السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في سورة الأنبياء عند الآية رقم 30 قال الله عز وجل :
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ
للعلماء في هذه الآية عدة أقوال من أهمها _ في نظري القاصر _ قولان مشهوران :
1- فالسماوات والأرض كانتا رتقا أي ملتصقتا ففتقهما أي فصلهما عن بعضهما
فهذا القول _ بغض النظر عن الدخول في فرضية صحته _ من الصعب حمل المعنى الأول لسياق الآية والسورة عليه .
وإلا أصبح سياق الآية والسورة والموضوع كالتالي :
يا من كفرتم بالله بما أنكم ترون السماوات والأرض كانتا رتقا ففقناهما فيدلكم هذا على قدرة الله وعلى البعث ... الخ !!!
فالسياق بهذا الشكل فيه ما فيه من الضعف الذي لا يخفى ، إذ كيف يتم الاستدلال بشيء غائب على شيء غائب ؟!!!
والصحيح أن يستدل بشيء حاضر على شيء غائب
ولذا كان القول الثاني المشهور هو الأقوى اطلاقا وعليه الكثير من أهل العلم والتفسير
وهو أليق وألصق بالسياق
وهو كالتالي :
كانت السماء رتقا لا تمطر والأرض رتقا لا تنبت ، ففتق الله السماء فأمطرت وفتق الأرض فأنبتت ..
فبهذا المعنى يتم الاستدلال بشكل عقلي صحيح لأنه استدلال بشيء حاضر على شيء غائب .. بمعنى :
يا من كفرتم كما ترون أمامكم كيف ينزل الماء من السماء فينبت به نبات الأرض فاعلموا أن الله قادر وسيخرجكم من قبوركم كما يخرج النبات
وهذا التفسير للآية له شواهد لا تحصى كثرة في القرآن مثل :
- كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ {9} وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ {10} رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ
- ... الخ
هذا فضلا عن شواهد في نفس الآية تشهد لذلك التفسير بالصحة مثل قوله سبحانه في نفس تلك الآية " وجعلنا من الماء كل شيء حي " ... الخ
ولكن
هناك إيراد قوي على هذا التفسير لتلك الآية حيث قالوا :
إن كان المعنى ما ذكرتم وأن السماء كانتا رتق ففتقها بالمطر فلماذا قال السماوات ولم يقل السماء ... فالمطر لا يأتي من السماوات كما هو مشاهد بل يأتي من سماء الدنيا
فمن ضمن من رد على إيرادهم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي _ رحمه الله _ في كتابه أضواء البيان بقوله :
إنما أطلق عليه لفظ الجمع لأن كل قطعة منها سماء كما يقال ثوب أخلاق وبرمة أعشار
وإشكالي الآن كالتالي :
فضلا على أني لم أستوعب كلام الشيخ الشنقيطي بشكل كامل ، ولكن كأني ألمح فيه ضعفا لن يشفي ما في نفسي
ولا أدري ألديكم إجابة شافية كافية مانعة جامعة على إشكالي السابق أم لا ؟
هذا هو رأيي الشخصي و لا أفرضه على أحد فكل يؤخذ من قوله و يرد إلا المعصوم المصطفى.
أنا أميل للتفسير الأول لقوله (رتقا) مفرد و (فتقناهما) مثنى و ليس جمعا و هذا يعطي الإنطباع بفتق شيئين و ليس أشياء كالسموات (جمع) و الأرض. عموما هذا تفسير "انطباعي" و ربما كانت هناك وجوه في اللغة أجهلها لا تسوغ هذا التفسير.
يقول د. جاري ميللر - داعية و مهتدي كندي - أن قوله "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا" قمة في الإعجاز لأن الذين حصلوا على جائزة نوبل لإيجادهم الدليل العلمي على نظرية الإنفجار العظيم لنشأة الكون كانوا اثنين من الكفار .... فالكفار شهود على إعجاز القرآن و قد ردد الشيخ الشعراوي - رحمه الله - كلاما قريبا من هذا في كتابه (معجزة القرآن).
و هذا لا يعني أني أرفض التفسير الآخر فهو - حسب علمي - منقول عن السلف و هم على العين و الرأس.
وقد ذكر ابن عاشور ما يحتمله لفظا الرتق والفتق من المعاني ، ثم قال :
[color=0000FF]( والظاهر أن الآية تشمل جميع ما تحقق فيه معاني الرتق والفتق ؛ إذ لا مانع من اعتبار معنى عام يجمعها جميعاً فتكون الآية قد اشتملت على عبرة تعم كل الناس ، وعلى عبرة خاصة بأهل النظر والعلم ؛ فتكون من معجزات القرآن العلمية .) [/color] التحرير والتنوير 17/56
يسم الله الرحمن الرحيم
أخي الفاضل أبا مجاهد!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته00 وبعد0
أرجو أن تتطلع على مقالنا( من أسرار الإعجاز في القرآن- فتق الأرض بعد رتقها )، ثم انتظر مقالنا الآخر الذي سيتبعه إن شاء الله عن سر الإعجاز في جمع السموات والأرض في القرآن0 فلربما تكون فيهما الإجابة الشافية عن هاتين المسألتين0 وتقبل مع الإخوة المشاركين خالص شكري وتقديري0
أخوكم
محمد إسماعيل عتوك
الأخ الفاضل أبومجاهدالعبيدي سدده الله على الخير دوما
الذي يجعلني أتردد في الأخذ بذلك المعنى هو ما ذكرته في نفس موضوعي الأول ، ولكن لا مانع من إعادته مع بعض التصرف لعل المعنى يفهم :
فالآية تخاطب الكفار فكان معناها :
... يا من كفرتم بالله بما أنكم "ترون" السماوات والأرض كانتا رتقا ففقناهما فيدلكم هذا على قدرة الله وعلى البعث ... الخ !!!
فلو حملنا الآية على الإنفجار الكوني الذي حصل لصار استدلالا بشيء غائب على شيء غائب
وهذا لا يستقيم عقلا
فهذا شيء لم يره الكفار وخاصة الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ونزلت عليهم تلك الآية تخاطبهم
ولذا كان الصحيح عقلا أن يُستدل بشيء حاضر "يرونه " ويحسونه ويلامسونه ويعايشونه
كالماء الذي أحيا به الله النبات وكل شيء
على شيء غائب كالبعث ونحوه
فالمعنى الثاني كما تلاحظون هو الذي يليق بسياق الآية والسورة بل والقرآن كله
أتمنى أن يكون فُهم مقصدي
وما زلت أنتظر من بركات علمكم بارك الله فيكم
والمعنى الذي ذكرت أنه يناسب من خوطب بها ابتداءً هو الأقرب إلى فهمهم فتحمل الآية عليه
وهذا لا يمنع أن تحمل الآية على المعنى الآخر إذ لا تعارض بينهما ، ولا يلزم أن أن يكون المخاطبون عالمين بجميع معاني الآية ، والقرآن كتاب نزل ليخاطب الناس أجمعين بعد نزوله .
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الكريم ( أخوكم )0
أرجو منك يا أخي أن تعود ثانية إلى مقال ( من أسرار الإعجاز في القرآن- سر فتق السموات والأرض )، وأن تتأمل جيدًأ قول الزمخشري في هذه المسألة، ثم تتامل جيدًا ما نقله الأخ الدكتور: هشام عزمه في رده عن ( جاري ميللر )0 وأرجو أن تلاحظ الفرق بين لفظ السموات بالجمع، ولفظ السماء بالمفرد، في الدلالة0 وهذا ما ذكرته في مقالي الثاني0 فهل قرأته؟
وأحب أن تعلم يا أخي أن الذين كفروا هم عرب أقحاح، يفهمون جيدًا ما يريده الله تعالى من خطابه لهم أكثر ما نفهمه نحن من خطاب الله تعالى لنا في عصر العلم0
وإلى الأخ الكريم ( أبو مجاهد ) أتوجه بالقول:
الآية الكريمة المذكورة لا ينبغي أن تحمل إلا على معنى واحد؛ وهو المعنى الذي أيده العلم الحديث00 أما الآيات كريمة التي استشهد بها الأخ ( أخوكم ) على صحة المعنى الذي ذكره فلا يجوز الاستشهاد بها على ذلك؛ لأنها تتحدث عن شيء، والآية الكريمة التي هي مدار البحث تتحدث عن شيء آخر00 ولو جوزنا ذلك لوجب أن يقال: أولو ير الذين كفروا أن السماء والأرض كانتا رتقًا، بإفراد لفظ السموات؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى:{ونزلنا من السماء ماء00}0 ثم إن المطر لا ينزل من السموات كلها؛ وإنما ينزل من سماء واحدة، هي السماء الدنيا0
هذا ما أحببت أن أنبه إليه00 وتقبلوا جزيل شكري وتقديري
بسم الله الرحمن الرحيم ...
أنا مع سؤال أخي الأول : كيف تشهد الغائب على غائب ؟
ومن هو الذي تستشهده؟؟
انه الكافر الذي يقول (لا) ، ولو من باب الجحود !فيبطل استشهادك بكلمة !! ذلك ان كنت تبني على شهادته لقولك !
وليس الكافر هو عربي قريش فقط ، فهذا القرآن ليس لقريش فقط!!
[color=FF6633]ولكن ....[/color]
هل من الممكن ان نقرأ هذه الآية ، كما نقرأ : (و اذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا لغافلين )
فالكافر (الغافل): لا يتذكر ما قرره الله حقيقة باشهاد الناس جميعا ، واقرارهم ...وبالتالي هل لنا أن نقرأ هذا الاشهاد على حدث الفتق بانه كان في ذات الوقت ، فشهده الجميع ؟
والله أعلم .
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميمًا فقطع أمعاءهم [محمد:15]
جاء في لسان العرب لابن منظور:” قال عمر بن أبي خليفة: سمعت مُقاتِلا صاحب التفسير، يسأل أبا عمرو بن العلاء عن قول الله عز وجل{ مثل الجنة }: ما مثلها؟ فقال:{ فيها أنهار من ماء غير آسن00}0 قال: ما مثلها؟ فسكت أبو عمرو0 قال: فسألت يونس عنها، فقال: مثلها: صفتها “0
وعقَّب ابن منظور على جواب أبي عمرو لمقاتل فقال:” وأما جواب أبي عمرو لمقاتل حين سأله: ما مثلها؟ فقال: فيها أنهار من ماء غير آسن، ثم تكريره السؤال: ما مثلها؟ وسكوت أبي عمرو عنه، فإن أبا عمرو أجابه جوابًا مقنعًا، ولمَّا رأى نَبْوَة فهْم مُقاتِل، سكت عنه، لِمَا وقف عليه من غلظ فهْمه“0
**************
وبعد00 أتوجه بالخطاب إلى الأخ أبي مجاهد- لعله يسمعني هذه المرة- فأقول:
قال الله تعالى:{ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه }[ البقرة:273 ]0
وقال جل جلاله:{ ألم تر أن الله يسجد له من في السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس }[ الحج:18 ]
وقال سبحانه:{ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل }0
فهذا خطاب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولكل إنسان، يراد به التقرير، ومثله في القرآن كثير00فهل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحد من الناس ما قرَّره الله تعالى به، في هذه الآيات، ونحوها ؟
وقال الله تعالى:{ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود}[فصلت:13]0
وقال سبحانه في شجرة الزقوم:{ إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم* طلعها كأنه رؤوس الشياطين }[ الصافات: 64- 65 ]0
فهل استدل سبحانه في هاتين الآيتين على غائب بمشاهد محسوس؟ فإن كان كذلك، فأرجو من الأخ ( أخوكم )، والأخ خالد عبد الرحمن الإجابة عن ذلك0
وأتوجه أخيرًا إلى الأخ خالد لأقول له: أنا لم أقل إن القرآن نزل على قريش فقط؛ وإنما قلت: إن الذين كفروا هم عرب أقحاح، يفهمون المراد من خطاب الله تعالى لهم أكثر مما نفهمه نحن في هذا العصر00 وإذا كانوا قد وصفوا أنفسهم بأنهم كانوا غافلين، فهذا لا يعني أنهم لا يفهمون00 إنهم كانوا يعرفون الحق، ولكنهم يكابرون00 والسلام على من اتبع الهدى!
نعم يا أخي أنا معك في أن الكثير من الآيات من الممكن حملها على كل زمان ومكان وكان أفضل الأقوال فيها هو قول الجمع مثل قوله سبحانه ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه )
فيمكن حملها على الزمان الأول بحمل الآية على الأصابع المعهودة الظاهرة
ويمكن حملها على الزمان الآخر بحمل الآية على " البصمة " التي تم اكتشاف أن لكل إنسان بصمة خاصة به
أما هذه الآية التي معنا فالأمر فيها قد يختلف
فجمع لفظ " السماوات " يجعل هناك صعوبة على حملها على الزمان الأول فالمطر لا ينزل إلا من السماء الدنيا
ومن جهة أخرى فكون الآية تخاطب الكفار بشيء يعرفونه ليكون مقدمة لإثبات شيء ينكرونه
يجعل فيه صعوبة على حملها على الزمان الآخر _ زماننا _ من الانفجار الكوني فهم لا يعرفونه حتى يكون مقدمة لاثبات أمر ينكرونه ...
وتقبل من أخيك كل محبة
=====
الأخ الفاضل محمد إسماعيل عتوك حفظه الله ورعاه وبارك في علمه وعمله
طلبتَ منا أن نقرأ ردك ثم الرد التي ستتبعه إن شاء الله
ولذا فأنا أحد من ينتظره إن شاء الله
ولذا لم أحب أن أستعجل بالرد عليك فربما كان في ردك الموعود مزيد علم
فإن وضعته في أي مكان بالمنتدى فضع لنا رابطه هنا بارك الله فيك
فإن كان الإشكال ما زال قائما
سنكمل هذا المدارسة
والتي نسأل الله أن تكون خالصة لوجهه الكريم
لا دخل للرياء والجدل العقيم والمعكرات فيها من شيء
الأخ الكريم (أخوكم )!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته00 وبعد0
إن كنت تقصد بسؤالك المقال الثاني الذي وعدت به، فإنه موجود في الملتقى العلمي بعنوان ( من أسرار الإعجاز البياني في القرآن- سر مجيء لفظ السماء مجموعًا ومفردًا، خلافًًا للفظ الأرض )0
وأحب أن تعلم أخيرًا بأن ( الرتق ) في اللغة هو: الضمُّ والالتحام، خِلقة كان أم صنعة، وأن ( الفتق ) لغة هو الفصل بين المتصلين، وهو ضد ( الرتق )0 ولا يكون ( الرتق، والفتق ) إلا بين الشيئين، ومثالهما الآية المذكورة0 ومن الرتق قالوا: الرتقاء؛ وهي الجارية المنضمَّة الشفرتين00 فهل تريد بعد هذا كله مزيدًا من الأدلة؟!!!
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي سألتني أن أرد على ما سقته من آيات (ألم تر...) ونسيت يا أخي أن المخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من ورائه ..وهم الذين من أول صفاتهم الايمان بالغيب ..
فان قال الله سبحانه خبرا أو قاله نبيه صلى الله عليه وسلم كان عندنا بحكم الثابت ثبوت المشاهد .
ثم سقت آيات النذير ، وهذا وعيد بما قد يعلمه قارئ التاريخ ، وقد لا يلزمني ان توعدتك بشيء أن تصدقه ...فأنا أتوعدك لأنك لم تصدق أصلا !!
وكل هذا يختلف عن اقامة حجة بسؤال الكافر (الذي قال لا منذ البداية لوجود الله وحكمه ) ويقول من باب أولى لحدث لم يشهده ؟ فلم يوجه الله السؤال له ؟؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أحييك أخي أخوكم على هذا الموضوع وأسأل الله أن يجزيكم خيرا على هذا النقاش .
كاتب الرسالة الأصلية : خالدعبدالرحمن
هل من الممكن ان نقرأ هذه الآية ، كما نقرأ : (و اذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا لغافلين )
فالكافر (الغافل): لا يتذكر ما قرره الله حقيقة باشهاد الناس جميعا ، واقرارهم ...وبالتالي هل لنا أن نقرأ هذا الاشهاد على حدث الفتق بانه كان في ذات الوقت ، فشهده الجميع ؟
والله أعلم .
الحمد الله الذي لا إله غيره وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ...
اللهم نسألك من الخير كله ونعوذ بك من الشر كله
أولا :
سأبدأ بنقاط الاتفاق ...
فهناك آيات كثيرة ذكر الله فيها أنه على كل شيء قدير
فيدخل تحت ذلك قدرته سبحانه على فتق السماوات عن الأرض _نظرية الانفجار _
وفي المقابل هناك آيات كثيرة استدل بها اللهُ من نزول المطر ثم خروج نبات الأرض على خروج الناس من قبورهم للحساب يوم القيامة
فهذا ما يتعلق بنقطة الاتفاق
ثانيا :
مسألة الجمع بين القولين التي ذكرها الفاضل كثير الفضائل أبو مجاهد حفظه الله
إن من تتبع "كل" المسائل التي فيها قولين وكان الجمع بينهما هو الأفضل سيلاحظ شيئا مهما فيها وهو :
1- إمكانية الأخذ بالقول الأول "منفردا"
2- إمكانية الأخذ بالقول الثاني "منفردا"
3- لذا كان الجمع بينهما من باب أولى وأحسن وأكمل ...
أما في مثل مسألتنا هذه
فالقول الأول طرأ عليه ما يمنعنا من الأخذ به
وكذلك القول الثاني وجدنا ما يمنع الأخذ به
فكان الجمع بينهما ممتنع من باب أولى
لذا لا تقاس مسألتنا هذه على بقية المسائل التي يمكن الجمع بين قوليها
ثالثا :
نقطة الخلاف هي مدى إمكانية استيفاء شروط دخول القول الأول أو الثاني في آية سورة الأنبياء دخولا تاما بدون موانع
وهذه النقطة مهما كبرت فيعد الخلاف فيها جائزا إن شاء الله
رابعا :
آية الرتق والفتق التي بين أيدينا الآن فيها قولان
فالقول الأول رغم أن آيات القرآن تشهد له كثيرا _ وخير ما يفسر به القرآن هو القرآن _ ولكننا وجدنا ما يعكر الأخذ به وهو الجمع في لفظ السماوات وليس السماء !!
ومن أجل ذلك نصبتُ سؤالي
وما زلتُ أنتظر من يفتح الله عليه في هذا الباب ...
وكم كنتُ أتمنى وما زلتُ أتمنى أن لا يخرج الموضوع عن هذا الأمر
خامسا :
القول الثاني وجدنا فيه أيضا ما يعكر الأخذ به ، وهو كيف يُستدل بغائب على غائب ؟؟
إن الاستدلال بشيء غائب على شيء غائب
أو بمعنى آخر الاستدلال بشيء غير مقر به على شيء غير مقر به
أو بمعنى آخر الاستدلال بشيء غير محسوس على شيء غير محسوس
أو بمعنى آخر الاستدلال بشيء غير ثابت على شيء غير ثابت
أو بأي معنى آخر ...
إن تلك المقولة تتنزه العقول عن قبولها ... فكيف ننسبها إلى من خلق العقول ؟
هل يدخل هذا ضمن حسن الظن بالله ؟
أم يدخل ضمن سوء الظن بالله ، فنحتاج إلى أن نسبحه عن ذلك القول ؟
إن القرآن كما عهدها المسلمون قاطبة يخاطب الكفرة خطابا عقليا بأشياء يثبتونها
ثم ينتقل معهم إلى لازم تلك الثوابت مما لا يثبتونه
ولذا كثيرا ما كان يختم الله آيات المناقشة مع الكفرة بقوله سبحانه :
أفلا تعقلون ... أفلا تتفكرون ... الخ
فالآيات لا تكاد تحصر التي تساق للاستدلال بحاضر على غائب
أو بشيء مُقر به على شيء غير مقر به
أو بشيء محسوس على أمر غير محسوس
أو بأي مترادف كان .... الخ
فهي قاعدة شرعية قبل أن تكون عقلية
فينبغي أن نجعلها هي المحكم التي نقيس عليها مسألتنا هذه
أما ما عداها فلا يمكن أن نصنفه إلا في المتشابه
مثل آية أخذ الميثاق على بني آدم " وغيرها"_ مما قد يخطر ببالنا فيما بعد _
هذا إذا سلمنا أن تلك الآية تعارض ما أثبته الله من محكمات الاستدلال بثابت على غير ثابت ، وإلا فإن للعلماء في آية أخذ الميثاق أقوال كثيرة ومن ضمنها قول السعدي رحمه الله فمن شاء أن يراجعه في تفسيره فليراجعه عند الآية رقم 172 من سورة الأعراف
إذن فآية "مثل" هذه فيها ما فيها من الاختلاف و"التشابه" من الصعب أن نجعلها تؤيد مقولة خاطئة وندع الآيات المحكمات التي تخالف تلك المقولة الخاطئة
هذا ما يتعلق بآية الميثاق
أما الاستدلال بالآيات التالية :
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه
ألم تر أن الله يسجد له من في السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل
....
فمجرد إيرادها كافٍ لسقوط دلالتها على إثبات مقولة خاطئة ، بله عن الجواب عليها
فلئن سلمنا أنها جاءت في معرض إلزامٍ بثابت
فظاهر الآيات جلي بأنها فقط للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل مؤمن بالقرآن لأنهم لم يعودوا بحاجة إلى استدلال عقلي إذ يكفيهم أنها آية ليقروا بما جاء فيها
فالقرآن عند المسلمين هو أمر مقر به
حاضر
محسوس
ثابت
وكل ما ورد فيه حُق للمسلم أن يستدل به على أخيه المسلم المؤمن به
أما من جعل مثل تلك الآيات للكفار فقد أولها عن ظاهرها وبالتالي سيحتاج إلى دليل ذلك التأويل
أما قوله سبحانه
فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود
فلقد سمع القوم بالصيحة وتناقلها الناس
حتى صارت
محسوسا
وحاضرا أمامهم
وشيئا "مقرا به" بينهم
بأن هناك صيحة حصلت وريحا دمرت ومساكن أمطرت وأخرى خلت
بل وكانوا كما الله عنهم " يمشون في مساكنهم "
فلذا جاء التهديد بمثلها لكفار قريش
فكان ذلك استدلال شيء حاضر على شيء غائب
ولم تدل الآية البتة على صحة الاستدلال بغائب على غائب
أما آية "إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم* طلعها كأنه رؤوس الشياطين"
فإن بشاعة الشياطين _ كما قال غير واحد من أهل العلم_ صارت شيئا حاضرا محسوسا مقرا به في نفوس العرب
فحُق أن لنا أن نستدل بذلك الحاضر على شيء غائب
ولأن الشيء بالشيء يذكر ، فكذا الحال بالنسبة للملائكة
وهو عين ما أخبر عنه ابن القيم رحمه الله من أن النفوس قد "فطرت" على جمال الملائكة وبشاعة الشياطين
ولذا قالت نسوة يوسف لما رأينه ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم
فأناس مثل هؤلاء قد أقروا بجمال الملائكة وبشاعة الشياطين فلا داعي أن نثبت لهم شيئا هم مقرين هم به أصلا !!
وإنما نلزمهم بذلك الإقرار "الحاضر" على شيء غائب " غير مقر به "
إخواني وأهل مودتي : قوموا لله ومثنى وفرادى ثم تفكروا ألا يكون من التنفير عن ديننا وقرآننا أن نقول للكفرة إن ديننا يجيز الاستدلال بشيء غير مُقر به على شيء غير مقر به ؟!!
إن أقل ما نعمله أمام آيات "نفهم" منها أنها تؤيد قولا خاطئا أن نصنفها ضمن الآيات المتشابهة
ولا نملك عندها إلا أن نقول آمنا بالأدلة وخطَّـأنا الاستدلال
كما يفعل الراسخون في العلم عندما يصادفون آيات متشابهة تتعارض مع المحكمات اللواتي هن أم الكتاب
لنسكت مثلهم ولنقل الله أعلم بتأويل تلك الآيات المتشابهة
أما أسوأ المراحل فهي أن نأخذ بالمتشابه ونترك المحكم مما سيضطرنا بطريقة غير مباشرة أن نضرب القرآن بعضه ببعض
أما المرحلة الحسنى فهي بأن يمن الله علينا فنعرف تأويل تلك الآيات المتشابهة فنضمها للمحكم ليصبح القرآن كله محكما
فالخلاصة :
أن كل المسلمين قد عهدوا القرآن يستدل بشيء مقر به على شيء غير مقر به فلا ينبغي العدول عن هذا الأمر البتة
حتى وإن استحضرنا ألف آية "يُفهم" منها خلاف ذلك
فكلها متشابهات
سواء عُـرف تأويلها أم لم يـُعرف
والمحكمات ستكفي المؤمن وتغنيه
هذا ما عندي
فما كان فيه من صواب فمن الله
ومن كان فيه من خطأ فأبرأ إلى الله منه
وأستغفره سبحانه
فهو أرحم أعلم وأجل وأحكم وأخبر
أرى و الله أعلم أنه لا إشكال إن شاء الله ، إذا علمنا أن الرؤية في قوله تعالى ( أو لم ير ) هي بمعنى العلم ، فجملة ( أن السموات ..) سدت مسد مفعولي الرؤية ، و لهذا كانت الرؤية هنا بمعنى العلم كما قرره غير واحد من المفسرين .
و المعنى ألم يروا بقلوبهم و بصائرهم ، أو( أو لم يعلموا )، و الرؤية العلمية كثيرة في القرآن ...
فليست الرؤية بمعنى الشهود و المعاينة ..
و قول أخينا ( أخوكم ) عن القول الأول : إن فيه الاستدلال بشيء غائب على شيء غائب ، فيه بعض نظر ، من حيث إن حقيقة ما ذكر في الآية هو الاستدلال بشيء واقع قد تم و حصل ، لتقرير شيء مجحود لديهم ...
فأولا : العلم بحصول الرتق و الفتق بالمعنى الأول ، لا يلزم أن يكون حاصلا للكفار وقتئذ ، و يكفي حصول المعنى الثاني المدرك بالرؤية البصرية ..
فالخطاب عام شامل لمن كان كافرا في عهد النبي صلى الله عليه و سلم و لمن بعدهم إلى أن تقوم الساعة ، فالقرآن كتاب للجيل الأول و للأجيال التي بعده ، و ظاهرة تنوع المعنى من اللفظ الواحد هي من إعجاز هذا الكتاب ، و الأصل حمل القرآن على جميع تلك المعاني ما دام اللفظ و السياق يحتملها ، دون معارضة ، و هي طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
كذلك يقال : إن المعنى الأول مدرك منه القسم الثاني المضموم إلى ما قبله بالعطف عليه في قوله ( و جعلنا من الماء كل شيء حي ) فكثير من معنى الآية كان واقعا ملموسا محسوسا لديهم ، فلا إشكال إن كان المستدل به مجموع المعنيين !
و قد أقسم الله في جملة ما أقسم به بالبيت المعمور و العلم به ليس عاما ، إنما يحصل لطائفة منهم ، و هو المؤمنون بالشرائع ، أقسم به على شيء لم يقع بعد ، هم يجحدونه ، لكن المقسم به جاء ضمن جملة من المقسمات ، و كذلك قسمه بالبحر المسجور في قول من فسره بأن ذلك حاصل يوم القيامة حيث تسجر البحار ، كما في قوله تعالى ( إذا البحار سجرت ).
و إن كان المترجح لدي رأيا آخر اخترته في رسالة أفردتها للآية .
كذلك في قوله في سورة الأحقاف ( أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير )
فليس كل الكفار مؤمنين بما ذكر ، فالدهريون و الملاحدة لا يؤمنون بذلك ، و كذلك اليهود المفترون على الله ، يقولن بالإعياء و التعب ، فالمراد بعض الكفار لا جميعهم ، و هم من يصلح إيراد هذه الملازمة عليهم .
كذلك في التي سبق ، فبعض الكفار يلزمهم المعنى الأول ، و ليس عندنا دليل ينفي علم أهل الكتاب و غيرهم و إيمانهم بظاهرة الفتق و الرتق بالمعنى الأول ، و بعض آخر يلزمهم المعنى الثاني الذي يظهر للناس جميعا .
كما أنبه إلى أن الرؤية العلمية تحصل بالتدبر ، فالملازمة حاصلة لمن تدبر وعلم ، أما من لم يعلم فلا يتوجه إليه الخطاب .
و الله أعلم .