محمود الشنقيطي
New member
الحمد لله والصلاة والسلامُ على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين.
السَّـلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته ,,,
هذه رسـالةٌ كنتُ بدأتُها لأضعها في مطويةٍ صغيرةٍ وفترت همَّتي عن إكمالها وبينا أنا أقلبُ مستنداتي إذا بها تتوسطُـها, فرأيتُ أن أضعها هُنا لنتعاونَ جميعاً على إكمال صياغتها , ومما يمزها أنها رسالةٌ إلهيَّـةٌ , قُـدسيَّـةُ المحتوى , ومحمودةُ العاقبة , ومضمونةُ النتائجِ في كسبِ رضا الله ورضا النَّـاس (الجمهور) , لا يضِـلُّ العامل بها ولا يشقى , ولا يحتاجُ إلى دوراتٍ تدريبيَّـة يتأهَّـلُ بعدها إلى كسبِ المهارة و بل كُـل ما نحتاجهُ للفوز بهذه القِـيَـم هو التغلُّـبُ على حظوظ النَّـفسِ الطينيَّـة , وأن نعتبرَ أنفسنا كباراً , لا ندورُ حول أنفسنا دورانَ بعضِ المخلوقاتِ على الرَّحـى , ولكن نسموا ونرتفعُ ونكونُ غيثاً تنتفعُ بنا البلادُ ويلينُ لنا العباد , ونكونُ أهلاً لانعقاد الآمالِ علينا , وتطلعِ الطموحاتِ إلينا.
فأنتَ تجلسُ على مكتبك يومياً وتُمثلُ دائرتكَ التي ارتضتكَ وجهاً لها تمثلها أمام الجمهور, وتتعاملُ مع أصنافٍ مختلفةٍ من النَّـاسِ ,منهم حملةُ الشهادات العليا , ومنهم الأمِّـيُون , ومنهم العقلاءُ , والحمقى , والمتعلمونَ , والغوغاء, والأشرافُ , والأراذلُ , والمتقـونَ مُجابوا الدَّعوة , والمجرمونَ الفجرةُ , والمساكين المضطهدون , والجبابرةُ الظلَمة.... الخ.
وإليكَ هذا السردَ الأخلاقيَّ الرفيعَ المُقدَّسَ , فخذهُ بقـوَّةٍ أيها الموظَّـفُ النَّـاجحُ , خذهُ من غيرِ مدرِّبٍ عالمي , ولا أستـاذِ سلوكٍ مهنيٍّ , ولكن من الله الكبير العلي , الذي خلقَ هذه النُّـفوس وهو أعلمُ بأحسن الطرقِ في كسبِ المحبَّـةِ واستدفـاعِ الأذى , والإصلاحِ في معاملة النَّـاس.
فتعـالَ أيها الموظَّـفُ الكريمُ إلى رحـاب رسالةِ الله إليك (القرآن الكريم) وأنا أضمنُ لك أن تجِـدَ كُـلَّ الحلول المتعلقةِ بمواجهة الجُمهُـور (من النَّـاحية الأخلاقية) وأنا أضمنُ لك أن تجدَ في هذا المسردِ المُختَـصَـر أنفعَ الطُّـرقِ للتوافقِ الأخلاقيِّ بين أصحاب الطبائع المتنافرة , للقضـاءِ على كُلِّ مشكلةٍ يُسبِّبُـها هذا التنافر الأخلاقي.
وأحبُّ أن أعلمَ أنا وتعلمَ أنت أيُّـها الموظَّفُ الكريم أنَّ هذا السردَ يحتاجُ إلى لياقةٍ عاليةٍ جداً , لأنَّـهُ خاصٌ بالأقوياءِ , ولا أعني أصحاب العضلات المفتولة , ولكني أعني الأقوياء الذين تغلَّـبوا على النَّـفسِ وتسامَـوا عن الغرقِ في رغباتها الأرضيَّـة.
أمَّـا الذينَ غلبتهم أنفُسُـهم ويحسبهم الجاهلُ أقوياء , فهم أضعفُ النَّـاسَ , لأنَّ الإسـاءةَ , والأذيَّـةَ , والمراوغةَ , ورفعَ الصَّـوتِ المُنكَر , وحدَّةَ النَّـظراتِ , والمكرَ, والمخادعةَ , والحقدَ , والانتقـامَ الجائرَ , وإفسـادَ المصالحِ .... الخ , كل هذه صفـاتٌ تحسنُـها كثيرٌ من المخلوقات بتفوقٍ يعجزُ عنهُ الإنسـانُ , ومعنى ذلك أنَّ أحسَـن حالٍ يطمحُ إليها الإنسـانُ المتصِـفُ بكلِّ ما سيقَ أو بعضِـهِ أن يرقى في مكرهِ إلى مصافِّ الثعالبِ , وفي الحقدِ إلى أن يُساويَ الجمالَ , وفي المكرِ إلى أن يُشابهَ الذئاب , وفي إفسـادِه لما أصلحهُ النَّـاسُ أن يُسابقَ الجرادَ والفئران .... الخ , أمَّـا الأقوياءُ فهم يطمحونَ إلى مفارقة هذه الأخلاقِ الدنيئةِ وما يترتَّبُ عليها من مشابهة هذه العجماوات.
وسأنطَـلقُ في بدايةِ الموضوعِ من إحدى عشَـرَ قسماً أثبتها الله في كتابه لأجلِ تأكيدٍ حقيقةٍ لا تقبلُ التردُّدَ وهي أنَّ من زكَّـى نفسَـهُ فهو الفالحُ في الدنيا والآخرة , قال تعالى (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)
فاستَـقِم كما أُمرتَ أيُّـها الموظَّفُ الكريمُ , وستجدُ الفلاحَ قريناً لكَ في دنياكَ وآخرتِـكَ , وعلى مكتبكَ , وفي نظراتِ الناس إليكَ وحديثهم عنكَ , ورضاهم عن مستوى أدائكَ الوظيفيِّ.
@ - الخُـلُـقُ الأوَّلُ: اترُك هواكَ الشَّـخصيِّ ونزعاتكَ النفسيَّـة خلفَ ظهركَ أو في سلَّـةِ المُهملات إذا جلستَ على مكتبك قال تعالى (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب).
في كثيرٍ من الأحيـانُ نُخادعُ أنفُسَنا حينَ نُبرِّرُ بعضَ التَّـعامُلاتِ أو العباراتِ أو المواقفِ باسم العدل والنِّظـام وتحقيق المصلحة والارتقاء بالعمل و... و... وغير ذلك من الأسماء الجميلة , ولكنَّـنا نعلمُ كما يعلمُ اللهُ أنَّ هذه المُبرِّرات ليست إلا مساراتٍ واسعةً للهُرُوب من دوافع الهوى التي تجعلُ بعضنا أحياناً أثرياءَ ثراءً فاحشاً يملكون معهُ أرصدةً هائلةً من الظُّـنونِ والأقوال والأفعال والنَّظرات القبيحة وينفقونها بسخاء على جمهور المراجعين , ويبررونها في ذات الوقتِ بالمبررات الجميلة الرنَّانة , فإذا منعنا الأهواءَ الشخصية من دخول مكاتبنا فستغيبُ كثيرٌ من هذه الممنوعاتِ عن واقع التعامل , ولْتعلم وأنتَ تحاربُ هذه النَّزعاتِ عظَم الجزاء المترتبَ على مغالبتها كما قال الله تعالى (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).
@- الخُـلُـقُ الثاني: لاَ تَـجعَـلِ الإضْـرارَ بالنَّـاسِ هدفاً وغايةً وطُـمُـوحاً تسعى إليهِ بكُـلِّ ما في وُسعِكَ , بلْ صَـارِحْهُـمْ بذلكَ وتودَّد إليهم بنفيِ إرادةِ الإضرارِ بهم عن نفسكَ , وليسعكَ ما وسعَ والدَ الفتاتينِ يومَ خاطَبَ كليمَ الله موسى بقوله (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) فأثمَـرت هذه المعاملةُ والصراحةُ بإرادةِ الخيرِ اطمئنانَ الكليم موسى إلى التعاقد مع شعيب عليه السلامُ , واتخَذَ موسى عليه السلامُ هذا المَنهَجَ التعاوُنيَّ المُطمئنَ أسلوباً عند المعامَلَة والمعاقَدةِ ولذلك قال للخضر عليه السلامُ لما كان يطلبهُ الرفقةَ والخضرُ يقول لهُ (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) فقال لهُ موسَى في تصريحٍ بإرادة الخيرِ وعَزمٍ على التعاونِ (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) , ومن تأمَّـل هذه العلاقةَ بين الطالبِ والمطلوبِ أو الرئيسِ والمرؤوسِ أو أيِّ متعاقدينِ يجدُ أنَّ أركـانَ النَّـجاحِ في العمَـلِ – أيِّ عمَلٍ - لا تقومُ إلا على أرضيَّـةٍ ينتفي فيها إرادةُ الإضرارِ ومكرِ السيِّـئِ , وتربو بالتحفيزِ بإعلانِ محبَّـةِ الخيرِ بين الأطرافِ المتعاقدةِ لتحصيل الدّّافعِ الشخصيِّ إلى الإنجـاز , لأنَّ القلقَ والشكَّ والتربُّصَ بين الأطرافِ العمَليَّـةِ في أيِّ مُنشَـأةٍ سيُهدرُ كثيراً من الأوقاتِ في التدبيرِ لدفعِ الكيدِ المُتوقَّع والضحيَّـةُ العُظمى الوحيدةُ في ذلكَ هي المصلحةُ المجتمعيَّـةُ المترقَّـبةُ من أصحابِ هذه المنشَـأة.
@- الخلقُ الثالث: في قصَّـةِ لقمانَ مع ابنِـهِ كانتْ وصاياهُ في بعضِ مراحلها تصبُّ في جانبِ التعامُـلِ مع النَّـاسِ , ولعَـظَمِ هذه الحِكَـم اللُّقمَـانيَّـةِ ساقها اللهُ تعالى في محكَـمِ كتابهِ إغراءاً للعبادِ بالأخذِ بها وإعمالِـها منهجَ حياةٍ لا تنبغي الحَـيدةُ عنهُ في حياةِ المُسلمِ , قال الله تعالى حكايةً لوصيَّـةِ لقمانَ (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور) وفي هذه الآيةِ تظهَـرُ شفقةُ الأبوَّةِ الصَّـادقةُ في نهيهِ ابنَـهُ عن الولوغِ في مستنقعٍ آسنٍ تأنفُـهُ الأنفسُ كلُّ الأنفُـسِ برُّها وفاجرُها وهو الكبرُ واعتقـادُ الفضلِ على الغيرِ , ولا أبالغُ إن قلتُ إنَّ كلَّ مُشكلةٍ يواجهها الموظفُ مع جمهورهِ وكلَّ بغضٍ لمسؤولٍ أو مُوظَّـفٍ أو خصامٍ معهُ أو دعاءٍ عليهِ في مظـانِّ الإجابةِ من قبَل ضحاياهُ يعُـود إلى هاتينِ الجريرتينِ القبيحتينِ , فقبيحٌ بأحدنا أن يدخل مكتبهُ والمراجعونَ ذات يمينهِ وشمالهِ ويبخلُ بالتسليمِ عليهم وهو فردٌ داخلٌ على جماعة , وأقبحُ منهُ أن يكونَ متأخِّـراً مقصِّـراً ثم لا يعتذرُ ولا يقبلُ ملاماً ولا يسمعُ كلاماً ولا يرُدُّ سلاماً , ويرى نفسهُ أعظمَ من أن يُجادَلَ مع أنَّـهُ وغيرهُ سيجادلونَ الله عن أنفسهم وهو قيوم السماواتِ والأرضِ ومن فيهنَّ.!
وكم من مسؤولينَ ومُوظفينَ يقصدهم النَّـاسِ فلا ينجزونَ لهم مهامَّـهم ولا يكونُ في وسعهم قضاءُ حوائجهم ولكنَّـهم يُجبرون مراجعيهم على بسطِ الألسُـنِ والأكفِّ بالدعاءِ سراً وعلانيةً بسبب لين الجانبِ وحُسن المنطقِ وأدب التعامل , وأنَّـهم لا يرون أنفسهم إلا أفراداً عاديينَ تمَّ تكليفُهم بخدمةِ المُجتمعِ والنظرِ في مصالحهم.
@- الخلق الرابع: وهذا يتعلقُ بالمُراجعِ أكثرَ من المُوظَّـفِ وهو أنَّـهُ ينبغي لهُ إذا دخلَ على مكتبٍ أو دائرةٍ مهما كانت حاجتُـهُ أن يبدأَ بالسلامِ , وعلى صاحب المكتب إذا كان خارجاً عنهُ أو متأخراً عن دوامه ألا يبخل بالسلام على من سرقَ أوقاتهم وهم ينتظرون قدومَهُ , وعلى الموظَّـفِ والمسؤول أن لا يتعالى ويتصامم ويتكبَّـرَ عن ردِّ السَّـلامِ لأنَّ هذا الفعل يوثهُ وزراً ومذمَّـةً عند النَّـاس , وهذا أدبٌ حكـاهُ القرآنُ في قصة الملائكةِ مع إبراهيمَ عليه السلامُ في قوله تعالى (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ).
@- الخلق الخامسُ: أيها المسؤول: اعرفْ قدْركَ , وزُمَّ بالتقوى قاذفاتِ مكركَ وغَدركَ , وإذا وُعظتَ وخولِفتَ وتجاوزَ المُراجعون ومن ترأسُهم حدودَ التعبير والنَّقدِ فتيقَّـن أنَّك لستَ أعلى مكاناً من أن تُنقَدَ ويُقال لكَ في نفسكَ ما تكرهُ, فلستَ أكرمَ من أنبياء اللهِ تعالى الذين قيل في حدهم وهو ملٍكٌ نبيٌّ جمع بين شرفِ أهل الدنيا والآخرة (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) فهذان المُتقاضِيانِ اقتحما خلوة داودَ وتسوَّرا محرابَهُ , وأساءا خِطابَـه , وأمَراهُ بالعدلِ ونَهَياهُ عن الشطَطِ , فما اختنقَ لذلكَ ولا احتقنَ , لثقته بنفسهِ وعلمهِ أنَّـهُ إن لم يكن كما أمَراهُ فهو أحسَـنُ مما يوجِّـهانه إليهِ قطعاً , وهذا ما جعلَهُ مُعافىً من الحساسيَّـةِ المُفرطةِ التي يُعانيها بعضُ الضعفاءِ الذين يضيقون - بكل شيءٍ غير التصفيقِ والتسبيح بحمدِهم - ذرعاً , وذلك لعلمِهم اليقينيِّ أنهم مُقصِّرونَ في أعمالهم , بل ومُحلِّقُـونَ في سماء الخيالِ بأقدارهم بعيداً عن واقعها , حتى صدقَ عليهم ظنُّـها فحسِبوها أسمَى من أن تُنالَ بنقدٍ أو وعظٍ أو تذكير.
@- الخلق السادسُ: اعلمْ ونحنُ لا نزالُ في قصَّـة داودَ أنَّ إحسانكَ بالإصغاء إلى النَّقدِ والوعظِ والتذكير لا ينبغي أن يعقبهُ المنُّ والأذى فيكون حالكَ مطابقاً لحمقاء مكة التي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثاً , فإنَّ داود لم يمُـنَّ على المُتقاضيينِ بكفِّ أذاهُ وبذل نداهُ , بل قضى بينهما وتجاهلَ تسوُّر المِحرابِ وسوءَ الخطاب كما قال الله عنهُ (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) هذا في المنِّ بالإحسَـانِ , وأقبحُ منهُ المنُّ بالواجبِ حين يمُنُّ عليكَ بعضُ المُوظَّفينَ بأدائه للواجبِ الذي يُرزَقُ عليهِ من بيتِ المالِ فلا يُنهي لكَ مُعاملةً إلا وقد ختَمَ عليها بمنِّـهِ مع أنَّهُ لا فضلَ لهُ فيها , لكنَّ شيوعَ الظلمِ اليوم ورقَّـة الدين وغيابَ الورع كوَّن عند بعضِ النَّاس قناعةً خاطئةً بانَّ تركَ الأذيَّـةِ فضلٌ على الناسِ لا إحسانٌ منهُ لنفسهِ وأداءٌ لما يجبُ عليه , والله المستعان.
السَّـلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته ,,,
هذه رسـالةٌ كنتُ بدأتُها لأضعها في مطويةٍ صغيرةٍ وفترت همَّتي عن إكمالها وبينا أنا أقلبُ مستنداتي إذا بها تتوسطُـها, فرأيتُ أن أضعها هُنا لنتعاونَ جميعاً على إكمال صياغتها , ومما يمزها أنها رسالةٌ إلهيَّـةٌ , قُـدسيَّـةُ المحتوى , ومحمودةُ العاقبة , ومضمونةُ النتائجِ في كسبِ رضا الله ورضا النَّـاس (الجمهور) , لا يضِـلُّ العامل بها ولا يشقى , ولا يحتاجُ إلى دوراتٍ تدريبيَّـة يتأهَّـلُ بعدها إلى كسبِ المهارة و بل كُـل ما نحتاجهُ للفوز بهذه القِـيَـم هو التغلُّـبُ على حظوظ النَّـفسِ الطينيَّـة , وأن نعتبرَ أنفسنا كباراً , لا ندورُ حول أنفسنا دورانَ بعضِ المخلوقاتِ على الرَّحـى , ولكن نسموا ونرتفعُ ونكونُ غيثاً تنتفعُ بنا البلادُ ويلينُ لنا العباد , ونكونُ أهلاً لانعقاد الآمالِ علينا , وتطلعِ الطموحاتِ إلينا.
فأنتَ تجلسُ على مكتبك يومياً وتُمثلُ دائرتكَ التي ارتضتكَ وجهاً لها تمثلها أمام الجمهور, وتتعاملُ مع أصنافٍ مختلفةٍ من النَّـاسِ ,منهم حملةُ الشهادات العليا , ومنهم الأمِّـيُون , ومنهم العقلاءُ , والحمقى , والمتعلمونَ , والغوغاء, والأشرافُ , والأراذلُ , والمتقـونَ مُجابوا الدَّعوة , والمجرمونَ الفجرةُ , والمساكين المضطهدون , والجبابرةُ الظلَمة.... الخ.
وإليكَ هذا السردَ الأخلاقيَّ الرفيعَ المُقدَّسَ , فخذهُ بقـوَّةٍ أيها الموظَّـفُ النَّـاجحُ , خذهُ من غيرِ مدرِّبٍ عالمي , ولا أستـاذِ سلوكٍ مهنيٍّ , ولكن من الله الكبير العلي , الذي خلقَ هذه النُّـفوس وهو أعلمُ بأحسن الطرقِ في كسبِ المحبَّـةِ واستدفـاعِ الأذى , والإصلاحِ في معاملة النَّـاس.
فتعـالَ أيها الموظَّـفُ الكريمُ إلى رحـاب رسالةِ الله إليك (القرآن الكريم) وأنا أضمنُ لك أن تجِـدَ كُـلَّ الحلول المتعلقةِ بمواجهة الجُمهُـور (من النَّـاحية الأخلاقية) وأنا أضمنُ لك أن تجدَ في هذا المسردِ المُختَـصَـر أنفعَ الطُّـرقِ للتوافقِ الأخلاقيِّ بين أصحاب الطبائع المتنافرة , للقضـاءِ على كُلِّ مشكلةٍ يُسبِّبُـها هذا التنافر الأخلاقي.
وأحبُّ أن أعلمَ أنا وتعلمَ أنت أيُّـها الموظَّفُ الكريم أنَّ هذا السردَ يحتاجُ إلى لياقةٍ عاليةٍ جداً , لأنَّـهُ خاصٌ بالأقوياءِ , ولا أعني أصحاب العضلات المفتولة , ولكني أعني الأقوياء الذين تغلَّـبوا على النَّـفسِ وتسامَـوا عن الغرقِ في رغباتها الأرضيَّـة.
أمَّـا الذينَ غلبتهم أنفُسُـهم ويحسبهم الجاهلُ أقوياء , فهم أضعفُ النَّـاسَ , لأنَّ الإسـاءةَ , والأذيَّـةَ , والمراوغةَ , ورفعَ الصَّـوتِ المُنكَر , وحدَّةَ النَّـظراتِ , والمكرَ, والمخادعةَ , والحقدَ , والانتقـامَ الجائرَ , وإفسـادَ المصالحِ .... الخ , كل هذه صفـاتٌ تحسنُـها كثيرٌ من المخلوقات بتفوقٍ يعجزُ عنهُ الإنسـانُ , ومعنى ذلك أنَّ أحسَـن حالٍ يطمحُ إليها الإنسـانُ المتصِـفُ بكلِّ ما سيقَ أو بعضِـهِ أن يرقى في مكرهِ إلى مصافِّ الثعالبِ , وفي الحقدِ إلى أن يُساويَ الجمالَ , وفي المكرِ إلى أن يُشابهَ الذئاب , وفي إفسـادِه لما أصلحهُ النَّـاسُ أن يُسابقَ الجرادَ والفئران .... الخ , أمَّـا الأقوياءُ فهم يطمحونَ إلى مفارقة هذه الأخلاقِ الدنيئةِ وما يترتَّبُ عليها من مشابهة هذه العجماوات.
وسأنطَـلقُ في بدايةِ الموضوعِ من إحدى عشَـرَ قسماً أثبتها الله في كتابه لأجلِ تأكيدٍ حقيقةٍ لا تقبلُ التردُّدَ وهي أنَّ من زكَّـى نفسَـهُ فهو الفالحُ في الدنيا والآخرة , قال تعالى (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)
فاستَـقِم كما أُمرتَ أيُّـها الموظَّفُ الكريمُ , وستجدُ الفلاحَ قريناً لكَ في دنياكَ وآخرتِـكَ , وعلى مكتبكَ , وفي نظراتِ الناس إليكَ وحديثهم عنكَ , ورضاهم عن مستوى أدائكَ الوظيفيِّ.
@ - الخُـلُـقُ الأوَّلُ: اترُك هواكَ الشَّـخصيِّ ونزعاتكَ النفسيَّـة خلفَ ظهركَ أو في سلَّـةِ المُهملات إذا جلستَ على مكتبك قال تعالى (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب).
في كثيرٍ من الأحيـانُ نُخادعُ أنفُسَنا حينَ نُبرِّرُ بعضَ التَّـعامُلاتِ أو العباراتِ أو المواقفِ باسم العدل والنِّظـام وتحقيق المصلحة والارتقاء بالعمل و... و... وغير ذلك من الأسماء الجميلة , ولكنَّـنا نعلمُ كما يعلمُ اللهُ أنَّ هذه المُبرِّرات ليست إلا مساراتٍ واسعةً للهُرُوب من دوافع الهوى التي تجعلُ بعضنا أحياناً أثرياءَ ثراءً فاحشاً يملكون معهُ أرصدةً هائلةً من الظُّـنونِ والأقوال والأفعال والنَّظرات القبيحة وينفقونها بسخاء على جمهور المراجعين , ويبررونها في ذات الوقتِ بالمبررات الجميلة الرنَّانة , فإذا منعنا الأهواءَ الشخصية من دخول مكاتبنا فستغيبُ كثيرٌ من هذه الممنوعاتِ عن واقع التعامل , ولْتعلم وأنتَ تحاربُ هذه النَّزعاتِ عظَم الجزاء المترتبَ على مغالبتها كما قال الله تعالى (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).
@- الخُـلُـقُ الثاني: لاَ تَـجعَـلِ الإضْـرارَ بالنَّـاسِ هدفاً وغايةً وطُـمُـوحاً تسعى إليهِ بكُـلِّ ما في وُسعِكَ , بلْ صَـارِحْهُـمْ بذلكَ وتودَّد إليهم بنفيِ إرادةِ الإضرارِ بهم عن نفسكَ , وليسعكَ ما وسعَ والدَ الفتاتينِ يومَ خاطَبَ كليمَ الله موسى بقوله (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) فأثمَـرت هذه المعاملةُ والصراحةُ بإرادةِ الخيرِ اطمئنانَ الكليم موسى إلى التعاقد مع شعيب عليه السلامُ , واتخَذَ موسى عليه السلامُ هذا المَنهَجَ التعاوُنيَّ المُطمئنَ أسلوباً عند المعامَلَة والمعاقَدةِ ولذلك قال للخضر عليه السلامُ لما كان يطلبهُ الرفقةَ والخضرُ يقول لهُ (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) فقال لهُ موسَى في تصريحٍ بإرادة الخيرِ وعَزمٍ على التعاونِ (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) , ومن تأمَّـل هذه العلاقةَ بين الطالبِ والمطلوبِ أو الرئيسِ والمرؤوسِ أو أيِّ متعاقدينِ يجدُ أنَّ أركـانَ النَّـجاحِ في العمَـلِ – أيِّ عمَلٍ - لا تقومُ إلا على أرضيَّـةٍ ينتفي فيها إرادةُ الإضرارِ ومكرِ السيِّـئِ , وتربو بالتحفيزِ بإعلانِ محبَّـةِ الخيرِ بين الأطرافِ المتعاقدةِ لتحصيل الدّّافعِ الشخصيِّ إلى الإنجـاز , لأنَّ القلقَ والشكَّ والتربُّصَ بين الأطرافِ العمَليَّـةِ في أيِّ مُنشَـأةٍ سيُهدرُ كثيراً من الأوقاتِ في التدبيرِ لدفعِ الكيدِ المُتوقَّع والضحيَّـةُ العُظمى الوحيدةُ في ذلكَ هي المصلحةُ المجتمعيَّـةُ المترقَّـبةُ من أصحابِ هذه المنشَـأة.
@- الخلقُ الثالث: في قصَّـةِ لقمانَ مع ابنِـهِ كانتْ وصاياهُ في بعضِ مراحلها تصبُّ في جانبِ التعامُـلِ مع النَّـاسِ , ولعَـظَمِ هذه الحِكَـم اللُّقمَـانيَّـةِ ساقها اللهُ تعالى في محكَـمِ كتابهِ إغراءاً للعبادِ بالأخذِ بها وإعمالِـها منهجَ حياةٍ لا تنبغي الحَـيدةُ عنهُ في حياةِ المُسلمِ , قال الله تعالى حكايةً لوصيَّـةِ لقمانَ (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور) وفي هذه الآيةِ تظهَـرُ شفقةُ الأبوَّةِ الصَّـادقةُ في نهيهِ ابنَـهُ عن الولوغِ في مستنقعٍ آسنٍ تأنفُـهُ الأنفسُ كلُّ الأنفُـسِ برُّها وفاجرُها وهو الكبرُ واعتقـادُ الفضلِ على الغيرِ , ولا أبالغُ إن قلتُ إنَّ كلَّ مُشكلةٍ يواجهها الموظفُ مع جمهورهِ وكلَّ بغضٍ لمسؤولٍ أو مُوظَّـفٍ أو خصامٍ معهُ أو دعاءٍ عليهِ في مظـانِّ الإجابةِ من قبَل ضحاياهُ يعُـود إلى هاتينِ الجريرتينِ القبيحتينِ , فقبيحٌ بأحدنا أن يدخل مكتبهُ والمراجعونَ ذات يمينهِ وشمالهِ ويبخلُ بالتسليمِ عليهم وهو فردٌ داخلٌ على جماعة , وأقبحُ منهُ أن يكونَ متأخِّـراً مقصِّـراً ثم لا يعتذرُ ولا يقبلُ ملاماً ولا يسمعُ كلاماً ولا يرُدُّ سلاماً , ويرى نفسهُ أعظمَ من أن يُجادَلَ مع أنَّـهُ وغيرهُ سيجادلونَ الله عن أنفسهم وهو قيوم السماواتِ والأرضِ ومن فيهنَّ.!
وكم من مسؤولينَ ومُوظفينَ يقصدهم النَّـاسِ فلا ينجزونَ لهم مهامَّـهم ولا يكونُ في وسعهم قضاءُ حوائجهم ولكنَّـهم يُجبرون مراجعيهم على بسطِ الألسُـنِ والأكفِّ بالدعاءِ سراً وعلانيةً بسبب لين الجانبِ وحُسن المنطقِ وأدب التعامل , وأنَّـهم لا يرون أنفسهم إلا أفراداً عاديينَ تمَّ تكليفُهم بخدمةِ المُجتمعِ والنظرِ في مصالحهم.
@- الخلق الرابع: وهذا يتعلقُ بالمُراجعِ أكثرَ من المُوظَّـفِ وهو أنَّـهُ ينبغي لهُ إذا دخلَ على مكتبٍ أو دائرةٍ مهما كانت حاجتُـهُ أن يبدأَ بالسلامِ , وعلى صاحب المكتب إذا كان خارجاً عنهُ أو متأخراً عن دوامه ألا يبخل بالسلام على من سرقَ أوقاتهم وهم ينتظرون قدومَهُ , وعلى الموظَّـفِ والمسؤول أن لا يتعالى ويتصامم ويتكبَّـرَ عن ردِّ السَّـلامِ لأنَّ هذا الفعل يوثهُ وزراً ومذمَّـةً عند النَّـاس , وهذا أدبٌ حكـاهُ القرآنُ في قصة الملائكةِ مع إبراهيمَ عليه السلامُ في قوله تعالى (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ).
@- الخلق الخامسُ: أيها المسؤول: اعرفْ قدْركَ , وزُمَّ بالتقوى قاذفاتِ مكركَ وغَدركَ , وإذا وُعظتَ وخولِفتَ وتجاوزَ المُراجعون ومن ترأسُهم حدودَ التعبير والنَّقدِ فتيقَّـن أنَّك لستَ أعلى مكاناً من أن تُنقَدَ ويُقال لكَ في نفسكَ ما تكرهُ, فلستَ أكرمَ من أنبياء اللهِ تعالى الذين قيل في حدهم وهو ملٍكٌ نبيٌّ جمع بين شرفِ أهل الدنيا والآخرة (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) فهذان المُتقاضِيانِ اقتحما خلوة داودَ وتسوَّرا محرابَهُ , وأساءا خِطابَـه , وأمَراهُ بالعدلِ ونَهَياهُ عن الشطَطِ , فما اختنقَ لذلكَ ولا احتقنَ , لثقته بنفسهِ وعلمهِ أنَّـهُ إن لم يكن كما أمَراهُ فهو أحسَـنُ مما يوجِّـهانه إليهِ قطعاً , وهذا ما جعلَهُ مُعافىً من الحساسيَّـةِ المُفرطةِ التي يُعانيها بعضُ الضعفاءِ الذين يضيقون - بكل شيءٍ غير التصفيقِ والتسبيح بحمدِهم - ذرعاً , وذلك لعلمِهم اليقينيِّ أنهم مُقصِّرونَ في أعمالهم , بل ومُحلِّقُـونَ في سماء الخيالِ بأقدارهم بعيداً عن واقعها , حتى صدقَ عليهم ظنُّـها فحسِبوها أسمَى من أن تُنالَ بنقدٍ أو وعظٍ أو تذكير.
@- الخلق السادسُ: اعلمْ ونحنُ لا نزالُ في قصَّـة داودَ أنَّ إحسانكَ بالإصغاء إلى النَّقدِ والوعظِ والتذكير لا ينبغي أن يعقبهُ المنُّ والأذى فيكون حالكَ مطابقاً لحمقاء مكة التي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثاً , فإنَّ داود لم يمُـنَّ على المُتقاضيينِ بكفِّ أذاهُ وبذل نداهُ , بل قضى بينهما وتجاهلَ تسوُّر المِحرابِ وسوءَ الخطاب كما قال الله عنهُ (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) هذا في المنِّ بالإحسَـانِ , وأقبحُ منهُ المنُّ بالواجبِ حين يمُنُّ عليكَ بعضُ المُوظَّفينَ بأدائه للواجبِ الذي يُرزَقُ عليهِ من بيتِ المالِ فلا يُنهي لكَ مُعاملةً إلا وقد ختَمَ عليها بمنِّـهِ مع أنَّهُ لا فضلَ لهُ فيها , لكنَّ شيوعَ الظلمِ اليوم ورقَّـة الدين وغيابَ الورع كوَّن عند بعضِ النَّاس قناعةً خاطئةً بانَّ تركَ الأذيَّـةِ فضلٌ على الناسِ لا إحسانٌ منهُ لنفسهِ وأداءٌ لما يجبُ عليه , والله المستعان.
وسيتجدَّد الموضوع بحول الله