إبراهيم عوض
New member
- إنضم
- 18/03/2005
- المشاركات
- 203
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
إسلام الأستاذ الجامعى الأمريكى د. جيفرى لانج
بقلم إبراهيم عوض
بقلم إبراهيم عوض
د. جيفرى لانج أستاذ رياضيات أمريكى بجامعة كانساس، وُلِد عام 1954م فى مدينة بريدج بورت، وتربى فى أسرة كاثوليكية متدينة، وتلقى تعليمه فى مدرسة كاثوليكية أيضا، إلا أنه ترك النصرانية وصار ملحدا نحو عشر سنوات إلى أن أسلم فى بداية ثمانينات القرن الماضى بعدما تعرف إلى أسرة مسلمة أهدته نسخة من ترجمة القرآن كان من ثمرة مطالعته لها أن اقتنع بالإسلام واعتنقه، ثم سجل القصة فى كتاب له بعنوان "Struggling to Surrender: Some Impressions of an American Convert to Islam". وكان لانج قبل إسلامه قد تزوج بامرأة أمريكية يهودية عاش معها فترة وطلقها، ثم بعد اعتناقه الإسلام اقترن بسيدة سعودية أنجب منها ثلاث بنات. وللرجل عدة كتب عن تجربته فى دينه الجديد تتمتع بشهرة واسعة فى الولايات المتحدة وخارجها.
ويمثل اعتناق د. لانج وأمثاله للإسلام ردا عمليا قويا على التهمة التى يوجهها إليه أعداؤه من أن انتشاره قد اعتمد على السيف والإكراه رغم ما هو معروف للجميع من أن أعداءه هم الذين يمارسون على أتباعه الضغط والإكراه كلما شاموا منهم ضعفا، منذ انتضى المشركون المكيون السيف ضد النبى وأتباعه المسالمين على مدى بضع عشرة سنة فى أم القرى كان المسلمون خلالها مستضعفين غير آمنين، ومات منهم من مات جراء التعذيب والقتل، ووقع عليهم ألوان الأذى والاضطهاد والسخرية والحصار، فقابلوا ذلك كله بالصبر والتسامح والإغضاء نزولا على أمر نبيهم بعدم مقابلة الأذى بالأذى، فسكتوا واحتسبوا ما يَلْقَوْنَه من تقتيل وتعذيب وحصار وسِبَاب وتهديد ووعيد عند ربهم، إلى أن لم يعد فى قوس الصبر منزع، وصار لا بد من الرد على العدوان بما يكفّه ويوقفه عند حده بعدما أخرجهم المشركون من دياهم وأموالهم أكثر من مرة: مرتين إلى الحبشة، ومرة إلى يثرب.
وجدير بالذكر أن المسلمين، حين شرعوا يغيرون سياستهم من التسامح والصبر والاحتساب، لم يهجموا على أعدائهم يقتلونهم فى كل مكان يجدونهم فيه على غير احتراس، بل قامت بين الطرفين طائفة من المعارك كان المسلمون فيها يمثلون الطرف الأضعف عددا وسلاحا واستعدادا وتمويلا، علاوة على معاناتهم من خيانة المنافقين واليهود، الذين يساكنونهم المدينة والذين كانوا ينقلبون عليهم فى اللحظات الحاسمة رغم أنهم كانوا جزءا من سكان تلك الدولة الصغيرة، ورغم أنهم كانوا موقعين على الصحيفة، التى كتبها الرسول بين طوائف دولته الناشئة يساوى بينهم فى كل شىء بغض النظر عن الانتماء القبلى والعرقى والدينى، ويرسى أسس التعاون بين الجميع بما فى ذلك التعاون أثناء الحرب.
ولو كان اتهام الإسلام فى هذه النقطة صحيحا لرأينا المسلمين لا شغلة لهم ولا مشغلة بعد نشوء دولتهم فى المدينة سوى تكوين عصابات لاغتيال المشركين واليهود والمنافقين لا تترك أحدا منهم على قيد الحياة إلا إذا أعلن إسلامه، وهو ما لم يحدث. ولقد كثر هذا الاتهام المجحف للإسلام وتواتر خلال اجتياح الغربيين لبلاد المسلمين واحتلالهم إياها بقوة السيف والنار، فكانت مفارقة من أغرب المفارقات وأمعنها فى الزيف والكذب: ناس يعتدون على المسلمين فى عقر دارهم ويغزون بلادهم ويسرقون ثرواتهم ويقتلون منهم من يقتلون، ويسجنون من يسجنون، وينفون من ينفون، وينكلون بمن ينكلون، ومع ذلك كله يتهمون دينهم بأنه دين السيف والعدوان، وما المعتدون إلا هم، ولا معملو السيف فى رقاب الآخرين إلا هم، فضلا عن تمكينهم مبشريهم من نشر دينهم بوسائل شيطانية مستعينين على ذلك ببعض ما نهبوه ممن يبشرونهم من ثروات طائلة لا مانع لديهم من دفع بعض فتاتها على هيئة معونات للفقر اء منهم أملا فى خَتْل هؤلاء المساكين السذج عن دينهم.
صحيح أن المسلمين فتحوا كثيرا من البلاد، لكنهم لم يكرهوا أحدا من أبناء تلك البلاد على اعتناق الإسلام، بل تركوهم لضمائرهم: من شاء أن يؤمن آمن، ومن شاء أن يظل على كفره بدين محمد بقى على كفره لا يمسه أحد بأذى ولا يتعرض له أحد فى رزقه أو عِرْضه أو كرامته أو عمله بتاتا، على العكس مما انتهجه الأسبان مثلا حين قَضَوْا على دولة الإسلام فى شبه جزيرة أيبريا، إذ وضعوا على التو خطة لاستئصال المسلمين على بَكْرَة أبيهم من البلاد. وفى غضون عدة عقود تم تنفيذ المخطط الجهنمى بحذافيره، فلم يبق هناك من يوحد الله ويؤمن برسول الله. لقد لجأ الأسبان إلى التقتيل والتحريق والتغريق ومحاكم التفتيش ومصادرة الأموال والإخراج من الأرض. كما اقترف الأوربيون كثيرا من هذه الجرائم فى أمريكا حتى قَضَوْا على كل الهنود الحمر تقريبا فى أمريكا الشمالية وصارت نصرانية، وتم تنصير أمريكا الجنوبية أيضا بذات الوسائل. ثم إن الغربيين، رغم ذلك كله، لا يكفون أبدا عن اتهام المسلمين بنشر دينهم عَنْوَةً وإجبارا، وهو تدليس عفن لا أدرى كيف يمضون فى ترديده مع أن كل شواهد التاريخ ونصوص القرآن والحديث تقول بعكس هذا تماما. لكن آلة الإعلام الجهنمية لا تكف عن الدوران والاتهامات المتشنجة الكاذبة لمعرفة أصحابها أنهم فى معركة مصير مع الإسلام، فهم يستعينون بالكذب والتدليس رغبة فى تحطيمه وهَزْم أتباعه وكسر روحهم المعنوية حتى يكونوا فريسة سائغة لهم، لا يفكرون فى المقاومة والتأبى، ولا يكون منهم غير الاستسلام والانقياد.
ترى كيف آمن أهل يثرب؟ هل أكرههم محمد على قبول دينه، وهو مَنْ هو ضعفًا آنذاك، وهُمْ مَنْ هُمْ قوة وعزا؟ لقد وعدوه بالحماية من قومه إذا هاجر إليهم، فهو إذن من يحتاجهم لا هم. ويا ترى كيف آمن بالإسلام رجلُ الدين اليهودى عبد الله بن سلام؟ هل أكرهه محمد على شىء؟ إن كل شىء فى قصة إسلامه ليصفع وجه التقولات والتخرصات الإجرامية ضد محمد ودينه، إذ لم يشأ الرجل أن يعلن إسلامه دون أن يفضح طبيعة اليهود الغادرة، فأتى النبىَّ وطلب إليه أن يستقدم كبار القوم ويسألهم عن رأيهم فيه، وهو مختفٍ هناك صامتًا بحيث يسمعهم ولا يبصرونه، فأجمعوا على أنه سيدهم المبجل. وهنالك ظهر ابن سلام من مخبئه معلنا إسلامه، فما كان منهم إلا أن انقلبوا عليه يشتمونه ويحقرونه لاحسين كل ما قالوه فى حقه منذ لحظة، ودون أن يشعروا بشىء من الخجل على هذا الانقلاب الغادر الحقير.
ثم يا ترى كيف أسلم سلمان الفارسى سليل الأكابر؟ هل أكرهه محمد على الانضمام إليه؟ إن له هو أيضا لقصة عجيبة تَدُعُّ فى قفا الأكاذيب التى يرددها أعداء محمد عن دينه وعن سياسته تجاه مخالفيه فى الدين. لقد طاف الرجل طويلا فى بلاد الله باحثا عن دين يريح فؤاده ويبث فى ضميره السكينة والاطمئنان، إلى أن ألقت به الأقدار إلى يثرب عبدا عند أحد يهودها، ورأى محمدا وسمع أخباره وشاهد بعض وقائع حياته، فتيقن أن دين محمد هو الحق الذى ظل يسعى طويلا باحثا عنه، فعندئذ أسلم وصار من حواريى ذلك النبى العظيم.
ويا ترى كيف أسلم شيوخ القبائل فى عام الوفود سنة تسع من الهجرة؟ هل أرسل محمد إليهم بمن أحضرهم من قفاهم ليَمْثُلوا أمامه، فأعلنوا إسلامهم فَرَقًا منه ورعبا؟ لا بل هم الذين قدموا عليه من تلقاء أنفسهم فخطبوا وشعروا أمامه وأعلنوا دخولهم فى دينه، وقام من المسلمين مَنْ خَطَبَ وشَعَرَ بدوره ردا على تحيتهم بمثلها، وعادوا إلى بلادهم وذويهم معززين مكرمين مثلما أَتَوْا، بملء حريتهم وإرادتهم معززين مكرمين لم يقل لهم أحد: ثُلُثُ الثلاثةِ كَمْ؟
ثم كيف اعتنق الإسلامَ مواطنو الشعوب الأخرى فى أيام الفتوح الأولى: كبارهم وصغارهم، وقادتهم ومَقُودُوهم، ورؤساؤهم ومرؤوسوهم، وأشرافهم وسفلتهم، وخاصتهم وعوامّهم، وعلماؤهم وجهالهم؟ هل هناك حادثة واحدة تقول إنهم تعرضوا لضغط أو إجبار من السلطات المسلمة؟ كلا وحاشا، بل خُلِّىَ بينهم وبين عقولهم وقلوبهم ليختاروا ما يريدون: فمنهم من آمن منذ اللحظة الأولى، ومنهم من استغرق إسلامه وقتا، ومنهم من لم يؤمن وآمنت ذريته من بعده، ومنهم من ظل على دينه هو وأولاده وأحفاده وأحفاد أحفاده حتى اليوم لم يتعرض لهم أحد جَرَّاءَ تمسكهم بدين أسلافهم.
ثم إن هناك بلادا لم تصلها جيوش المسلمين، ومع ذلك دخلت الأغلبية الساحقة من مواطنيها أو نسبة صخمة منهم فى الإسلام كأندونيسيا وماليزيا وكثير من بلاد أفريقيا، بالإضافة إلى أنه ما من بلد من بلاد العالم إلا ودخله الإسلام وانتشر بين مواطنيه، أيا كانت نسبة من اعتنقه من أولئك المواطنين، دون أن يكون هناك جيش إسلامى بتة. كما دخل التتار الإسلام بعدما غلبوا أهله وأعملوا فيهم السيف وأحرقوا البلاد وهدموا البيوت ودمروا الحقول وأَلْقَوْا بالكتب فى الأنهار. فما القول فى هذا؟
ثم كيف نفسر، فى ضوء ذلك التفسير الأبله، دخول ملايين الغربيين الآن دين محمد فى أوربا وأمريكا وأستراليا، وهو ما يؤكده جيفرى لانج نفسه قائلا إن الإسلام ينتشر بسرعة فائقة فى الغرب رغم أنه لا يزال حديث عهد بمجتمعاته، والمسلمون الآن على ما نعلم ضعفا وهزالا وعجزا عن أن يهددوا ولو بعوضة، والعالم الغربى على ما هو عليه من قوة وبطش ونفوذ، فضلا عما نعرف جميعا من هوان المسلمين فى المجتمعات الغربية ذاتها وما يتعرضون له من تحرش واشتباه وارتياب واعتداءات ودعوات لترحيلهم وتنظيف المجتمع منهم وكأنهم جَرَبٌ ينبغى استئصاله، كما أن كثيرا منهم لا يقدم للغربيين الصورة الصحيحة للإسلام، إذ يتمسكون بالشكليات ويهملون فى ذات الوقت كثيرا من جوهر الدين، جاعلين بهذه الطريقة من الحبة قبة، ومن القبة حبة؟
ولقد اهتم أحد المستشرقين المعنيين بتقرير الحقائق كما هى، وقليلٌ ما هم، بهذا الموضوع، موضوع الدعوة إلى الإسلام وانتشاره فى الأمم، فتبين له أن المسلمين لم يكن من سياستهم ولا دَيْدَنهم إكراه أحد على دينهم، بل كانوا يلتزمون بالدعوة إلى دين الله بالحسنى. وهذا المستشرق هو توماس آرنولد، الذى ألف أواخر القرن التاسع عشر فى هذه القضية كتابا مشهورا عنوانه: "The Preaching of Islam: الدعوة إلى الإسلام" أكد فيه من خلال وقائع التاريخ ونصوص القرآن والحديث أن ما يقال عن المسلمين من مفتريات فى هذا الصدد هو كلام لا يصمد للبحث والتقصى. والكتاب متاح فى لغته الأصلية وفى ترجمته العربية لمن يريد. وكيف يكون الأمر غير ذلك، والقرآن واضح فى ذلك تمام الوضوح: "لا إكراه فى الدين"، "وقل: الحق من ربكم. فمن شاء فلْيؤمنْ، ومن شاء فلْيكفرْ"، "لستَ عليهم بمسيطر"، "إنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب"، "قل: إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مَثْنَى وفُرَادَى ثم تتفكروا. ما بصاحبكم من جِنَّة. إن هو إلا نذير لكم بين يدىْ عذاب شديد"، "لستَ عليهم بحفيظ"، "لستَ عليهم بوكيل"، "إنما أنت نذير، والله على كل شىء وكيل"، "ليس لك من الأمر شىء أو يتوبَ عليهم أو يُعَذِّبَهم، فإنهم ظالمون".... إلخ؟
شىء آخر له صلة قوية بإسلام د. جفرى لانج، فكثير من أعداء الإسلام يزعمون أنه دين لا يناسب المجتمعات المتقدمة ولا العلماء والمفكرين. والغريب العجيب أن ينضم إلى هذه الجوقة بعض أبناء المسلمين ممن يتصورون أنهم، بترديدهم هذه المزاعم، سوف يلتحقون بالغربيين، الذين ينشرون فى كتاباتهم هذا السخف الساخف. ومنهم على سبيل المثال الكاتب السورى صادق جلال العظم، إذ يؤكد فى كتابه: "ذهنية التحريم"، الذى يناقش فيه، ضمن ما يناقش، فتوى الخمينى أواخر ثمانينات القرن الماضى بإهدار دم سلمان رشدى لتطاوله فى كتاب "الآيات الشيطانية" على الله سبحانه وتعالى، وعلى الإسلام والنبى وأمهات المؤمنين والأنبياء والصحابة والخمينى نفسه، واستعماله ألفاظا بلغت الحد الأقصى فى السفالة والبذاءة والإجرام، أن محاولة معاقبة سلمان رشدى وأمثاله من المتمردين على الإسلام، الذى يراه العظم شيئا رجعيا متخلفا، هى محاولة مقضى عليها بالفشل لأن قاطرة التقدم لا ترحم من يقف فى طريقها، بل تدهسه، ولن تستطيع المجتمعات الإسلامية الصمود أمام اختراق الحضارة الغربية لها مهما حاولت وفعلت، ولا بد لها إذن أن تتخذ العلم الحديث وما ترتبط به من التطبيقات التكنولوجية منهج حياة بدلا من التشكيلات المعرفية السابقة من دين وأسطورة وسحر وتنجيم وغيب وخرافةٍ وخوارقَ وحِكَمٍ متوارَثَةٍ وأمثال متداوَلة واعتقادات شائعة، بناء على ما قاله ماركس فى تحليلاته لتقدم البشرية.
وهو يؤكد أن سلمان رشدى واعٍ تماما بكل هذا، ويؤمن بأن الحضارة التى تعيش على أمجاد ماضيها ولا تعرف كيف تَعْبُر العالم الثالث وتتجاوز فضاءه الخارجى المسحور بحيث ترجع إلى التاريخ بكل ما يتطلبه من ثقل وزن فمصيرها هو مزبلة التاريخ الشهيرة، وهو ما يوافق صادق العظم عليه تمام الموافقة. ثم يضيف قائلا إنه حين يمعن النظر فى موضوع سلمان رشدى يستنتج أن العالم الإسلامى بحاجةٍ اليومَ إلى حداثة العقل والعلم والتقدم والثورة بدلا من أصالة الدين والشرع والتراث والرجعة. والغريب أنه يعود عقب هذا إلى القول بأن محمدا كان نبيا ورعا تقيا أرسله الله لتنفيذ خطته الكونية، وفى نفس الوقت كان رجل سياسة، وتاجرا يحسب كل شىء بالمسطرة والقلم، وزير نساء. كيف؟ لا أدرى. كما يقف أمام ما ورد فى القرآن من معجزاتٍ خوارقَ قائلا ما معناه: أليس الأحجى أن أفهم مثل هذه الأشياء على أنها مجرد رموز بدلا من الاعتقاد فى صحتها شأن العميان والجهال؟
ثم يختم بحثه بالتساؤل التالى: "هل يعمل مثقفو العالم الإسلامى على تقدم مجتمعاتهم وتحرر شعوبهم حين يتجاهلون هذه المسائل كلها ويضعون سلاح النقد جانبا ليسايروا، دون قناعة حقيقية وجدية فى معظم الأحيان، ما هو سائدٌ من تعميمات دينية، ومُسَيْطِرٌ من أساطيرَ تاريخية، ومُتَحَكِّمٌ من خرافات شعبوية، وشائعٌ من إيديولوجيات أصولية ارتدادية؟ هذا هو نوع الأسئلة والمشكلات والقضايا التى يريد أعداء رشدى وخصومه شرقا وغربا قمعها ومنع قيام أية مناقشة مفتوحة وعصرية حولها فى العالم الإسلامى، أو أية مراجعة عقلانية علمية جديدة لمعناها ودورها وأهميتها فى حياتنا الاجتماعية والثقافية والفكرية المعاصرة" .
وسؤالنا هو: أية حضارة غربية تلك التى يتحدث عنها صادق العظم؟ لقد كان الرجل ماركسيا، أى تابعا للمذهب السياسى والاقتصادى والأيديولوجى للكتلة الشرقية من العالم الغربى آنذاك، وهو مذهب يختلف عن مذهب الكتلة الغربية من ذلك العالم، بل يتناقض معه فى جوانب كثيرة وجوهرية منه، فأى المذهبين يقصد؟ وها هى ذى روسيا قد عادت ففتحت الكنائس وصارت تعتنق النصرانية بعدما كانت دولة إلحادية. كما أن المعسكر الليبرالى يناصر النصارى فى كل مكان فى العالم ضد المسلمين. وفى ذات الوقت فإن كثيرين من الغربيين، ومنهم علية القوم من وزراء ومستشرقين وأساتذة جامعيين وصحافيين وكتاب وفلاسفة وسياسيين ومغنين وفنانين ولاعبى كرة وملاكمين، يعتنقون الإسلام هاجرين ليبراليتهم إلى دين محمد، الذى يرى العظم أنه مهزوم من قِبَل هذه الليبرالية دون أى مناص.
لقد بلغ أمر الإسلام فى أوربا أن صار أتباعه فى عاصمة فرنسا مثلا (وما أدراك ما عاصمة فرنسا؟) يصلّون الجمعة بكل جرأة فى الشوارع بسبب كثرتهم وتحولهم من حالة الانخناس إلى الاقتحام رغم كل العقبات التى توضع فى طريقهم والاعتداءات التى تطولهم ودعوات بعض الإعلاميين والسياسيين ورجال الأحزاب المنادية بطردهم وتعرض الأوباش لهم بالضرب أو القتل أو إشعال النار فى البيوت والمساجد وتدنيس المقابر الخاصة بهم. ولو كان الأمر كما تنبأ مسيلمتنا الكذاب لما سمعنا بأى شخص يعتنق الإسلام هناك ولاسَْتَخْفَى الذين يصلُّون بعيدا عن العيون والآذان فى غرف مغلقة فى باطن الأرض. ومما له مغزاه أنْ تصف زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة فى فرنسا مارين لوبن إقامة المسلمين للصلوات بالشوارع في بلادها بـ"الاحتلال". كما وقف موسيقار هولندى مسلم فى مواجهة ملكة هولندا، وحولها كبار السياسيين والمشاهير والمتنفذين، يدعوها علنا إلى الإسلام صارخا بأن عيسى ليس سوى عبد لله ورسوله. ولقد أخذت الدهشة بمجامع عقولهم فذهلوا لبعض الوقت، ثم لما عاد إليهم وعيهم وأفاقوا من الغاشية التى حطت عليهم قام رجال الأمن وأنزلوا الموسيقار من فوق خشبة المسرح حيث كان يقف. ولا أظن القراء نَسُوا أن أخت زوجة تونى بلير رئيس الوزراء البريطانى السابق دخلت الإسلام. وقد صرحت بعد اعتناقها دين النبى العربى الكريم برأيها فى زوج أختها على نحو لا يمكن أن يسره أبدا، ولم تبال. ومن قبلها تحدث الأمير تشارلز فى بعض محاضراته وخطبه عن الإسلام بإعجاب وإجلال. ولتكن نيته بعد ذلك ما تكون، فالمهم أنه قال فى الإسلام كلاما عظيما، وعلى مسمع ومشهد من الدنيا كلها. إلا أن هذا لا ينفى أن قطاعا كبيرا من الرأى العام فى الغرب وبعض ساستهم وإعلامييهم يعلنون كراهيتهم للإسلام وينادون بإخراج المسلمين من بلادهم، مما يؤدى إلى الاعتداء عليهم فى بعض الأحيان قتلا وضربا وإحراقا وتدنيسا للبيوت والمساجد والمقابر، ومنعا لرفع الأذان وإنشاء المآذن، ناهيك بالمذابح الجماعية التى تعرضوا عليها أمام عين العالم وسمعه فى البوسنة والهرسك مثلا.
وليس تمدد الإسلام فى البلاد الغربية نبتا شيطانيا ظهر بغتة، بل كانت له مقدمات أخذت زمنا، إذ انبرى للدفاع عن الإسلام منذ وقت طويل بعض من كبار المثقفين الأوربيين، ومنهم شخصيات عالمية رفيعة: بعضهم أسلم، وبعضهم لم يدخل الإسلام لكنه كتب فى دين النبى العربى الكريم كلاما راقيا. ونذكر فى هذا المجال، كيفما اتفق، هادريان ريلاند، ويوهان رايسكه، وجوته، وفكتور هيجو، وبوشكين، وتوماس كارلايل، وجون دافنبورت، وتوماس آرنولد وغيرهم. بل إن أحد أخوال برتراندراسل ذاته فى القرن التاسع عشر كان مسلما، ومعروف مَنْ برتراند راسل، ومِنْ أية أسرة ينحدر، وإلى أية طبقة تنتمى أرومته. ويقول سيد عبد الماجد الغورى مؤلف كتاب "محمد حميد الله سفير الإسلام وأمين التراث الإسلامى فى الغرب"، على لسان حميد الله، إن متوسط من يهتدون كل يوم إلى الإسلام فى فرنسا يتراوح ما بين ثمانية أفراد إلى عشرة: منهم الرجال والنساء، ومنهم أصحاب المناصب الكبرى كسفراء البلدان ورجال الدين وأساتذة الجامعات. وهناك ترجمات القرآن الكريم إلى اللغات الأوربية المختلفة، وبعضها من صنع مسلمين أوربيين مثقفين ثقافة رفيعة ويحتلون مراتب عالية بين بنى أوطانهم.
ثم ألم تكن هناك حرب طاحنة بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، وكلتاهما تنتمى إلى الحضارة الغربية، لا تقلّ إن لم تزد عن الحرب بين الغرب والإسلام؟ فكيف يا ترى ينبغى أن نفهم كلام السيد صادق العظم؟ إنه يتحدث عن ماركس ونبوءاته وكأنها الوحى السماوى رغم ما اتضح لكل ذى عينين من غير عميان الماركسية أنها نبوءات مغشوشة رآها صاحبها فى المنام وهو عريان السوأة فلا ينبغى أخذها مأخذ الجد. والعظم ومن على شاكلته من أيتام الماركسية أعظم برهان على صحة ما نقول، إذ أين الماركسية الآن؟ بل أين الاتحاد السوفييتى ذاته ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية واليمن الجنوبى وصومال سياد برى وأفغانستان برباك كارمل... إلخ؟ بل أين حكام المسلمين الذين صدّقوا، على نحو أو على آخر، ما يهرف به الرفيق العظم من استحالة الوقوف فى وجه اختراق الحضارة الغربية لمجتمعاتنا ومحاولتها القضاء على ديننا المتخلف الرجعى؟
وكان قد قالها قبل العظم د. طه حسين، الذى ألح فى كتابه: "مستقبل الثقافة فى مصر"، أواخر ثلاثينات القرن الماضى، على أن السبيل إلى التحضر والعزة والسيادة "ليست فى الكلام يُرْسَل إرسالا ولا فى المظاهر الكاذبة والأوضاع الملفقة، وإنما هى واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عِوَجٌ ولا التواء، وهى واحدةٌ فَذَّةٌ ليس لها تعدد. وهى أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاءَ فى الحضارة: خَيْرِها وشَرِّها، حُلْوِها ومُرِّها، وما يُحَبّ منها وما يُكْرَه، وما يُحْمَد منها وما يعاب". هكذا مرة واحدة خبط لزق، وكأننا بصدد شروة طماطم! وقد علق على هذه الدعوة المريضة د. محمد محمد حسين رحمه الله فى كتابه: "الاتجاهات الوطنية فى الأدب المعاصر" فقال عن هذا الكلام الماسخ إنه "شبيهٌ بقول آغا أوغلى أحمد، أحد غُلاَة الكماليين من الترك فى أحد كتبه: إنا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الأوربيين، حتى الالتهابات التى فى رِئِيهم والنجاسات التى فى أمعائهم".
وليس لذلك من معنى إلا أنه ما دامت أوربا تُلْحِد فلا بد لنا نحن أيضا أن نُلْحِد ونكفر بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، وما دامت أوربا تنظر إلى الرسول على أنه نبى زائف فلا بد لنا نحن أيضا على سبيل التبعية أن ننظر إليه صلى الله عليه وسلم بنفس العين، وما دامت أوربا تبيح الخنزير والخمر والميسر والزنا واللِّوَاط والسِّحَاق والربا فلا بد لنا أيضا أن نصنع صنيعها فنأكل الخنزير ونشرب الخمر ونلعب الميسر ونزنى ونَلُوط ونُسَاحِق ونُرَابِى... وهكذا. أليس هذا بعض ما تتضمنه حضارة أوربا من شرور وعيوب مما أوصانا طه حسين أن نأخذه معها صفقةً واحدةً دون انتقاءٍ أو تطهيرٍ؟ إن الرجل حريص أتم الحرص على أن "نرى الأشياء كما يراها (الأوربى)، ونقوِّم الأشياء كما يقوِّمها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها، ونطلب من الدنيا مثل ما يطلب، ونرفض منها مثل ما يرفض".
وهذا الكلام الذى يردده صادق العظم، ومن قبله طه حسين، هو السخف بعينه، وإلا فلماذا لم يتبع الأوربيون الحضارة الإسلامية قلبا وقالبا ويتخلَّوْا عن دينهم وعاداتهم وتقاليدهم وأذواقهم وسلوكهم وأخلاقهم أيام تخلفهم وتحضرنا؟ لقد أخذوا من حضارتنا الغابرة أشياء، وتركوا أشياء، وها هم أولاء قد صاروا فى نظر العظم وأمثاله المثال الذى ينبغى أن يحتذى. وطه حسين والعظم وأشباههما إنما يرددون مقولات الغربيين ويتبنَّوْن نظرتهم فى أن أوربا هى مركز العالم، وليس هناك من سبيل أمام أية دولة أو أمة إلا أن تفنى فى الأوربيين وتصير عبدة لهم، إذ هى النموذج والمثال الأعلى الذى لا بد من احتذائه لكل من يريد نجاحا وتقدما واستنارة وغنى. صحيح أن الغربيين يتظاهرون بأنهم يريدون لك الخير والسعادة والتقدم مثلهم، ولكن حاول أن تصدقهم، فلن تجد منهم إلا الحرب العَوَان لك والعمل بكل طريق على إبقائك حيث أنت متخلفا مريضا فقيرا جاهلا معتمدا فى كل أمورك عليهم حتى يمكنهم ساعة الجِدّ أن يركّعوك تحت أقدامهم بل أن يطحنوك بأضراسهم. وما طه حسين وصادق العظم ومن على شاكلتهما سوى القاطرة التى تشد بقية العربات إلى وادى التبعية والعبودية والضلال والهوان. ومع هذا نسمع صرير الأقلام مزعجا يزعم أنهم هم القادة المعلمون الذين ينبغى أن يصيخ إليهم الجميع ويتبع خطاهم الجميع، وأن من يخالفهم متخلف رجعى لا ينتمى إلى العصر، ومكانه متاحف التاريخ.
لقد نسيت أوربا، ونسى وراء نسيانها مقلدوها من بين أَظْهُرِنا، أنها لم تكن طوال عمرها متقدمة قوية متعلمة غنية صحيحة البدن والعقل، بل كانت تعانى التخلف والفقر والانغلاق والتكلس العقلى فى الوقت الذى كانت حضارتنا فيه عفية قوية ثرية عالمة صاحبة ذوق سليم بل مترف، وكان أسلافنا ينظرون إلى أهلها بوصفهم متوحشين أفداما منحطين. فلا يصح أبدا تصوير الأمر على أساس أنه إما أن نتبع أوربا فى كل شىء وإما الطوفان. لا ثم لا، فليست أوربا معصومة من الخطإ والخطل والانحراف والضلال، ولا الطوفانُ ينتظرنا إن لم نَجْثُ على ركبنا أمامها. فلنأخذ من أوربا علمها ومناهجها العلمية وشهوة المعرفة والتقدم واقتحام الطبيعة وحب المغامرة والثقة بالنفس والاعتماد على الذات والتعاون والتنظيم والتخطيط، وهو ما يدعونا إليه ديننا بل يحثنا عليه حثا، ولنضرب عن عيوب أوربا، وما أكثرها، صفحا.
أما أن قاطرة التقدم، التقدم العلمى والاقتصادى والعسكرى والصحى، لا ترحم من يقف فى طريقها فذلك مما نملك ترف المشاحَّة فيه، فالأمر أوضح من أن ينكره أحد. ولقد غَبَر على المسلمين قرون وهم متخلفون فى هذه الميادين تخلفا يبعث على الرثاء والغثيان، فكانت النتيجة ما نرى من ضعفهم الشائن وتساقط بلادهم فى يد الغربيين يصنعون بها وبهم ما يشاؤون من إذلال ما بعده إذلال، واحتلال يعمل على تدمير الحاضر والمآل، وانتهاك أعراض وانتهاب أموال، واعتداء على الإسلام مخز مهين، وهم لا يريدون استخلاص الدرس ولا استيعابه رغم بساطته، ألا وهو أن يتعلموا ويستخدموا تلك النعمة التى وضعها الله فى رؤوسهم: نعمة العقل والتفكير والإبداع واكتشاف المشكلات ووضع الحلول لها والتخطيط لكل شىء واتباع النظام الصارم واقتحام مجالات الكون والطموح إلى السيادة والعزة والكرامة. ولا ريب أن منهم كثيرين يعرفون ماذا ينبغى عمله للخروج من هذه الدائرة الجهنمية، إلا أن الغالبية الساحقة تحرن فلا تريد أن تفارق ما هى مرتكسة فيه من تخلف ومذلة وفوضى وجهل رغم أنها لا تحتاج إلى التخلى فى ذلك عن دينها على عكس ما يوهمها به أمثال صادق العظم الرافضين للإسلام.
إن العظم لم ير فى الدين سوى خرافات وغيبيات وأساطيرَ وأمثال وحِكَم، وكأن الدين ليس فيه دعوة إلى العلم لم يصل إليها الغرب حتى الآن، وليس فيه إلحاح على التثبت مما نسمع أو نقول قبل أن نسلم به أو نذيعه، وليس فيه أن العلماء هم ورثة الأنبياء، وليس فيه أنهم يَفْضُلون العُبَّاد كما يَفْضُل البدر سائر الكواكب، وليس فيه التنظيم الصارم حتى فى صفوف الصلاة، وليس فيه الاستحثاث على العمل وتفضيله على العكوف فى المساجد، وليس فيه أن النظافة من الإيمان، وليس فيه أن الدين يسر لا عسر، وليس فيه أن الله يغفر الذنوب جميعا، وليس فيه التضامن الاجتماعى على أحسن وضع، وليس فيه الإقرار بالشهوات وحتمية إشباعها فى الحلال والحملة على من يتجاهلها نفاقا وبهلوانية... إلخ، ودعونا من أن الإسلام ليس فيه خرافات ولا أساطير، بل فيه عقائد مستقيمة، وتشريعات راقية، وقصص هادف، ومنطق محكم، وقيم رائعة، ومثل عالية.
وإنى لأستغرب تساخف صادق العظم وزعمه أن الإسلام مجموعة من الخرافات والأساطير وما إلى هذا. ألم تأته الآيات والأحاديث التالية: "قل: هل يستوى الذين يعلمون والذين لايعلمون؟"، "اِيتُونِى بكتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أو أَثَارَةٍ من عِلْمٍ إن كنتم صادقين"، "قل: إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مَثْنَى وفُرَادَى ثم تتفكروا"، "إنما يتذكر أولو الألباب"، "إن فى ذلك لآيات لقوم يعلمون/ يتفكرون"، "وقل: رب، زدنى علما"، "إن الظن لا يُغْنِى من الحق شيئا"، "إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيَّنوا"، "قل: لا أقول لكم: عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم: إنى مَلَكٌ"- "العلماء ورثة الأنبياء"، "مَنْ خَرَجَ فى طلب العلم فهو فى سبيل الله حتى يرجع"، "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رِضًا بما يصنع"، "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"، "اطلبوا العلم ولو فى الصين"، "فَضْل العالم على العابد كفَضْل البدر على سائر الكواكب"، "مَن غَدا لعِلْمٍ يتعلَّمُه فتَح اللهُ له به طريقًا إلى الجنةِ وفَرَشَتْ له الملائكةُ أكنافَها، وصلَّت عليه ملائكةُ السماءِ وحِيتانُ البحرِ. وللعالِمِ مِنَ الفضلِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ. والعلماءُ وَرَثَةُ الأنبياءِ. إنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا دِرْهمًا. إنما ورَّثوا العِلْمَ، فمَنْ أخَذ بالعِلْمِ أخَذ بحظٍّ وافِرٍ. وموتُ العالمِ مُصِيبَةٌ لا تُجْبَرُ، وثُلْمَةٌ لا تُسَدُّ، ونجمٌ طُمِسَ. ومَوْتُ قبيلةٍ أَيْسَرُ مِن موتِ عالِمٍ"؟
وهذا جفرى لانج، وهو عالم رياضيات أمريكى، ومعروف أن الرياضيات علم يقوم على الدقة المتناهية، مثلما هو معروف أن أمريكا زعيمة العالم الآن وأن الحضارة الحديثة قد بلغت فيها أعلى مستوياتها، ومع هذا فقد سارع الرجل إلى الإيمان بنبوة محمد وشريعته، ولم يجد فى ذلك ما يخالف غربيته ولا ما حصَّله من علم ورياضيات. وقد ترك لنا وصفا حيا دقيقا لمشاعره حين شرع يصلى للمرة الأولى، إذ أخذ منه الأمر عدة ساعات تهيأت نفسه بعدها لهذا الحدث الجديد عليه تمام الجدة بعد أن انخرط فى دعاءٍ لاهبٍ التمس من الله فيه العون على الموقف القشيب الذى ألفى نفسه فيه، ليجد نفسه سريعا وقد دخل فى الصلاة وسجد بجبهته وقلبه، وشعر بكيانه وقد فاض إجلالا وتمجيدا لله، وبكى وسَحَّتْ منه الدموع، بينما صادق جلال العظم يعيش فى الأوهام ويخيل لنفسه الحاقدة أن الإسلام ما هو إلا مجموعة من الخرافات والأساطير التى يرفضها العقل والعلم والتحضر، ومن القيم المتخلفة التى لا تصلح لعصرنا، عصر الاستنارة والتقدم .
يصف لانج هذه اللحظات العجيبة العصيبة فيقول: "في اليوم الذي اعتنقت فيه الإسلام قدَّم إليَّ إمام المسجد كتيبا يشرح كيفية أداء الصلاة. غير أني فوجئت بما رأيته من قلق الطلاب المسلمين، فقد ألحوا عليَّ بعبارات مثل: "خذ راحتك"، "لا تضغط على نفسك كثيرا"، "من الأفضل أن تأخذ وقتك"، "ببطء، شيئا فشيئا". وتساءلت في نفسي: هل الصلاة صعبة إلى هذا الحد؟ لكني تجاهلت نصائح الطلاب، فقررت أن أبدأ فورا بأداء الصلوات الخمس في أوقاتها. وفي تلك الليلة أمضيت وقتًا طويلاً جالسًا على الأريكة في غرفتي الصغيرة بإضاءتها الخافتة حيث كنت أدرس حركات الصلاة وأكررها، وكذلك الآيات القرآنية التي سأتلوها، والأدعية الواجب قراءتها في الصلاة. وبما أن معظم ما كنت سأتلوه كان باللغة العربية فقد لزمني حفظ النصوص بلفظها العربي وبمعانيها باللغة الإنجليزية. وتفحصت الكتيب ساعات عدة قبل أن أجد في نفسي الثقة الكافية لتجربة الصلاة الأولى.
وكان الوقت قد قارب منتصف الليل، لذلك قررت أن أصلي صلاة العشاء. ودخلت الحمام ووضعت الكتيب على طرف المغسلة مفتوحا على الصفحة التي تشرح الوضوء، وتتبعت التعليمات الواردة فيه خطوة خطوة بتأنٍّ ودقةٍ مثل طاهٍ يجرب وصفة لأول مرة في المطبخ. وعندما انتهيت من الوضوء أغلقت الصنبور وعدت إلى الغرفة والماء يقطر من أطرافي، إذ تقول تعليمات الكتيب بأنه من المستحب ألا يجفف المتوضئ نفسه بعد الوضوء. ووقفت في منتصف الغرفة متوجها إلى ما كنت أحسبه اتجاه القبلة. نظرت إلى الخلف لأتأكد من أنني أغلقت باب شقتي، ثم توجهت إلى الأمام، واعتدلت في وقفتي، وأخذت نفسًا عميقًا، ثم رفعت يدي براحتين مفتوحتين، ملامسًا شحمتي الأذنين بإبهامي، ثم بعد ذلك قلت بصوت خافت: "الله أكبر". كنت آمل ألا يسمعني أحد، فقد كنت أشعر بشيء من الانفعال، إذ لم أستطع التخلص من قلقي من كون أحد يتجسس عليَّ.
وفجأة أدركت أنني تركت الستائر مفتوحة، وتساءلت: ماذا لو رآني أحد الجيران؟ تركت ما كنت فيه، وتوجهت إلى النافذة، ثم جلت بنظري في الخارج لأتأكد من عدم وجود أحد. وعندما رأيت الباحة الخلفية خالية أحسست بالارتياح، فأغلقت الستائر وعدت إلى منتصف الغرفة. ومرة أخرى توجهت إلى القبلة، واعتدلت في وقفتي، ورفعت يدي إلى أن لامس الإبهامان شحمتي أذني، ثم همست: "الله أكبر". وبصوت خافت لا يكاد يسمع قرأت فاتحة الكتاب ببطء وتلعثم، ثم أتبعتها بسورة قصيرة باللغة العربية، وإن كنت أظن أن أي عربي لم يكن ليفهم شيئا لو سمع تلاوتي تلك الليلة. ثم بعد ذلك تلفظت بالتكبير مرة أخرى بصوت خافت، وانحنيت راكعا حتى صار ظهري متعامدا مع ساقي واضعًا كفي على ركبتي. وشعرت بالإحراج، إذ لم أنحن لأحد في حياتي. ولذلك فقد سررت لأنني وحدي في الغرفة. وبينما كنت لا أزال راكعا كررت عبارة "سبحان ربي العظيم" عدة مرات. ثم اعتدلت واقفًا وأنا أقرأ "سمع الله لمن حمده"، ثم "ربنا ولك الحمد".
أحسست بقلبي يخفق بشدة، وتزايد انفعالي عندما كبَّرت مرة أخرى بخضوع، فقد حان وقت السجود. وتجمدت في مكاني بينما كنت أحدق في البقعة التي أمامي حيث كان عليَّ أن أَهْوِيَ إليها على أطرافي الأربعة وأضع وجهي على الأرض. لم أستطع أن أفعل ذلك. لم أستطع أن أنزل بنفسي إلى الأرض. لم أستطع أن أذل نفسي بوضع أنفي على الأرض، شأن العبد الذي يتذلل أمام سيده. لقد خيل لي أن ساقيَّ مقيدتان لا تقدران على الانثناء. لقد أحسست بكثير من العار والخزي. وتخيلت ضحكات أصدقائي ومعارفي وقهقهاتهم، وهم يراقبونني وأنا أجعل من نفسي مغفلاً أمامهم، وتخيلت كم سأكون مثيرا للشفقة والسخرية بينهم، وكدت أسمعهم يقولون: "مسكين جفري! فقد أصابه العرب بمسٍّ في سان فرانسيسكو. أليس كذلك؟". وأخذت أدعو: "أرجوك، أرجوك، أَعِنِّي على هذا". أخذت نفسا عميقا، وأرغمت نفسي على النزول.
الآن صرت على أربعتي، ثم ترددت لحظات قليلة، وبعد ذلك ضغطت وجهي على السجادة. أفرغت ذهني من كل الأفكار، وتلفظت ثلاث مرات بعبارة "سبحان ربي الأعلى". "الله أكبر": قلتها ورفعت من السجود جالسا على عقبي، وأبقيت ذهني فارغًا رافضًا السماح لأي شيء أن يصرف انتباهي. "الله أكبر"، ووضعت وجهي على الأرض مرة أخرى. وبينما كان أنفي يلامس الأرض رحت أكرر عبارة "سبحان ربي الأعلى" بصورة آلية، فقد كنت مصمما على إنهاء هذا الأمر مهما كلفني ذلك. "الله أكبر"، وانتصبت واقفا فيما قلت لنفسي: لا تزال هناك ثلاث جولات أمامي. وصارعتُ عواطفي وكبريائي فيما تبقى لي من الصلاة. لكن الأمر صار أهون في كل شوط حتى إنني كنت في سكينة شبه كاملة في آخر سجدة. ثم قرأت التشهد في الجلوس الأخير، وأخيرا سلمت عن يميني وشمالي. وبينما بلغ بي الإعياء مبلغه بقيت جالسا على الأرض، وأخذت أراجع المعركة التي مررت بها. لقد أحسست بالإحراج لأنني عاركت نفسي كل ذلك العراك في سبيل أداء الصلاة إلى آخرها. ودعوت برأس منخفض خجلاً: "اغفر لي تكبري وغبائي، فقد أتيتُ من مكان بعيد، ولا يزال أمامي سبيل طويل لأقطعه".
وفي تلك اللحظة شعرت بشيء لم أجربه من قبل، ولذلك يصعب عليّ وصفه بالكلمات، فقد اجتاحتني موجة لا أستطيع أن أصفها إلا بأنها كالبرودة، وبدا لي أنها تشع من نقطة ما في صدري. وكانت موجة عارمة فوجئت بها في البداية حتى إنني أذكر أنني كنت أرتعش. غير أنها كانت أكثر من مجرد شعور جسدي، فقد أثّرَتْ في عواطفي بطريقة غريبة أيضا. لقد بدا كأن الرحمة قد تجسدت في صورة محسوسة، وأخذت تغلفني وتتغلغل فيّ. ثم بدأت بالبكاء من غير أن أعرف السبب، فقد أخذت الدموع تنهمر على وجهي، ووجدت نفسي أنتحب بشدة. وكلما ازداد بكائي ازداد إحساسي بأن قوة خارقة من اللطف والرحمة تحتضنني. ولم أكن أبكي بدافع من الشعور بالذنب رغم أنه يجدر بي ذلك ولا بدافع من الخزي أو السرور. لقد بدا كأن سدًّا قد انفتح مُطْلِقًا عِنَان مخزون عظيم من الخوف والغضب بداخلي.
وبينما أنا أكتب هذه السطور لا يسعني إلا أن أتساءل عما لو كانت مغفرة الله عز وجل لا تتضمن مجرد العفو عن الذنوب، بل وكذلك الشفاء والسكينة أيضا. ظللت لبعض الوقت جالسًا على ركبتي، منحنيًا إلى الأرض، منتحبًا ورأسي بين كَفَّيَّ. وعندما توقفت عن البكاء أخيرا كنت قد بلغت الغاية في الإرهاق، فقد كانت تلك التجربة جارفة وغير مألوفة إلى حد لم يسمح لي حينئذ أن أبحث عن تفسيرات عقلانية لها. وقد رأيت حينها أن هذه التجربة أغرب من أن أستطيع إخبار أحد بها. أما أهم ما أدركتُه في ذلك الوقت فهو أنني في حاجة ماسة إلى الله وإلى الصلاة. وقبل أن أقوم من مكاني دعوت بهذا الدعاء الأخير: اللهم، إذا تجرأت على الكفر بك مرة أخرى فاقتلني قبل ذلك، خلصني من هذه الحياة. ومن الصعب جدا أن أحيا بكل ما عندي من النواقص والعيوب، لكنني لا أستطيع أن أعيش يوما واحدا آخر وأنا أنكر وجودك" .
ولنستمع إلى ما قاله لانج عن الغربيين الذين يدخلون الإسلام ومقارنته إياهم بالجاهليين، الذين دعاهم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى نبذ تقاليدهم المتخلفة واعتقاداتهم الوثنية ومنهجهم المتخبط فى التفكير، والنتجة التى يخرج بها من هذه المقارنة. وهو كلام كاشف ينبغى أن ننصت إليه. قال: "عمد القرآن إلى إصلاح هذا المجتمع، وليس إلى تحطيمه وإعادة بنائه من نقطة البدء. لقد هدف القرآن إلى استبقاء ما كان نافعا، ثم تعديله والبناء عليه. لقد كان القرآن يهدف لجعل العرب يفكرون بالدين بطريقة جديدة، وأن يغرس في أذهانهم أساسا جديدا لمفاهيم محددة، وأن يحول نظرتهم إلى العالم من طريقة محدودة إلى أخرى أكثر رفعة وسموا. إن هذا الإجراء في التحول نقلهم من التقليدية إلى الفردية، ومن التهور والاندفاع إلى النظام، ومن الغيبية إلى العلم، ومن الحدس إلى التعليل الواعي، وفي النهاية تنظيم المجتمع على نحو مثالي.
أما الوضع في المجتمع الغربي الراهن فهو على النقيض التام تقريبا، فمع نظريات الانتقاء الطبيعي والتطور بطريقة المصادفة فإن الدين لم يعد ضروريا لشرح عملية الوجود. والاعتقاد السائد هو أن علم النفس الحديث قد نجح في إثبات أن القيم والميول الروحية والفضائل والأخلاق هي نتاج القوى المحركة الاجتماعية والتطورية. وبالتالي فهي ليست حقيقية أو مطلقة ولكنها نسبية وناجمة عن تخيلاتنا على نحو رئيسي. فالله عندهم لم يعد ضروريا كجوابٍ طالما أن العلم والمنطق باعتقادهم يمكن أن يحققا الهدف. وبالنتيجة يجد المعتنق الغربي للإسلام نفسه يسير فى طريقٍ تخالف من جوانبَ عدةٍ الطريقَ التي سلكها المسلمون الأوائل منذ أربعة عشر قرنا" .
والمغزى فى هذا الكلام هو أن الإسلام دين الاعتدال، فهو يهذب التطرف والمغالاة التى ينتهجها كل من المجتمعين، وإن اتجه كل منهما وجهة مضادة لوجهة الآخر. إلا أن دعوة الإسلام هى دعوة التفكير السليم والمنطق والعلم، العلم المتعمق لا المتعجل، العلم الحقيقى لا السطحى الذى يخيل لصاحبه أنه لم يعد بحاجة إلى الله وأن مقاليد الوجود كلها قد صارت فى يديه فهو لا يحتاج إليه سبحانه. وهو يؤكد أن القرآن يقدم، باستمرارٍ، البراهين العقلية الدالة على قدرة الله، وأن المسلمين، رغم إقرارهم بأن للعقل حدوده، يؤمنون بالدور الحاسم الذى يستطيع أن ينهض به، وأن أساس هذا هو القرآن الكريم. وفى هذا السياق نراه ينقل عن مكسيم رُودِنْسون المستشرق الفرنسى كيف ترددت كلمة "العقل" فى القرآن خمسين مرة، بالإضافة إلى تكرر قوله: "أفلا تعقلون" أو "لقوم يعقلون" مرارا، وتقريعه الكفار بأنهم كالأنعام لا يستخدمون عقولهم، وعن لامَنْس المبشر البلجيكى أن القرآن يَعُدّ الكفر خللا فى العقل البشرى.
وهناك، مِثْلَ لانج، علماء وأدباء وفنانون وصحفيون وسياسيون ورجال دين كُثْرٌ أسلموا، أذكر منهم، كيفما اتفق، محمد مارمادوك بكثال، مترجم القرآن الكريم إلى الإنجليزية، والزعيم الأمريكي مالكوم إكس، والجرّاح الفرنسي موريس بوكاي، وعالم الأجنة الشهير كيث مور، وعالم الجيولوجيا الألماني ألفريد كرونير، والدكتور الفرنسي علي سليمان بنوا، والعالم المجري عبد الكريم جرمانوس، وعالم الإجتماع الإنجليزي حسين روف، والمفكر الإنجليزي مارتن لنجز، والكاتب الأمريكي مايكل ولفي سيكتر، والصحفي الألماني الدكتورحامد ماركوس، والمؤلف والروائي والشاعر البريطاني ويليام بيكارد، والمغنى البريطانى يوسف إسلام، والمهندس خالد شلدريك، والرسام والمفكر الفرنسي المعروف إتييان دينيه، والمفكر السويسري روجيه دوباكييه، والكاتب الأمريكي الكولونيل دونالدس روكويل، والعالم البريطاني آرثر أليسون، واللورد جلال الدين برانتون، وأستاذ الرياضيات الجامعي الأمريكي جفري لانج، والأستاذ الجامعي الأمريكي محمد أكويا، والطبيب البلجيكى ياسين باينز، والدكتور فاروق عبد الحق (روبرت كرين سابقا) رئيس جمعية هارفارد للقانون الدولي ومستشار الرئيس الأمريكي نيكسون للشؤون الخارجية ونائب مدير مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض سابقا ومؤسس جمعية المحامين المسلمين الأمريكيين، والسياسى الألمانى المعروف د. مراد هوفمان، وروجيه جارودى الفيلسوف والسياسى الفرنسى المعروف، والدكتور فانسان مونتيه أستاذ اللغة العربية والتاريخ الإسلامي في جامعة باريس، والكَنَدِىّ عبد الصمد كيل، والكَنَدِىّ الجامايكى الدكتور بلال فيلبس، وكيث إليسون أول نائب ديمقراطي مسلم في الكونجرس الأمريكي، وتوركواتو كارديللي السفير الإيطالي... وغيرهم ممن تَجِلّ أعدادهم عن الإحصاء!
وهنا أحب أن أورد واحدة من القصص الخاصة بإسلام بعض العلماء الغربيين، والتى تبين بأجلى بيان أنهم حين آمنوا بالإسلام إنما آمنوا من باب العلم والعقل والتفكير حتى يعرف القاصى والدانى أن ما يهرف به بعض المارقين منا عن تعارض الإسلام والعلم هو كلامٌ خديجٌ لا رأس له ولا ذنَب، وأنهم حين يرددونه إنما يرددونه من باب التقليد الأعمى، مما لا يليق ببنى الإنسان، الذين حباهم الله القدرة على وزن الأمور وأَمَرَهم بتشعيل عقولهم. والقصة التى سأقف عندها هى قصة إسلام د. موريس بوكاى العالم الفرنسى الشهير، وهى قصة مشهورة ومتداولة على المواقع المشباكية على نطاق واسع.
فقد طلبت فرنسا من مصر في نهاية ثمانينات القرن الفائت أن تستضيف مومياء فرعون لإجراء بعض الاختبارات والفحوص والمعالجات، وعندما انتهت مراسم الاستقبال الملكي لفرعون على أرض فرنسا حُمِلَتْ مومياؤه إلى جناح خاص في مركز الآثار الفرنسي ليبدأ بعدها أكبر علماء الآثار في فرنسا وأطباء الجراحة والتشريح دراسة تلك المومياء واستكتشاف أسرارها. وكان المسؤول الأول عن ذلك هو البروفيسور موريس بوكاي.
كان المعالجون مهتمين بترميم المومياء فى حين كان اهتمام بوكاي مختلفا عنهم تماما. كان يحاول أن يكتشف كيفية موت هذا الفرعون. وفي ساعة متأخرة من الليل ظهرت نتائج تحليله النهائية. لقد كانت بقايا الملح العالق في جسده أكبر دليل على أنه مات غريقا، وأن جثته اسْتُخْرِجَتْ من البحر عقب غرقه، ثم حُنِّطَتْ بسرعة ليظل بدنه سليما! لكن ثمة أمرا غريبا ما زال يحيره، وهو كيف بقيت هذه الجثة من بين الجثث الفرعونية المحنطة أسلم من غيرها رغم أنها استخرجت من البحر؟ كان بوكاي يعد تقريرا نهائيا عما كان يعتقده اكتشافا جديدا يتمثل في انتشال جثة فرعون من البحر وتحنيطها بعد غرقه مباشرة إل أن همس أحدهم في أذنه قائلا: لا تتعجل، فإن المسلمين يتحدثون عن غرق صاحب هذه المومياء. ولكنه استنكر بشدة هذا الخبر، فمثل هذا الاكتشاف لا يمكن معرفته إلا بتطور العلم الحديث، وبحواسيبَ بالغةِ الدقة. فقال له أحدهم: إن قرآنهم الذي يؤمنون به يروي قصة عن غرقه وعن سلامة جثته بعد الغرق. فازداد ذهولا وأخذ يتساءل: كيف يكون ذلك، وهذه المومياء لم تكتشف أصلا إلا في عام 1898 ميلادية، أي قبل مائتي عام تقريبا، فى حين قرآنهم موجود قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام؟ وكيف يستقيم في العقل هذا، والبشرية جمعاء لا العرب فقط، لم تكن تعلم شيئا عن قيام قدماء المصريين بتحنيط جثث فراعنتهم إلا قبل عقود قليلة من الزمان فقط؟
جلس موريس بوكاي ليلته محدقا في جثمان فرعون يفكر بإمعان فيما همس به صاحبه له من أن قرآن المسلمين يتحدث عن نجاة هذه الجثة بعد الغرق، بينما الكتاب المقدس يتحدث عن غرق فرعون أثناء مطاردته لسيدنا موسى عليه السلام دون أن يتعرض لمصير جثمانه البتة. وأخذ يقول في نفسه: هل يعقل أن يكون هذا المحنط أمامي هو فرعون مصر الذي كان يطارد موسى؟ وهل يعقل أن يعرف محمَّدُهم هذا قبل أكثر من ألف عام، وأنا لم أعرفه إلا للتو؟
لم يستطع بوكاي أن ينام، وأحضر الكتاب المقدس، وأخذ يقرأ في سفر "الخروج" ما نصه: "فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون، الذي دخل وراءهم في البحر لم يبق منهم ولا واحد". وبقي موريس بوكاي حائرا، فالكتاب المقدس نفسه لم يتحدث عن نجاة هذه الجثة وبقائها سليمة بعد أن تمت معالجة جثمان فرعون وترميمه. أعادت فرنسا لمصر المومياء بتابوت زجاجي فاخر يليق بمقام فرعون! ولكن بوكاى لم يهدأ له بال منذ أن هزه الخبر الذي يتناقله المسلمون عن سلامة هذه الجثة! ثم حزم أمتعته ليسافر إلى المملكة السعودية بغية حضور مؤتمر طبي يوجد فيه جمع من علماء التشريح المسلمين.
وهناك كان أول حديثه إليهم ما اكشتفه من نجاة جثة فرعون بعد الغرق. فقام أحدهم وفتح له المصحف وأخذ يقرأ له قوله تعالى: "فاليومَ ننجِّيك ببدنك لتكون لمن خَلْفَك آية. وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون" . لقد كان وقع الآية عليه شديدا، وارتجت لها نفسه رجة جعلته يقف أمام الحضور ويعلن إسلامه، ثم رجع إلى فرنسا بغير الوجه الذى ذهب به. وهناك مكث عشر سنوات يدرس مدى تطابق الحقائق العلمية المكتشفة حديثا مع القرآن الكريم، والبحث عن تناقض علمي واحد مما يتحدث به القرآن، ليخرج بعدها بنتيجة مؤداها قوله تعالى: "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. تنزيلٌ من حكيم حميد".
وكان من ثمرة هذه السنوات التي قضاها بوكاي أَنْ خَرَجَ بتأليف كتاب عن القرآن الكريم هز الغربيين عنوانه: "القرآن والتوراة والإنجيل والعلم- دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة". ومن أول طبعة نَفِدَ الكتاب من جميع المكتبات، ثم أعيد طبعه بمئات الآلاف بعد أن تُرْجِم من لغته الأصلية إلى عدد كبير من لغات العالم لينتشر بعدها في كل مكتبات الشرق والغرب. وقد اشتُقَّ مصطلح جديد من اسم العالم الفرنسى للدلالة على هذا اللون من الدراسة التى تربط بين العلم والدين، وبالذات بينه وبين الإسلام. وهذا المصطلح هو "Bucaillism"، أى "البوكائية". وهناك كلام مفصل عن هذا الاتجاه فى موسوعة "Encyclopaedia of the History of Science, Technology, and Medicine in Non-western Cultures" . وفى المادة الخاصة بموريس بوكاى فى النسخة العربية من موسوعة "الويكيبيديا" ما نصه: "البوكايية هو مصطلح يستخدم بواسطة الأكاديميين للدلالة على حركة المتدينين في ربط العلم الحديث بالدين، وخصوصا الإسلام". وهو ما تقوله أيضا النسخة الإنجليزية من هذه الموسوعة:
"Bucaillism is a term used by academics for the movement to relate modern science with religion, and especially that of IslamSince the publishing of The Bible, the Quran and Science, Bucaillists have promoted the idea that the Qur'an is of divine origin, arguing that it contains scientifically correct facts"
وقد حاول عدد من علماء اليهود والنصارى أن يردوا على هذا الكتاب فلم ينجحوا، ومنهم الدكتور وليم كامبل في كتابه المسمى: "La Bible, le Coran et la Science: القرآن والكتاب المقدس في نور التاريخ والعلم"، إذ شرَّق وغرَّب ولكنه في النهاية لم يستطع أن يحرز شيئا. ويستطيع القارئ أن يبجث على المشباك عن ردى التفصيلى الذى فنّدت فيه كل ما قاله كامبل فى كتابه المذكور فكرة فكرة. وأعجب من هذا ما قرأناه فى المواقع المشباكية المختلفة من أن بعض العلماء في الغرب بدأ يجهز ردا على الكتاب، لكنه حين انغمس فى قراءته بتمعن ترك ما كان قد اعتزمه ونطق بالشهادتين وصار مسلما.
وثمة قضية على جانب من الأهمية هى ما تعرض له د. لانج حين سأله أحد المسلمين فى المسجد أثناء قيامه، قبل إسلامه، بزيارة تعرّفية إلى المكان ليرى الأمور عن قرب: هل ترغب فى أن تكون مسلما؟ فما كان منه إلا أن أجابه للتو: لا ليس اليوم على أية حال. إنما أردت أن أطرح بعض الأسئلة. وكان تعليق لانج على هذا السؤال هو أن كلام الرجل قد شق الهواء مدويا فى أعماقه، وأخذ يتساءل: ما الذى جعله يسألنى هذا السؤال؟ ثم ماذا سأقول لأسرتى وزملائى وأصدقائى؟ وماذا عن وظيفتى فى الجامعة اليسوعية التى أعمل بها؟ ثم أضاف أنه قد شعر آنئذ ببعض التوتر يشل كل جسمه، وأنه استعد لهجوم آخر من قِبَل السائل، وأنه قرر أن يكون أصلب هذه المرة، وإن شعر فى ذات الوقت أن جزءا منه كان يتوق إلى سماع الرجل مرة أخرى، فدعا ربه حينئذ أن يعضده ولا يدعه وحده ما دامت الأمور قد وصلت إلى تلك المرحلة، وأنه حين قال له الرجل: "لكننى أشعر أنك تؤمن بالله، فلم لا تحاول؟" تذكر أن عليه اتباع مشاعره دون أن يبالى بأى شىء آخر حسبما علمه أبوه، وعندئذ نظر إلى مخاطبيه قائلا: نعم، أريد أن أكون مسلما. وهنا علمه الثلاثة كيف ينطق الشهادتين، فنطقهما .
وتعليقا على هذا الكلام أود أن أقول إن قرار الإيمان بدين جديد ليس بالأمر السهل على كثير من الناس: فبعضهم يخشى بأس الأسرة، التى قد تُقْدِم فى بعض المجتمعات على قتل المرتد عن دينه، أو على الأقل: تعذبه وتحرمه من حقوقه أو تضغط عليه ضغطا متواصلا لا تتحمله أعصابه... إلخ. أما فى البلاد الغربية الديمقراطية فقد يكون الكِبْر والأنفة مانعا للشخص من التحول عن دينه إلى دين آخر حمله ناس قادمون من بلاد متخلفة فيربط بينه وبين تلك البلاد دون أن يعى، حاكما عليه أنه هو أيضا دين متخلف لا يليق بواحد مثله ينتسب إلى مجتمع أكثر تحضرا وعلما، وأحسن ذوقا وسلوكا. وأما إذا لم يكن يتمتع بالكِبْر الكابح من قبول الدين الجديد فإن شبح الأسرة والمعارف والأصدقاء يتراءى له ممارسا عليه ضغطا معنويا ليس بالهين، وإن لم يصل إلى مستوى الإرهاب الذى يتهدد الحياة أو الجسد فى بعض المجتمعات الأخرى. كذلك ينبغى ألا نغفل العادة وأثرها، إذ الإنسان أسير ما أَلِفَه بحيث يصعب عليه أن يفكر فى تغييره أو قبول خلافه. ذلك أن الأُلْفَة من شأنها تسهيل الحياة وتيسير التصرفات وتسريع اتخاذ المواقف دون أن تضع الإنسان فى عناء التفكير من جديد فى أمور تعوَّد أن يتصرف فيها ويتخذ قراراته بشأنها فى سرعة وسلاسة. ثم هناك أيضا ما يترتب على عملية التغيير من اتهام ضمنى لعقل الشخص المرتد وذوقه وحصافته وماضيه كله، إذ معنى الإقدام على اعتناق دين جديد أنه كان طوال حياته ضالا غبيا لا يبصر الحق ولا يستجيب له، وأن مجتمعه وأسرته وأصدقاءه ومعارفه هم جميعا كذلك، وهو أمر ليس من السهل على النفس التسليم به . وهناك كذلك المصالح المرتبطة بالدين القديم، والتى قد يضربها التحول إلى الدين الجديد فى الصميم، فيُضَارّ صاحبُها ضررا بالغا، وليس كل الناس على استعداد للتضحية بمصالحهم، إلى جانب أنه قد يفقد منصبه ويخسر مكانته الاجتماعية، أو على أقل تقدير: سوف يُنْظَر إليه بوصفه نتوءا شاذا قبيحا فى جسم المجتمع لا يقبله الآخرون بسهولة، وربما لا يقبلونه أبدا.
وهذا يأخذنا إلى قضية حرية الإرادة وإلى أى مدى يمكن القول بأن الإنسان حر فى تصرفاته ومواقفه وآرائه وأذواقه، وبخاصة فى أمر تغيير ديننا وهَجْرنا لأمتنا، ولو على مستوى الفكر والشعور، والالتحاق بأمة أخرى مختلفة فى كل شىء تقريبا؟ إن كثيرا منا يظن أننا أحرار حرية تامة فيما نعمل أو ندع أو نقول أو نصمت، على حين أننا لسنا بالحرية المظنونة. لا ريب أن الله قد خلقنا متمتعين بقدر من الحرية، إلا أن هذا القدر ليس كبيرا، وإن كان بتعاونه مع الحريات المتاحة للأشخاص الآخرين يستطيع تحقيق المذهل العجيب، علاوة على أنه يختلف من شخص إلى آخر حسب كمية علمه ومعارفه وقوة إرادته أو ضعفها وحسب مدى استعداده المسبق لمواجهة المشاكل والشدائد واتخاذ القرارات المناسبة وتدربه على ذلك، وكذلك حسب قوة بنيانه الجسدى وقدرته على التحمل والتماسك أو تهافته... إلخ. ولا ريب أيضا أن الرأى العام فى المجتمع الذى نعيش فيه له دخل فى مواقفنا وآرائنا وما يتصل بها، ومن ثم له دخل فى القرار الذى نقرره بشأن الدين الجديد الذى نفكر فى اعتناقه. صحيح أن هناك من وهبهم الله قدرا أكبر مما وهبه غيرهم من عوامل التحرر الفكرى والسلوكى الحاسم الذى لا يعرف التلجلج، لكن هؤلاء عادة شرذمةٌ قليلون فى أى مجتمع.
ومن الملاحظ أن ثمة عصورا وظروفا تتسم بسهولة الانتقال من دين الأجداد والآباء إلى دين جديد، وعلى نطاق واسع. خذ مثلا العصر الذى ظهر فيه الإسلام. لقد بدأ الأمر صعبا على هذا الدين الجديد، وبدا وكأنه لا مكان له فى مكة، فضلا عن جزيرة العرب كلها، ودَعْكَ ودَعْنَا من الانتشار فى العالم أجمع. ومع ذلك فما إن هاجر الرسول وأتباعه إلى يثرب حتى شرعت الصورة تتغير، وتسارعت وتيرة الاستعداد لتقبل هذا الدين بعدما كان يتقدم فى مكة ببطء السلحفاة، ووجدناه ينتشر فى القبائل بعدما كان مقتصرا عقب الهجرة على المدينة المنورة، إلى أن حلت السنة التاسعة فرأينا وفود القبائل من أرجاء البلاد تأتى من تلقائها إلى النبى مبايعة له ومعلنة اعتناقها للدين الذى جاء به. ثم لم تمض سنة أخرى حتى انطلق الإسلام من قفصه الضيق إلى فضاء العالم الفسيح مكتسحا الحدود هادما السدود، مقبلة عليه الجماهير كأنها عطشى تبحث عن نبع ماء بارد فى يوم من أيام الصيف الحارقة، فكان هو ذلك النبع البارد.
وخذ أيضا القارة الأفريقية، التى يسهل الانتقال فى بعض بلدانها إلى دين محمد حتى لتدخل فيه دفعةً واحدةً فى بعض الأحيان قبيلةٌ كاملةٌ تضم آلاف الأشخاص. وفى دول الخليج نسمع بين حين وحين عن إسلام أعداد كبيرة من جالية هذا الشعب الآسيوى أو ذاك. كذلك ففى العقود الأخيرة أخذ الإسلام يشق طريقه فى الغرب بشىء من اليسر لم يكن يعرفه فيما قبل ذلك فى القرن العشرين، بله القرن التاسع عشر وما يسبقه من قرون، على العكس مما وقع فى شبه الجزيرة الأيبيرية غداة فتح الإسلام لها، إذ صبغها الإسلام بصبغته الدينية واللغوية والأدبية وعاداته وتقاليده وذوقه إلى حد بعيد وفى مدة زمنية قصيرة، وهو ما تغير بعد الريكونكويستا (The Reconquista) واسترداد الجيوش النصرانية ما كان الإسلام قد أحرزه من قبل، وظل التعصب سيد الموقف حتى تغيرت الأحوال فى الغرب كله فى العقود الأخيرة. ومع هذا فقد رأينا كيف كان د. لانج مترددا بعض الشىء متحسبا لردة فعل أسرته وأصدقائه وزملائه وجيرانه. وهذا كله يرينا مدى تعقد أمور الحياة، وبخاصة ما كان متعلقا منها بالعقيدة والدين.
ولإعطائك، أيها القارئ، مثالا على مدى تعقد الأمور فى هذه القضيةِ الحكايةُ التاليةُ التى يقصها علينا المؤلف عن مسلم أمريكى يدعى: جرانت، والتى أرجو ألا يكون الأمر فيها قائما على المبالغة الفنية. فلنقرأ ما يقصه علينا مؤلفنا عن جرانت هذا وإسلامه وما تبعه وترتب عليه من مواقف محرجة حتى فى أبسط الأمور. وخلاصة القصة هى أن جرانت، ظهيرة ذات يوم، كان أمامه نصف ساعة ليس إلا كى يدخل الحمام ويغتسل ويصلى ويتناول غَدَاءه، فما كان منه إلا أن يمم وجهه شطر حمام الرجال حريصا على أن يتلو دعاء دخول الخلاء وهو يخطو إلى الداخل بقدمه اليسرى. آه لو أن زملاءه القدامى فى البحرية رَأَوْه وهو يذهب إلى المرحاض كى يتبول. وبعد أن أدى الوضوء على أكمل وجه متتبعا التفاصيل الدقيقة جدا، واتجه إلى باب الحمام ليخرج، وقطرات الماء تتساقط من وجهه وذراعيه، وقد أمسك بسترته حريصا على ألا تنزلق قدماه عن الفوط الورقية التى وضعها على أرضية الحمام تجنبا للنجاسة حسب فهمه، إذا به يفاجأ بمديره يدخل المرحاض، ويراه على هذه الصورة، فتتسع عيناه دهشة ويصيب فمه البَكَم. وهنا تنبه جرانت إلى أن قدميه قد انزلقتا عن الفوط الورقية المفروشة على الأرض ولامستا البلاط النجس فى نظره، فأخذ يُحَرِّق الأُرَّم ، وعاد مرة أخرى يتوضأ من جديد ظنا منه أن الوضوء الأول قد فسد.
فانظر إلى مدى توجس ذلك المسلم الجديد تجاه ما يمكن أن يظنه فيه معارفه القدامى حين يَرَوْنَه يمارس شعائر دينه الطارف التى لم يتعودوا عليها، ومن ثم يستهجنونها أو يُظْهِرون على الأقل استغرابهم، مسببين له الحرج الشديد. وبالمناسبة فقد ارتد جرانت عن الإسلام، وكان يقول إن الإسلام هو أفضل الأديان، ولكن أتباعه أسوأ الأتباع. وبالمناسبة أيضا كان يغير دينه كما يغير جواربه حسب تعبيره . ولا أدرى مَنْ أفهمه أن عملية التطهر للصلاة معقدة على هذا النحو الغريب الذى لا يرضاه الله ورسوله ولا أى مسلم عاقل عنده ذرة واحدة من الفهم الصحيح للإسلام. وأمامى الآن بعدما كتبت هذا الكلام بعدة أسابيع يوتيوب عن قس بريطانى كان يعمل فى الفاتيكان وأسلم اسمه إدريس توفيق، كان أول ما قاله فى المقابلة مع المذيع على شاشة التلفاز المصرى إن الإسلام دين بسيط جدا ولا يعرف التعقيد. وصدق الرجل. ألم يقل الله تعالى: "ما جعل عليكم فى الدين من حرج"؟ ألم يقول رسوله الكريم: "يَسِّروا ولا تُعَسِّروا"، و"الدين يسر لا عسر"، و"إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق"، و"إن المنبتَّ لا أَرْضًا قَطَعَ ولا ظَهْرًا اَبْقَى"؟ فكيف تحول إلإسلام يا ترى من دين الله الفطرى البسيط إلى كل تلك التعقيدات والتعسيرات؟
وإنى لأذكر كيف كنا أنا وزوجتى، ونحن فى بريطانيا أثناء دراستى هناك فى سبعينات القرن الماضى، نشعر بالحرج فى بعض الأحيان حين نكون خارج البيت ونريد أن نصلى رغم أن الإنجليز بوجه عام قوم غير فضوليين. فمثلا كنا، إذا ما أردنا أن نصلى ونحن فى الحافلة التى تقلنا من لندن إلى أكسفورد فى طريق العودة أواخر النهار، يخبط كلانا على مسند المقعد الذى أمامه برفق بالغ بحيث لا يشعر به الراكب الجالس عليه، ثم يتيمم ماسحا وجهه ويديه إلى الرسغين، ثم يصلى ركعتين للظهر ومثلهما للعصر، حريصا غاية الحرص على ألا يلفت انتباه أحد إلى ما يصنع رغم تيقنه من أن أحدا لن يعلق على شىء ولن يتدخل فى شىء. فلماذا إذن ذلك الحرص البالغ؟ لمعرفته بأنه يأتى أمرا غريبا على جميع ركاب الحافلة، فهو يريد ألا يسبب لهم أية دهشة أو استغراب رغم أنهما سيظلان دهشة واستغرابا داخليين ليس إلا. كذلك كنت أستشعر الحرج حين أصلى وسط المدينة بأكسفورد على عشب الجزيرة الوسطى من الشارع على مقربة من كنيسة سانت جيل عصرا. وبالمثل كنت أرهق نفسى أشد الإرهاق، بعد وصولى إلى بريطانيا بقليل، حين أستيقظ لأتسحر وأصلى الفجر خلال إقامتى فى مدينة هستنجز مع أسرة بريطانية ربها أسبانى الأصل كيلا أزعج أحدا من النوام رغم أن ست البيت كانت تعد لى طعامى مسبقا وتتركه على المائدة بالدورالأول، فكنت أكاد أمشى لا على قشر بيض بل فى الهواء ذاته لأن السلالم الخشبية فى البيوت الإنجليزية تئن، تحت قدم الصاعد أو الهابط، أنينا سخيفا. ومع ذلك لم أعجب هؤلاء الناس، وبخاصة الرجل ذو الأصل الأسبانى والصوت ذى الفحيح والعينين غير المريحتين رغم تعاطفى معه هو وزوجته لكثرة بكاء رضيعهما آدم، الذى كان يؤلمنى صراخه بسبب عيب خلقى فى مكان حساس من جسده يسبب له وجعا شديدا طبقا لما فهمته من أبيه بإنجليزيتى العرجاء آنذاك (وحتى الآن أيضا وحياتك!).
على أن فى قصة الرجل أمرا ينبغى التريث عنده، فقد رأيناه يحرص الحرص كله على أشياء تفصيلية فى وضوئه اعتقادا منه بوجوب مراعاتها مراعاة دقيقة، وإلا فسد الوضوء ووجبت إعادته من جديد. وبوجه عام لا بد أن يعرف كل مسلم أن الدين يسر لا عسر، وأن الله لم يجعل علينا فى الدين من حرج، وأن هناك رخصا كثيرة ينبغى أن يأخذ بها المسلم وألا يتنطع كما يفعل كثير من المنتمين لهذا الدين العظيم فتراهم يشقّون على أنفسهم وعلى الناس فى أمور لا خطر لها، وتكون النتيجة نفورهم من الدين جملة وتفصيلا. والعجيب فى الأمر أنهم يهملون كثيرا من الجوانب المهمة فى الدين ولا يعيرونها التفاتا رغم أنها تمثل جوهر الدين وقيمه الرفيعة التى بدونها يجفّ ولا يؤتى شيئا من ثماره الكريمة، وهو ما نرى آثاره المرة فى كل مكان من حولنا.
ترى ما ضَرَّ لو عرفتْ جماهير المسلمين مثلا أن قَصْر الصلاة لا يشترط فيه عند بعض الفقهاء أن تكون مسافة السفر ثمانين كيلومترا، بل مطلق السفر يجيز لصاحبه عندهم القصر والجمع؟ بل ما ضر لو عرفت جماهير المسلمين أنه لو جمع أحدهم الظهر والعصر مثلا وهو مقيم فى بلده غير مسافر فليس عليه من بأس؟ وما ضر لو عرفت جماهير المسلمين أن الوضوء لا يجب عند قسم من الفقهاء إلا من النوم وما يخرج من السبيلين فقط، فلا وضوء من لمس المرأة ولا من لمس السوأة، فضلا عن أنه لا وضوء أصلا إذا أخذت المتوضئَ غفوةٌ وهو جالس على كرسيه مثلا غير متمدد فى الفراش؟ وما ضر لو عرفت جماهير المسلمين أن أعضاء الجسم الواجب تطهيرها فى الوضوء عند الشافعى مثلا هى الوجه والذراعان والرأس والقدمان، وما زاد على ذلك فهو من السنة لا يَفْسُد الوضوءُ بدونه؟ وما ضر لو عرفت جماهير المسلمين أن بعض الفقهاء لا يحرّمون لمس المصحف والقراءة منه على الشخص الـجُنُب؟ وما ضر لو عرفت جماهير المسلمين، ومنهم جرانت، أن من المسموح به للمتوضئ المسح على الجورب بدلا من خلعه وغسل القدمين ما دام قد ارتدى الجورب وهو متوضئ، كيلا يشقّ على نفسه ويُضْطَرّ لوضع قدميه فى حوض الغسل بما يترتب على ذلك من تبليل المكان وإشاعة الاضطراب فيه؟ لا شك أن هذا حل رائع لمن يريد التوضؤ فى العمل مثلا.
وبالمناسبة فأنا لا أستعمل الحوض أبدا عند غسل القدمين، بل أجلس على حافة المغتسل (البانيو) واضعا قدمىَّ بداخله ثم أغسلهما من صنبوره دون أى إزعاج لى أو لغيرى وأنشفهما بفوطة خاصة فى الحال فلا يتناثر منى ماء على أرضية الحمام بتاتا. كما أنى أخرج من بيتى عادة على وضوء بحيث إذا اضطررت إلى التوضؤ وأنا بالخارج اكتفيت بالمسح على الجورب، أو على الحذاء والصلاة به إذا كان خلع الحذاء يسبب إزعاجا. ومعروف أن الشخص إذا كان فى مدينته يستطيع أن يمسح على الجورب أو الحذاء لمدة يوم وليلة تبدأ من فساد آخر وضوء توضأه الشخص قبل لبس الجورب أو الحذاء، وثلاثة أيام بلياليها فى حالة السفر. ثم إن الوضوء الواحد يصلح أن يؤدى به المصلى ما شاء من الصلوات ما دام سليما لم يُنْقَض، ولا يجب عليه تجديده كل مرة، ولست أحبذ تجديده فى العمل وما يشبهه حتى لا يترك المتوضئ الحمام زلقا بسبب الماء المتساقط منه. وهذه مجرد أمثلة من دنيا الوضوء والصلاة فحسب لا تستقصى كل شىء فيهما، ولا تتعرض لأى شىء خارجهما.
وفى الإسلام رُخَصٌ كثيرة ينبغى للمسلم الأخذ بها حتى يظل على تحمسه لدينه ولا يجلب على نفسه العسر، الذى يكرهه الله لعباده ولا يريدهم أن يَشْقَوْا به. إن الرُّخَص عطايا وألطاف من الله لنا، فلا يصح أن نرفضها بحجة المقدرة على تحمل الصعاب، إذ لسنا أعلم من الخبير الكريم جل جلاله بما ينفعنا ويصلح أحوالنا. كما أنه من الجلافة بمكان أن نرد عطايا الله وألطافه. وقد وجدت تأدية فرائض الإسلام غاية فى السلاسة واليسر بسبب اتباعى الرخص دون أى تحرج. ومن من العقلاء يَثْنِى عِطْفَه عن الإكرامات الإلهية؟
ثم ماذا فى أرض الحمّام يُوجِب على جرانت أن يعيد وضوءه لملامسة قدمه له؟ أولا: لا بد أن نعرف أن أرضيات الحمامات فى الغرب، حتى فى المراحيض العامة نفسها على ما شاهدتها فى بريطانيا، نظيفة جدا وغير نجسة. وثانيا: لو افترضنا رغم ذلك نجاستها فهل ملامسة باطن القدم شيئا نجسا يوجب إعادة الوضوء؟ كلا. كل ما ينبغى عمله حينئذ هو غسل الموضع المتنجس، ودمتم. ثالثا: من غير المستحب للمسلم أن يترك الوسواس يركبه ويرهقه، ومن ثم لا ينبغى أن يسأل عن المكان الذى يكون فيه: أطاهر هو أم نجس؟ بل عليه أن يتعامل معه على أنه طاهر.
ولنا فى قصة عمر التالية عبرة، إذ كان يسير فى شوارع المدينة ومعه صاحب له، فأصاب رفيقَه ماءٌ من ميزاب أحد البيوت، فصاح الرفيق بصاحب الدار يسأله: هل ماء الميزاب نجس أو طاهر؟ فما كان من عمر إلا أن صاح بدوره بصاحب الدار ألا يجيب على السؤال، مؤثرا عدم التكلف والوسوسة، وتعامَل مع الماء على أنه ماء طاهر. كذلك فالملاحظ أن كثيرا جدا من المسلمين يختزلون الإسلام فى العبادات وبعض المظاهر الخاصة بالحشمة وما إليها، ويهملون قيم العمل والعلم والإبداع والكرامة والذوق واللياقة والنظام والتخطيط والعقلانية وتقليص الفوارق بين الفقراء والأغنياء وتوفير الحياة الكريمة للمواطنين والعمل على تحسين معيشة الناس، وبخاصة المسحوقون والضعفاء من يتامى وأرامل وفقراء ومساكين ومرضى عاجزين عن العمل، وغير ذلك من القيم التى أتاهم بها دينهم على أحسن وجه وفى أروع وضع، فكان من نتيجة هذا الإهمال التخلف الحضارى المزرى والمذل الذى نحن غارقون فيه منذ وقت طويل.
ورابعا: من ذلك العبقرى الذى حشا دماغ جرانت بكل هذه التفاصيل المتنطعة التى تصيب الشخص بالحِوَاز، والعياذ بالله؟ إن الرجل حديث عهد بالإسلام، فما الذى يدفعنا إلى إرهاقه بكل شىء دفعة واحدة، علاوة على أنها أمور غير أساسية أصلا، ومن ثم يصح الوضوء بدونها؟ كثيرا ما يسألنى بعض الشباب عن كيفية إتقان القراءة والكتابة الصحيحة نحوا وصرفا، فأوصيهم وأشدد فى الوصية أن يعكفوا على كتب النحو والصرف التى درسوها فى المرحلة الإعدادية وأن يحسنوا فهمها وتطبيقها، ولسوف بمشيئة الله يستطيعون القراءة والكتابة الصحيحة إلى حد بعيد. فيستغربون اقتراحى ويشيرون إلى ألفية ابن مالك والشروح التى كُتِبَتْ لها، فأحذرهم قائلا: أنتم فى بداية الطريق، فلِمَ تريدون أن ترهقوا أنفسكم منذ اللحظة الأولى فيتشتت جهدكم ولا تصلوا إلى شىء لثقل الحمل وكثرة الشغل؟ إن فى الكتب السهلة التى ذكرتها لكم لَغُنْيَةً لمن كان فى مثل ظروفكم، حتى إذا أتقنتموها فبإمكانكم الانتقال منها إلى كتب أوسع وأكثر تفصيلا وتفريعا، وإن كنت لا أظن أمثالكم بحاجة إلى ذلك لأن ما ينقصكم متاح على أحسن وجه فى الكتب المذكورة. أما المتخصصون ومن يريدون التعمق فى دراسة قواعد اللغة فهؤلاء لهم وضع آخر، ويجدون بغيتهم فى كتبها المبسوطة.
كذلك يحضرنى فى هذا السياق ما حدث أمامى فى مسجد أكسفورد فى أواخر سبعينات القرن المنصرم حين برز بعد صلاة الجمعة شاب بريطانى يريد أن يدخل الإسلام، وكان متولى شؤون المسجد رجلا بريطانيا شرع يشرح له الأمر ويبصّره ببعض المسائل التى ينبغى أن يكون على ذكر منها قبل أن ينطق بالشهادتين. ولم يكن هناك من بأس فيما قاله، إلا أننى لم أرتح لما أضافه بعد ذلك من أن الإسلام يوجب قتل من يخرج منه، ورأيت أنه لا معنى لهذا الكلام، وبالذات فى تلك الظروف، فضلا عن أن عددا من الفقهاء المحدثين لا يَرَوْن للرِّدَّة حَدًّا. فتدخلتُ فى الكلام موضحا للشاب الراغب فى الإسلام أن الدول الإسلامية بعامة لا تطبق حد الردة وأننا فى بريطانيا، وهى دولة غير إسلامية، فلا ينبغى إذن أن يشغل نفسه بتلك القضية. ثم أعلن الشاب إسلامه ومضى.
وقد ذكر لانج ذاته أن جرانت، الرجل الأمريكى الذى اعتنق الإسلام لفترة من حياته وسبق الحديث عنه قبل قليل، قد سمع هذه الكلمات نفسها حين رغب فى إعلان إسلامه، إذ حذره القائمون على المسجد بأن من الأفضل له أن يفكر فى الأمر على مهل قبل أن يتخذ قراره النهائى لأن عقوبة المرتد فى الإسلام هى الموت. والطريف أن جرانت قد دخل الإسلام رغم هذا التحذير، كما خرج منه مرتدا رغم هذا التحذير أيضا، مؤكدا أن الإسلام يمثل أفضل دين وأسوأ معتنقين . وهذا التحذير لا معنى له، على الأقل: لأنه لا أحد يجرؤ فى أمريكا على معاقبة المرتد.
وقد فصل لانج القول فى هذه القضية فى كتابه الحالى، فذكر أن عددا قليلا فقط من الدول الإسلامية كالسعودية وإيران والباكستان يطبق حد الردة، مؤكدا أنه لا خطر مطلقا على من يرتد عن دينه فى بلاد الغرب الآن حيث إن فكرة قتل شخص بسب تغيير أفكاره أو دينه فكرةٌ جِدُّ بغيضةٍ. وأضاف أن الدليل الذى يعتمد عليه القضاة المسلمون فى إيقاع حد الردة يفترض أن هذه العقوبة لا تطبق إلا فى حالة المرتد الذى يساعد أعداء الدولة أو يحرضهم عليها. ثم يختم كلامه قائلا: ينبغى أن يعرف المسلمون أن دينهم سوف تكون له السيادة فى ظل مبدإِ "لا إكراه فى الدين" .