السلام عليكم
كنا -ونحن في دار غربة- نتدارس بعض الآيات من سورة الأنبياء، وكنا نقرأ في التفسير الميسر، فلما قرأنا قوله تعالى ( لو أردنا أن تخذ لهوا لاتخذناه من لدنا ) قرأنا في تفسيرها :
لو أردنا أن نتخذ لهوًا من الولد أو الصاحبة لاتخذناه من عندنا لا من عندكم, ما كنا فاعلين ذلك; لاستحالة أن يكون لنا ولد أو صاحبة.
فأشكل علينا المراد من قوله ( من لدنا ) ولم نتستطيع فهم المعنى ، فرجعت إلى أقوال المفسرين رحمهم الله تعالى
فوجدت كثيرا من المفسرين يذكر أن المراد: لاتخذناه من عندنا من أهل السماء أو من الملأ الأعلى، وهذا جاء عن بعض السلف رحمهم الله تعالى ، كما رواه ابن جرير عن بعضهم، ولم يذكر ابن الجوزي غير هذا القول
قال ابن الجوزي :
قوله تعالى: {لاَّتَّخَذْنَـٰهُ مِن لَّدُنَّا } قال ابن جريج: لا تخذنا نساء أو ولدا من أهل السماء، لا من أهل الأرض. قال ابن قتيبة: وأصل اللهو: الجماع، فكني عنه باللهو، كما كني عنه بالسر، والمعنى: لو فعلنا ذلك لاتخذناه من عندنا، لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده،لا عند غيره.
وفصل ابن عاشور هذا المعنى فقال:
وجملة ((لو أردنا أن نتخذ لهوا)) مقررة لمعنى جملة ((وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين))، تقرير بالاستدلال على مضمون الجملة، وتعليلا لنفي أن يكون خلق السماوات والأرض لعبا، أي عبثا بأن اللعب ليس من شأننا أو على الفرض والتنازل لو أردنا اللهو لكان ما يلهو به حاصلا في أشرف الأماكن من السماوات فإنها أشد اختصاصا بالله تعالى إذ جعل سكانها عبادا له مخلصين، فلذلك عبر عنها باسم الظرف المختص وهو ((لدن)) مضافا إلى ضمير الجلالة بقوله تعالى من ((لدنا)) أي غير العوالم المختصة بكم بل لكان في عالم الغيب الذي هو أشد اختصاصا بنا إذ هو عالم الملائكة المقربين. فالظرفية المفادة من ((لدن)) ظرفية مجازية. وإضافة ((لدن)) إلى ضمير الجلالة دلالة على الرفعة والتفضيل كقوله تعالى ((رزقا من لدنا)) في سورة القصص وقوله تعالى ((وهب لنا من لدنك رحمة)) في آل عمران، أي لو أردنا أن نتخذ لهوا كان اتخاذه في عالم شهادتكم. وهذا استدلال باللزوم العرفي لأن شأن من يتخذ شيئا للتفكه به أن يستأثر به ولا يبيحه لغيره وهو مبني على متعارف عقول المخاطبين من ظنهم أن العوالم العليا أقرب إلى الله تعالى.
ولكن هذا المعنى فيه إشكال، لأن بعض كفار العرب يزعمون أن الملائكة أولاد الله، وهم من الملأ الأعلى ، ومعلوم أن السورة مكية والآيات بعدها تتحدث عن الملائكة، فلا شك أن الملائكة هم مقصودون أولا بهذه الآية .
أقصد أن لقائل من كفار العرب ان يقول : نحن نزعم أن الله –تعالى الله عن ذلك علوا كبير- اتخذ الملائكة أولادا وهم أشرف الخلق وهم أهل السماوات وأقرب الناس إليه فهم من لدنه.
ولذلك ذكر البغوي رحمه الله تعالى أن المراد بهذه الآية هم النصارى ، قال البغوي :
"لاتخذناه من لدنا "، أي من عندنا من الحور العين لا من عندكم من أهل الأرض. وقيل: معناه لو كان جائزاً ذلك في صفته لم يتخذه بحيث يظهر لهم ويستر ذلك حتى لا يطلعوا عليه. وتأويل الآية أن النصارى لما قالوا في المسيح وأمه ما قالوا رد الله عليهم بهذا وقال: " لاتخذناه من لدنا " لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده، لا عند غيره
لكن كون المراد بالآية النصارى فقط بعيد عن سياق الآيات والله أعلم.
و جاء في الطبري عن مجاهد أنه قال: (لاتّـخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا): من عندنا, وما خـلقنا جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا.
ولم أفهم مراد مجاهد رحمه الله تعالى .
ووجدت من أحسن العلماء مسلكا في هذه الآية ابن كثير رحمه الله تعالى ، فإنه ذكر أقوال السلف فيها ثم قال:
وهو كقوله تعالى: ((لو أراد الله أن يتخذ ولداً لا صطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار)) فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقاً ولا سيما عما يقولون من الإفك والباطل من اتخاذ عيسى أو العزير أو الملائكة سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
فهو رحمه الله تعالى كما ترى فسرها بقوله تعالى : ( لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء )
لكن يبقى الإشكال الذي ذكرته قائما إذا فسرناها على هذا المعنى.
وإن فسرنها على القول الآخر الذي ذكره البغوي زال هذا الإشكال ، وهذا القول هو الذي فسر به ابن سعدي هذه الآية حيث قال بعبارة جميلة :
"لاتخذناه من لدنا" أي : من عندنا " إن كنا فاعلين " ولم نطلعكم على ما فيه عبث ولهو ، لأن ذلك نقص ومثل سوء ، لا نحب أن نريه إياكم ، فالسموات والأرض اللذان بمرأى منكم على الدوام ، لا يمكن أن يكون القصد منهما العبث واللهو ، كل هذا تنزل مع العقول الصغيرة وإقناعها بجميع الوجوه المقنعة ، فسبحان الحليم الرحيم ، الحكيم ، في تنزيله الأشياء منازلها .
فياليت مشائخنا يشرحون لنا معنى الآية ،ومعنى أقوال العلماء فيها، ويرشدوننا بارك الله فيهم ، فإن الثلج عندنا يتساقط، وكل شي بعده يبرد بل و يتجمد ، والله المسؤول أن لا يسري إلى عقولنا وأفهامنا شيئا من ذلك.
أخوكم
عبدالله