ طائفةً ممن انتسبوا إلى العلم الشرعي؛ تعلما وتعليما؛ لم يأخذوا منه إلا أشباحَ معارفَ وأشكالَ أحكامٍ؛ دخلوا بها في جَدَلٍ عقيم مع الناس، غير مراعين حالَ الزمان وأهله؛ فنفَّرُوا أكثر مما يسروا، وبددوا أكثر مما جددوا..! وقد عُلم أنما العلمُ الحقُّ تربيةٌ وأخلاقٌ، وأن «العلم بأمر الله» لا يكتمل حتى يكون «علما بالله»! كما سيأتي بيانُه بحول الله. وكم من شخص اشتغل بالعلم، فانحرط به – قبل أن يتمكن من حِكْمَتِهِ - في تبديع الناس وتفسيقهم، أو ربما تكفيرهم؛ بما بَدَا لَهُ من هوة وفروق بين حقائق النصوص وحياتهم. وقد عُلِمَ بَدَاهَةً أنَّ العِلاَجَ ليس في أن تقول للمريض: « يَا مَرِيضُ..!» فسقط فيما حَذَّرَ الناسَ منه، من ابتداع منهجي مُدَمِّرٍ! وذلك بما أتلف من موازين المنهج الشرعي في الاشتغال بالعلم؛ تربيةً وتزكيةً! ووقعت عليه عِلَّةُ الغضبة النبوية المنهجية، عندما انتهر رسولُ الله صاحبَه بما أطال على الناس في صلاته، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أَفَتَّانٌ أنْتَ..!؟)(). هذا من جهة. ومن جهة أخرى؛ وفي ظروف غياب المفهوم الحقيقي "لِلْعِلْمِ" و"الْعُلَمَاءِ"، في زمان تداخل المصطلحات، واطضراب المفاهيم؛ تَصَدَّى كثير من عشاق "النجومية" ومحبي الزعامات؛ لمجال "العمل الإسلامي التنظيمي"، مستغلين حالة الفراغ العلمي التي تعاني منها الأمة في مجمل بقاعها! وتخلي من بقي من العلماء عن دورهم التاريخي في حمل رسالة التجديد؛ بما رضوا – مع الأسف - من متاع الحياة الدنيا! إلا من رحم الله منهم، وقليل ما هم!() فتَصَدَّرَ الأدْعِيَاءُ واجهةَ العمل الإسلامي، محققين نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم بما عُرِفَ في السنة بحديث (قَبْضِ الْعِلْمِ)، الواقع في فتنة آخر الزمان: (إن الله تعالى لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ من العبادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حتى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً؛ اتَّخَذَ الناسُ رُؤُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا..!)() وقد تَرْجَمَ الإمامُ البخاري لهذا الباب ترجمةً فيها من العلم والحكمة الشيء الكثير، مما لو تَدَبَّرَهُ المرء لخرج منه بفقه عظيم؛ يُبَصِّرُهُ بطبيعة الأزمة في زماننا هذا حقا! قال رحمه الله: (باب كيف يُقْبَضُ العلم، وكَتَبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انْظُرْ مَا كانَ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فَاكْتُبْهُ! فإني خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ! وذَهَابَ العلماء!() ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم! ولْتُفْشُوا الْعِلْمَ ولْتَجْلِسُوا حَتَّى يَعْلَمَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ! فإنَّ العِلْمَ لا يَهْلِكُ حتى يكون سِرّاً!) وهذا والله من أعظم الْحِكَمِ وأبلغها! (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ!)(ق:37). ولو وضعتَ على نَاظِرَيْكَ بصيرةَ هذا الحديث النبوي الشريف لوجدت هذا شأن كثير من الزعامات الباطلة في المجال الديني، ممن تصدوا للشأن "الإصلاحي" بغير علم، إذِ الحالُ أن لا علاقة لهم بالعلوم الشرعية ولا هم من أهل صناعتها، علميا وتربويا. فبادروا في ظروف الاضطراب المفهومي المعاصر والفراغ العلمي الرهيب؛ لاعتلاء منابرها بغير حق؛ فضلوا وأضلوا فعلا! حيث اختلط على الناس - بسببهم كما أشرنا - مفهومُ "الواعظ"، أو "الكاتب" في الشؤون الدينية؛ بمفهوم "العَالِم"، الذي هو مقصود النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، في سياق الوِرَاثَةِ النبوية، والذي هو المخاطَبُ الأساس بحمل رسالة التجديد في الأمة. فكان أن أدى هذا الاختلاط إلى تدبير الشأن الدعوي من قِبَلِ هؤلاء بإشاعة الخرافات والضلالات في العقائد والعبادات؛ مما أحدث فِتَناً وانحرافات شتى في مجال الدين والتدين! والله المستعان! ألا وإنَّ كُلَّ عَمَلٍ "إسلامي" لا يَتَصَدَّرُهُ الْعِلْمُ الشرعي، ولا يُؤَطِّرُهُ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ فهو بَاطِلٌ بَاطِلٌ! ولن يقود إلا إلى المهالك والضلال!() والنصوص القرآنية والحديثية في هذا المعنى أكثر من أن تُحصى!() فهذه القاعدة من القطعيات الشرعية والكليات الدعوية. وما يضل عنها إلا أعمى! وما أفلح فاجِرُ بني إسرائيل الذي قَتَلَ تِسْعاً وتسعينَ نفساً حينما قَصَدَ عَابِدَهُمْ؛ فأفتاه بالجهل؛ فأتمَّ به المائة! ولكنه أفلح وفاز لَمَّا قَصَدَ عَالِمَهُمْ؛ فكان بتوجيهه الحكيم من التائبين! فتلقته ملائكة الرحمة والغفران.() وإنما العَالِمُ: هو الفَقِيهُ الرَّبَّانِيُّ الْحَكِيمُ، الذي يُرَبِّي بِصِغَارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، كما سيأتي بيانُه مفصلا بحول الله. ولكنْ لَمَّا عَزَّ وجود مثل هذا في زماننا؛ التف بعض الشباب حول من أحسن دغدغة عواطفهم النفسية الجريحة، بما يعانون من التهميش الاجتماعي، والظلم السياسي؛ فاختلطت في أنفسهم مشاعر التدين بمشاعر الرغبة في الانتقام لأوضاعهم الاجتماعية المتردية؛ مما أنتج أجساما تنظيمية قد تتحول في بعض الأحيان إلى خلايا سرطانية، تستوعب الشباب بصورة تجميعية متضخمة؛ لتقتل مواهبهم الإبداعية، وتحجم طاقاتهم الإنتاجية، وتحصرها في اجتهادات إملائية تلقينية، لا تدع مجالا للتفكير العلمي الحر! وهي - قبل ذلك وبعده - تشط بعيدا عن مراتب الأولويات الشرعية للأمة، الراجعة إلى موزاين الشريعة لا إلى العواطف والأهواء!() مما أدى إلى حصر كثير من مظاهر الصحوة الإسلامية المعاصرة في مأساة ما سميناه بآفة (التنظيم الميكانيكي). وقد بَيَّـنَّا في دراسة سابقة أن (من أخطر أخطاء العمل الإسلامي المعاصر الوقوعَ في شَرَكِ تحزيب الإسلام!)() مما أعطى فرصة للدوافع السياسية الجزئية في التحكم في القضايا الكلية للدعوة الإسلامية، وتهميش دور العلم والعلماء! وبهذا اضطربت الموازين، واختلت المقاييس؛ فكان التضخمُ السياسي في العمل الديني، وكان الانحرافُ في التصور والممارسة!() وصار التشنج في الخطاب هو السمةَ الغالبةَ على قِطَاعٍ عَرِيضٍ من هذه التنظيمات! بعيدا عن قواعد العلم بالله وبأمره! إلا قليلاً قليلاَ! والخبير بأحوال البلاد والعباد، وبميزان التدافع العالمي اليوم، يدرك بوضوح أن مثل هذه الاتجاهات التي تتحرك بمقتضى ردود الأفعال المتشنجة؛ إنما هي لعبة - من حيث تدري أو لا تدري - بيد المخابرات الأجنبية، تتحرك في وقت معلوم، وبشكل معلوم، كالدمى، في الاتجاه الذي يخدم مصلحة (الآخر). وعَمَلُ (الآخَرِ) ليس بالأسلوب البليد، الذي يكون فيه ممليا بصورة مباشرة على هذه الحركة أو تلك، كلا طبعا! وإنما هو يقوم بما نسميه بـ(اللعب العالي!) حيث يصنع الظروف والاستفزازات، التي من شأنها أن تحرك كلَّ ذي هوى! ثم يُلقي بوسائطه المندسة في هذه الأجسام المريضة؛ ما يشاء من زخرف القول غروراً. فَيُخْرِجُ المظاهرات الضخمة، والاستعراضات العريضة، ويصنع الصدامات مع السلطات، هنا وهناك؛ لتأديب هذا النظام أو ذاك، أو الضغط على هذه السلطة أو تلك! أو لتمرير قرار سياسي يحد من نشاط العمل الديني وحريته؛ ما كان له أن يُمَرَّرَ لولا رد الفعل البيلد الذي صدر عن هؤلاء! والجماهير الغافلة المستغفلة – في غياب القيادات العلمية الرشيدة - تهتف صادقةً بجهلها، مستجيبةً للزعماء الْجَهَلَةِ بالدين، سائرةً نحو خراب الدين! باسم "الدين"، و"الدعوة إلى الدين"، و"الجهاد في سبيل الله" و"نُصْرَةِ المستضعَفِين"، محقِّقَةً بشعاراتها هذه وأضرابِها؛ مَنَاطَ حِكْمَةِ عَلِيٍّ بنِ أبي طالب رضي الله عنه؛ عندما عَلَّقَ على شعارات خصومه يومئذ، إذْ رفعوها بما يُظهر قصد الاحتكام إلى كتاب الله؛ فقال قولته المشهورة: (حَقٌّ أُرِيدَ بِهِ بَاطِلٌ!) وإنَّ ذلك في زماننا هذا لهو من أعظم المحن والفتن! وإنما يكشف مثل هذا الزيف العظيم اليوم – مما تداخل فيه الكيدُ الخارجي بالكيد الداخلي - العلماءُ الفقهاءُ، والربانيون الحكماء! ولو حاسبنا أنفسنا صادقين بما دَاخَلَهَا من ضلالات وأهواء، في مجال "العمل الديني والدعوي"، وكشفنا ظلماتها - ترغيبا وترهيبا - بنور قول الله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالاَخْسَرِينَ أَعْمَالاً؟ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا!)(الكهف:99)؛ لراجعنا كثيرا من مقولاتنا وأفكارنا، ولَرَتَّبْنَا لآخرتنا ترتيبا آخر. ولكنْ قَبَّحَ اللهُ الأهواءَ! ما أشدها على النفوس! ورحم الله أبا الوليد البَاجِّي لِمَا دَبَّجَ من الحكمةِ في وصيته، حيث قال رحمه الله: (فَكَمْ مِنْ عَامِلٍ يُبْعِدُهُ عَمَلُه من رَبِّهِ! ويُكْتَبُ مَا يَتَقَرَّبُ به مِنْ أكْبَرِ ذَنْبِهِ! والْعِلْمُ لا يُفْضِي بصاحبه إلا إلى السعادة، ولا يقصر به عن درجة الرِّفْعَةِ والكَرامَةِ.)() ولكن قدر الله ألاَّ يقعَ شيءٌ إلا بميزانِه، وفي وَقْتِهِ وإِبَّانِهِ، وللهِ الأمرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ! ومن هنا لم يزل إلحاحنا على طلابنا بأن المخرج من الأزمة إنما هو تجديد إشاعة "العلم"! نعم؛ العلم بمفهومه القرآني الشامل، أي: بما فيه من معنى تنـزيل حقائقه في واقع الأمة، بصورة منهجية وعمق تربوي هادف، شيئا فشيئا. وذلك هو العلم بمعنى الحكمة! العلم الذي يُنِيرُ العقولَ، ويحيي اللهُ به القلوبَ، ويجدد الناسُ به العهد مع الله. وقد أخرج الإمام أبو عمر بن عبد البر - رحمه الله – في كتابه العظيم "جامع بيان العلم وفضله"؛ بسنده إلى مالك بن أنس، رحمه الله ورضي عنه: (أنَّه بَلَغَهُ أنَّ لُقْمَانَ الحكيمَ قَالَ لاِبْنِهِ: يَا بُنَيَّ! جَالِسِ العُلَماءَ وزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْكَ! فإنَّ اللهَ يُحْيِي القلوبَ بِالْحِكْمَةِ، كما يُحْيِي الأرضَ الميتةَ بِوَابِلِ السَّمَاءِ!)(). هذا؛ وقد كانت رغبتنا قديمة في كتابة رسالة حول مفهوم "العالِم" و"العالِمِيَّةِ" تساعد على إزالة الغبش عن الأنظار في تحديد دلالة هذا المصطلح؛ لإحسان توظيفه وتنـزيل حقائقه. ولم يزل بعض طلابنا النجباء، ممن أكرمهم الله تعالى بسلامة الصدر، وصحة العزيمة على التفرغ لواجب الاشتغال بالعلم، وحمل أمانته في الأمة إن شاء الله؛ تعبدا لله، وتجديدا لدينها؛ يلحون علينا بوضع برنامج تكويني في مجال العلوم الشرعية، يراعي أفضل الطرق وأجداها للتحقق بوصف "العالِمِيَّةِ"؛ عسى أن يكون إفناء أعمارهم فيما ينفعهم وأمتهم، ويضاعف أجورهم يوم القيامة إن شاء الله، مستبشرين بأحاديث الرسول الكريم في فضل العلم والعلماء، كقوله صلى الله عليه وسلم: (فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كفضلي على أدناكم! إنَّ الله - عز وجل – ومَلائِكَتَهُ، وأهلَ السمواتِ والأرض، حتى النملة في جُحْرِهَا! وحتىَّ الحوت! لَيُصَلُّونَ علَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرِ!)(). بَيْدَ أني بقيت إزاء هذا الأمر بين إقدام وإحجام زمناً؛ أفكر في الأمر ثم أرجئه! ولم أزل كذلك في تردد من أمري؛ لخطورة مثل هذا الأمر من الناحية المنهجية؛ حتى وقعت بيدي ورقات عظيمة النفع لأحد أعلام علماء الأندلس، وأحد أعمدة المذهب المالكي بها، روايةً ودرايةً، واجتهاداً وتجديداً. ألاَ وهو: الإِمَامُ العُمْدَةُ أَبُو الْوَلِيدِ سُلَيْمَانُ بْنُ خَلَفٍ البَاجِّي(ت:474 هـ) رحمه الله. والورقاتُ هي عبارة عن "وَصِيَّةٍ لِوَلَدَيْهِ"(). وقد ذكرها ابن فرحون المالكي في "الدِّيبَاجِ الْمُذَهَّبِ"؛ ضمن مصنفات أبي الوليد البَاجِّي، عند ترجمته، وسماها: (كِتَابَ النَّصِيحَةِ لِوَلَدَيْهِ)(). ونَصُّها يقطع بنسبتها إلى الباجي رحمه الله. وهي وصية علمية منهجية تربوية. جامعة مانعة شاملة. حَرِيٌّ بمن أخذ بها أن يتقلد منصب العَالِمِيَّةِ حقا وصدقا، ويتصف بمقتضياتها خُلُقاً ومَلَكَةً وكَسْباً. فأعجبتُ بها أيما إعجاب! خاصة وأنها كُتبت بأسلوب أدبي رفيع، ونثر فني راق! يدل على ما كان للأندلسيين - على غير عادة كثير من الفقهاء في بلاد أخرى - من ذوق فني عالٍ في اللغة والأدب؛ بما يشجع على قراءة كتبهم والنهل من مصنفاتهم. ولذلك فقد قرأت كلماتها مراراً، ورَدَّدْتُ عباراتها تكرارا..! وقد جاءت مدبجة بحكم ونصائح عز نظيرها! إذْ ضَمَّنَهَا المؤلِّفُ - رحمه الله - أنظمةً دقيقة في مراتب التعليم ومناهجه، وتحديد أولوياته، ثم ما ينبغي للعالم الحق، وما لا ينبغي له من أمور الأخلاق وأنواع العلاقات. ومن هنا أهمية هذه الوصية التي جاءت - على قلة حجمها - رسالة في غاية النفاسة والنفع. خاصة وأنها صدرت عن عالم عظيم، ذي باع طويل وتجربة عميقة في مجال طلب العلم وتعليمه، والاشتغال به؛ تربيةً وتزكيةً، ونشراً وتجديدا، في ظروف شتى، من العسر واليسر، والخوف والأمن، والسفر والحضر! فكيف لا تكون عظيمة وهي كذلك؟ وكيف لا والحاجة إلى مثلها في زماننا هذا ماسة شديدة؟! ثم ما كان بعد ذلك إلا أن استعنتُ اللهَ على دراستها، وتفصيل مجملاتها، وبيان إشاراتها، في مجال التربية والتعليم، على طريق تحقيق مفهوم "العَالِمِيَّةِ"، وبيان ما يلزم طالب العلم ليكون "عَالِماً" حَقّاً. مع محاولة تحقيق مناط قواعدها على زماننا هذا، بما يراعي ظروف العصر وحاجاته الجديدة، في سياق موازين التدافع الحضاري، والتحديات العَالَمية الكبرى؛ عسى أن نسهم بذلك في إزالة بعض الغبش اللاحق بهذا المفهوم الحيوي، في بنية الشريعة الإسلامية، سيراً في طريق استئناف حياة إسلامية جديدة. والله وحده المستعان، وعليه التكلان. ومن هنا جاءت هذه الرسالة في مقدمة، وأربعة فصول، وخاتمة. فكان الفصل الأول في الإمام أبي الوليد الباجِّي ووصيته، ولذلك جاء في مطلبين: الأول في عرض ترجمة الباجي، والثاني: في بيان العنَاصِرِ الأسَاسِيَّةِ لوَصِيَّتِه، والفصل الثاني: في محاولةِ تحديدِ مَفْهُومِ "العَالِمِ" و"الْعَالِمِيَّةِ"، والفصل الثالث: في بيان الأصول الأربعة للعلوم الشرعية، والفصل الرابع في محاولة وضعِ بَرْنَامَجٍ تكويني لِلْعَالِمِيَّةِ. ثم كانت الخاتمةُ كَارَّةً على ما سبق بِعِبْرَةٍ جامعة. ثم ذَيَّلْتُ الرسالةَ بِمُلْحَقٍ ضَمَّنْتُه نَصَّ وصية أبي الوليد الباجي كاملة؛ حتى تُقرأ بِتَأَنٍّ في غير سياق الدرس والشرح؛ عسى أن تكون عِبرةً للمعتبرِين، وعِظَةً للمتعظين، إذْ في ثناياها وصايا جزئية، وحِكَمٌ تفصيلية، مما لم نتعرض له بالتفصيل إلا في إطار الكليات التي درسنا. لكنها جزئياتٌ ثمينة جدا في ذاتها وسياقها، تُشَدُّ إلى مثلها الرحال! وإنما الْمُوَفَّقُ من وفقه الله. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفُُ رَّحِيم)(الحشر:10).
وكتبه بمكناسة الزيتون: عبد ربه، راجي عفوه وغفرانه، فريد بن الحسن الأنصاري الخزرجي، عفا الله عنه، وغفر له ولوالديه ولسائر المسلمين، وكان تمام تصنيفه وتنقيحه بحمد الله يوم: الخميس، تاسع عشر ذي الحجة، من عام: 1426هـ، الموافق لتاسع عشر يناير من عام: 2006م. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.