أحدهما: أن الباءَ حاليةٌ. وفي صاحب الحالِ احتمالان، أحدُهما: ضميرُ الجنَّة وهو عائدٌ الموصولِ، أي: وعَدَعا، وهي غائبةٌ عنهم لا يُشاهدونها. والثاني: أن يكونَ مِنْ " عبادَة " ، أي: وهم غائبون عنها لا يَرَوْنها، إنما آمنوا بمجردِ الإِخبار منه.
والوجه الثاني: أن الباءَ سببيةٌ، أي: بسببِ تصديقِ الغيب، وبسببِ الإِيمان به.
وقوله { بما أغويتني } قال أبو عبيدة وغيره أقسم بالإغواء.
قال القاضي أبو محمد: كأنه جعله بمنزلة قول " رب " بقدرتك علي وقضائك
ويحتمل أن تكون باء سبب، كأنه قال " رب " والله لأغوينهم بسبب إغوائك لي ومن أجله وكفاء له. ويحتمل أن يكون المعنى تجلداً منه ومبالغة في الجد أي بحالي هذه وبعدي عن الخير والله لأفعلن ولأغوين،
قوله تعالى: { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي }: في هذه الباء وجهان أحدهما:
أن تكون قسميةً وهو الظاهر.
والثاني: أن تكون سببيَّة، وبه بدأ الزمخشري قال: " فبما أغويتني: فبسبب إغوائك إياي لأقعدنَّ لهم " ثم قال: " والمعنى: فبسبب وقوعي في الغَيِّ لاجتهدنّ في إغوائهم حتى يَفْسُدوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم. فإن قلت: بم تَعَلَّقَت الباء فإن تعلُّقها بـ " لأقعدن " يصدُّ عنه لام القسم لا تقول: واللهِ بزيدٍ لأمرَّنَّ؟ قلت: تَعَلَّقَتْ بفعل القسم المحذوف تقديره: فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنَّ أي: فبسبب إغوائك أُقْسم.
ويجوز أن تكون الباء للقسم أي: فأقسم بإغوائك لأقعدنَّ ". قلت: وهذان الوجهان سبق إليهما أبو بكر بن الأنباري، وذكر عبارةً قريبة من هذه العبارة.
وقال الشيخ: " وما ذكره من أن اللام تصدُّ عن تعلُّق الباء بـ " لأقعدَنَّ " ليس حكماً مُجْمَعاً عليه بل في ذلك خلافٌ ". قلت: أمَّا الخلافُ فنعم. لكنه خلافٌ ضعيف لا يُقَيَّد به أبو القاسم، والشيخُ نفسه قد قال عند قوله تعالى { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ } [الأعراف: 18] في قراءة مَنْ كسر اللام في " لمن " ، إنَّ ذلك لا يُجيزه الجمهور وسيأتي لك مبيناً إن شاء الله.
{ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } الضمير في قوله: (به) إلى ماذا يعود؟
فيه قولان: الأول: أنه راجع إلى ربهم.
والثاني: أنه راجع إلى الشيطان والمعنى بسببه، وهذا كما تقول للرجل إذا تكلم بكلمة مؤدية إلى الكفر كفرت بهذه الكلمة أي من أجلها، فكذلك قوله: { وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } أي من أجله ومن أجل حمله إياهم على الشرك بالله صاروا مشركين
وعلى الأولِ فالضميرُ للقرآن أو للبيتِ شَرَّفه اللهُ تعالىٰ، أو للرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم أو للنُكوصِ المدلولِ عليه بـ " تَنْكِصون " ، كقوله:
{ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ }
[المائدة: 8]. والباءُ في هذا كلِّه للسببية؛ لأنه استكبروا بسببِ القرآنِ لَمَّا تُلِيَ عليهم، وبسببِ البيتِ لأنَّهم يقولون: نحن وُلاتُه وبالرسولِ لأنهم يقولون: هو مِنَّا دونَ غيرِه، أو بالنُّكوصِ لأنه سببُ الاستكبارِ. وقيل: ضَمَّنَ الاستكبارَ معنى التكذيبِ؛ فلذلك عُدِّيَ بالباءِ، وهذا يَتَأَتَّى على أن يكونَ الضميرُ للقرآنِ أو للرسولِ.
وأمَّا على الثاني وهو تَعَلُّقُه بـ " سامِراً " فيجوزُ أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عادَ عليه فيما تقدَّم، إلاَّ النكوصَ لأنهم كانوا يَسْمُرُون بالقرآن وبالرسول أي: يجعلونَهما حديثاً لهم يَخُوضون في ذلك كما يُسْمَرُ بالأحاديث، وكانوا يَسْمُرُون في البيتِ،
فالباء ظرفيةٌ على هذا، و " سامِراً " / نصبٌ على الحالِ: إمَّا مِنْ فاعل " تَنْكِصُون " ، وإمَّا مِنَ الضمير في " مُسْتَكْبرين ".
قوله: { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ }.. " بكم " الظاهرُ أنَّ الباءَ على بابها من كونِها داخلةً على الآلةِ فكأنه فَرَق بهم كما يُفْرَقُ بين الشيئين بما توسَّط بينهما.
وقال أبو البقاء: " ويجوز أن تكون المُعَدِّيةَ كقولِك: ذهبتُ بزيدٍ، فيكونُ التقدير: أَفْرَقْناكم البحرَ، ويكونُ بمعنى:
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ ٱلْبَحْرَ }
[الأعراف: 138] وهذا قريبٌ من الأولِ.
ويحوزُ أن تكونَ الباءُ للسببيَّة أي: بسببكم،
ويجوزُ أن تكونَ للحالِ من " البحر " أَيْ: فَرَقْناه ملتبِساً بكم، ونظَّره الزمخشري بقولِ الشاعر:454ـ.......................... تَدُوس بنا الجماجِمَ والتَّريبا
أي: تدوسُها ونحن راكبوها. قال أبو البقاء: " أي: فَرَقْنا البحرَ وأنتم به، فتكونُ إمَّا حالاً مقدَّرةً أو مقارنةً "....
أحدُها: أنَّها مزيدةٌ، أي: يَشْرَبُها، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنُ أبي عبلةَ " يَشْرَبُها " مُعَدَّى إلى الضمير بنفسِه.
الثاني: أنها بمعنى " مِنْ ".
الثالث: أنها حاليةٌ، أي: مَمْزوجةٌ بها.
الرابع: أنها متعلقَةٌ بـ " يَشْرَبُ ". والضميرُ يعودُعلى الكأس، أي: يَشْرَبون العَيْنَ بتلك الكأسِ، والباءُ للإِلصاق، كما تقدَّم في قولِ الزمخشري.
الخامس: أنه على تَضْمين " يَشْرَبُون " معنى: يَلْتَذُّون بها شاربين.
السادس: على تَضْمينِه معنى " يَرْوَى " ، أي يَرْوَى بها عبادُ اللَّهِ. وكهذه الآية في بعضِ الأوجهِ قولُ الهُذَلي:4442ـ شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم تَرَفَّعَتْ متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ
فهذه تحتملُ الزيادةَ، وتحتملُ أَنْ تكونَ بمعنى " مِنْ ". والجملةُ مِنْ قولِه " يَشْرَبُ بها " في محلِّ نصبٍ صفةٍ لـ " عَيْناً " إنْ جَعَلْنا الضميرَ في " بها " عائداً على " عَيْناً " ولم نجعَلْه مُفَسِّراً لناصبٍ، كما قاله أبو البقاء
قال قوم: معنى الآية تسارعون في الأموال إلى المخاصمة إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم، إما بأن لا تكون على الجاحد بينة، أو يكون مال أمانة كاليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قوله، فالباء في { بها } باء السبب،
وقيل: معنى الآية ترشوا بها على أكل أكثر منها، فالباء إلزاق مجرد
وقال ابن الجوزى فى زاد المسير:
وفي ها «بها» قولان.
أحدهما: أنها ترجع إلى الأموال كأنه قال: لا تصانعوا ببعضها جَوَرَة الحكام.
والثاني: أنها ترجع إلى الخصومة،
ملحوظة
علي القول الثانی الذی ذكره ابن الجوزی تكون الباء سببيه كما ذكر ابن عطية والله اعلم
و " غَمَّاً " مفعولٌ ثانٍ، و " بغمٍّ " يجوزُ في الباءِ أوجهٌ،
أحدها: أن تكونَ للسببية، على معنى أنَّ متعلَّق الغم الأول الصحابة، ومتعلَّق الغمِّ الثاني قَتْلُ المشركين يوم بدر، والمعنى: فأثابكم غَمَّاً بالغمِّ الذي أَوْقعه على أيديكم بالكفار يوم بدر.
وقيل: " متعلَّقُ الغمِّ الرسولُ، والمعنى: أذاقكم الله غَمَّاً بسبب الغَمِّ الذي أدخلتموه على الرسول والمؤمنين بفشَلِكم، أو فأثابكم الرسولُ، أي: آساكم غَمَّاً بسبب غمٍ اغتممتموه لأجله.
والثاني: أن تكونَ الباءُ للمصاحبة أي: غَمَّاً مصاحباً لغَمٍّ، ويكون الغَمَّان للصحابة، فالغَمُّ الأول الهزيمة والقتل. والثاني: إشرافُ خالد بخيل الكفار، أو بإرجاف قتل الرسول عليه السلام،
فعلى الأول تتعلَّق الباء بـ " أَثَابكم ". قال أبو البقاء: " وقيل: المعنى بسبب غَمٍّ، فيكونُ مفعولاً به ".
وعلى الثاني تتعلَّقُ بمحذوفٍ، لأنه صفةٌ لغَمّ، أي: غَمَّاً مصاحِباً لغَمٍّ، أو مُلْتَبِساً بغَمٍّ.
وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ الباءُ بمعنى " بعد " أو بمعنى " بَدَل " ، وجَعَلَها في هذين الوجهين صفةً لـ غَمَّا " ، وكونُها بمعنى " بعد " و " بدل " بعيدٌ، وكأنه يريد تفسيرَ المعنى، وكذا قال الزمخشري: " غَمَّاً بعد غم ".
ملحوظة
لاحظ العلاقة بين الراى القائل
ومتعلَّق الغمِّ الثاني قَتْلُ المشركين يوم بدر، والمعنى: فأثابكم غَمَّاً بالغمِّ الذي أَوْقعه على أيديكم بالكفار يوم بدر.
أحدُهما: أنها باءُ المصاحبةِ بمعنى مصاحباً لبدنك وهي الدِّرْع، وفي التفسير: لم يُصَدِّقوا بغرقه، وكانت له دِرْعُ تُعْرَفُ فأُلقي بنَجْوة من الأرض وعليه دِرْعُه ليعرفوه، والعربُ تطلِقُ البدنَ على الدرع، قال عمرو بن معد يكرب:
2628 ـ أعاذِلُ شِكَّتي بدني وسيفي وكلّ مُقَلَّصٍ سَلِس القِيادِ
وقال آخر:
2629 ـ ترىٰ الأبْدانَ فيها مُسْبَغَاتٍ على الأبطالِ واليَلَبَ الحصينا
وقيل: ببدنك أي عُرْيانَ لا شيءَ عليه، وقيل: بدناً بلا روح.
والثاني: أن تكونَ سببيةً على سبيل المجاز؛ لأنَّ بدنه سبب في تنجيته، وذلك على قراءةِ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع " بندائك " من النداء وهو الدعاءِ أي: بما نادَىٰ به في قومه من كفرانه في قولِه
{ وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ }
[الزخرف: 51]
{ فَحَشَرَ فَنَادَىٰ فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ }
[النازعات: 23-24]
{ يٰأَيُّهَا ٱلْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي }
[القصص: 38].
والباء في قوله { بها } يجوز أن تكون للسببية، فتتعلّق بِــ { أصبحوا } ، أي كانت تلك المسائل سبباً في كفرهم، أي باعتبار ما حصل من جوابها، ويحتمل أن تكون «للتعدية» فتتعلّق بــ { كافرين } ، أي كفروا بها، أي بجوابها بأن لم يصدّقوا رسلهم فيما أجابوا به، وعلى هذا الوجه فتقديم المجرور على عامله مفيد للتخصيص، أي ما كفروا إلاّ بسببها، أي كانوا في منعة من الكفر لولا تلك المسائل، فقد كانوا كالباحث على حتفه بظلفه، فهو تخصيص ادّعائي، أو هو تقديم لمجرّد الاهتمام للتنبيه على التحذير منها.
قوله تعالى: { فدلاهما بغرور }: الباء للحال أي: مصاحبين للغرور أو مصاحباً للغرور فهي حال: إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول.
ويجوز أن تكون الباءُ سببيةً أي: دَلاَّهما بسبب أن غرَّهما. والغُرور مصدر حُذف فاعله ومفعوله، والتقدير: بغُروره إياهما. وقوله: " فدلاَّهما " يحتمل أن يكون من التَدْلية من معنى دلا دَلْوَه في البئر والمعنى أطمعهما. قال أبو جندب الهذلي:
2170ـ أَحُصُّ فلا أُجير ومَنْ أُجِرْه فليس كمَنْ تَدَلَّى بالغرورِ
وأن تكون من الدالِّ والدالَّة وهي الجُرْأة أي: فجرَّأهما قال:
2171ـ أظن الحِلْمَ دَلَّ عليَّ قومي وقد يُسْتَجْهَلُ الرجلُ الحليم
وعلى الثاني يكون الأصل دَلَّلهما، فاستثقل توالي ثلاثة أمثال فأبدل الثالثَ حرفَ لين، كقولهم: تظنَّيْتُ في تظنَّنْت وقَصَّيْت أظفاري في قَصَصْت وقال:
2172ـ تَقَضِّيَ البازيْ إذا البازي كسرْ
وقوله: { فَأَنْزَلْنَا بِهِ } الضميرُ في " به " يعودُ على أقربِ مذكورٍ وهو " بلد ميت " وعلى هذا فلا بد من أن تكون الباءُ ظرفيةً بمعنى: أنزلنا في ذلك البلد الميت الماء. وجعل الشيخُ هذا هو الظاهر.
وقيل: الضمير يعود على السحاب. ثم في الباء وجهان،
أحدُهما: هي بمعنى " مِنْ " أي: فأنزلنا من السحاب الماء
. والثاني: أنها سببيةٌ أي: فأنزلْنا الماءَ بسبب السحاب. وقيل: يعودُ على السَوْق المفهومِ من الفعل. والباءُ سببيةٌ أيضاً أي: فأنزلْنا بسبب سَوْقِ السحاب. وهو ضعيف لعَوْد الضمير على غيرِ مذكور مع إمكان عَوْدِه على مذكور.
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون
قوله تعالى: { فَظَلَمُواْ بِهَا }: يجوز أن يُضَمَّن " ظلموا " معنى كفروا فيتعدَّى بالباء كتعديته. ويؤيِّده
{ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
[لقمان: 13]. ويجوز أن تكون الباءُ سببيةٌ، والمفعولُ محذوفٌ تقديره: فظلموا أنفسَهم، أو ظلموا الناس بمعنى صَدُّوهم عن الإِيمان بسبب الآيات.
وقال ابن عطية فى المحرر
وقوله { فظلموا بها } المعنى فظلموا أنفسهم فيها وبسببها وظلموا أيضاً مظهرها، ومتبعي مظهرها وقيل لما نزلت ظلموا منزلة كفروا وجحدوا عديت بالباء كما قال: [الفرزدق]
قد قتل الله زياداً عني
فأنزل قتل منزلة صرف،
قوله: " بما يَنْفَعُ " في " ما " قولان " أحدُهما: أنَّها موصولةٌ اسميةٌ، وعلى هذا الباءُ للحال أي: تَجْري مصحوبةً بالأعيانِ التي تَنْفَعُ الناسَ. الثاني: أنها حرفيةٌ، وعلى هذا تكونُ الباءُ للسببِ أي: تَجْري بسببِ نَفْع الناسِ في التجارةِ وغيرِها.
قوله: { بِغَيْظِكُمْ } يجوز أَنْ تكونَ الباءُ للحالِ أي: موتوا ملتبسين بغيظِكم لا يُزايلكم، وهو كنايةٌ عن كثرةِ الإِسلام وفُشُوِّه، لأنه كلما ازداد الإِيمان زاد غيظُهم. ويجوز أن تكونَ للسببية أي: بسبب غيظكم.
أحدها: أنها للإِلصاق أي: أَلْصِقوا المسحَ برؤوسكم. قال الزمخشري: " المراد إلصاقُ المسحِ بالرأس، وماسحُ بعضِه ومستوعبُه بالمسح كلاهما مُلْصِقٌ المسحَ برأسه " قال الشيخ: " وليس كما ذكر " يعني أنه لا يُطلق على الماسح بعضَ رأسِه أنه ملصقٌ المسحَ برأسِه/. وهذه مُشاحَّةٌ لا طائل تحتها.
والثاني: أنها زائدةٌ، كقوله:
{ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ }
[البقرة: 195]، وقوله:
1699-........... ......... لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
وهو ظاهرُ كلام سيبويه، فإنه حكى: " خَشَّنْتُ صدرَه وبصدره " و " مَسَحْتُ رأسَه وبرأسِه " بمعنَى واحد، وقال الفراء: " تقول العرب: " خُذِ الخِطامَ وبالخطام " و " هَزَّه وهَزَّ به " و " خُذْ برأسِه ورأسَه "
والثالث: أنها للتعيضِ كقوله:
1700- شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم ترفَّعَتْ ................
وهذا قولٌ ضعيف، وقد تقدَّم القولُ في ذلك أولَ البسملة.
وقال الشيخ الفقيه الامام القرطبي فى تفسيره:
وأجمع العلماء على أن من مَسَح رأسه كله فقد أحسن وفعل ما يلزمه؛ والباء مؤكّدة زائدة ليست للتبعيض: والمعنى وٱمسحوا رؤوسكم. وقيل: دخولها هنا كدخولها في التيمّم في قوله: { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ } فلو كان معناها التبعيض لأفادته في ذلك الموضع، وهذا قاطع. وقيل: إنما دخلت لتُفيد معنى بديعاً وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولاً به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحاً به؛ فلو قال: وٱمسحوا رؤوسكم لأجزأ المسح باليد إمراراً من غير شيء على الرّأس؛ فدخلت الباء لتفيد ممسوحاً به وهو الماء، فكأنه قال: وٱمسحوا برؤوسكم الماء؛ وذلك فصيح في ٱللغة على وجهين؛ إما على القلب كما أنشد سيبويه:
كنَوَاحِ رِيش حَمَامة بَخْدِيَّة ومسحتِ باللِّثتين عَصْفَ ٱلإثْمِد
وٱللِّثة هي الممسوحة بعَصْف ٱلإثْمِد فقلب، وإما على الاشتراك في الفعل والتساوي في نسبته كقول الشاعر:
مِثْل القَنَافِذ هَدّاجون قد بَلَغت نَجران أو بلغت سَوْءاتهم هَجَرُ
فهذا ما لعلمائنا في معنى الباء. وقال الشافعي: ٱحتمل قول الله تعالى: { وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ } بعض الرأس ومسح جميعه فدلّت السُّنّة أن مسح بعضه يُجزىء، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مَسحَ بناصِيته؛ وقال في موضع آخر: فإن قيل قد قال الله عزّ وجلّ: { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ } في التّيمّم أيُجزِىء بعض الوجه فيه؟ قيل له: مسح الوجه في التيمم بدل من غسله؛ فلا بدّ أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل منه، ومسح الرأس أصل؛ فهذا فرق ما بينهما. أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا: لعلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لعذر لا سيّما وكان هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم في السفر وهو مَظِنّة الأعذار، وموضع الاستعجال والاختصار، وحذف كثير من الفرائض لأجل المشقّات والأخطار؛ ثم هو لم يكتف بالناصية: حتى مسح على العِمامة؛ أخرجه مسلم من حديث المُغيِرة بن شُعْبة؛ فلو لم يكن مسح جميع الرأس واجباً لما مسَحَ على العِمامة؛ والله أعلم.
وقال ابن كثير فى تفسيره:
وقوله تعالى: { وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ } اختلفوا في هذه الباء: هل هي للإلصاق؟ وهو الأظهر، أو للتبعيض؟ وفيه نظر، على قولين. ومن الأصوليين من قال: هذا مجمل، فليرجع في بيانه إلى السنة، وقد ثبت في الصحيحين من طريق مالك عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه: أن رجلاً قال لعبد الله ابن زيد بن عاصم، وهو جد عمرو بن يحيى، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بوضوء، فأفرغ على يديه، فغسل يديه مرتين مرتين، ثم مضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه.
وفي حديث عبد خير عن علي في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وروى أبو داود عن معاوية والمقداد بن معد يكرب في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله، ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكميل مسح جميع الرأس، كما هو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل، لا سيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج البيان لما أجمل في القرآن.
وقد ذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس، وهو مقدار الناصية،
وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح، ولا يقدر ذلك بحد، بل لو مسح بعض شعرة من رأسه أجزأه، واحتج الفريقان بحديث المغيرة بن شعبة قال: تخلف النبي صلى الله عليه وسلم فتخلفت معه، فلما قضى حاجته قال: هل معك ماء؟ فأتيته بمطهرة، فغسل كفيه ووجهه، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه، فضاق كم الجبة، فأخرج يديه من تحت الجبة، وألقى الجبة على منكبيه، فغسل ذراعيه ومسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى خفيه، وذكر باقي الحديث، وهو في صحيح مسلم وغيره، فقال لهم أصحاب الإمام أحمد: إنما اقتصر على مسح الناصية؛ لأنه كمل مسح بقية الرأس على العمامة، ونحن نقول بذلك، وأنه يقع عن الموقع؛ كما وردت بذلك أحاديث كثيرة، وأنه كان يمسح على العمامة وعلى الخفين، فهذا أولى، وليس لكم فيه دلالة على جواز الاقتصار على مسح الناصية، أو بعض الرأس، من غير تكميل على العمامة، والله أعلم.
والباء في " بها " فيها وجهان، أظهرهُما: أنها حاليةٌ أي: ما سَبَقكمْ أحدٌ مصاحِباً لها أي: ملتبساً بها.
والثاني: أنها للتعديةِ. قال الزمخشري: " الباءُ للتعدية مِنْ قولك: " سَبَقْته بالكُرة " إذا ضربْتَها قبله. ومنه قوله عليه السلام: " سبقك بها عُكاشة "
قال الشيخ: " والتعديةُ هنا قلقةٌ جداً؛ لأنَّ الباءَ المعدِّية في الفعل المتعدي لواحد [هي] بجَعْل المفعولِ الأولِ يَفْعل ذلك الفعلَ بما دَخَلَتْ عليه الباءُ فهي كالهمزة، وبيان ذلك أنك إذا قلت: " صَكَكْتُ الحجرَ بالحجر " كان معناه: أَصْكَكْت الحجرَ أي: جَعَلْت الحجر يَصُكُّ الحجر، فكذلك: دَفَعْتُ زيداً بعمرو عن خالد، معناه: أدفعت زيداً عمراً عن خالد أي: جَعَلْتُ زيداً يدفع عمراً عن خالد، فللمفعول الأول تأثيرٌ في الثاني، ولا يصحُّ هذا المعنى هنا إذ لا يَصِحُّ أن يقدَّر: أَسْبَقْتُ زيداً الكرة أي: جَعَلْتُ زيداً يَسْبِق الكرة إلا بمجازٍ متكلِّف، وهو أن تجعلَ ضربَك للكرة أولَ جَعْلٍ ضربةً قد سبقها أي تقدَّمها في الزمان فلم يجتمعا ". و " مِنْ " الأولى لتأكيد الاستغراق والثانية للتبعيض.
وقيل: بالفَعْلةِ الطاغيةِ. وقيل: بالرجلِ الطاغيةِ، وهو عاقِرُ الناقةِ، والهاء للمبالغةِ، فالطاغيةُ على هذه الأوجه صفةٌ. وقيل: الطاغيةُ مصدرٌ ويُوَضِّحُه
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ }
[الشمس: 11]
والباءُ للسببيةِ على الأقوالِ كلِّها، إلاَّ القولَ الأولَ فإنها للاستعانةِ كـ " عَمِلْتُ بالقَدُوم ".
وقال ابن عطية فى المحرر الوجيز:
و { الطاغية } قال قتادة: معناه الصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة، وقال قوم: المراد بسبب الفئة الطاغية،
وقال آخرون منهم مجاهد وابن زيد: المعنى بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها. وقال ابن زيد: ما معناه: { الطاغية } مصدر كالعاقبة فكأنه قال بطغيانهم، وقاله أبو عبيدة ويقوي هذا
{ كذبت ثمود بطغواها }
[الشمس: 11]
وأولى الأقوال وأصوبها الأول لأنه مناسب لما ذكر في عاد، إذ ذكر فيها الوجه الذي وقع به الهلاك، وعلى سائر الأقوال لا يتناسب الأمران لأن طغيان ثمود سبب والريح لا يناسب ذلك لأنها ليست سبب الإهلاك، بل هي آلة كما في الصيحة،
وظاهر إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان أن الشيطان مسّ أيوب بهما، أي أصابه بهما حقيقة مع أن النصب والعذاب هما الماسان أيوب، ففي سورةَ [الأنبياء: 83]
{ أني مسني الضر }
فأسند المسّ إلى الضر، والضرّ هو النصب والعذاب. وتردّدت أفهام المفسرين في معنى إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان، فإن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة كما هو مقرر من مُكرر آيات القرآن وليس النُّصب والعذاب من الوسوسة ولا من آثارها.
وتأولوا ذلك على أقوال تتجاوز العشرة وفي أكثرها سماجة وكلها مبني على حملهم الباء في قوله: { بِنُصبٍ } على أنها باء التعدية لتعدية فعل { مَسَّنِي } ، أو باء الآلة مثل: ضربه بالعصا، أو يؤول النُّصب والعذاب إلى معنى المفعول الثاني من باب أعطى.
والوجه عندي: أن تحمل الباء على معنى السببية بجعل النُّصْب والعذاب مسببين لمسّ الشيطان إياه، أي مسنّي بوسواس سببه نُصْب وعذاب، فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النُّصْب والعذاب عنده ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقاً لذلك العذاب ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك. أو تحمل البَاء على المصاحبة، أي مسّني بوسوسة مصاحبة لضرّ وعذاب، ففي قول أيوب { أني مسَّني الشيطانُ بنُصبٍ وعذابٍ } كناية لطيفة عن طلب لطف الله به ورفع النُّصب والعذاب عنه بأنهما صارا مدخلاً للشيطان إلى نفسه فطلب العصمة من ذلك على نحو قول يوسف عليه السّلام:
{ وإلاَّ تصرف عنّي كيدَهن أَصْبُ إليهن وأكنْ من الجاهلين }
[يوسف: 33].
والضمير في نسلكه عائد على الذكر قاله الزمخشري، قال: والضمير للذكر أي: مثل ذلك السلك. ونحوه: نسلك الذكر في قلوب المجرمين على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذباً مستهزأ به غير مقبول، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت: كذلك أنزلها باللئام يعني: مثل هذا الإنزال أنزلها بهم، مردودة غير مقصية. ومحل قوله: لا يؤمنون النصب على الحال أي: غير مؤمن به، أو هو بيان لقوله: كذلك نسلكه انتهى. وما ذهب إليه من أنّ الضمير عائد على الذكر ذكره الغرنوي عن الحسن. قال الحسن: معناه نسلك الذكر إلزاماً للحجة.
وقال ابن عطية: الضمير في نسلكه عائد على الاستهزاء والشرك ونحوه، وهو قول: الحسن، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد. ويكون الضمير في به يعود أيضاً على ذلك نفسه،
وتكون باء السبب أي: لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم،
ويكون قوله: لا يؤمنون به في موضع الحال، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائداً على الذكر المحفوظ المتقدم الذكر وهو القرآن أي: مكذباً به مردوداً مستهزأ به، يدخله في قلوب المجرمين. ويكون الضمير في به عائداً عليه، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائداً على الاستهزاء والشرك، والضمير في به يعود على القرآن، فيختلف على هذا عود الضميرين انتهى.
وروى ابن جريج عن مجاهد بذلك التكذيب، فعلى هذا تكون الباء في به للسبب. والذي يظهر عوده على الاستهزاء المفهوم من قوله: يستهزؤون، والباء في به للسبب.
بِٱلْيَمِينِ) أي باليد اليمين كما روي عن ابن عباس، وتقييد الضرب باليمين للدلالة على شدته وقوته لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما في الغالب وقوة الآلة تقتضي شدة الفعل وقوته أو بالقوة على أن اليمين مجاز عنها. روي أنه عليه السلام كان يجمع يديه في الآلة التي يضربها بها وهي الفأس فيضربها بكمال قوته،
وقيل المراد باليمين الحلف، وسمي الحلف يميناً إما لأن العادة كانت إذا حلف شخص لآخر جعل يمينه بيمينه فحلف أو لأن الحلف يقوي الكلام ويؤكده، وأريد باليمين قوله عليه السلام
{ تَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَـٰمَكُمْ }
[الأنبياء: 57] والباء عليه للسببية أي ضرباً بسبب اليمين الذي حلفه قبل وهي على ما تقدم للاستعانة أو للملابسة.