سالم خليفة الهواش
New member
بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد ,,,
بعث الله عزوجل الرسل إلى الناس لهدايتهم وإرشادهم لما فيه خيري الدنيا والآخرة ، وكانت من حكمة الله أن تكون الرسل أكمل الناس أخلاقا وأعظمهم سمتاً قال تعالى ( وكلا فضلنا على العالمين ) أي أن الأنبياء أفضل البشر بعد أن ذكر طائفة من الأنبياء في سورة الأنعام آيِة ( 86 ) ، وقال تعالى ( الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ) وما هذا الاصطفاء بالنبوة إلا لأنه اختارهم على علمٍ على العالمين فالله سبحانه وتعالى أعلم حيث يجعل رسالته ، وجاءت السنة ببيان فضل الأنبياء في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الناس أشد بلاءً قال ؛ الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ) أي الأفضل فالأفضل فهذا نص في أفضيلتهم وفي الحديث إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ و في روايةٍ ( صالحَ ) الأخلاق فالأنبياء عليهم السلام أعظم الناس دينا وأصدقهم إيمانا وأقواهم صبرا فلا يليق بالمسلم أن ينسب إلى أحدهم فعلا أو خلقا ينزه عنه عامة الناس فضلا عن الصالحين منهم فإذا نسب إليهم عملا لا يليق بهم فالمخرج إما أن يأتي بدليل واضح من الكتاب أو السنة الصحيحة أو يتراجع عنه ،،،، وقد كنت أقرأ في كتب التفسير قصة موسى وهارون عليهما السلام .أنه لما رجع موسى بعد مناجاة الرب جل وعلا قال تعالى
﴿وَلَمّا رَجَعَ موسى إِلى قَومِهِ غَضبانَ أَسِفًا قالَ بِئسَما خَلَفتُموني مِن بَعدي أَعَجِلتُم أَمرَ رَبِّكُم وَأَلقَى الأَلواحَ وَأَخَذَ بِرَأسِ أَخيهِ يَجُرُّهُ إِلَيهِ قالَ ابنَ أُمَّ إِنَّ القَومَ استَضعَفوني وَكادوا يَقتُلونَني فَلا تُشمِت بِيَ الأَعداءَ وَلا تَجعَلني مَعَ القَومِ الظّالِمينَ﴾ [الأعراف: ١٥٠]
فمن منطلق أخلاق الأنبياء الفاضلة لا يمكن أن يقوم نبي بتأديب أخيه النبي الذي أكبر منه سناً وهما في زمن تلك الواقعة قد يصل أعمارهم إلى الخمسين سنة فإن موسى عليه السلام لما قتل الفرعوني وخرج إلى مدين وتزوج وأكمل أجرة مهره عشر سنوات ثم عاد وجاهد فرعون عدة سنوات ،، وبعدما أهلك الله فرعون بالغرق وقعت تلك الحادثة وهي
أنه بسبب الغضب الذي أصاب موسى من عبادة قومه العجل ووجود هارون عليه السلام بين أظهرهم ،ألقى الألواح التي فيها هدى ونور وأخذ برأس أخيه يجره إليه ،،، وهذه الأفعال ( إلقاء الألواح ، وأخذ رأس أخيه ) نقول بها لأن الله جل وعلا قال بها ونحن لا نعلم الغيب إلا ما علمنا ربنا إياه ،،،، وهذه تبدو طبيعة بشرية ناتجة عن الغضب والأنبياء أحياناً يقع منهم الأعمال التي غيرها أفضل منها بمقتضى بشريتهم وقد يقال أنها تعتبر من صغار الذنوب لأن موسى عليه السلام استغفر منها
أما القول بأن موسى هو الأصغر وأخذ برأس أخيه هارون وهو الأكبر فإن هذا القول لايليق أبدا بخيار الناس فضلا عن الأنبياء فإني لم أجد دليلا من الكتاب والسنة الصحيحة فيما أعلم أن هارون هو الأكبر وإنما هذا قول اليهود الذين قالوا إن هارون هو الذي أمرهم بعبادة العجل وبرأه الله من هذا القول في كتابه العزيز ،وقد حذر الله جل وعلا المؤمنين في قوله ،( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا) سورة الأحزاب 69 فلا نقول للرسول صلى الله عليه وسلم قولا لا يليق به ولا إلى الرسل من قبله ، فكيف يليق بالمسلم أن يأخذ بقول مشين قاله من رموا الأنبياء بأقبح الأفعال والأخلاق وقبل ذلك أساؤوا الأدب مع الله جل وعلا ،،، فإنه لم يعهد بين الخلائق أن يقوم الأخ الأصغر بتأديب الأخ الأكبر وجره من رأسه ولحيته وهما كبار في السن وصالحان في نفس الوقت قد يوجد بين الأخ الكافر وأخيه المسلم وبين الأخ العاقل وأخيه السفيه أما بين أنبياء وخاصة موسى الذي هو أفضل بشر خلقه الله بعد محمد وإبراهيم عليهم جميعا الصلاة والسلام ،،، هذا أقوله إذا لم يثبت بأن موسى هو الأكبر فكيف إذا كانت هناك إشارات تفيد في مجملها أن موسى هو الأكبر وفي المقابل لا يوجد إي دليل أو إشارة - فيما أعلم - مفادها أن هارون هو الأكبر
ومن تلك الإشارات :
أنه بالتأمل في آية سورة طه قال الله على لسان هارون (( يا ابن أم لاتأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول .....)
فإن هذا الأسلوب طبيعي يقع كثيراً و يرد على لسان الأخ الأصغر عندما يغضب عليه أخوه الأكبر فيبدي له استعطافه ويبرر موقفه ففي المخاطبة ب (يابن أم ) أسلوب معروف ودارج عند العرب وفي الحديث أنَّ أمَّ هانىءٍ بنتَ أبي طالبٍ تقولُ : ذهَبتُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عامَ الفتحِ ، فوجَدتُه يَغتَسِلُ ، وفاطمةُ ابنتُه تَستُرُه ، قالتْ : فسلَّمتُ عليه ، فقال : مَن هذه . فقلتُ : أنا أمُّ هانىءٍ بنتُ أبي طالبٍ ، فقال : مَرحبًا بأمِّ هانىءٍ .، فلما انصَرَف ، قلتُ : يا رسولَ اللهِ ، زعَم ابنُ أمي ، أنه قاتلٌ رجلًا قد أجَرتُه ، فلانَ بنَ هُبَيرَةَ ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : قد أجَرْنا مَن أجَرتِ يا أمَّ هانىءٍ انتهى مختصرا من صحيح البخاري وهي تقصد علي بن أبي طالب شقيقها .
،،، ويزيد الأمر وضوحاً في آية الأعراف أنه قال (( فلا تشمت بي الأعداء )) لأن الشماتة من الحاضرين الكاهرين تقع على الأخ الأصغر عندما يعاقبه أخوه الأكبر وهذا أمر كذلك طبيعي ولو كان موسى هو الأصغر لكان هذا التصرف خارج عن مكارم ومحاسن الأخلاق و لوقعت عليه الشماتة واحتمال تقع عليهما جميعا ولمَا استعطفه هارون بهذا الأسلوب ولأنهما في زمن هذه الواقعة كانوا رسل وكبار في السن والرسل معصومون من مخارم المروءة وقبيح الأخلاق قال تعالى في سورة طه آية 47 (( فأتياه فقولا إنا رسولا ربك )) بالتثنية
تنبيه
وفي قوله تعالى ( إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ) : يدل على كراهيتهم لهارون فاحتقروه واستضعفوه واحتمال استصغروه ،، ووصل الأمر إلى حد القتل لقوله (وكادوا ) ولم يكن معه أحد يستنصره على من عبد العجل يفهم من قوله ( استضعفوني ) ولم يقل استضعفونا فهذا يضعف حديث الذي في قصة المعراج لما سلم الرسول صلى الله عليه وسلم على هارون عليه السلام قال جبريل هذا المحبب في قومه وكذلك في بعض كتب التفسير أن هارون أحب إلى بني إسرائيل من موسى ،، وفي قوله فلا تشمت بي الأعداء دليل كره هارون لهم أيضا بسبب شركهم وظلمهم أنفسهم بعبادة العجل والذي يظهر من الآيات التي وردت في واقعة عبادة العجل أن جميع من حضر هذه الواقعة عبد العجل ،،،
الإشارة الثانية
في قوله تعالى
﴿وَأَوحَينا إِلى أُمِّ موسى أَن أَرضِعيهِ فَإِذا خِفتِ عَلَيهِ فَأَلقيهِ فِي اليَمِّ وَلا تَخافي وَلا تَحزَني إِنّا رادّوهُ إِلَيكِ وَجاعِلوهُ مِنَ المُرسَلينَ﴾ [القصص: ٧]
فسمى الله أم موسى بتكنيتها فهي أمه بالولادة وأمه بالتكنية لأنه أكبر أولادها ،،، وكرر تكنيتها في قوله ( فأصبح فؤاد أم موسى فارغا )
وذكر السيوطي رحمه الله عن الشافعي قوله جميع ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن وتطبيقاً لهذا القول ، جاء في حديث هاني بن يزيد رضي الله عنه لما وفد إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ، مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم ، فدعاه رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله هو الحكم ، وإليه الحكم ، فلم تكنى أبًا الحكم ؟ فقال : إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم ، فرضي كلا الفريقين . فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم : ما أحسن هذا ، فما لك من الولد ؟ قال : لي شريح ، ومسلم ، وعبد الله ، قال : فمن أكبرهم ؟ قلت : شريح ، قال : فأنت أبو شريح ..رواه أبوداود وغيره
فهذا مما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمه من كلام ربه فكنّاهُ بأكبر أولاده وكذلك الله سبحانه وتعالى كنى أم موسى بأكبر أولادها ويمكن أن يسميها باسمها لكن سماها بالكنية ليتبين لنا كثرة اختلاف وأخطاء وكذب وتحريف أهل الكتاب ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تُطيعوا فَريقًا مِنَ الَّذينَ أوتُوا الكِتابَ يَرُدّوكُم بَعدَ إيمانِكُم كافِرينَ﴾ [آل عمران: ١٠٠]
وقال تعالى ﴿إِنَّ هذَا القُرآنَ يَقُصُّ عَلى بَني إِسرائيلَ أَكثَرَ الَّذي هُم فيهِ يَختَلِفونَ﴾ [النمل: ٧٦]
وقد كنى الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر في قصة زمزم بأم إسماعيل كما في صحيح البخاري ...
وأيضا روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله - مثَلُ الذين يغزونَ من أمَّتِي ، ويأخذونَ الْجُعلَ يتقوُّوُن بِهِ على عدوِّهم ، مثلُ أمِّ موسى تُرْضِعُ ولدَها ، وتأخذُ أجرَها وفي رواية مثل الذين يحجون من أمتي و الحديث ضعيف ذكره أبوداود في المراسيل وغيره لكن الشاهد من الحديث تكنية أم موسى ،،
فهذه سنة الله في كتابه الكريم امتثلها الرسول صلى الله عليه وسلم في تكنية الرجل أو المرأة بالولد الأكبر
وفي قوله تعالى ( إنا رادوه إليك ) اللي يظهر أنهم كانوا يأخذون الأولاد لاستعبادهم ذلك بأن الله وعدها بالرد وهو عكس الأخذ ولم يكونوا يقتلون الأولاد كما هو مشهور لأن خوفها على موسى لا دليل عليه أنهم كانوا يقتلون الأطفال وكذلك هم لا يعلمون أنه من أولاد بني اسرائيل ..وفي قوله تعالى ( إن كادت لتبدي به ) دليل على أنهم لا يعلمون أنه منهم ...فكيف يقال أنهم أرادوا قتله لأنه من بني اسرائيل
الإشارة الثالثة
وفي قوله تعالى على لسان أم موسى ( وقالت لأخته قصيه ) هذا على لسان أم موسى فلو كان هارون أكبر من موسى لأرسلته أمه بدلا من أخته فإن الخوف على الفتاة أعظم من الخوف على الفتى خاصة أنهم يقولون أن هارون ولد في العام الذي فيه عفوٌ عن قتل المواليد وأن هارون أكبر من موسى بعشر سنوات والبعض قال بسبع أو ثلاث ،، والذي يظهر لي أن هارون ولد بعدما حصلت أم موسى على الرعاية والأمان من امرأة فرعون وعاشت في كنف القصر الفرعوني ولذلك أرسلت أخته ،، وأما الخبر الذي فيه عامٌ يقتل فيها أولاد بني إسرائيل وعامٌ عفو فهذا خبر من أهل الكتاب والله أعلم بصحته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا فإنكم إما أن تصدقوا بباطل أو تكذبوا بحق ) رواه أحمد وغيره وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله تقرءونه لم يشب وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب فقالوا [ ص: 954 ] هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ولا والله ما رأينا منهم رجلا قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم ))
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته قال أبو هريرة فحدثت هذا الحديث كعبا فقال آنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نعم قال ذلك مرارا قلت أأقرأ التوراة ... وقوله ((أأقرأ التوراة ))استفهام إنكار أن أبا هريرة لا يأخذ من التوراة ولا من كتب الأوائل مثل أهل الكتاب فما يأخذ إلا من الرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف كعب الأحبار وغيره
وأقول عن قتل أولاد بني إسرائيل فالذي في كتاب ربنا أن قتل الأبناء جاء بعد مبعث موسى إلى فرعون قال تعالى ﴿فَلَمّا جاءَهُم بِالحَقِّ مِن عِندِنا قالُوا اقتُلوا أَبناءَ الَّذينَ آمَنوا مَعَهُ وَاستَحيوا نِساءَهُم وَما كَيدُ الكافِرينَ إِلّا في ضَلالٍ﴾ [غافر: ٢٥]
وقال تعالى ﴿وَقالَ المَلَأُ مِن قَومِ فِرعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَومَهُ لِيُفسِدوا فِي الأَرضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبناءَهُم وَنَستَحيي نِساءَهُم وَإِنّا فَوقَهُم قاهِرونَ﴾ [الأعراف: ١٢٧]
فمن قال أن القتل لهم كان في الصغر قبل مبعث موسى عليه السلام فليأتِ بالدليل الصحيح الصريح
فلو كان القتل موجودًا مستحرًّا بهم لما قال فرعون اقتلوا أبناءهم بعد مبعث موسى عليه السلام, وقد جاء في كتابنا الأمر بالتمسك بالقرآن الكريم قال تعالى ( فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم ) سورة الزخرف 43 وفي قوله (فاستمسك ) زيادة في مبنى الكلمة يدل على زيادة في المعنى وهو الاعتصام بهذا الكتاب فهو على الحق والعدل والصدق ..وقال تعالى (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ) العنكبوت 51 بلى يكفينا كتاب ربنا صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام .
وأما خوف أم موسى على ابنها عند ولادتها فالظاهر والله أعلم أنهم يأخذون الأولاد لاستعبادهم ولا يشترط القتل , كما قال أصحاب طالوت لنبيهم ( وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ) فهؤلاء أخذت أولادهم وعزلوا عنهم وتشابهت قصة جالوت الطاغية مع فرعون
وقد قال الله تعالى آمراً موسى وهارون
﴿فَأتِياهُ فَقولا إِنّا رَسولا رَبِّكَ فَأَرسِل مَعَنا بَني إِسرائيلَ وَلا تُعَذِّبهُم قَد جِئناكَ بِآيَةٍ مِن رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى﴾ [طه: ٤٧]
ولم يقل ولا تقتلهم لا لهم ولا لأبنائهم
وقال تعالى
﴿فَأتِيا فِرعَونَ فَقولا إِنّا رَسولُ رَبِّ العالَمينَ أَن أَرسِل مَعَنا بَني إِسرائيلَ﴾ [الشعراء: ١٦-١٧]
فكان يستعبدهم ويؤذيهم كما قال تعالى ﴿قالوا أوذينا مِن قَبلِ أَن تَأتِيَنا وَمِن بَعدِ ما جِئتَنا قالَ عَسى رَبُّكُم أَن يُهلِكَ عَدُوَّكُم وَيَستَخلِفَكُم فِي الأَرضِ فَيَنظُرَ كَيفَ تَعمَلونَ﴾ [الأعراف: ١٢٩]
فالايذاء يشمل القتل ويشمل غيره لكن القتل فواضح أنه جاء بعد مبعث موسى عليه السلام
و قال تعالى على لسان موسى ؛؛
﴿حَقيقٌ عَلى أَن لا أَقولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الحَقَّ قَد جِئتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِن رَبِّكُم فَأَرسِل مَعِيَ بَني إِسرائيلَ﴾ [الأعراف: ١٠٥]
وقال تعالى
﴿وَلَقَد فَتَنّا قَبلَهُم قَومَ فِرعَونَ وَجاءَهُم رَسولٌ كَريمٌ أَن أَدّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنّي لَكُم رَسولٌ أَمينٌ﴾ [الدخان: ١٧-١٨]
وقال تعالى
﴿فَفَرَرتُ مِنكُم لَمّا خِفتُكُم فَوَهَبَ لي رَبّي حُكمًا وَجَعَلَني مِنَ المُرسَلينَ وَتِلكَ نِعمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَن عَبَّدتَ بَني إِسرائيلَ﴾ [الشعراء: ٢١-٢٢]
وقال تعالى
﴿وَنُريدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ استُضعِفوا فِي الأَرضِ وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوارِثينَ﴾ [القصص: ٥]
وقال تعالى
﴿وَأَورَثنَا القَومَ الَّذينَ كانوا يُستَضعَفونَ مَشارِقَ الأَرضِ وَمَغارِبَهَا الَّتي بارَكنا فيها وَتَمَّت كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسنى عَلى بَني إِسرائيلَ بِما صَبَروا وَدَمَّرنا ما كانَ يَصنَعُ فِرعَونُ وَقَومُهُ وَما كانوا يَعرِشونَ﴾ [الأعراف: ١٣٧]
فجميع هذه الآيات تفيد في مجملها أن فرعون كان يستعبد بني إسرائيل ويذلهم ولم يكن يقتلهم
ولوكان يقتلهم ويكثر القتل فيهم و في أبنائهم
لذكر ذلك موسى عليه السلام له عندما عاب فرعون على موسى بقتله الرجل الفرعوني
قال تعالى
﴿فَأتِيا فِرعَونَ فَقولا إِنّا رَسولُ رَبِّ العالَمينَ أَن أَرسِل مَعَنا بَني إِسرائيلَ قالَ أَلَم نُرَبِّكَ فينا وَليدًا وَلَبِثتَ فينا مِن عُمُرِكَ سِنينَ وَفَعَلتَ فَعلَتَكَ الَّتي فَعَلتَ وَأَنتَ مِنَ الكافِرينَ قالَ فَعَلتُها إِذًا وَأَنا مِنَ الضّالّينَ فَفَرَرتُ مِنكُم لَمّا خِفتُكُم فَوَهَبَ لي رَبّي حُكمًا وَجَعَلَني مِنَ المُرسَلينَ وَتِلكَ نِعمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَن عَبَّدتَ بَني إِسرائيلَ﴾ [الشعراء: ١٦-٢٢]
ولم يقل أن قتلت أو ذبحت بني إسرائيل ولم يكن يخاف من فرعون حتى يواجهه بأنه يقتل أبناء بني إسرائيل لأن الله جل وعلا نهاه (( قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ )) (46) سورة طه
فالظاهر والله أعلم أن القتل كان قليلا في الأمم السابقة وإذا حصل يكون له ما يبرره عند من يقوم به فاقرأ قوله تعالى على لسان قوم شعيب
﴿قالَ المَلَأُ الَّذينَ استَكبَروا مِن قَومِهِ لَنُخرِجَنَّكَ يا شُعَيبُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَكَ مِن قَريَتِنا أَو لَتَعودُنَّ في مِلَّتِنا قالَ أَوَلَو كُنّا كارِهينَ﴾ [الأعراف: ٨٨] لم يقولوا أو لنقتلنكم
وكذلك الرسل مع أقوامهم
﴿وَقالَ الَّذينَ كَفَروا لِرُسُلِهِم لَنُخرِجَنَّكُم مِن أَرضِنا أَو لَتَعودُنَّ في مِلَّتِنا فَأَوحى إِلَيهِم رَبُّهُم لَنُهلِكَنَّ الظّالِمينَ﴾ [إبراهيم: ١٣]
وأيضاً قصة نوح وهود وصالح وشعيب ولوط مع أقوامهم لم يحصل بينهم قتال مع أن المسلمين أقل عدد من الكافرين واقرأ قول الفرعوني لموسى لما قتل موسى رجلا واحدا وصفه بالجبار
﴿فَلَمّا أَن أَرادَ أَن يَبطِشَ بِالَّذي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا موسى أَتُريدُ أَن تَقتُلَني كَما قَتَلتَ نَفسًا بِالأَمسِ إِن تُريدُ إِلّا أَن تَكونَ جَبّارًا فِي الأَرضِ وَما تُريدُ أَن تَكونَ مِنَ المُصلِحينَ﴾ [القصص: ١٩]
فالقتل كان معظماً في نفوس البشرية جمعاء ومن علامات الساعة كثرة الهرج أي القتل يفهم منه قلة القتل في الأمم السابقة وهذا غير الإهلاك من الله عند غضبه على أمة عاصية ....
وأما قوله تعالى على لسان امرأة فرعون (وَقالَتِ امرَأَتُ فِرعَونَ قُرَّتُ عَينٍ لي وَلَكَ لا تَقتُلوهُ عَسى أَن يَنفَعَنا أَو نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُم لا يَشعُرونَ﴾ [القصص: ٩] فالظاهر أنهم يأخذون الأولاد لاستعبادهم والانتفاع بهم لا لقتلهم لأن قولها ( لاتقتلوه ) احتمال أنه كان لايقبل المراضع ولو كانوا يريدون قتله ،لقتلوه من حين ما التقطوه فهم لا يعلمون من أمه ومن أبوه ! هل هو من الفراعنة أم من الاسرائليين !.فهو لقيط جاءهم في تابوت ويفهم هذا من قوله تعالى ( فالتقطه ) وحاولوا عدة مرات أن يجدوا له مرضعة ولم يفلحوا وهذا يفهم من قوله تعالى ( وحرمنا عليه المراضع ) فانزعجوا منه وهموا بالتخلص منه
وفي هذه العصور تلجأ بعض الدول إلى اللقطاء فتستخدمهم وتستفيد منهم وتسخرهم في بعض الأعمال التي قد تكون شاقة لأنهم لا يرتبطون بأي عائلة ولا يجدون من يطالب بحقوقهم أو مصالحهم ،.
الإشارة الرابعة :
قال تعالى ﴿إِنّا قَد أوحِيَ إِلَينا أَنَّ العَذابَ عَلى مَن كَذَّبَ وَتَوَلّى قالَ فَمَن رَبُّكُما يا موسى﴾ [طه: ٤٨-٤٩]
قوله تعالى على لسان فرعون ( فمن ربكما ) يفي بالغرض من توجيه السؤال لهما فلما زاد وقال ( يا موسى ) وجه فرعون الكلام له لأنه هو الأكبر ففي الأمور العظيمة يتكلم الكبار مع أن هارون أفصح منه و موسى لا يبين الكلام كما عابه فرعون قبحه الله في قوله تعالى ﴿أَم أَنا خَيرٌ مِن هذَا الَّذي هُوَ مَهينٌ وَلا يَكادُ يُبينُ﴾ [الزخرف: ٥٢] ومن المعلوم أن كتاب الله كل ما فيه من كلمات وأحرف لها من الحكم والفوائد قد يعلمها الإنسان عند التدبر وقد لا يعلمها
ويؤيد ما قلته ما جاء في حديث قتل اليهود لعبدالله بن سهل رضي الله عنه قال سهل بن أبي حثمة ::
أن عبداللهِ بنَ سَهلٍ ، ومُحَيِّصةَ خرجا إلى خيبرَ من جَهْدٍ أصابَهما, فأتي مُحَيِّصَةُ ، فأخبر أن عبداللهِ بنَ سَهلٍ قد قُتِلَ ,وطُرِحَ في فقيرٍ أو عينٍ، فأتى يهودَ، فقال: أنتم واللهِ قتلتموه، فقالوا: واللهِ ما قتلناه، ثم أقبل، حتى قَدِمَ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له, ثم أقبل هو وحُويِّصَةُ, وهو أخوه أكبُر منه ، وعبدُالرحمنِ بنُ سَهلٍ ، فذهب مُحَيِّصَةُ ليتكلم وهو الذي كان بخيبرَ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كَبِّر كَبِّر.( وفي رواية في صحيح مسلم ليبدأ الأكبر ) وتكلمَ حُوَيِّصَةُ ثم تكلم مُحَيِّصةُ ،...الخ هذا اللفظ في صحيح النسائي - رقم: 4724
فهذا الحديث يدل على الأكبر اذا اجتمع مع الأخ الأصغر فالسنة يبدأ الأكبر بالكلام قبل الأصغر تأدباً معه مع أن حويصة رضي الله عنه لم يكن حاضرا في الواقعة ، وقد فهم هذا الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن كما قال الشافعي رحمه الله تعالى : جميع ما حكم الرسول صلى الله عليه وسلم به فهو مما فهمه من القرآن ،، فيما ذكره عنه السيوطي رحمه الله في مقدمة كتابه الإكليل في استنباط التنزيل وذكر أيضاً عن بعض العلماء قوله : ما سمعت حديث إلا التمست له آية من كتاب الله ،، وقال سعيد بن جبير رحمه الله : ما بلغني حديث عن رسول صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله ،، وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ؛ إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله .. انتهى كلام السيوطي رحمه الله
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن كما يروى هذا الأثر عن عائشة رضي الله عنها وقد صححه الشيخ الألباني رحمه الله وهذا يدل على أن من خلقه أن يبدأ الكبير في الحديث في الأمور المهمة ...
الإشارة الخامسة
قال تعالى ﴿قالَ يا هارونُ ما مَنَعَكَ إِذ رَأَيتَهُم ضَلّوا أَلّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيتَ أَمري قالَ يَا ابنَ أُمَّ لا تَأخُذ بِلِحيَتي وَلا بِرَأسي إِنّي خَشيتُ أَن تَقولَ فَرَّقتَ بَينَ بَني إِسرائيلَ وَلَم تَرقُب قَولي﴾ [طه: ٩٢-٩٤]
فقوله تعالى على لسان موسى ( ألا تتبعني أفعصيت أمري ) دليل على ما فطر الله عليه الناس من أن الأخ الأكبر له نوع ولاية على أخيه الأصغر من أمره وتعليمه وتوجيهه وتأديبه إذا اقتضى الأمر فهذه عادة جرت بين الناس وغير مستنكرة بل يرون أن الأخ الأصغر عليه أن يوقر أخيه الأكبر ويحترمه ويخاطبه بإجلال والأنبياء أكمل الناس خُلُقًا فكان رد هارون (( إني خشيت أن تقول )) فهو عليه السلام خشي من إغضاب أخيه الأكبر ،، فهذه المحاورة تدل على كمال أخلاق الأنبياء وأنها متوافقة مع فطرة الناس التي فطر الله الناس عليها ،،
وفي حديث أنس بن مالك قال : جاءَ شيخٌ يريدُ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فأبطا القومُ أن يوسِّعوا لَه فقالَ ليسَ منَّا من لم يرحَمْ صغيرَنا ولم يوقِّرْ كبيرَنا .
قال المناوي رحمه الله :
" يُعْطَى الكبير حقه من الشرف والتوقير " انتهى من "فيض القدير" (5/ 388) .
والأخ الكبير له شيء من الولاية على أخيه الصغير .
قال الشرواني في "حاشيته" (3/ 21):
" منْ لَهُ وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ، فَيَشْمَلُ الْأُمَّ وَالْأَخَ الْكَبِيرَ " انتهى .
وقال الجمل في "حاشيته" (4/ 426):
" يُؤْخَذُ مِنْ التَّعْلِيلِ أَنَّ مِثْلَ الْأَبِ كُلُّ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ ، كَعَمِّهِ ، وَأَخِيهِ " انتهى
الإشارة السادسة
قال تعالى
﴿وَقالَ لَهُم نَبِيُّهُم إِنَّ آيَةَ مُلكِهِ أَن يَأتِيَكُمُ التّابوتُ فيهِ سَكينَةٌ مِن رَبِّكُم وَبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هارونَ تَحمِلُهُ المَلائِكَةُ إِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً لَكُم إِن كُنتُم مُؤمِنينَ﴾ [البقرة: ٢٤٨]
فتقديم آل موسى على آل هارون لاحتمال كبر السن والتقدم في العمر وليس المقصود فيها أفضلية موسى على هارون عليهما السلام لأن المقصود هم الآل،، والعلم عند الله العليم الحكيم .
الإشارة السابعة
قال تعالى ﴿قالَ رَبِّ إِنّي لا أَملِكُ إِلّا نَفسي وَأَخي فَافرُق بَينَنا وَبَينَ القَومِ الفاسِقينَ﴾ [المائدة: ٢٥]
أي لايملك أن يأمر وينهى إلا نفسه وأخيه وهذا موافق لما فطر الله الناس عليه من أن الأخ الأكبر يأمر وينهى أخيه الأصغر لما فيه من المصالح
وقد يرد سؤال لماذا يكنى أبو بكر بهذه التكنية !؟ فالجواب في صحيح البخاري حديث رقم 3969 عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ـ رضى الله عنه ـ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ كَلْبٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ بَكْرٍ، فَلَمَّا هَاجَرَ أَبُو بَكْرٍ طَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا،
وكذلك عمر بن الخطاب يكنى بأبي حفص لأن أكبر بناته حفصه واللي يظهر أنه يكنى بها مع ترخيم اسمها
والإمام أحمد بن حنبل يكنى بأبي عبدالله وأكبر أولاده صالح وهذا لا إشكال فيه فقد يكون له ولد مات في الصغر اسمه عبدالله لأنه كم من رجل يموت له ولد صغير لايعرفه الناس ويكنى به ...
وأنهي هذا البحث جعله الله بحث خير وبركة وما أردت إلا الخير في الدفاع عن نبي الله موسى عليه السلام في أنه يأخذ بلحية أخيه الأكبر هارون وليس بصواب بل هو الأكبر ،،، وكذلك بيان ما في الأخبار الإسرائيلية من أخطاء ولقد قال الله سبحانه عنهم ﴿أَفَتَطمَعونَ أَن يُؤمِنوا لَكُم وَقَد كانَ فَريقٌ مِنهُم يَسمَعونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفونَهُ مِن بَعدِ ما عَقَلوهُ وَهُم يَعلَمونَ﴾ [البقرة: ٧٥] فهم حرفوا كلام الله وهو طري قد وصل إلى أسماعهم ونبيهم موسى بين أظهرهم فكيف إذا تقادم العهد واندثر العلم ،،، ولا حول ولا قوة إلا بالله ،، والله الهادي إلى سواء السبيل ....
والله أعلم وصلى الله وسلم على الهادي البشير وعلى آله وصحبه وسلم
أما بعد ,,,
بعث الله عزوجل الرسل إلى الناس لهدايتهم وإرشادهم لما فيه خيري الدنيا والآخرة ، وكانت من حكمة الله أن تكون الرسل أكمل الناس أخلاقا وأعظمهم سمتاً قال تعالى ( وكلا فضلنا على العالمين ) أي أن الأنبياء أفضل البشر بعد أن ذكر طائفة من الأنبياء في سورة الأنعام آيِة ( 86 ) ، وقال تعالى ( الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ) وما هذا الاصطفاء بالنبوة إلا لأنه اختارهم على علمٍ على العالمين فالله سبحانه وتعالى أعلم حيث يجعل رسالته ، وجاءت السنة ببيان فضل الأنبياء في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الناس أشد بلاءً قال ؛ الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ) أي الأفضل فالأفضل فهذا نص في أفضيلتهم وفي الحديث إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ و في روايةٍ ( صالحَ ) الأخلاق فالأنبياء عليهم السلام أعظم الناس دينا وأصدقهم إيمانا وأقواهم صبرا فلا يليق بالمسلم أن ينسب إلى أحدهم فعلا أو خلقا ينزه عنه عامة الناس فضلا عن الصالحين منهم فإذا نسب إليهم عملا لا يليق بهم فالمخرج إما أن يأتي بدليل واضح من الكتاب أو السنة الصحيحة أو يتراجع عنه ،،،، وقد كنت أقرأ في كتب التفسير قصة موسى وهارون عليهما السلام .أنه لما رجع موسى بعد مناجاة الرب جل وعلا قال تعالى
﴿وَلَمّا رَجَعَ موسى إِلى قَومِهِ غَضبانَ أَسِفًا قالَ بِئسَما خَلَفتُموني مِن بَعدي أَعَجِلتُم أَمرَ رَبِّكُم وَأَلقَى الأَلواحَ وَأَخَذَ بِرَأسِ أَخيهِ يَجُرُّهُ إِلَيهِ قالَ ابنَ أُمَّ إِنَّ القَومَ استَضعَفوني وَكادوا يَقتُلونَني فَلا تُشمِت بِيَ الأَعداءَ وَلا تَجعَلني مَعَ القَومِ الظّالِمينَ﴾ [الأعراف: ١٥٠]
فمن منطلق أخلاق الأنبياء الفاضلة لا يمكن أن يقوم نبي بتأديب أخيه النبي الذي أكبر منه سناً وهما في زمن تلك الواقعة قد يصل أعمارهم إلى الخمسين سنة فإن موسى عليه السلام لما قتل الفرعوني وخرج إلى مدين وتزوج وأكمل أجرة مهره عشر سنوات ثم عاد وجاهد فرعون عدة سنوات ،، وبعدما أهلك الله فرعون بالغرق وقعت تلك الحادثة وهي
أنه بسبب الغضب الذي أصاب موسى من عبادة قومه العجل ووجود هارون عليه السلام بين أظهرهم ،ألقى الألواح التي فيها هدى ونور وأخذ برأس أخيه يجره إليه ،،، وهذه الأفعال ( إلقاء الألواح ، وأخذ رأس أخيه ) نقول بها لأن الله جل وعلا قال بها ونحن لا نعلم الغيب إلا ما علمنا ربنا إياه ،،،، وهذه تبدو طبيعة بشرية ناتجة عن الغضب والأنبياء أحياناً يقع منهم الأعمال التي غيرها أفضل منها بمقتضى بشريتهم وقد يقال أنها تعتبر من صغار الذنوب لأن موسى عليه السلام استغفر منها
أما القول بأن موسى هو الأصغر وأخذ برأس أخيه هارون وهو الأكبر فإن هذا القول لايليق أبدا بخيار الناس فضلا عن الأنبياء فإني لم أجد دليلا من الكتاب والسنة الصحيحة فيما أعلم أن هارون هو الأكبر وإنما هذا قول اليهود الذين قالوا إن هارون هو الذي أمرهم بعبادة العجل وبرأه الله من هذا القول في كتابه العزيز ،وقد حذر الله جل وعلا المؤمنين في قوله ،( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا) سورة الأحزاب 69 فلا نقول للرسول صلى الله عليه وسلم قولا لا يليق به ولا إلى الرسل من قبله ، فكيف يليق بالمسلم أن يأخذ بقول مشين قاله من رموا الأنبياء بأقبح الأفعال والأخلاق وقبل ذلك أساؤوا الأدب مع الله جل وعلا ،،، فإنه لم يعهد بين الخلائق أن يقوم الأخ الأصغر بتأديب الأخ الأكبر وجره من رأسه ولحيته وهما كبار في السن وصالحان في نفس الوقت قد يوجد بين الأخ الكافر وأخيه المسلم وبين الأخ العاقل وأخيه السفيه أما بين أنبياء وخاصة موسى الذي هو أفضل بشر خلقه الله بعد محمد وإبراهيم عليهم جميعا الصلاة والسلام ،،، هذا أقوله إذا لم يثبت بأن موسى هو الأكبر فكيف إذا كانت هناك إشارات تفيد في مجملها أن موسى هو الأكبر وفي المقابل لا يوجد إي دليل أو إشارة - فيما أعلم - مفادها أن هارون هو الأكبر
ومن تلك الإشارات :
أنه بالتأمل في آية سورة طه قال الله على لسان هارون (( يا ابن أم لاتأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول .....)
فإن هذا الأسلوب طبيعي يقع كثيراً و يرد على لسان الأخ الأصغر عندما يغضب عليه أخوه الأكبر فيبدي له استعطافه ويبرر موقفه ففي المخاطبة ب (يابن أم ) أسلوب معروف ودارج عند العرب وفي الحديث أنَّ أمَّ هانىءٍ بنتَ أبي طالبٍ تقولُ : ذهَبتُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عامَ الفتحِ ، فوجَدتُه يَغتَسِلُ ، وفاطمةُ ابنتُه تَستُرُه ، قالتْ : فسلَّمتُ عليه ، فقال : مَن هذه . فقلتُ : أنا أمُّ هانىءٍ بنتُ أبي طالبٍ ، فقال : مَرحبًا بأمِّ هانىءٍ .، فلما انصَرَف ، قلتُ : يا رسولَ اللهِ ، زعَم ابنُ أمي ، أنه قاتلٌ رجلًا قد أجَرتُه ، فلانَ بنَ هُبَيرَةَ ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : قد أجَرْنا مَن أجَرتِ يا أمَّ هانىءٍ انتهى مختصرا من صحيح البخاري وهي تقصد علي بن أبي طالب شقيقها .
،،، ويزيد الأمر وضوحاً في آية الأعراف أنه قال (( فلا تشمت بي الأعداء )) لأن الشماتة من الحاضرين الكاهرين تقع على الأخ الأصغر عندما يعاقبه أخوه الأكبر وهذا أمر كذلك طبيعي ولو كان موسى هو الأصغر لكان هذا التصرف خارج عن مكارم ومحاسن الأخلاق و لوقعت عليه الشماتة واحتمال تقع عليهما جميعا ولمَا استعطفه هارون بهذا الأسلوب ولأنهما في زمن هذه الواقعة كانوا رسل وكبار في السن والرسل معصومون من مخارم المروءة وقبيح الأخلاق قال تعالى في سورة طه آية 47 (( فأتياه فقولا إنا رسولا ربك )) بالتثنية
تنبيه
وفي قوله تعالى ( إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ) : يدل على كراهيتهم لهارون فاحتقروه واستضعفوه واحتمال استصغروه ،، ووصل الأمر إلى حد القتل لقوله (وكادوا ) ولم يكن معه أحد يستنصره على من عبد العجل يفهم من قوله ( استضعفوني ) ولم يقل استضعفونا فهذا يضعف حديث الذي في قصة المعراج لما سلم الرسول صلى الله عليه وسلم على هارون عليه السلام قال جبريل هذا المحبب في قومه وكذلك في بعض كتب التفسير أن هارون أحب إلى بني إسرائيل من موسى ،، وفي قوله فلا تشمت بي الأعداء دليل كره هارون لهم أيضا بسبب شركهم وظلمهم أنفسهم بعبادة العجل والذي يظهر من الآيات التي وردت في واقعة عبادة العجل أن جميع من حضر هذه الواقعة عبد العجل ،،،
الإشارة الثانية
في قوله تعالى
﴿وَأَوحَينا إِلى أُمِّ موسى أَن أَرضِعيهِ فَإِذا خِفتِ عَلَيهِ فَأَلقيهِ فِي اليَمِّ وَلا تَخافي وَلا تَحزَني إِنّا رادّوهُ إِلَيكِ وَجاعِلوهُ مِنَ المُرسَلينَ﴾ [القصص: ٧]
فسمى الله أم موسى بتكنيتها فهي أمه بالولادة وأمه بالتكنية لأنه أكبر أولادها ،،، وكرر تكنيتها في قوله ( فأصبح فؤاد أم موسى فارغا )
وذكر السيوطي رحمه الله عن الشافعي قوله جميع ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن وتطبيقاً لهذا القول ، جاء في حديث هاني بن يزيد رضي الله عنه لما وفد إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ، مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم ، فدعاه رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله هو الحكم ، وإليه الحكم ، فلم تكنى أبًا الحكم ؟ فقال : إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم ، فرضي كلا الفريقين . فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم : ما أحسن هذا ، فما لك من الولد ؟ قال : لي شريح ، ومسلم ، وعبد الله ، قال : فمن أكبرهم ؟ قلت : شريح ، قال : فأنت أبو شريح ..رواه أبوداود وغيره
فهذا مما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمه من كلام ربه فكنّاهُ بأكبر أولاده وكذلك الله سبحانه وتعالى كنى أم موسى بأكبر أولادها ويمكن أن يسميها باسمها لكن سماها بالكنية ليتبين لنا كثرة اختلاف وأخطاء وكذب وتحريف أهل الكتاب ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تُطيعوا فَريقًا مِنَ الَّذينَ أوتُوا الكِتابَ يَرُدّوكُم بَعدَ إيمانِكُم كافِرينَ﴾ [آل عمران: ١٠٠]
وقال تعالى ﴿إِنَّ هذَا القُرآنَ يَقُصُّ عَلى بَني إِسرائيلَ أَكثَرَ الَّذي هُم فيهِ يَختَلِفونَ﴾ [النمل: ٧٦]
وقد كنى الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر في قصة زمزم بأم إسماعيل كما في صحيح البخاري ...
وأيضا روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله - مثَلُ الذين يغزونَ من أمَّتِي ، ويأخذونَ الْجُعلَ يتقوُّوُن بِهِ على عدوِّهم ، مثلُ أمِّ موسى تُرْضِعُ ولدَها ، وتأخذُ أجرَها وفي رواية مثل الذين يحجون من أمتي و الحديث ضعيف ذكره أبوداود في المراسيل وغيره لكن الشاهد من الحديث تكنية أم موسى ،،
فهذه سنة الله في كتابه الكريم امتثلها الرسول صلى الله عليه وسلم في تكنية الرجل أو المرأة بالولد الأكبر
وفي قوله تعالى ( إنا رادوه إليك ) اللي يظهر أنهم كانوا يأخذون الأولاد لاستعبادهم ذلك بأن الله وعدها بالرد وهو عكس الأخذ ولم يكونوا يقتلون الأولاد كما هو مشهور لأن خوفها على موسى لا دليل عليه أنهم كانوا يقتلون الأطفال وكذلك هم لا يعلمون أنه من أولاد بني اسرائيل ..وفي قوله تعالى ( إن كادت لتبدي به ) دليل على أنهم لا يعلمون أنه منهم ...فكيف يقال أنهم أرادوا قتله لأنه من بني اسرائيل
الإشارة الثالثة
وفي قوله تعالى على لسان أم موسى ( وقالت لأخته قصيه ) هذا على لسان أم موسى فلو كان هارون أكبر من موسى لأرسلته أمه بدلا من أخته فإن الخوف على الفتاة أعظم من الخوف على الفتى خاصة أنهم يقولون أن هارون ولد في العام الذي فيه عفوٌ عن قتل المواليد وأن هارون أكبر من موسى بعشر سنوات والبعض قال بسبع أو ثلاث ،، والذي يظهر لي أن هارون ولد بعدما حصلت أم موسى على الرعاية والأمان من امرأة فرعون وعاشت في كنف القصر الفرعوني ولذلك أرسلت أخته ،، وأما الخبر الذي فيه عامٌ يقتل فيها أولاد بني إسرائيل وعامٌ عفو فهذا خبر من أهل الكتاب والله أعلم بصحته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا فإنكم إما أن تصدقوا بباطل أو تكذبوا بحق ) رواه أحمد وغيره وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله تقرءونه لم يشب وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب فقالوا [ ص: 954 ] هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ولا والله ما رأينا منهم رجلا قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم ))
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته قال أبو هريرة فحدثت هذا الحديث كعبا فقال آنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نعم قال ذلك مرارا قلت أأقرأ التوراة ... وقوله ((أأقرأ التوراة ))استفهام إنكار أن أبا هريرة لا يأخذ من التوراة ولا من كتب الأوائل مثل أهل الكتاب فما يأخذ إلا من الرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف كعب الأحبار وغيره
وأقول عن قتل أولاد بني إسرائيل فالذي في كتاب ربنا أن قتل الأبناء جاء بعد مبعث موسى إلى فرعون قال تعالى ﴿فَلَمّا جاءَهُم بِالحَقِّ مِن عِندِنا قالُوا اقتُلوا أَبناءَ الَّذينَ آمَنوا مَعَهُ وَاستَحيوا نِساءَهُم وَما كَيدُ الكافِرينَ إِلّا في ضَلالٍ﴾ [غافر: ٢٥]
وقال تعالى ﴿وَقالَ المَلَأُ مِن قَومِ فِرعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَومَهُ لِيُفسِدوا فِي الأَرضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبناءَهُم وَنَستَحيي نِساءَهُم وَإِنّا فَوقَهُم قاهِرونَ﴾ [الأعراف: ١٢٧]
فمن قال أن القتل لهم كان في الصغر قبل مبعث موسى عليه السلام فليأتِ بالدليل الصحيح الصريح
فلو كان القتل موجودًا مستحرًّا بهم لما قال فرعون اقتلوا أبناءهم بعد مبعث موسى عليه السلام, وقد جاء في كتابنا الأمر بالتمسك بالقرآن الكريم قال تعالى ( فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم ) سورة الزخرف 43 وفي قوله (فاستمسك ) زيادة في مبنى الكلمة يدل على زيادة في المعنى وهو الاعتصام بهذا الكتاب فهو على الحق والعدل والصدق ..وقال تعالى (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ) العنكبوت 51 بلى يكفينا كتاب ربنا صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام .
وأما خوف أم موسى على ابنها عند ولادتها فالظاهر والله أعلم أنهم يأخذون الأولاد لاستعبادهم ولا يشترط القتل , كما قال أصحاب طالوت لنبيهم ( وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ) فهؤلاء أخذت أولادهم وعزلوا عنهم وتشابهت قصة جالوت الطاغية مع فرعون
وقد قال الله تعالى آمراً موسى وهارون
﴿فَأتِياهُ فَقولا إِنّا رَسولا رَبِّكَ فَأَرسِل مَعَنا بَني إِسرائيلَ وَلا تُعَذِّبهُم قَد جِئناكَ بِآيَةٍ مِن رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى﴾ [طه: ٤٧]
ولم يقل ولا تقتلهم لا لهم ولا لأبنائهم
وقال تعالى
﴿فَأتِيا فِرعَونَ فَقولا إِنّا رَسولُ رَبِّ العالَمينَ أَن أَرسِل مَعَنا بَني إِسرائيلَ﴾ [الشعراء: ١٦-١٧]
فكان يستعبدهم ويؤذيهم كما قال تعالى ﴿قالوا أوذينا مِن قَبلِ أَن تَأتِيَنا وَمِن بَعدِ ما جِئتَنا قالَ عَسى رَبُّكُم أَن يُهلِكَ عَدُوَّكُم وَيَستَخلِفَكُم فِي الأَرضِ فَيَنظُرَ كَيفَ تَعمَلونَ﴾ [الأعراف: ١٢٩]
فالايذاء يشمل القتل ويشمل غيره لكن القتل فواضح أنه جاء بعد مبعث موسى عليه السلام
و قال تعالى على لسان موسى ؛؛
﴿حَقيقٌ عَلى أَن لا أَقولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الحَقَّ قَد جِئتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِن رَبِّكُم فَأَرسِل مَعِيَ بَني إِسرائيلَ﴾ [الأعراف: ١٠٥]
وقال تعالى
﴿وَلَقَد فَتَنّا قَبلَهُم قَومَ فِرعَونَ وَجاءَهُم رَسولٌ كَريمٌ أَن أَدّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنّي لَكُم رَسولٌ أَمينٌ﴾ [الدخان: ١٧-١٨]
وقال تعالى
﴿فَفَرَرتُ مِنكُم لَمّا خِفتُكُم فَوَهَبَ لي رَبّي حُكمًا وَجَعَلَني مِنَ المُرسَلينَ وَتِلكَ نِعمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَن عَبَّدتَ بَني إِسرائيلَ﴾ [الشعراء: ٢١-٢٢]
وقال تعالى
﴿وَنُريدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ استُضعِفوا فِي الأَرضِ وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوارِثينَ﴾ [القصص: ٥]
وقال تعالى
﴿وَأَورَثنَا القَومَ الَّذينَ كانوا يُستَضعَفونَ مَشارِقَ الأَرضِ وَمَغارِبَهَا الَّتي بارَكنا فيها وَتَمَّت كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسنى عَلى بَني إِسرائيلَ بِما صَبَروا وَدَمَّرنا ما كانَ يَصنَعُ فِرعَونُ وَقَومُهُ وَما كانوا يَعرِشونَ﴾ [الأعراف: ١٣٧]
فجميع هذه الآيات تفيد في مجملها أن فرعون كان يستعبد بني إسرائيل ويذلهم ولم يكن يقتلهم
ولوكان يقتلهم ويكثر القتل فيهم و في أبنائهم
لذكر ذلك موسى عليه السلام له عندما عاب فرعون على موسى بقتله الرجل الفرعوني
قال تعالى
﴿فَأتِيا فِرعَونَ فَقولا إِنّا رَسولُ رَبِّ العالَمينَ أَن أَرسِل مَعَنا بَني إِسرائيلَ قالَ أَلَم نُرَبِّكَ فينا وَليدًا وَلَبِثتَ فينا مِن عُمُرِكَ سِنينَ وَفَعَلتَ فَعلَتَكَ الَّتي فَعَلتَ وَأَنتَ مِنَ الكافِرينَ قالَ فَعَلتُها إِذًا وَأَنا مِنَ الضّالّينَ فَفَرَرتُ مِنكُم لَمّا خِفتُكُم فَوَهَبَ لي رَبّي حُكمًا وَجَعَلَني مِنَ المُرسَلينَ وَتِلكَ نِعمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَن عَبَّدتَ بَني إِسرائيلَ﴾ [الشعراء: ١٦-٢٢]
ولم يقل أن قتلت أو ذبحت بني إسرائيل ولم يكن يخاف من فرعون حتى يواجهه بأنه يقتل أبناء بني إسرائيل لأن الله جل وعلا نهاه (( قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ )) (46) سورة طه
فالظاهر والله أعلم أن القتل كان قليلا في الأمم السابقة وإذا حصل يكون له ما يبرره عند من يقوم به فاقرأ قوله تعالى على لسان قوم شعيب
﴿قالَ المَلَأُ الَّذينَ استَكبَروا مِن قَومِهِ لَنُخرِجَنَّكَ يا شُعَيبُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَكَ مِن قَريَتِنا أَو لَتَعودُنَّ في مِلَّتِنا قالَ أَوَلَو كُنّا كارِهينَ﴾ [الأعراف: ٨٨] لم يقولوا أو لنقتلنكم
وكذلك الرسل مع أقوامهم
﴿وَقالَ الَّذينَ كَفَروا لِرُسُلِهِم لَنُخرِجَنَّكُم مِن أَرضِنا أَو لَتَعودُنَّ في مِلَّتِنا فَأَوحى إِلَيهِم رَبُّهُم لَنُهلِكَنَّ الظّالِمينَ﴾ [إبراهيم: ١٣]
وأيضاً قصة نوح وهود وصالح وشعيب ولوط مع أقوامهم لم يحصل بينهم قتال مع أن المسلمين أقل عدد من الكافرين واقرأ قول الفرعوني لموسى لما قتل موسى رجلا واحدا وصفه بالجبار
﴿فَلَمّا أَن أَرادَ أَن يَبطِشَ بِالَّذي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا موسى أَتُريدُ أَن تَقتُلَني كَما قَتَلتَ نَفسًا بِالأَمسِ إِن تُريدُ إِلّا أَن تَكونَ جَبّارًا فِي الأَرضِ وَما تُريدُ أَن تَكونَ مِنَ المُصلِحينَ﴾ [القصص: ١٩]
فالقتل كان معظماً في نفوس البشرية جمعاء ومن علامات الساعة كثرة الهرج أي القتل يفهم منه قلة القتل في الأمم السابقة وهذا غير الإهلاك من الله عند غضبه على أمة عاصية ....
وأما قوله تعالى على لسان امرأة فرعون (وَقالَتِ امرَأَتُ فِرعَونَ قُرَّتُ عَينٍ لي وَلَكَ لا تَقتُلوهُ عَسى أَن يَنفَعَنا أَو نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُم لا يَشعُرونَ﴾ [القصص: ٩] فالظاهر أنهم يأخذون الأولاد لاستعبادهم والانتفاع بهم لا لقتلهم لأن قولها ( لاتقتلوه ) احتمال أنه كان لايقبل المراضع ولو كانوا يريدون قتله ،لقتلوه من حين ما التقطوه فهم لا يعلمون من أمه ومن أبوه ! هل هو من الفراعنة أم من الاسرائليين !.فهو لقيط جاءهم في تابوت ويفهم هذا من قوله تعالى ( فالتقطه ) وحاولوا عدة مرات أن يجدوا له مرضعة ولم يفلحوا وهذا يفهم من قوله تعالى ( وحرمنا عليه المراضع ) فانزعجوا منه وهموا بالتخلص منه
وفي هذه العصور تلجأ بعض الدول إلى اللقطاء فتستخدمهم وتستفيد منهم وتسخرهم في بعض الأعمال التي قد تكون شاقة لأنهم لا يرتبطون بأي عائلة ولا يجدون من يطالب بحقوقهم أو مصالحهم ،.
الإشارة الرابعة :
قال تعالى ﴿إِنّا قَد أوحِيَ إِلَينا أَنَّ العَذابَ عَلى مَن كَذَّبَ وَتَوَلّى قالَ فَمَن رَبُّكُما يا موسى﴾ [طه: ٤٨-٤٩]
قوله تعالى على لسان فرعون ( فمن ربكما ) يفي بالغرض من توجيه السؤال لهما فلما زاد وقال ( يا موسى ) وجه فرعون الكلام له لأنه هو الأكبر ففي الأمور العظيمة يتكلم الكبار مع أن هارون أفصح منه و موسى لا يبين الكلام كما عابه فرعون قبحه الله في قوله تعالى ﴿أَم أَنا خَيرٌ مِن هذَا الَّذي هُوَ مَهينٌ وَلا يَكادُ يُبينُ﴾ [الزخرف: ٥٢] ومن المعلوم أن كتاب الله كل ما فيه من كلمات وأحرف لها من الحكم والفوائد قد يعلمها الإنسان عند التدبر وقد لا يعلمها
ويؤيد ما قلته ما جاء في حديث قتل اليهود لعبدالله بن سهل رضي الله عنه قال سهل بن أبي حثمة ::
أن عبداللهِ بنَ سَهلٍ ، ومُحَيِّصةَ خرجا إلى خيبرَ من جَهْدٍ أصابَهما, فأتي مُحَيِّصَةُ ، فأخبر أن عبداللهِ بنَ سَهلٍ قد قُتِلَ ,وطُرِحَ في فقيرٍ أو عينٍ، فأتى يهودَ، فقال: أنتم واللهِ قتلتموه، فقالوا: واللهِ ما قتلناه، ثم أقبل، حتى قَدِمَ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له, ثم أقبل هو وحُويِّصَةُ, وهو أخوه أكبُر منه ، وعبدُالرحمنِ بنُ سَهلٍ ، فذهب مُحَيِّصَةُ ليتكلم وهو الذي كان بخيبرَ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كَبِّر كَبِّر.( وفي رواية في صحيح مسلم ليبدأ الأكبر ) وتكلمَ حُوَيِّصَةُ ثم تكلم مُحَيِّصةُ ،...الخ هذا اللفظ في صحيح النسائي - رقم: 4724
فهذا الحديث يدل على الأكبر اذا اجتمع مع الأخ الأصغر فالسنة يبدأ الأكبر بالكلام قبل الأصغر تأدباً معه مع أن حويصة رضي الله عنه لم يكن حاضرا في الواقعة ، وقد فهم هذا الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن كما قال الشافعي رحمه الله تعالى : جميع ما حكم الرسول صلى الله عليه وسلم به فهو مما فهمه من القرآن ،، فيما ذكره عنه السيوطي رحمه الله في مقدمة كتابه الإكليل في استنباط التنزيل وذكر أيضاً عن بعض العلماء قوله : ما سمعت حديث إلا التمست له آية من كتاب الله ،، وقال سعيد بن جبير رحمه الله : ما بلغني حديث عن رسول صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله ،، وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ؛ إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله .. انتهى كلام السيوطي رحمه الله
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن كما يروى هذا الأثر عن عائشة رضي الله عنها وقد صححه الشيخ الألباني رحمه الله وهذا يدل على أن من خلقه أن يبدأ الكبير في الحديث في الأمور المهمة ...
الإشارة الخامسة
قال تعالى ﴿قالَ يا هارونُ ما مَنَعَكَ إِذ رَأَيتَهُم ضَلّوا أَلّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيتَ أَمري قالَ يَا ابنَ أُمَّ لا تَأخُذ بِلِحيَتي وَلا بِرَأسي إِنّي خَشيتُ أَن تَقولَ فَرَّقتَ بَينَ بَني إِسرائيلَ وَلَم تَرقُب قَولي﴾ [طه: ٩٢-٩٤]
فقوله تعالى على لسان موسى ( ألا تتبعني أفعصيت أمري ) دليل على ما فطر الله عليه الناس من أن الأخ الأكبر له نوع ولاية على أخيه الأصغر من أمره وتعليمه وتوجيهه وتأديبه إذا اقتضى الأمر فهذه عادة جرت بين الناس وغير مستنكرة بل يرون أن الأخ الأصغر عليه أن يوقر أخيه الأكبر ويحترمه ويخاطبه بإجلال والأنبياء أكمل الناس خُلُقًا فكان رد هارون (( إني خشيت أن تقول )) فهو عليه السلام خشي من إغضاب أخيه الأكبر ،، فهذه المحاورة تدل على كمال أخلاق الأنبياء وأنها متوافقة مع فطرة الناس التي فطر الله الناس عليها ،،
وفي حديث أنس بن مالك قال : جاءَ شيخٌ يريدُ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فأبطا القومُ أن يوسِّعوا لَه فقالَ ليسَ منَّا من لم يرحَمْ صغيرَنا ولم يوقِّرْ كبيرَنا .
قال المناوي رحمه الله :
" يُعْطَى الكبير حقه من الشرف والتوقير " انتهى من "فيض القدير" (5/ 388) .
والأخ الكبير له شيء من الولاية على أخيه الصغير .
قال الشرواني في "حاشيته" (3/ 21):
" منْ لَهُ وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ، فَيَشْمَلُ الْأُمَّ وَالْأَخَ الْكَبِيرَ " انتهى .
وقال الجمل في "حاشيته" (4/ 426):
" يُؤْخَذُ مِنْ التَّعْلِيلِ أَنَّ مِثْلَ الْأَبِ كُلُّ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ ، كَعَمِّهِ ، وَأَخِيهِ " انتهى
الإشارة السادسة
قال تعالى
﴿وَقالَ لَهُم نَبِيُّهُم إِنَّ آيَةَ مُلكِهِ أَن يَأتِيَكُمُ التّابوتُ فيهِ سَكينَةٌ مِن رَبِّكُم وَبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هارونَ تَحمِلُهُ المَلائِكَةُ إِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً لَكُم إِن كُنتُم مُؤمِنينَ﴾ [البقرة: ٢٤٨]
فتقديم آل موسى على آل هارون لاحتمال كبر السن والتقدم في العمر وليس المقصود فيها أفضلية موسى على هارون عليهما السلام لأن المقصود هم الآل،، والعلم عند الله العليم الحكيم .
الإشارة السابعة
قال تعالى ﴿قالَ رَبِّ إِنّي لا أَملِكُ إِلّا نَفسي وَأَخي فَافرُق بَينَنا وَبَينَ القَومِ الفاسِقينَ﴾ [المائدة: ٢٥]
أي لايملك أن يأمر وينهى إلا نفسه وأخيه وهذا موافق لما فطر الله الناس عليه من أن الأخ الأكبر يأمر وينهى أخيه الأصغر لما فيه من المصالح
وقد يرد سؤال لماذا يكنى أبو بكر بهذه التكنية !؟ فالجواب في صحيح البخاري حديث رقم 3969 عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ـ رضى الله عنه ـ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ كَلْبٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ بَكْرٍ، فَلَمَّا هَاجَرَ أَبُو بَكْرٍ طَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا،
وكذلك عمر بن الخطاب يكنى بأبي حفص لأن أكبر بناته حفصه واللي يظهر أنه يكنى بها مع ترخيم اسمها
والإمام أحمد بن حنبل يكنى بأبي عبدالله وأكبر أولاده صالح وهذا لا إشكال فيه فقد يكون له ولد مات في الصغر اسمه عبدالله لأنه كم من رجل يموت له ولد صغير لايعرفه الناس ويكنى به ...
وأنهي هذا البحث جعله الله بحث خير وبركة وما أردت إلا الخير في الدفاع عن نبي الله موسى عليه السلام في أنه يأخذ بلحية أخيه الأكبر هارون وليس بصواب بل هو الأكبر ،،، وكذلك بيان ما في الأخبار الإسرائيلية من أخطاء ولقد قال الله سبحانه عنهم ﴿أَفَتَطمَعونَ أَن يُؤمِنوا لَكُم وَقَد كانَ فَريقٌ مِنهُم يَسمَعونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفونَهُ مِن بَعدِ ما عَقَلوهُ وَهُم يَعلَمونَ﴾ [البقرة: ٧٥] فهم حرفوا كلام الله وهو طري قد وصل إلى أسماعهم ونبيهم موسى بين أظهرهم فكيف إذا تقادم العهد واندثر العلم ،،، ولا حول ولا قوة إلا بالله ،، والله الهادي إلى سواء السبيل ....
والله أعلم وصلى الله وسلم على الهادي البشير وعلى آله وصحبه وسلم