ليس هناك إشكال أخي الكريم
يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسيره:
"والظلمات مستعار لما يعتري الكافرين من الوحشة عند سماعه كما تعتري السائر في الليل وحشة الغيم لأنه يحجب عنه ضوء النجوم والقمر ، والرعد لقوارع القرآن وزواجره ، والبَرْق لظهور أنوار هديه من خلال الزواجر فظهر أن هذا المركب التمثيلي صالح لاعتبارات تفريق التشبيه وهو أعلى التمثيل ."
فالمثل مركب يصور حال المنافقين وليس حقيقة القرآن .
(( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ . يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).
يقول الأخ الكريم أبو هاجر:" بعض أهل العلم عند تفسيره لهذه الآية يقرر أنّ الصيّب هو الوحي والقرآن والرعد هو زواجر القرآن والبرق هو حججه وبراهينه ... لكن على هذا التفسير ماذا نقول في قوله تعالى: فيه ظلمات؟ ".
هذا كلام صحيح، وقد سبق لي أن نقلت تفسير شيخي للمثل الذي يسبق هذا المثل:" مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً.."، حيث إنّ الذي يستوقد ناراً فتضيء ما حوله هو الرسول عليه السلام. وفي هذا المثل يرى شيخي أنّ الصيّب هو المطر الذي ينزل بالخير فيصيب مواضعه. والمقصود هنا الوحي الذي ينزل بالخير والهدى فيصيب القلوب ذات الاستعداد فيُحييها. أما القلوب المتحجِّرة، والتي تراكمت عليها شوائب المعاصي، فإنّها لا ترى أنوار الحق، بل لديها انعكاس نفسي فترى النور ظلمة. ومما يؤيد ذلك خواتيم سورة التوبة:" وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ". فنلاحظ هنا تفاوت التأثير.
وكذلك الآية 41 من سورة الإسراء:"وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا "، فالقرآن لا يزيدهم إلا نفوراً. ثم نقرأ في الآية 45 :"وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ".
وكذلك الآية 44 من سورة فصلت:"وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ"، نعم: وهو عليهم عمى.
أما الظلمات التي تكون في الصيّب فهي جزء من القانون الإلهي في الخلق والتكوين، وكل ذلك لحكمة:" فيه ظلمات ورعد وبرق"، فالظلمات لها وظيفة، والرعد له وظيفة، والبرق له وظيفة. وعندما نعلم أنّ الحكيم الذي خلق هو نفسه الحكيم الذي أنزل، ندرك وحدة الخلق والتنزيل.
والرعد فيه تخويف وإنذار، وفيه وفيه...الخ. والبرق يكاد يخطف الأبصار لشدة إنارته. والوحي الذي يبهر بأدلته وبراهينه وموافقته للفطرة... يضيء أحياناً لأهل النفاق فتجدهم يُعجَبون ويَستجيبون. وفي المقابل نجدهم في أحيان كثيرة تتناوشهم ظلمات الشك والحيرة.
مثال: قد يُعجَب المنافق بالتوحيد وبعض المكارم التي دعى إليها القرآن الكريم، ولكنك تجده يحيص ويُدبر عندما يسمع آيات قطع يد السارق، أو ضرب المرأة الناشز، أو الزواج من أربع على الرغم من كونه يستسهل الزنا ويتقبله...الخ.
هذا كلام صحيح، وقد سبق لي أن نقلت تفسير شيخي للمثل الذي يسبق هذا المثل:" مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً.."، حيث إنّ الذي يستوقد ناراً فتضيء ما حوله هو الرسول عليه السلام. .
جاء في الآية 17 من سورة البقرة:" مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون".
تكرر السؤال حول تفسير هذه الآية الكريمة، وكنا نلحظ أنّ السائلين يستشكلون المثال المضروب. ويرجع جزء من هذا الاستشكال إلى التوجه العام للمفسرين؛ حيث يرون أنّ المنافقين- في المثال المضروب- هم الذين يستوقدون النار. فَمثلُ المنافقين إذن: كمثل شخصٍ أوقد ناراً ليستضيء بها، فلما أضاءت النار ما حوله، ذهب الله بنوره فلم يعد بقادر على الإبصار. وهذا القول هو مدار أقوال عامة المفسرين. وهنا لنا على هذا التفسير الملاحظات الآتية:
أولاً: المنافق لا يطلب الحقيقة ولا يسعى لها ولا يبذل جهداً من أجلها. وكلمة (استوقد) توحي بهذا الطلب وهذا الجهد.
ثانياً: الذي استوقد هو فرد واحد بدليل (الذي، حوله)، والذين ذهب الله بنورهم هم جماعة، كما هو النص الكريم. ويقول البيضاوي:" والذي: بمعنى الذين، كما في قوله تعالى: وخضتم كالذي خاضوا". وهذا غريب، لأنّ المقصود: وخضتم كالخوض الذي خاضوه، أي خضتم كخوضهم.
والذي نراه أقرب لظاهر اللفظة القرآنية الآتي:
مثلهم: أي مثلهم في موقفهم من دعوة الرسول، عليه السلام. وبعبارة أخرى: مثلهم معك يامحمد. والمثل هنا يتعلق بطرفين: الطرف الأول هو الرسول، عليه السلام، والطرف الثاني هو أهل النفاق. وعليه يصبح المعنى: مثلهم في موقفهم منك ومن دعوتك يا محمد، كمثل رجل اجتهد في إيقاد نار، فلما أفلح في ذلك وأضاءت النار ما حوله...، فالرسول عليه السلام هو ذلك الرجل الذي اجتهد في إنارة ما حوله بنور الهدى، فلما أفلح في ذلك وأُنيرت مِن حَوله البلاد بنور الهدى، واستجاب له الناس من حوله، كانت المفاجأة أنْ ذهب الله بنور هؤلاء لنفاقهم وفساد طويتهم. نعم، ذهب الله بالنور الذي خلقه فيهم ليهديهم؛ من عقل وفطرة وفرقان يجده من لم يدنس بالمعاصي...الخ. فليس الإشكال إذن في نور الوحي، فقد أضاء وأنار، وإنما الإشكال في العمى الداخلي الذي نتج عن معاصيهم ونفاقهم.
وعليه نقول:
1. النور: كل ما يهديك ويوصلك إلى حقائق الأشياء؛ فالوحي نور، والعلم نور، والفطرة السوية نور، والضوء نور...الخ
2. كما لا يكفي وجود الضوء في الغرفة حتى نبصر، كذلك لا يكفي نور الوحي حتى يهتدي الإنسان، لأنه لا بد من القدرة الداخلية على الإبصار والاهتداء. فهناك إرسال وهناك استقبال. وصلاحية القدرة على الاستقبال لا بد منها.
3. المعاصي تُذهب الأنوار الداخلية التي تجعل الإنسان مبصراً لحقائق الدين، والتي تختلف عن حقائق الدنيا؛ فالله ـ تعالى ـ غاية شريفة لا يصلها الإنسان حتى يسلك سلوكاً شريفاً سوياً.
4. لا تعجب من الذين يملكون عقولاً ثم هم لا يدركون أبسط الحقائق الإيمانية. ولكن انظر إلى سلوكهم في الحياة، لتعلم أنّ الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي. وهذه حقيقة دينية يمكن استقراؤها في حياة الناس. ألا ترى في واقع الناس أنّ أكثرهم التزاماً بمطالب الدين يكون أشدهم إيماناً وتصديقاً. وإذا كانت حقائق الفيزياء والكيمياء، وغيرها من العلوم الطبيعية، تحتاج إلى عقول فقط، فإنّ الحقائق الإيمانية تحتاج إلى عقول وقلوب. والقلوب تحتاج إلى سلوك سوي، والسلوك السوي يُفصّله الدين الحق.
5. قد ننخدع أحياناً بالسلوك السوي الذي لا يُنتِج إيماناً سوياً، لأننا لا نطّلع على سلوك القلوب، ولكنّ الله يطّلع. والكِبرُ من أخطر أمراض القلوب التي تصرف المتكبّر عن حقائق الإيمان. انظر الآية 146 من سورة الأعراف:" سأصرفُ عن آياتيَ الذين يتكبرونَ في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها...".
وهذا هو القول الصحيح في معنى المثل وإنما أردت أن يتضح أكثر ، وهذا ما أشار إليه ابن القيم رحمه الله في كتابه أمثال القرآن.
وهذا من المثل المركب فالله مثل حال المنافقين مع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم
كحال شخص أستوقد أي أوقد نارا فلما أضاءت النار ما حولها وهذا مثل نور الرسالة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وانتفع بنورها الناس ومنهم بعض المنافقين في أول أمرهم ثم نكسوا على أعقابهم فذهب الله بنورهم هم وبقي نور الرسالة كما هو، وهذا جزاء عملهم كما قال الله تعالى:
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ) سورة المنافقون(3)
ومثله قوله تعالى في نفس السورة "البقرة":
(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) سورة البقرة(171)
فشبه حال الكفار مع دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، بحال البهائم مع الراعي لا تعقل وإنما تسمع أصوات لا تفقه معناها.
وهذا تشبيه هيئة بهيئة كما قال بن عاشور رحمه الله تعالى ، وذلك تشريفا لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم.